يعتقد كثير من الدارسين لتاريخ الشعوب العربية والإسلامية الحديث منها والمعاصر، أن معارك الانتقال الديمقراطي وبناء الدولة المدنية في العالم العربي انطلقت منذ بواكير القرن العشرين، بعد أن تمكن المستعمر الغربي من إسقاط الدولة العثمانية وبسط سلطاته على معظم المناطق العربية.. وضمن هذا المسار يصنفون مختلف التحولات السياسية التي شهدتها العديد من الدول العربية في المشرق والمغرب، منذ ثورة 1952 في مصر.

.

لكن تلك التحولات تم تصنيفها ضمن محاولات طي صفحة الهيمنة الغربية الاستعمارية على منطقتنا العربية، وبعضهم نظر إلى تلك التحولات على أنه جزء، ولم يكن الحلم الديمقراطي وقتها قد تشكل بوضوح تام، إلى أن جاءت أحداث أكتوبر من العام 1988 في الجزائر خلال حكم الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد رحمه الله التي دشنت عهد التعددية  السياسية وإنهاء نظام الحزب الواحد..

وقد نجم عن تلك الأحداث فوزا ساحقا للجبهة الإسلامية للإنقاذ التي فازت بالانتخابات البلدية، ثم بالانتخابات التشريعية وكانت قاب قوسين أو أدنى من قيادة البلاد لولا أن المؤسسة العسكرية الجزائرية وقتها رفضت التسليم بخيار الشعب الجزائري وطلبت من الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد إلغاء الانتخابات والدعوة لإعادتها، إلا أنه رفض ذلك واختار الاستقالة عن الانقلاب على إرادة الناخب الجزائري..

الكاتب والمؤرخ الجزائري أحمد بن نعمان، يعيد في هذه الشهادة التاريخية التي يكتبها خصيصا لـ "عربي21"، التذكير بسيرة واحد من القادة الجزائريين الذين انحازوا لخيار الشعوب وحقهم في تقرير المصير بعيدا عن وصاية الداخل والخارج.

حالة متميزة

يولد الناس سواسية في الشكل ولا يموتون كذلك في الفضل والفرق بين هذا الوضع وذاك، هو عمر من الكفاح والعمل المتواصل، حسب المواهب والمكاسب للحسنات والسيئات بكامل الإرادة والمسؤولية.. على اعتبار أن الله قد خلق الناس أحرارا في الاختيار بين طريق الجنة أو طريق النار.

ولذلك فالتاريخ لا يحاسب المرء على قلة علمه أو شكل جسمه ولكنه يحاسبه على فعله خيره وشره، كرمه وبخله، عدله وظلمه، ولون قلبه الذي يتحكم فيه، وليس لون جلده الذي يفرض عليه، هذا هو المقياس الذي يحكم به على الناس بعد رحيلهم من الدار الفانية إلى الدار الباقية، ونحن هنا أمام حالة غير عادية من ناحية الأبعاد القيمية للرئيس الجزائري الراحل الشاذلي بن جديد صاحب العديد من الخصائل والفضائل والمواقف والأيادي البيضاء على البلاد والعباد، التي تذكر له بكل أمانة وموضوعية في المحطات التالية:

أولا ـ البعد الديني والوطني :

بالنسبة للتنشئة الدينية للرئيس الراحل كما يحدثنا عنها هو بنفسه، نجدها في قوله عن والده بأنه كان ينتمي إلى إحدى الطرق الصوفية وقد ورث هو عن والده هذه الروح الدينية والوطنية، وهو ما يذكره الشيخ محمد متولي الشعراوي في حديثه عن ذكرياته أثناء إقامته في الجزائر في الستينيات من القرن الماضي (1966 ـ 1970 ) كرئيس للبعثة الأزهرية فيقول بأنه كان يلقي درسا في أحد المساجد في وهران وكان مستعجلا ليعود إلى العاصمة في اليوم ذاته فطلب منه العقيد الشاذلي بن جديد (الذي كان من بين الحاضرين و كان حينها رئيس الناحية العسكرية الخامسة) أن يقضي يومه في وهران ويوصله هو بنفسه إلى العاصمة بسيارته التي كان يقودها وبجانبه الشيخ الشعراوي، ويذكر الشيخ أحداثا طريفة ذات عبرة فائقة وقعت لهما في الطريق قرب مدينة مستغانم (مروية بلسانه في أحاديث تفسيره للقرآن وهي موجودة على اليوتوب.)

أما دوره في هذا المجال الديني والدعوي (غير المباشر) الذي قام به أثناء فترة رئاسته للجزائر( من 1979 إلى 1992)، فهو حرصه على إنجاز بناء مسجد وجامعة الأمير عبد القادر، الذي كان نائما في الأدراج لسنوات قبل مجيئه، ويعود له الفضل الأكبر في إتمام هذا المشروع الشامخ ليس في الجزائر فحسب بل في العالم الإسلامي بأسره.. وكذلك حرصه على استقدام الشيخ محمد الغزالي، بتوصية من الشيخ عبد الرحمان شيبان (وزير الشؤون الدينية في ذلك الوقت) كما يذكر ذلك بنفسه رحمه الله وهو ما تعبر عنه هذه الجمل الصادقة والوفية للإسلام وأهله المخلصين الواردة في وسام الاستحقاق الذي وشى به صدر الإمام الغزالي بمناسبة حفل تكريمه عند مغادرته الجزائر سنة 1989 حيث يقول: "نحن الشاذلي بن جديد، رئيس الجمهورية، صدر مصف الاستحقاق الوطني نقلد: الشيخ العلامة محمد الغزالي وسام الأثير من مصف الاستحقاق الوطني إكبارا لجهوده الجليلة والمستمرة في نشر العلم والمعرفة الإسلامية وإشادة بدوره في الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وتقديرا لعمله الدؤوب المتواصل في إشعاع الشريعة الإسلامية السمحاء والدفاع عن قيمها الأصيلة وتنويها بمساهمته الفعالة في ترسيخ البحث العلمي خاصة أثناء وجوده بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، وفي إطار ملتقيات الفكر الإسلامي".

"أعطت الديمقراطية للشعب الجزائري اختيار الإسلاميين بكل حرية، تماما كما حدث في فلسطين عندما انتخب الشعب الفلسطيني الإسلاميين من حركة حماس، كان اختيار الفلسطينيين للإسلاميين عقابا وردًّا على التصرفات والأخطاء التي ارتكبتها حركة فتح بحق الفلسطينيين ونهب أعضائها للمال العام، وهذا بالضبط ما حدث في الجزائر عندما انتقم الشعب من تصرفات المسؤولين في جبهة التحرير الذين ارتكبوا أخطاء كبيرة في حق الشعب الجزائري ونهبوا أمواله، هذه هي الحقيقة".وعن إسلامه الصادق وإيمانه العميق (كمجاهد في سبيل الله والوطن ) بالقدرة الإلهية التي حمت ثورة جهادنا الأصغر المظفر، يقول في مقابلة له مع جريدة الشعب الصادرة بتاريخ 1980/02/26: "في البداية أحب أن أقول بأن العامل الديني كان أساسيا في نجاح الثورة الجزائرية.فمن جهة كان الدين هو السياج الذي حمى مقومات الشخصية الجزائرية طوال فترة الاحتلال، كما كان أساسا للوحدة الوطنية خاصة خلال الحرب التحريرية، ومن جهة أخرى فإن الدين هو عامل إيجابي في بناء المجتمع، لأن الإسلام بالنسبة لنا هو دين العدالة الاجتماعية الحقيقية، ولقد نشأت شخصيا في أسرة متدينة وكان لهذا أثر كبير في نشأتي تدعم بعد ذلك خلال حربنا التحريرية بالأحداث التي عشناها وأحسسنا فيها بالقدرة الالهية التي حمت ثورتنا، وكانت سلاحنا الأساسي لتحقيق هذا النصر المبين".

ثانيا ـ البعد السياسي:

وعن هذا البعد الذي كان يعبر عن موقفه من الزلزال العنيف الذي ضرب أمل الشعب الجزائري في تحقيق أول ربيع عربي واعد سبق  به كل أقطار الأمة في شهر أكتوبر من سنة (1988)، يجيب سائله من مجلة (جامعة صوفيا للدراسات الآسيوية) أجراه معه سنة 2008 في الجزائر، وقد أعادت نشره جريدة الشروق اليومي بتاريخ 16 أكتوبر 2012 عن ثلاثة أسئلة تتعلق بمأساة الجزائر التالية وموقفه منها بما يستشف من إجابته الصريحة والواضحة على الأسئلة عدم رضاه على مصادرة إرادة الشعب الجزائري من طرف الذين خيروه بين التنحي أو تدمير الجزائر فاختار موقف الرئيس بن يوسف بن خدة التاريخي إثر انقلاب العسكر على الشرعية الثورية والديمقراطية الشعبية سنة 1962. (انظر مقالنا في "عربي21" عن الرئيس بن يوسف بن خدة أول سوار الذهب في تاريخ العرب ليوم 9 أغسطس 2024) .

يقول نص السؤال الأول الموجه من المجلة الى الرئيس الشاذلي بن جديد: لماذا استطاعت الجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS) تحقيق نتائج كبيرة في انتخابات 1990؟

الجواب: "أعطت الديمقراطية للشعب الجزائري اختيار الإسلاميين بكل حرية، تماما كما حدث في فلسطين عندما انتخب الشعب الفلسطيني الإسلاميين من حركة حماس، كان اختيار الفلسطينيين للإسلاميين عقابا وردًّا على التصرفات والأخطاء التي ارتكبتها حركة فتح بحق الفلسطينيين ونهب أعضائها للمال العام، وهذا بالضبط ما حدث في الجزائر عندما انتقم الشعب من تصرفات المسؤولين في جبهة التحرير الذين ارتكبوا أخطاء كبيرة في حق الشعب الجزائري ونهبوا أمواله، هذه هي الحقيقة".

ونص السؤال الثاني يقول : "كما هو معروف، لم تقبل الحكومة الجزائرية بنتائج الانتخابات 1991 وحظرت الجبهة الإسلامية للإنقاذ ( FIS) ، وكانت النتيجة مأساوية، وراح ضحيتها أكثر من مائتي ألف قتيل في ذلك الوقت. هل تعتقد أنه لو قبلت الحكومة نتائج الانتخابات وتعاملت معها كما يجب في إطار القانون، لتجنبت البلاد كل تلك الأحداث التي تبعتها؟".

الجواب: "طبعا، كان يتوجب أن تعالج المشاكل التي اندلعت بعد الانتخابات في إطار البرلمان. وبصراحة أنا لا أتهم كل جبهة التحرير، ذلك لأن البعض في جبهة التحرير قبلوا نتائج الانتخابات وفضلوا أن تقوم الجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS )  بتعيين حكومتها، ومن ثم نقوم بنقل الصراع سياسيا إلى داخل البرلمان من خلال طرح وجهات النظر المختلفة. كان المفروض أن لا تصل الأمور إلى تلك الأزمة الخطيرة والتي مازلنا نعاني منها حتى الآن. أنا كنت مع الإطار الديمقراطي، وبما أن الشعب اختار الطرف الآخر (الإسلاميين)، كان يتوجب علينا تسليمهم الحكومة والسماح لهم بالإمساك بزمام الأمور في الجزائر، لكن بعض أعضاء جبهة التحرير (يقصد الجناح الموالي للمؤسسة العسكرية) خافوا على أنفسهم وطلبوا مني إلغاء نتيجة الانتخابات وإعادتها من جديد، لكني رفضت طلبهم احتراما مني للدستور وتنفيذا للوعد الذي قطعته على نفسي عندما أقسمت على القرآن الكريم أنني احترم إرادة الشعب الجزائري، لذلك لم أطلب من الشعب أن يعيد النظر في اختياره للإسلاميين. وماذا كان سيقول الرأي العام الجزائري والدولي عني لو أنني قمت بإلغاء الانتخابات؟ لكانوا قد ظنوا أن الإصلاحات التي قام بها الشاذلي كانت عبارة عن مناورة للبقاء في السلطة.. ولهذا السبب قررت ترك الحكم وقدمت استقالتي احتراما لخيار الشعب الجزائري".

ونص السؤال الثالث الذي قدمته المجلة للرئيس الشاذلي يقول: "كان على أصحاب القرار القبول بحكومة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، أليس ذلك صحيحا؟".

الجواب: "نعم، هذا صحيح، لو أن "الحكومة" القائمة قبلت بنتائج الانتخابات، لما كنا قد وصلنا إلى ذلك الوضع الخطير. لقد أردت من الشعب الجزائري أن يتحمل مسؤولية اختياره لممثليه بكل حرية ومن خلالهم تشكيل الحكومة  كان يجب علينا احترام خيار الشعب الجزائري ومنح الفرصة للجبهة الإسلامية للإنقاذ ( FIS) في تشكيل الحكومة. كان ينبغي الحكم على الجبهة الإسلامية للإنقاذ من خلال القوانين والإجراءات الدستورية التي تحكم البلد، والخروج عن إرادة الشعب وخياره في الانتخابات كان خطأ كبيرا جدا".

بما أن الشعب اختار الطرف الآخر (الإسلاميين)، كان يتوجب علينا تسليمهم الحكومة والسماح لهم بالإمساك بزمام الأمور في الجزائر، لكن بعض أعضاء جبهة التحرير (يقصد الجناح الموالي للمؤسسة العسكرية) خافوا على أنفسهم وطلبوا مني إلغاء نتيجة الانتخابات وإعادتها من جديد، لكني رفضت طلبهم احتراما مني للدستور وتنفيذا للوعد الذي قطعته على نفسي عندما أقسمت على القرآن الكريم أنني احترم إرادة الشعب الجزائري..ومما يذكر للرئيس الراحل أيضا من مواقف وطنية وسياسية شجاعة في محاربة رموز حزب فرنسا في الجزائر الذين ثاروا عليه لما بدأ يفكر في تطبيق الدستور فيما يتعلق باستكمال مقومات السيادة الوطنية المتمثل على الخصوص، في تطبيق المادة الثالثة منه والخاصة باللغة الوطنية المنصوص عليها في أول دستور وطني صادر سنة 1963 الذي بقي (شاهد زور) في تطبيق هذه المادة السيادية طوال عهدة  بومدين وعهدة الشاذلي كليهما (بل وما تزال على حالها المتذبذب حتى الآن) إلى أن يثبت  العكس الذي لم يحدث بعد ولن يحدث حتى يطبق قانون اللغة العربية الذي وقعه الرئيس الشاذلي وذهب دون تطبيقه وجدد تفعيله الرئيس اليمين زروال ولكن المتربصين بالكنز الفرنكوفوني الإفريقي اذهبوا بالرئيسين المجاهدين واضعي القانون المصيري وبقي هو مجمدا يشهد عليهما حتى الآن دون إلغاء رسمي أو تطبيق فعلي ممن تعاقبوا بعدهما على رئاسة  البلاد بالانقلاب أو بالانتخاب .

وتفصيل ذلك كله موجود بالوثائق في كتاب: (مصير وحدة الجزائر بين أمانة الشهداء وخيانة الخفراء!!) الصادر عن دار الأمة بالجزائر ( 2005 ) .

 ونعود إلى سنة 1980 حيث ألقى الرئيس الشاذلي بن جديد خطابا إثر اضطرابات وقعت في مناطق من البلاد بايعاز من المحتل السابق ذاته الذي أُخرِج بالقوة من البلاد وفي نفسه شيء كثير من الحقد على تلك المقومات الوطنية التي أخرجته وفي نفسه شيء كثير من الحقد عليها والرغبة في الثأر  منها  ومن  رجالها الأوفياء وقد تكرست في عهد الرئيس الشاذلي بقرارات هامة تخص تعميم استعمال اللغة العربية للتخلص من هيمنة اللغة الفرنسية  في الادارة الوطنية .

وكان الرئيس قد أصدر العديد من المراسيم الرئاسية لصالح تعريب الإدارة ولغة التدريس وإنشاء المجمع الجزائري للغة العربية ..

 فأثيرت اضطرابات ونظمت مظاهرات تحت شعارات مختلفة بعضها ملفوف وجلها مكشوف. وعلى إثر ذلك ألقى الرئيس الشاذلي خطابا قال فيه: "لأقد ضربنا الاستعمار لرأسه... حرك ذنبه".. وقد كتبت مقالا بعدها في جريدة السلام بعنوان: "هل ننتظر من الاستعمار أن يقطع ذنبه يا سيادة الرئيس؟) منشور  في العدد  الصادر يوم 11 يناير 1991 وذلك بسنة كاملة قبل أن يقع الفأس في الرأس ويتم إلغاء الشرعية الشعبية من طرف أصحاب "غنيمة الحرب" الفرنسية، الذين كانوا وراء الانقلاب العقابي.

 وأذكر أنهم قالوا بعد مصادقة البرلمان بالإجماع على قانون اللغة العربية سنة 1990 وكان ينص في إحدى مواده (المبيتة) التي تقضي بتأجيل تطبيقه إلى ما بعد سنتين من صدوره في الجريدة الرسمية بتوقيع الرئيس الشاذلي بن جديد أنه لا يدخل حيز التطبيق حتى سنة 1992 وهي سنة الانقلاب المحضر له على مكث في المخابر بفرنسا والجزائر.. وقالوا لنا حينها كما هو ثابت وموثق  في أبواقهم الناطقة  بلسانهم : " ومن أدراكم أنكم ستبقون حتى تطبقوه بعد سنتين؟".

وهذا ما قد وقع بالفعل حيث تمت مصادرة الإرادة الشعبية بالانقلاب وإلغاء نتائج الانتخاب وجمد القانون  يوم إحياء الذكرى الثلاثين  للاستقلال وهو اليوم الذي كان مقررا أن يوضع فيه القانون السيادي حيز التطبيق في مؤسسات دولة الاستقلال الذي دفع من أجله الشعب الجزائري أغلى ثمن من الشهداء في التاريخ المعاصر مثل فلسطين في الوقت الحاضر وحلت بعده العشرية الحمراء ثم السوداء محل الأمن والرخاء وعم الخراب كل الأرجاء كما اعترف بذلك الرئيس الشاذلي ذاته في حذيثه السابق كواحد من الملايين المتألمين لما حدث من خيانة الخفراء لأمانة الشهداء، وحينها صغت مقولة عن قوله المأثور في الخطاب المذكور "ضربنا الاستعمار لرأسه حرك ذنبه"، فقلت: "لقد تأخر الشاذلي في قطع الذنب فذهب به الذنب وما كسب".

ثالثا ـ البعد القومي العربي الإسلامي :

وفي هذا الإطار يمكن أن نذكر له مساعيه الحميدة الصادقة التي قام بها لتفادي حرب الخليج الثانية التي نتجت عن غزو العراق للكويت سنة 1990، وقبلها أيضا بذل أقصى جهده المخلص في محاولة إطفاء نار الحرب التي اشتعلت بين العراق وإيران في بداية الثمانينيات، والتي ذهب ضحيتها ملايين الأشقاء من المسلمين بين البلدين، وكان من ضحايا تلك الحرب (المجنونة) مقتل وزيرنا للخارجية محمد الصديق بن يحيى والوفد المرافق له الذي أسقطت طائرته الخاصة بصاروخ عراقي من صنع روسي، ونظرا لحسه القومي (رحمه الله) لم يرد أن يصرح للشعب الجزائري، بالقاتل الحقيقي لكي لا يزيد في توسيع شرخ الجدار القومي الذي لم يكن ليستفيد منه إلا أعداء وحدة الأمة في الداخل والخارج، ولقد كنت حاضرا في اجتماع خاص معه في مقر وزارة الداخلية التي كنت أشغل منصب مستشار بها مكلفا بملف التعريب (على المستوى الوطني) جمعنا بولاة الوطن سنة 1984 حينها صرح بهذه الحقيقة التي نذكرها للتاريخ كموقف قومي للرجل المسؤول، الذي يزن الأشياء، ويقدر عواقب الأمور.

وأشهد للتاريخ على تواضعه ووفائه لمن كان مرؤوسا لهم أثناء الثورة المسلحة أن آخر مرة التقيت به كان في الملتقى الدولي للفكر الإسلامي المنعقد في فندق الأوراسي بالجزائر العاصمة (في شهر سبتمبر سنة 1988.) وقد زار الملتقى ونظم حفل استقبال على شرف العلماء من معظم دول العالم الإسلامي وعندما دخل علينا في قاعة الاستقبال صادف أنني كنت واقفا بجنب أحد كبار قادة الثورة الجزائرية (رفيق بلقاسم كريم وسلف العقيد عميروش على رأس الولاية الثالثة التاريخية...) ألا وهو العقيد السعيد محمدي (المعروف بسي ناصر) الذي أصبح قائد أركان القاعدة الشرقية على الحدود التونسية مقابل العقيد هواري بومدين على الحدود الغربية بالمغرب الشقيق قبل توحيد قيادة الأركان تحت رئاسة بومدين وحده سنة 1960 وظل كذلك حتى توقيف القتال في 19 مارس سنة 1962. وكان الشاذلي بن جديد وقتها ضابطا برتبة ملازم أول تحت قيادة العقيد محمدي السعيد الذي كنت واقفا بجانبه عند الاستقبال فصافحني الرئيس الشاذلي اولا ثم صافح الذي يليني في الصف مباشرة وهو عميد العقداء وأول وزير للمجاهدين في حكومة الاستقلال ونائب رئيس الجمهورية أحمد بن بلة حتى الانقلاب عليه في 19 يونيو سنة 1965، فصافحه الرئيس الشاذلي بحرارة وظل ممسكا بيده ثم نظر إليه وقال له "لم أنس الموضوع" فشكره مرافقي الذي أتى يومها لتشريفي بحضور محاضرتي في الملتقى المذكور... وقد كنت ملازما له منذ خروجه من تحت الإقامة الجبرية بعد وفاة بومدين (ديسمبر 1978) وبقيت على اتصال دائم به طوال الثمانينيات حتى وفاته رحمه الله في ديسمبر من عام 1994 وقد كان عضوا نشيطا في الجبهة الإسلامية للإنقاذ حتى الانقلاب على الإرادة الشعبية والجبهة الإسلامية ذاتها وعلى الشاذلي نفسه في بداية سنة 1992.

 وأذكر أننا عندما خرجنا من قاعة الاستقبال بادرني هو نفسه ليشرح لي ما قصده الرئيس بتلك العبارة الغامضة بالنسبة للجميع، فقال لي: "لقد كنت قد طلبت مقابلة معه قبل أيام في موضوع خاص.. فأشعرني بأنه لم ينسَ الموعد".. وأشهد أن المرحوم الشاذلي لم يكن يعلم ولا يتوقع أن يصادفه في ذلك المكان على الإطلاق.

رحم الله الرئيس المجاهد الوطني الوفي الشاذلي بن جديد وأسكنه فسيح جنانه مع المجاهدين الصادقين الأوفياء في الأولين والآخرين.. وهذا درس لكل من يريد أن يعتبر بأنه لا يبقى في الدنيا من أعمال المرء العابر إلا الأثر الصامد مثل الحجر في سجل التاريخ لاستخلاص العبر.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير الجزائر الشهادة الجزائر سياسة شهادة سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة نتائج الانتخابات الشعب الجزائری جبهة التحریر إرادة الشعب فی الجزائر رحمه الله ما حدث فی الذی کان

إقرأ أيضاً:

أيقونة ثورة وزعيم عربي استثنائي.. 107 سنوات على ميلاد جمال عبد الناصر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

تحل اليوم الأربعاء الذكرى الـ107 لميلاد الزعيم جمال عبد الناصر، الذي وُلد في 15 يناير 1918 في أسرة بسيطة تنتمي إلى قرية بني مر بمحافظة أسيوط في صعيد مصر.

نشأ عبد الناصر وسط ظروف عادية، لكنه تطلع إلى خدمة بلاده فانضم إلى الكلية الحربية، وتخرج فيها برتبة ضابط، ليبدأ مسيرته العسكرية والسياسية.

كان عبد الناصر قائدًا لثورة 23 يوليو 1952، التي أطاحت بالنظام الملكي في مصر وأعلنت قيام الجمهورية. 

من هو الزعيم جمال عبد الناصر 
ولد جمال عبد الناصر فى 15 يناير 1918، و تخرج فى الكلية الحربية 1938، وقاد تنظيم الضباط الأحرار 1949، وشارك فى ثورة 23 يوليو 1952، وانتُخب رئيسا للجمهورية يونيو 1956، وأمّم شركة قناة السويس يوليو 1956، وتوفى فى 28 سبتمبر 1970 ودعه شعب مصر فى جنازة مهيبة.

إنجازات الزعيم
انحاز للعدالة الاجتماعية بقرارات جريئة مثل مجانية التعليم والإصلاح الزراعى وأعطى خمسة أفدنة لكل فلاح مصرى ولغى الإقطاع وتملك فرد واحد آلاف الأفدنة ورد للفلاحين كرامتهم التى أهدرها الاقطاع مئات السنين تحت الحكم الملكى الظالم المستبد .
-أسس نهضة اقتصادية وصناعية من خلال الخطط الخمسية وإنشاء القطاع العام ومؤسساته الباقية حتى الآن وأنشأ مصنع الأخشاب فى قطاع السجون ليحتضن من أخطأوا الطريق ويجعلهم صناع اثاث مفيدين لأنفسهم ولعائلاتهم والمجتمع. 
-انشغل بالقومية العربية ودعم حركات التحرر الوطنى فى المنطقة العربية وإفريقيا وقد حررت قواتنا المسلحة العديد من الدول العربية من الأنظمة الفاسدة مثل الجزائر واليمن وليبيا ودول إفريقية أخرى. 

أبرز مقولات جمال عبد الناصر: 
-الحق بغير قوة ضائع والسلام بغير مقدرة الدفاع عنه استسلام.
-المترددون لن تقوى أيديهم المرتعشة على البناء.
-لا يمكن أن يكون الغنى إرثًا والفقر إرثًا.

خبراء الاستراتيجيين


من جانبه قال العميد خالد عكاشة، مدير المركز الوطنى للدراسات الأمنية، في تصريحات لـ "البوابة نيوز": جمال عبد الناصر شخصية لا يمكن إنكار دورها المحوري في تشكيل التاريخ المعاصر للمنطقة. لقد كان رمزاً للمقاومة ضد الاستعمار والصهيونية، وألهم جيلاً كاملاً من القادة العرب. ومع ذلك، يجب تقييم سياساته في سياقها التاريخي، مع الأخذ في الاعتبار التحديات التي واجهها.

وتابع: أن ذكرى ميلاد جمال عبد الناصر مناسبة للتأمل في مسيرته وإنجازاته، وتقييم دوره في تاريخ مصر والوطن العربي، كما أنها فرصة للتعلم من تجاربه، والاستفادة من دروس التاريخ في بناء مستقبل أفضل.

وأضاف: استطاع تعزيز مكانة مصر في العالم العربي فقد لعب دوراً محورياً في توحيد مصر وسوريا لتشكيل الجمهورية العربية المتحدة، ودعم حركات التحرر الوطني في العالم العربي.

وفى ذات السياق، قال اللواء محمد رشاد، وكيل جهاز المخابرات العامة الأسبق وخبير شئون الأمن القومي لـ "البوابة نيوز": استطاع عبد الناصر توجيه مصر نحو التنمية الشاملة فقام بتنفيذ العديد من المشاريع القومية مثل بناء السد العالي، وتطوير الصناعة والزراعة.

وتابع: “كما حقق إنجازات كبيرة في مجال التنمية والبناء ولا يزال جمال عبد الناصر شخصية محورية في الذاكرة العربية، وذلك لأنه رمز للمقاومة ضد الاستعمار والصهيونية، وله مكانة خاصة في قلوب الشعوب العربية، فهو قائد قومي قاد مصر في فترة حرجة من تاريخها، وسعى إلى تحقيق الوحدة العربية، وقيادته تلك ملهمة للأجيال الشابة، وخاصة أولئك الذين يسعون إلى التغيير وتحقيق العدالة الاجتماعية، وبكل شجاعة استطاع مواجهة الاستعمار والصهيونية، فقاد مصر في حرب 1956 ضد العدوان الثلاثي”.

مقالات مشابهة

  • وصول الطائرة الإغاثية السعودية الحادية عشرة لمساعدة الشعب السوري الشقيق التي يسيّرها مركز الملك سلمان للإغاثة
  • أيقونة ثورة وزعيم عربي استثنائي.. 107 سنوات على ميلاد جمال عبد الناصر
  • مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية الحادية عشرة التي يسيّرها مركز الملك سلمان للإغاثة لمساعدة الشعب السوري
  • قانون القوة وعدالة الإجرام
  • من هو الملياردير وفيق رضا الذي استقبله الشرع؟ ارتبط اسمه بـصفقة اليمامة
  • الرئيس الجزائري يترأس اجتماعًا لمتابعة تحضيرات اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي.. صور
  • مجلس السيادة السوداني: الشعب سيقف في وجه المخططات التي تواجهه
  • “متحدث صنعاء العسكري”: ضربنا يافا بصاروخ فرط صوتي واربع مسيرات 
  • وصول الطائرة الإغاثية السعودية العاشرة التي يسيّرها مركز الملك سلمان للإغاثة لمساعدة الشعب السوري الشقيق
  • مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية العاشرة التي يسيّرها مركز الملك سلمان للإغاثة لمساعدة الشعب السوري