يعتقد كثير من الدارسين لتاريخ الشعوب العربية والإسلامية الحديث منها والمعاصر، أن معارك الانتقال الديمقراطي وبناء الدولة المدنية في العالم العربي انطلقت منذ بواكير القرن العشرين، بعد أن تمكن المستعمر الغربي من إسقاط الدولة العثمانية وبسط سلطاته على معظم المناطق العربية.. وضمن هذا المسار يصنفون مختلف التحولات السياسية التي شهدتها العديد من الدول العربية في المشرق والمغرب، منذ ثورة 1952 في مصر.

.

لكن تلك التحولات تم تصنيفها ضمن محاولات طي صفحة الهيمنة الغربية الاستعمارية على منطقتنا العربية، وبعضهم نظر إلى تلك التحولات على أنه جزء، ولم يكن الحلم الديمقراطي وقتها قد تشكل بوضوح تام، إلى أن جاءت أحداث أكتوبر من العام 1988 في الجزائر خلال حكم الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد رحمه الله التي دشنت عهد التعددية  السياسية وإنهاء نظام الحزب الواحد..

وقد نجم عن تلك الأحداث فوزا ساحقا للجبهة الإسلامية للإنقاذ التي فازت بالانتخابات البلدية، ثم بالانتخابات التشريعية وكانت قاب قوسين أو أدنى من قيادة البلاد لولا أن المؤسسة العسكرية الجزائرية وقتها رفضت التسليم بخيار الشعب الجزائري وطلبت من الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد إلغاء الانتخابات والدعوة لإعادتها، إلا أنه رفض ذلك واختار الاستقالة عن الانقلاب على إرادة الناخب الجزائري..

الكاتب والمؤرخ الجزائري أحمد بن نعمان، يعيد في هذه الشهادة التاريخية التي يكتبها خصيصا لـ "عربي21"، التذكير بسيرة واحد من القادة الجزائريين الذين انحازوا لخيار الشعوب وحقهم في تقرير المصير بعيدا عن وصاية الداخل والخارج.

حالة متميزة

يولد الناس سواسية في الشكل ولا يموتون كذلك في الفضل والفرق بين هذا الوضع وذاك، هو عمر من الكفاح والعمل المتواصل، حسب المواهب والمكاسب للحسنات والسيئات بكامل الإرادة والمسؤولية.. على اعتبار أن الله قد خلق الناس أحرارا في الاختيار بين طريق الجنة أو طريق النار.

ولذلك فالتاريخ لا يحاسب المرء على قلة علمه أو شكل جسمه ولكنه يحاسبه على فعله خيره وشره، كرمه وبخله، عدله وظلمه، ولون قلبه الذي يتحكم فيه، وليس لون جلده الذي يفرض عليه، هذا هو المقياس الذي يحكم به على الناس بعد رحيلهم من الدار الفانية إلى الدار الباقية، ونحن هنا أمام حالة غير عادية من ناحية الأبعاد القيمية للرئيس الجزائري الراحل الشاذلي بن جديد صاحب العديد من الخصائل والفضائل والمواقف والأيادي البيضاء على البلاد والعباد، التي تذكر له بكل أمانة وموضوعية في المحطات التالية:

أولا ـ البعد الديني والوطني :

بالنسبة للتنشئة الدينية للرئيس الراحل كما يحدثنا عنها هو بنفسه، نجدها في قوله عن والده بأنه كان ينتمي إلى إحدى الطرق الصوفية وقد ورث هو عن والده هذه الروح الدينية والوطنية، وهو ما يذكره الشيخ محمد متولي الشعراوي في حديثه عن ذكرياته أثناء إقامته في الجزائر في الستينيات من القرن الماضي (1966 ـ 1970 ) كرئيس للبعثة الأزهرية فيقول بأنه كان يلقي درسا في أحد المساجد في وهران وكان مستعجلا ليعود إلى العاصمة في اليوم ذاته فطلب منه العقيد الشاذلي بن جديد (الذي كان من بين الحاضرين و كان حينها رئيس الناحية العسكرية الخامسة) أن يقضي يومه في وهران ويوصله هو بنفسه إلى العاصمة بسيارته التي كان يقودها وبجانبه الشيخ الشعراوي، ويذكر الشيخ أحداثا طريفة ذات عبرة فائقة وقعت لهما في الطريق قرب مدينة مستغانم (مروية بلسانه في أحاديث تفسيره للقرآن وهي موجودة على اليوتوب.)

أما دوره في هذا المجال الديني والدعوي (غير المباشر) الذي قام به أثناء فترة رئاسته للجزائر( من 1979 إلى 1992)، فهو حرصه على إنجاز بناء مسجد وجامعة الأمير عبد القادر، الذي كان نائما في الأدراج لسنوات قبل مجيئه، ويعود له الفضل الأكبر في إتمام هذا المشروع الشامخ ليس في الجزائر فحسب بل في العالم الإسلامي بأسره.. وكذلك حرصه على استقدام الشيخ محمد الغزالي، بتوصية من الشيخ عبد الرحمان شيبان (وزير الشؤون الدينية في ذلك الوقت) كما يذكر ذلك بنفسه رحمه الله وهو ما تعبر عنه هذه الجمل الصادقة والوفية للإسلام وأهله المخلصين الواردة في وسام الاستحقاق الذي وشى به صدر الإمام الغزالي بمناسبة حفل تكريمه عند مغادرته الجزائر سنة 1989 حيث يقول: "نحن الشاذلي بن جديد، رئيس الجمهورية، صدر مصف الاستحقاق الوطني نقلد: الشيخ العلامة محمد الغزالي وسام الأثير من مصف الاستحقاق الوطني إكبارا لجهوده الجليلة والمستمرة في نشر العلم والمعرفة الإسلامية وإشادة بدوره في الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وتقديرا لعمله الدؤوب المتواصل في إشعاع الشريعة الإسلامية السمحاء والدفاع عن قيمها الأصيلة وتنويها بمساهمته الفعالة في ترسيخ البحث العلمي خاصة أثناء وجوده بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، وفي إطار ملتقيات الفكر الإسلامي".

"أعطت الديمقراطية للشعب الجزائري اختيار الإسلاميين بكل حرية، تماما كما حدث في فلسطين عندما انتخب الشعب الفلسطيني الإسلاميين من حركة حماس، كان اختيار الفلسطينيين للإسلاميين عقابا وردًّا على التصرفات والأخطاء التي ارتكبتها حركة فتح بحق الفلسطينيين ونهب أعضائها للمال العام، وهذا بالضبط ما حدث في الجزائر عندما انتقم الشعب من تصرفات المسؤولين في جبهة التحرير الذين ارتكبوا أخطاء كبيرة في حق الشعب الجزائري ونهبوا أمواله، هذه هي الحقيقة".وعن إسلامه الصادق وإيمانه العميق (كمجاهد في سبيل الله والوطن ) بالقدرة الإلهية التي حمت ثورة جهادنا الأصغر المظفر، يقول في مقابلة له مع جريدة الشعب الصادرة بتاريخ 1980/02/26: "في البداية أحب أن أقول بأن العامل الديني كان أساسيا في نجاح الثورة الجزائرية.فمن جهة كان الدين هو السياج الذي حمى مقومات الشخصية الجزائرية طوال فترة الاحتلال، كما كان أساسا للوحدة الوطنية خاصة خلال الحرب التحريرية، ومن جهة أخرى فإن الدين هو عامل إيجابي في بناء المجتمع، لأن الإسلام بالنسبة لنا هو دين العدالة الاجتماعية الحقيقية، ولقد نشأت شخصيا في أسرة متدينة وكان لهذا أثر كبير في نشأتي تدعم بعد ذلك خلال حربنا التحريرية بالأحداث التي عشناها وأحسسنا فيها بالقدرة الالهية التي حمت ثورتنا، وكانت سلاحنا الأساسي لتحقيق هذا النصر المبين".

ثانيا ـ البعد السياسي:

وعن هذا البعد الذي كان يعبر عن موقفه من الزلزال العنيف الذي ضرب أمل الشعب الجزائري في تحقيق أول ربيع عربي واعد سبق  به كل أقطار الأمة في شهر أكتوبر من سنة (1988)، يجيب سائله من مجلة (جامعة صوفيا للدراسات الآسيوية) أجراه معه سنة 2008 في الجزائر، وقد أعادت نشره جريدة الشروق اليومي بتاريخ 16 أكتوبر 2012 عن ثلاثة أسئلة تتعلق بمأساة الجزائر التالية وموقفه منها بما يستشف من إجابته الصريحة والواضحة على الأسئلة عدم رضاه على مصادرة إرادة الشعب الجزائري من طرف الذين خيروه بين التنحي أو تدمير الجزائر فاختار موقف الرئيس بن يوسف بن خدة التاريخي إثر انقلاب العسكر على الشرعية الثورية والديمقراطية الشعبية سنة 1962. (انظر مقالنا في "عربي21" عن الرئيس بن يوسف بن خدة أول سوار الذهب في تاريخ العرب ليوم 9 أغسطس 2024) .

يقول نص السؤال الأول الموجه من المجلة الى الرئيس الشاذلي بن جديد: لماذا استطاعت الجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS) تحقيق نتائج كبيرة في انتخابات 1990؟

الجواب: "أعطت الديمقراطية للشعب الجزائري اختيار الإسلاميين بكل حرية، تماما كما حدث في فلسطين عندما انتخب الشعب الفلسطيني الإسلاميين من حركة حماس، كان اختيار الفلسطينيين للإسلاميين عقابا وردًّا على التصرفات والأخطاء التي ارتكبتها حركة فتح بحق الفلسطينيين ونهب أعضائها للمال العام، وهذا بالضبط ما حدث في الجزائر عندما انتقم الشعب من تصرفات المسؤولين في جبهة التحرير الذين ارتكبوا أخطاء كبيرة في حق الشعب الجزائري ونهبوا أمواله، هذه هي الحقيقة".

ونص السؤال الثاني يقول : "كما هو معروف، لم تقبل الحكومة الجزائرية بنتائج الانتخابات 1991 وحظرت الجبهة الإسلامية للإنقاذ ( FIS) ، وكانت النتيجة مأساوية، وراح ضحيتها أكثر من مائتي ألف قتيل في ذلك الوقت. هل تعتقد أنه لو قبلت الحكومة نتائج الانتخابات وتعاملت معها كما يجب في إطار القانون، لتجنبت البلاد كل تلك الأحداث التي تبعتها؟".

الجواب: "طبعا، كان يتوجب أن تعالج المشاكل التي اندلعت بعد الانتخابات في إطار البرلمان. وبصراحة أنا لا أتهم كل جبهة التحرير، ذلك لأن البعض في جبهة التحرير قبلوا نتائج الانتخابات وفضلوا أن تقوم الجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS )  بتعيين حكومتها، ومن ثم نقوم بنقل الصراع سياسيا إلى داخل البرلمان من خلال طرح وجهات النظر المختلفة. كان المفروض أن لا تصل الأمور إلى تلك الأزمة الخطيرة والتي مازلنا نعاني منها حتى الآن. أنا كنت مع الإطار الديمقراطي، وبما أن الشعب اختار الطرف الآخر (الإسلاميين)، كان يتوجب علينا تسليمهم الحكومة والسماح لهم بالإمساك بزمام الأمور في الجزائر، لكن بعض أعضاء جبهة التحرير (يقصد الجناح الموالي للمؤسسة العسكرية) خافوا على أنفسهم وطلبوا مني إلغاء نتيجة الانتخابات وإعادتها من جديد، لكني رفضت طلبهم احتراما مني للدستور وتنفيذا للوعد الذي قطعته على نفسي عندما أقسمت على القرآن الكريم أنني احترم إرادة الشعب الجزائري، لذلك لم أطلب من الشعب أن يعيد النظر في اختياره للإسلاميين. وماذا كان سيقول الرأي العام الجزائري والدولي عني لو أنني قمت بإلغاء الانتخابات؟ لكانوا قد ظنوا أن الإصلاحات التي قام بها الشاذلي كانت عبارة عن مناورة للبقاء في السلطة.. ولهذا السبب قررت ترك الحكم وقدمت استقالتي احتراما لخيار الشعب الجزائري".

ونص السؤال الثالث الذي قدمته المجلة للرئيس الشاذلي يقول: "كان على أصحاب القرار القبول بحكومة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، أليس ذلك صحيحا؟".

الجواب: "نعم، هذا صحيح، لو أن "الحكومة" القائمة قبلت بنتائج الانتخابات، لما كنا قد وصلنا إلى ذلك الوضع الخطير. لقد أردت من الشعب الجزائري أن يتحمل مسؤولية اختياره لممثليه بكل حرية ومن خلالهم تشكيل الحكومة  كان يجب علينا احترام خيار الشعب الجزائري ومنح الفرصة للجبهة الإسلامية للإنقاذ ( FIS) في تشكيل الحكومة. كان ينبغي الحكم على الجبهة الإسلامية للإنقاذ من خلال القوانين والإجراءات الدستورية التي تحكم البلد، والخروج عن إرادة الشعب وخياره في الانتخابات كان خطأ كبيرا جدا".

بما أن الشعب اختار الطرف الآخر (الإسلاميين)، كان يتوجب علينا تسليمهم الحكومة والسماح لهم بالإمساك بزمام الأمور في الجزائر، لكن بعض أعضاء جبهة التحرير (يقصد الجناح الموالي للمؤسسة العسكرية) خافوا على أنفسهم وطلبوا مني إلغاء نتيجة الانتخابات وإعادتها من جديد، لكني رفضت طلبهم احتراما مني للدستور وتنفيذا للوعد الذي قطعته على نفسي عندما أقسمت على القرآن الكريم أنني احترم إرادة الشعب الجزائري..ومما يذكر للرئيس الراحل أيضا من مواقف وطنية وسياسية شجاعة في محاربة رموز حزب فرنسا في الجزائر الذين ثاروا عليه لما بدأ يفكر في تطبيق الدستور فيما يتعلق باستكمال مقومات السيادة الوطنية المتمثل على الخصوص، في تطبيق المادة الثالثة منه والخاصة باللغة الوطنية المنصوص عليها في أول دستور وطني صادر سنة 1963 الذي بقي (شاهد زور) في تطبيق هذه المادة السيادية طوال عهدة  بومدين وعهدة الشاذلي كليهما (بل وما تزال على حالها المتذبذب حتى الآن) إلى أن يثبت  العكس الذي لم يحدث بعد ولن يحدث حتى يطبق قانون اللغة العربية الذي وقعه الرئيس الشاذلي وذهب دون تطبيقه وجدد تفعيله الرئيس اليمين زروال ولكن المتربصين بالكنز الفرنكوفوني الإفريقي اذهبوا بالرئيسين المجاهدين واضعي القانون المصيري وبقي هو مجمدا يشهد عليهما حتى الآن دون إلغاء رسمي أو تطبيق فعلي ممن تعاقبوا بعدهما على رئاسة  البلاد بالانقلاب أو بالانتخاب .

وتفصيل ذلك كله موجود بالوثائق في كتاب: (مصير وحدة الجزائر بين أمانة الشهداء وخيانة الخفراء!!) الصادر عن دار الأمة بالجزائر ( 2005 ) .

 ونعود إلى سنة 1980 حيث ألقى الرئيس الشاذلي بن جديد خطابا إثر اضطرابات وقعت في مناطق من البلاد بايعاز من المحتل السابق ذاته الذي أُخرِج بالقوة من البلاد وفي نفسه شيء كثير من الحقد على تلك المقومات الوطنية التي أخرجته وفي نفسه شيء كثير من الحقد عليها والرغبة في الثأر  منها  ومن  رجالها الأوفياء وقد تكرست في عهد الرئيس الشاذلي بقرارات هامة تخص تعميم استعمال اللغة العربية للتخلص من هيمنة اللغة الفرنسية  في الادارة الوطنية .

وكان الرئيس قد أصدر العديد من المراسيم الرئاسية لصالح تعريب الإدارة ولغة التدريس وإنشاء المجمع الجزائري للغة العربية ..

 فأثيرت اضطرابات ونظمت مظاهرات تحت شعارات مختلفة بعضها ملفوف وجلها مكشوف. وعلى إثر ذلك ألقى الرئيس الشاذلي خطابا قال فيه: "لأقد ضربنا الاستعمار لرأسه... حرك ذنبه".. وقد كتبت مقالا بعدها في جريدة السلام بعنوان: "هل ننتظر من الاستعمار أن يقطع ذنبه يا سيادة الرئيس؟) منشور  في العدد  الصادر يوم 11 يناير 1991 وذلك بسنة كاملة قبل أن يقع الفأس في الرأس ويتم إلغاء الشرعية الشعبية من طرف أصحاب "غنيمة الحرب" الفرنسية، الذين كانوا وراء الانقلاب العقابي.

 وأذكر أنهم قالوا بعد مصادقة البرلمان بالإجماع على قانون اللغة العربية سنة 1990 وكان ينص في إحدى مواده (المبيتة) التي تقضي بتأجيل تطبيقه إلى ما بعد سنتين من صدوره في الجريدة الرسمية بتوقيع الرئيس الشاذلي بن جديد أنه لا يدخل حيز التطبيق حتى سنة 1992 وهي سنة الانقلاب المحضر له على مكث في المخابر بفرنسا والجزائر.. وقالوا لنا حينها كما هو ثابت وموثق  في أبواقهم الناطقة  بلسانهم : " ومن أدراكم أنكم ستبقون حتى تطبقوه بعد سنتين؟".

وهذا ما قد وقع بالفعل حيث تمت مصادرة الإرادة الشعبية بالانقلاب وإلغاء نتائج الانتخاب وجمد القانون  يوم إحياء الذكرى الثلاثين  للاستقلال وهو اليوم الذي كان مقررا أن يوضع فيه القانون السيادي حيز التطبيق في مؤسسات دولة الاستقلال الذي دفع من أجله الشعب الجزائري أغلى ثمن من الشهداء في التاريخ المعاصر مثل فلسطين في الوقت الحاضر وحلت بعده العشرية الحمراء ثم السوداء محل الأمن والرخاء وعم الخراب كل الأرجاء كما اعترف بذلك الرئيس الشاذلي ذاته في حذيثه السابق كواحد من الملايين المتألمين لما حدث من خيانة الخفراء لأمانة الشهداء، وحينها صغت مقولة عن قوله المأثور في الخطاب المذكور "ضربنا الاستعمار لرأسه حرك ذنبه"، فقلت: "لقد تأخر الشاذلي في قطع الذنب فذهب به الذنب وما كسب".

ثالثا ـ البعد القومي العربي الإسلامي :

وفي هذا الإطار يمكن أن نذكر له مساعيه الحميدة الصادقة التي قام بها لتفادي حرب الخليج الثانية التي نتجت عن غزو العراق للكويت سنة 1990، وقبلها أيضا بذل أقصى جهده المخلص في محاولة إطفاء نار الحرب التي اشتعلت بين العراق وإيران في بداية الثمانينيات، والتي ذهب ضحيتها ملايين الأشقاء من المسلمين بين البلدين، وكان من ضحايا تلك الحرب (المجنونة) مقتل وزيرنا للخارجية محمد الصديق بن يحيى والوفد المرافق له الذي أسقطت طائرته الخاصة بصاروخ عراقي من صنع روسي، ونظرا لحسه القومي (رحمه الله) لم يرد أن يصرح للشعب الجزائري، بالقاتل الحقيقي لكي لا يزيد في توسيع شرخ الجدار القومي الذي لم يكن ليستفيد منه إلا أعداء وحدة الأمة في الداخل والخارج، ولقد كنت حاضرا في اجتماع خاص معه في مقر وزارة الداخلية التي كنت أشغل منصب مستشار بها مكلفا بملف التعريب (على المستوى الوطني) جمعنا بولاة الوطن سنة 1984 حينها صرح بهذه الحقيقة التي نذكرها للتاريخ كموقف قومي للرجل المسؤول، الذي يزن الأشياء، ويقدر عواقب الأمور.

وأشهد للتاريخ على تواضعه ووفائه لمن كان مرؤوسا لهم أثناء الثورة المسلحة أن آخر مرة التقيت به كان في الملتقى الدولي للفكر الإسلامي المنعقد في فندق الأوراسي بالجزائر العاصمة (في شهر سبتمبر سنة 1988.) وقد زار الملتقى ونظم حفل استقبال على شرف العلماء من معظم دول العالم الإسلامي وعندما دخل علينا في قاعة الاستقبال صادف أنني كنت واقفا بجنب أحد كبار قادة الثورة الجزائرية (رفيق بلقاسم كريم وسلف العقيد عميروش على رأس الولاية الثالثة التاريخية...) ألا وهو العقيد السعيد محمدي (المعروف بسي ناصر) الذي أصبح قائد أركان القاعدة الشرقية على الحدود التونسية مقابل العقيد هواري بومدين على الحدود الغربية بالمغرب الشقيق قبل توحيد قيادة الأركان تحت رئاسة بومدين وحده سنة 1960 وظل كذلك حتى توقيف القتال في 19 مارس سنة 1962. وكان الشاذلي بن جديد وقتها ضابطا برتبة ملازم أول تحت قيادة العقيد محمدي السعيد الذي كنت واقفا بجانبه عند الاستقبال فصافحني الرئيس الشاذلي اولا ثم صافح الذي يليني في الصف مباشرة وهو عميد العقداء وأول وزير للمجاهدين في حكومة الاستقلال ونائب رئيس الجمهورية أحمد بن بلة حتى الانقلاب عليه في 19 يونيو سنة 1965، فصافحه الرئيس الشاذلي بحرارة وظل ممسكا بيده ثم نظر إليه وقال له "لم أنس الموضوع" فشكره مرافقي الذي أتى يومها لتشريفي بحضور محاضرتي في الملتقى المذكور... وقد كنت ملازما له منذ خروجه من تحت الإقامة الجبرية بعد وفاة بومدين (ديسمبر 1978) وبقيت على اتصال دائم به طوال الثمانينيات حتى وفاته رحمه الله في ديسمبر من عام 1994 وقد كان عضوا نشيطا في الجبهة الإسلامية للإنقاذ حتى الانقلاب على الإرادة الشعبية والجبهة الإسلامية ذاتها وعلى الشاذلي نفسه في بداية سنة 1992.

 وأذكر أننا عندما خرجنا من قاعة الاستقبال بادرني هو نفسه ليشرح لي ما قصده الرئيس بتلك العبارة الغامضة بالنسبة للجميع، فقال لي: "لقد كنت قد طلبت مقابلة معه قبل أيام في موضوع خاص.. فأشعرني بأنه لم ينسَ الموعد".. وأشهد أن المرحوم الشاذلي لم يكن يعلم ولا يتوقع أن يصادفه في ذلك المكان على الإطلاق.

رحم الله الرئيس المجاهد الوطني الوفي الشاذلي بن جديد وأسكنه فسيح جنانه مع المجاهدين الصادقين الأوفياء في الأولين والآخرين.. وهذا درس لكل من يريد أن يعتبر بأنه لا يبقى في الدنيا من أعمال المرء العابر إلا الأثر الصامد مثل الحجر في سجل التاريخ لاستخلاص العبر.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير الجزائر الشهادة الجزائر سياسة شهادة سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة نتائج الانتخابات الشعب الجزائری جبهة التحریر إرادة الشعب فی الجزائر رحمه الله ما حدث فی الذی کان

إقرأ أيضاً:

المؤرخ التركي إلبَر أورطايلي: روح الاستعمار الغربي لا تزال تحكم المنطقة

تتعدد انشغالات المؤرخ التركي إلبر أورطايلي، من خلال اهتمامه بشكل خاص بتاريخ المدن، وتاريخ الإدارة العامة والدبلوماسية والتاريخ الثقافي والفكري.

ويعد أورطايلي اليوم الأبرز بين المؤرخين الأتراك الذين سيطر عليهم هاجس المراجعة المعمقة للوثائق والأرشيف العثماني، إضافة إلى أرشيفات البلدان التي خضعت للدولة العثمانية، إذ يسعى إلى كتابة تاريخ جديد للدولة العثمانية، فلقد ظهر جليا تأثره بأستاذه عالم العثمانيات المعروف خليل إينالجيك (1916-2016)، وبتقسيماته للحقب العثمانية.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2أرض الوداع والعلامات السبع لزوال إسرائيلlist 2 of 2المؤرخ التركي خليل بركتاي: الحرب العالمية الثالثة بدأت بالفعلend of list

ولد أورطايلي عام (1947)، في مدينة بريغنز بالنمسا لعائلة من تتار القرم، كانت هربت من الترحيل والاضطهاد إبان حكم جوزيف ستالين.

تخرج من كلية العلوم السياسية (في جامعة أنقرة) عام 1969، وكانت أطروحته حول الإدارة المحلية في فترة التنظيمات، عام 1978 انضم إلى الهيئة التدريسية بعد حصوله على الدكتوراه في الجامعة نفسها، ثم حصل على رتبة أستاذ عام 1979، عن بحثه "النفوذ الألماني في الإمبراطورية العثمانية". كانت رسالته للدكتوراه التي كتبها عام 1985 تحت عنوان "الخلافة العثمانية: التحديث والحداثة في القرن الـ19″، وأكمل دراسته العليا بجامعة شيكاغو الأميركية، وتم تعيينه عام 1989 أستاذا للتاريخ ورئيسا لقسم التاريخ الإداري بكلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة، كما درّس في جامعة فيينا في قسم الدراسات السلافية والمشرقية. وعمل أستاذا للتاريخ في جامعة غلطة سراي في إسطنبول وجامعة بيلكنت في أنقرة.

تم تعيينه عام 2005، مديرا لمتحف طوب قابي في إسطنبول، حتى تقاعده سنة 2012. يتحدث أورطايلي الألمانية والفرنسية والإنكليزية والروسية والفارسية.

إلبر أورطايلي (مواقع التواصل)

ويرى المؤرخ إلبر أورطايلي، في حوار خاص للجزيرة نت، أن الإمبراطورية العثمانية تمثل "الإمبراطورية الرومانية الثالثة" في التاريخ، إذ استمر تأثيرها بمرور الوقت، وشملت تنوعا كبيرا في الأديان.

ويشير إلى أن نظام الانتداب البريطاني والفرنسي ترك أثرا سلبيا على التراث العثماني.

ويوضح أورطايلي في فترة الانتقال من الإمبراطورية إلى الجمهورية في تركيا، شهد المجتمع تحولات كبيرة، وعدت فترة الثورة والتغيير صعبة.

وأكد أن تركيا استمرت في الابتعاد عن مفهوم الذات القديمة، وتبنت توجها حديثا نحو التقدم والتطور.

صدرت ترجمة عربية لعدة كتب من تأليفه عن الدار العربية للعلوم (ناشرون). ومن أبرز مؤلفاته: "التاريخ الإداري لتركيا" (1979)، و"كيف يبني الإنسان مستقبله؟" (2007)، و"إعادة استكشاف العثمانيين" (2015)، و"العثمانيون في ثلاث قارات" (2016)، و"الغازي مصطفى كمال أتاتورك" (2019).

كتاب "الغازي مصطفى كمال أتاتورك" لإيلبير أورتايلي (الجزيرة) ابتكارات اللورد كورزون.. سلم إمبريالي لحرب إمبريالية

لا يزال موضوع الحرب العالمية الأولى (1914-1918) محل نقاش حتى اليوم. كيف دخلت البشرية في هذه الكارثة العظيمة التي لا يمكن تفسيرها بأي سبب من الأسباب المطروحة؟ فقبل الحرب العالمية الأولى، تقرر تفكيك الإمبراطورية العثمانية، من قبل الدول الغربية ولا سيما فرنسا وبريطانيا. وفي النهاية أدت الحرب الكبرى إلى تدمير تلك الإمبراطورية.

وعن تمهيد الطريق إلى عقد اتفاقية "لوزان" بين كل من تركيا وبريطانيا وفرنسا في 24 من يوليو/تموز 1923، وهل ساهمت الأوضاع السياسية وانتصارات الجيش التركي ضد اليونانيين في الاتجاه إلى عقد تلك الاتفاقية، يقول المؤرخ التركي إلبر أورطايلي إنه تم التوقيع على معاهدة لوزان للسلام يوم 24 يوليو/تموز 1923 في القاعة الاحتفالية بجامعة لوزان (قصر رومين) بين ممثلي مجلس الأمة الكبير (البرلمان التركي) وممثلي القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، التي كانت تتصارع على تقاسم تركة الإمبراطورية العثمانية.

اتفاقية لوزان أنهت العمليات القتالية في الشرق الأوسط بين الدولة العثمانية والحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى (مواقع التواصل)

ويضيف في حديثه للجزيرة نت أن معاهدة لوزان كانت تهدف إلى تنظيم الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى. وأضاف أنه بهذه الاتفاقية تم توقيع آخر اتفاقية سلام في الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، إذ انتهت الحرب العالمية الأولى في لوزان عمليا، وكان ذلك السلام بين اليونان وتركيا من جهة، والسلام بين الدول العربية الحديثة التأسيس وتركيا من جهة أخرى.

يذكر أنه في لوزان كان هناك خلاف بين رئيس مفاوضي الوفد التركي عصمت إينونو (1884-1973)، ورئيس الوفد البريطاني، اللورد كورزون (1859-1925)، حول الامتيازات الأجنبية في الدولة العثمانية، إذ صرح كورزون بأنه وعد بمناقشة نظام الامتيازات في أثناء هدنة مودروس، الموقعة في 30 أكتوبر/تشرين الأول 1918، بين وزير البحرية التركي والأميرال البريطاني سومرست كالثروب (1865-1937) على ظهر الطراد آغاممنون الراسي في مرفأ مودروس بجزيرة ليمونوس اليونانية.

ويؤكد المؤرخ -مؤلف كتاب "نحن وتاريخنا" (2015)- أن اتفاقية لوزان أنهت العمليات القتالية في الشرق الأوسط بين الدولة العثمانية والحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى. وكانت هناك مطالبات بإعادة النظر في نظام الامتيازات، وتصحيحه، والذي ألغي في بداية الحرب العالمية الأولى. وأضاف أورطايلي كانت لدينا أيضا معاهدة أخرى مع إيران، وتسمى سعد آباد (1937).

وعن معاهدة لوزان، يقول وقّعنا المعاهدة عام 1923 مع أعدائنا وكان ذلك انتصارا لتركيا الجديدة، ويستدرك أورطايلي لكن في كل مرة بدأنا بإصلاحاتنا وتغريبنا، كانت هناك حرب أخرى حيث كان علينا أن نقاتل ضد نظامنا الخاص.

وعن نتائج الحرب العالمية الأولى، يقول: "لقد شهدت الأمم التي شاركت في الحرب التحول نحو أنظمة ديمقراطية جديدة، وكانت هذه الفترة مفصلية لتاريخ الشرق الأوسط، إذ توفرت الفرصة للأمم والشعوب لإعادة تشكيل مسارها نحو المستقبل".

 

ولادة الانتدابات.. المؤامرة المعلنة

في التاريخ الغربي، صُورت السلطنة العثمانية عموما ونُظر إليها على أنها الخصم والنقيض التام من أوروبا والأوروبية. وكانت كما وصفها بعض المؤرخين: "إحدى رجليها في أوروبا إستراتيجيا، بينما رجلها الأخرى كانت خارج السور الأوروبي. وكانت الفتوحات العثمانية في القرنين الـ14 والـ15 داخل أوروبا، وبالتالي كانت هذه القوة الجديدة، أي دخول الأتراك في البلقان، تعتبر تهديدا كبيرا وخطيرا للغرب، للمرة الأولى في تاريخ أوروبا. وكانت المرة الأولى في التاريخ التي يدخل فيها شعب آسيوي إلى داخل أوربا بهذه الدرجة".

ويشير -مؤلف كتاب "صفحات من إسطنبول" (1986)- إلى أن الإمبراطورية العثمانية بدأت ضخمة في فقدان هيبتها في البلقان، حيث شهدت الإمبراطورية العثمانية تحولات مهمة في منطقة البلقان والشرق الأوسط، مما أدى إلى نهاية القومية أو العرقية وظهور الجمهوريات. وحتى إعلان الجمهورية، كادت الإمبراطورية العثمانية أن تفقد ألماسها البلقاني.

الإمبراطورية العثمانية شهدت تحولات مهمة في منطقة البلقان والشرق الأوسط، مما أدى إلى نهاية القومية أو العرقية وظهور الجمهوريات (الجزيرة)

وأضاف، بعد الحرب العالمية الأولى، فقدت الإمبراطورية العثمانية في المشرق العربي، الجزيرة العربية والشام والأراضي الحديثة في العراق ولبنان وفلسطين.

وعن تقييمه لنظام الانتداب البريطاني والفرنسي في الولايات العربية التابعة للسلطنة العثمانية، وإذا ما كان نظام الانتداب فعالا في المنطقة، يرى أورطايلي أن نظام الانتداب البريطاني والفرنسي في تلك الفترة لم يكن فعالا، ولم يجلب حياة جيدة وقيمة إلى هذا الجزء من الإمبراطورية. وكما أنه ترك أثرا سلبيا على التراث العثماني.

وأردف المؤرخ -مؤلف كتاب "السلام العثماني" (2004)- قائلا نحن اليوم نتجه مع البقايا والتركة السيئة لهذا الرجل (البريطاني) الذي يدفع نقاط الالتماس على التربة العثمانية. وفي حديثه، يأمل أورطايلي أن تتاح للشعوب في هذه المنطقة فرصة للتقدم نحو الاستقلال، متجاوزين مرحلة تأثير الانتداب البريطاني والفرنسي، وبناء أفضل بروح الاستقلال والحرية.

 

تأثير الإصلاحات.. أطول قرن في تاريخ الإمبراطورية

وعن مشروع الإصلاح العثماني (التنظيمات) يقول -صاحب كتاب "أطول قرن في الإمبراطورية"- في حواره للجزيرة نت لقد اضطررنا إلى تغيير جيشنا، واضطررنا إلى تغيير نظامنا التعليمي، وأحيانا تأثر هذا بالنظام التعليمي الحديث للشعوب البلقانية وحتى العرب، كما كانت الحال في لبنان.

ويعطي مثالا، إذ يقول كان لبنان هو المنتج الجديد في القرن الـ19، بكل إداراته ومؤسساته الثقافية والروابط والعلاقات بين مختلف المجتمعات. بلا شك، فإن التعليم المدني والإصلاحات القانونية والاقتصادية قد أثرت بشكل كبير على تشكل لبنان.

ويؤكد إلبر أورطايلي أن هذا التأثير على المجتمع كان متباينا. أحيانا كان هذا التأثير على جميع الأعضاء، وأحيانا كان على بيروقراطية الإمبراطورية العثمانية. وأشار إلى أن الإصلاحات العثمانية في القرن الـ19، كانت محكومة بشكل كبير من قبل القوى الأجنبية. واعتبر أن "القرن الـ19 مرحلة مهمة في تاريخ المنطقة، حيث كانت التأثيرات ملموسة على الهوية الثقافية والإدارية والتعليمية".

ويشير -صاحب "التأثير الألماني على الدولة العثمانية" (1980)- إلى أن "بعض الجوانب للإمبراطورية العثمانية تأثرت بالتقاليد البريطانية والفرنسية، وعلى الرغم من ذلك ظل التأثير الروماني واضحا، إذ تغير نظام التعليم والإصلاحات الاقتصادية في تلك الفترة، وكانت هناك تحولات كبيرة في العلاقات بين الأفراد والبيروقراطية".

ويعتقد أنه خلال تلك الفترة، كان على الإمبراطوريات القديمة، حيث كانت الإمبراطورية الثالثة (العثمانية) بعد روما، أن تغير أسلوب حياتها ونظامها القانوني والعلاقة بين الرعايا والبيروقراطية المعقدة. لذلك -حسب أورطايلي- يمكن أن يطلق على هذه الفترة من الحروب والتطور والإصلاحات بأنها أطول قرن في تاريخ الإمبراطورية.

ويرى المؤرخ التركي أن تركيا دولة متغيرة وتحاول بقدر المستطاع التعامل مع التبدلات، وعلى الرغم من التحديات، استمرت تركيا في الابتعاد عن مفهوم الذات القديمة، وتبنت توجها حديثا نحو التقدم والتطور. وبحسب أورطايلي، يمكننا رؤية ذلك في تبدل الدولة العثمانية خلال القرن الـ19، وأشار إلى أن التاريخ موجود معنا شئنا أم أبينا، وأن رفض التاريخ أمر ينافي الطبيعة والتفكير الواقعي، وأن المفهوم المعمق للتاريخ والتحول الشخصي يظل هو المحرك الرئيسي للتطور والازدهار.

الإمبراطورية العثمانية سيطرت على مناطق أكبر من مساحة أوروبا بكفاءة اقتصادية وبدرجة من التسامح لم تعرفها أوروبا (شترستوك) روما الثالثة إمبراطورية الأتراك.. الوريث العثماني

يعود مصطلح "بيزنطية" إلى عصر النهضة، إذ استخدمه المؤرخ وعالم الإنسانيات الألماني هوميرونيموس فولف (1516-1580)، في القرن الـ16، وقد كان البيزنطيون يطلقون على أنفسهم "رومان"، وكان الأتراك يطلقون على هذه البلاد تعبيرات مثل إقليم الروم والإمبراطورية الرومانية، كما أطلقوا على أنفسهم وصف "الروم".

ويقول المؤرخ أورطايلي في حديثه من الواضح الآن، أنه في عام 1923، كان هناك تغيير أو تطور معين تم إحداثه فيما يتعلق بالبطريركية الأرثوذكسية اليونانية، وكان قد تم تعطيله سابقا من قبل الإمبراطورية العثمانية.

وأكد أن البطريركية الأرثوذكسية الرومانية هي الوارث للإمبراطورية الرومانية القديمة، ومقرها كان في إسطنبول، وكان لها مجتمعها وأنظمتها القانونية الخاصة. وأنه بعد عام 1923، لم تكن هذه البطريركية مستعدة للانتقال إلى الجمهورية التركية الناشئة.

وأضاف المؤرخ، كذلك الأمر بالنسبة للأرمن والربانية اليهودية الرئيسية. هناك أوضاع متشابهة تتعلق بالوضع القانوني والرسمي لهذه الطوائف الدينية في المنطقة وتعاملها مع السلطات. هذه تفاصيل مهمة للتفهم الشامل لتطورات الواقع السياسي والاجتماعي في المنطقة خلال هذه المرحلة التاريخية.

وأوضح أن تركيا الحديثة هي وارثة النظام الروماني القديم، ويعود ويستدرك، لكن بالتأكيد باستخدام نظامها القانوني الخاص، والمحاكم المدنية التي تأثرت بالروم والتقاليد كان عليها أن تطبق وتتبنى النظام الحديث للإرث.

 

إمبراطورية عالمية.. تنوع ديني وقانوني

يقول المؤرخ التركي خليل إينالجيك في كتاب "السلطنة العثمانية ومكانتها في التاريخ الأوروبي" (2022)، تطورت الدولة العثمانية إلى سلطنة آسيوية غربية، وامتدت رقعة أراضيها إلى الشرق الأوسط وإلى شبه جزيرة البلقان وقارتي آسيا وأوروبا لأكثر من 5 قرون بين عامي 1400 و1922. حيث سيطرت الإمبراطورية العثمانية على مناطق أكبر من مساحة أوروبا بكفاءة اقتصادية وبدرجة من التسامح لم تعرفها أوروبا.

وعن مدى نجاح العثمانيين في التحول عن وعي من إمبراطورية بلقانية اكتسبت خصوصيتها عبر سيرورة تاريخية طبيعية على مدى قرنين من الزمن إلى نموذج إمبراطورية شرق أوسطية إسلامية. يبين أورطايلي أن الإمبراطورية العثمانية عاشت كإمبراطورية بلقانية حتى القرن الـ16، وكانت الإمبراطورية الرومانية الأولى وثنية. وكانت الثانية مسيحية، والذي يطلق عليها اسم البيزنطيين. والثالثة هي بالتأكيد إمبراطورية الأتراك، وهي إمبراطورية إسلامية.

وبشأن تقبل الكنائس الغربية العيش داخل الإمبراطورية العثمانية، يشير أورطايلي إلى أن هذه الإمبراطورية كانت تقريبا لجميع الأديان والمعتقدات والعادات الموجودة في العصر الروماني الكلاسيكي. مما جعلها ذات تأثير واسع تجاه تلك المجتمعات.

يشار إلى أن الروم الأرثوذكس والأرمن واليهود شكلوا نسبة كبيرة من رعايا السلطة من أهل الذمة لذا استوجب ذلك صياغة نظام الملل تزامنا، مع فتح إسطنبول 29 مايو/أيار 1453 الذي ينظم علاقات هؤلاء داخل الإمبراطورية العثمانية.

ويتابع في حديثه بأن البطريركيات، مثل الأرثوذكس اليونانيين والأرمن، كان لديهم نظامهم القانوني الخاص في الشؤون العائلية.

(الجزيرة)

ويذكر أورطايلي في -كتاب "العصر الذهبي للأتراك" (2021)- كان السلطان سليمان القانوني (1494-1566)، بلا شك الموجه الأكبر لسياسات أليساندرو فارنيسي (باول الثالث)، الذي انتخب بمنصب البابا سنة 1534. كما قام السلطان محمد الفاتح (1432-1481) بالاعتراف بالكنيسة الأرمنية التي انفصلت عن الكنيسة الرومانية كمؤسسة، وأراد منحها منطقة تحكم خاصة بها، فأحضر عام 1461 مطران مدينة بورصا للأرمن هوفاجيم إلى إسطنبول وعينه بطريركا للشعب الأرمني وقائدا للأمة الأرمنية.

ويؤكد صاحب كتاب "العثمانيون في ثلاث قارات" (2016) أن التغييرات والتطور في النظام الإمبراطوري في القرن الـ19 أدى إلى الاستيقاظ الوطني أولا في البلقان، وثانيا في الشرق الأوسط، فالبطريركية الأرثوذكسية اليونانية، ليست يونانية، كما نقول، بل رومانية. رومانية تعني، أقصد، العالمية أو الشيوعية.

(الجزيرة) تركيا وتحديات القرن العشرين.. تحولات كبيرة

وعن إشكالية النظر إلى الجمهورية التركية على أساس أنها استمرار أو امتداد للإمبراطورية العثمانية، دافع صاحب -كتاب "التاريخ التركي الحديث"(2022)- عن موقفه عن فترة الانتقال من الإمبراطورية إلى الجمهورية بقوله مع إلغاء السلطنة والخلافة، لا يمكننا أن نقول إن الهيكل المؤسس للدولة العثمانية قد تفكك.

وعن تراجع الإمبراطورية العثمانية إلى حدودها الحالية دولة صغيرة محصورة بين أرمينيا واليونان، ونهاية الدولة العثمانية عمليا كإمبراطورية، وإعادتها إلى الدولة التركية التي ولدت في عهد عثمان وابنه أورخان في القرن الـ13 الميلادي، يؤكد المؤرخ أورطايلي، "نعم، كان هناك تغيير في بنية سلطة الدولة مع السلطنة والخلافة. وأثناء فترة الانتقال من الإمبراطورية إلى الجمهورية في تركيا شهد المجتمع تحولات كبيرة، وعدت فترة الثورة والتغيير صعبة. ومع ذلك استمرت معظم مؤسسات الدولة". واعتبر أن النظام العلماني الذي تأسس على أنقاض الإمبراطورية العثمانية في عشرينيات القرن الماضي "ما زال قويا في تركيا".

واختتم المؤرخ التركي حديثه "باعتقادي أنه في هذا القرن الأخير، تعد تركيا من الدول النادرة التي كان عليها أن تتغير وأن تنجح في إعادة صياغة نفسها. إنها دولة صنعت نفسها، ولذلك فهي لا تزال تركيا وما زالت تحقق النجاح".

مقالات مشابهة

  • الرئيس عباس : حماية حل الدولتين يبدأ بوقف العدوان على غزة
  • غدا.. حلقة دايموند عبود وهاني عادل في ضيافة معكم مني الشاذلي
  • المؤرخ التركي إلبَر أورطايلي: روح الاستعمار الغربي لا تزال تحكم المنطقة
  • وزير الخارجية: زيارتي لبيروت بتكليف من الرئيس السيسي
  • قضية واحدة.. وزير النقل الفلسطيني يشكر الرئيس السيسي على فتح المعابر
  • وزير الخارجية: أحمل رسالة تضامن من الرئيس السيسي لدعم الشعب اللبناني
  • ما الذي نعرفه عن المقاتلات الأمريكية التي تقصف الحوثيين لأول مرة؟
  • النظام الجزائري الذي أقسم بأن جيشه مستعد للذهاب إلى فلسطين يرفض إستقبال قيادات حركة حماس بعد إغلاق مكتبها في قطر
  • العليمي في القمة .. تفاعل يمني كبير مع كلمة الرئيس العليمي في قمة الرياض: خطاب عروبي قومي يعكس تطلعات الشعب