#سواليف

إن كانت للجدران آذان فإن للملائكة أقلامًا

#الشيخ_كمال_الخطيب


✍️مع كثرة #البلاء النازل على شعبنا، ومع كثرة ما تعانيه أمتنا من كيد #الأعداء ومن خيانة الزعماء ومن خذلان الأشقاء، لكننا على يقين أن الله تعالى سيفرّج عنا ما نحن فيه، وأنه سبحانه سيبدّل ضعفنا قوة، وتفرقنا وحدة، وسيبدّل ذلنا عزًا وهزائمنا مجدًا.

فأمام هذا اليقين بفرج الله تعالى، فإن الذي يجب أن نشغل فيه أنفسنا هو صدق علاقتنا مع الله سبحانه وتوبتنا له وصلحنا معه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه جلّ جلاله، لأن هذا سيكون ضمينًا بإذن الله تعالى بمغفرة ذنوبنا وتوبة الله علينا ورحمته بنا ودخولنا جنته.
????جنازة بالإيجار
✍️كان أبان بن عياش يقول: “كنت عند أنس بالبصرة، فخرجت من عنده فإذا بجنازة يحملها أربعة رجال فقط، فقلت مستغربًا: الله أكبر! جنازة لا يحملها إلا أربعة؟! فتبعت الجنازة حتى دُفن الميت، فسألت الرجال الأربعة: عن غياب الناس عن الجنازة، فقالوا لي: إسأل المرأة التي استأجرتنا وأشاروا إلى بيتها عند نهاية الطريق.
✍️ ذهبت إليها في اليوم التالي فسألتها: يا أمة الله! ما بال هذه الجنازة لم يشيع الميت فيها إلا أربعة؟! فقالت: هو ابني وكان شابًا عاصيًا فاسقًا لكنه تاب توبة صادقة قبل أيام، فلما كانت ساعة احتضاره قال: “يا أماه لقنيني الشهادة، ثم إذا متّ لا تخبري أحدًا بجنازتي لأن أهل الحي يعرفون أنني كثير المعاصي، فإذا عرفوا بموتي فلن يصلّوا عليّ، ولكن يا أمي ارفعي يديك إلى الله وقولي: “اللهم إني قد أمسيت راضية عنه فارض أنت عنه يا الله”.
✍️ يقول أبان بن عياش: نظرت إلى المرأة العجوز فإذا هي تضحك، فقلت لها: ما يضحك يا أمة الله؟ قالت: والله لقد فعلت ما طلب مني فرفعت يدي إلى السماء وقلت: “اللهم إني قد أمسيت راضية عنه فارض عنه”، ثم إني نمت ليلتي وإذا بي أسمع من يهتف بي وينادي ويقول: يا أماه يا أماه، لقد متّ على ربّ رحيم كريم غير ساخط ولا غضبان بدعوتك لي”.
✍️ لقد غلب على الشاب المُسرف على نفسه حسن الظن بالله وهو أعلم بنفسه من الناس أجمعين، أن الناس لن يصلّوا عليه إذا مات لكثرة معاصيه وسوء خلقه، لكنه مع كل ذلك فقد ظلّ يلازمه الرجاء برحمة الله ومغفرته، وأن ربّ الناس سبحانه أرحم به من أمه التي ولدته ومن الناس أجمعين.
نعم إن من الناس من يغفروا زلّات وإساءات بعضهم لبعض، لكن الله رب العالمين فليس أنه يغفر السيئات فقط، وإنما يبدل السيئات حسنات {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} آية 70 سورة الفرقان.
✍️ إنك لا تقبل من ابنك ولا من أعزّ الأصدقاء عليك أن يخطئ ويكرر خطأه مرة بعد مرة، لا شكّ أن هذا سيغضبك خاصة بعد أن تكون قد نصحته ولفتّ انتباهه، فإن فعلها فإما أنه سيكون في نظرك مستهترًا وإما أن يكون متمردًا فتعاقبه.
✍️ لكن الله جلّ جلاله لا يعاملنا بما نحن أهله وإنما يعاملنا بما هو أهله سبحانه، فنحن أهل الذنوب والخطايا وهو أهل التقوى وأهل المغفرة. إنه الذي يقول كما ورد في حديث الإمام مسلم: “أَذنَب عبْدٌ ذَنْبًا فقالَ: اللَّهُمَّ اغفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعالى: أَذْنَبَ عبدِي ذَنْبًا، فَعَلِم أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ ربِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تبارك وتعالى: أَذْنَبَ عبدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغفِرُ الذَّنبَ، وَيَأخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَي رَبِّ اغفِرْ لِي ذَنبي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالى: أَذْنَبَ عَبدِي ذَنبًا، فعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنبِ، قد غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ”. فليس معنى الحديث التشجيع على الذنب والمعصية، وإنما التشجيع على الاستغفار والتوبة.
✍️ يروى أن إبراهيم عليه السلام قد مرّ عليه كافر فاستطعمه، فمع أن إبراهيم عليه السلام كان أكرم الناس، لكنه لما علم بكفر الرجل لم يطعمه غضبًا لله تعالى، فولّى الرجل أسفًا على طعام لم ينله، فأوحى الله إلى خليله إبراهيم عليه السلام “إني أطعمه في الليل والنهار منذ ثمانين سنة وأعلم أنه يكفر بي أفلا تطعمه أنت مرة واحدة، فناداه إبراهيم وأخبره بوحي الله إليه ثم أطعمه فآمن الرجل من فوره”.
????اللهم لا تكلني إلى نفسي أو إلى أحد من خلقك
✍️صحيح أننا نعيش ونتقلب بين الطاعة وبين المعصية، وصحيح كما تقدم أن الله سبحانه يقبل توبة العبد، وأنه سبحانه يبدلّ سيئاته حسنات، وأنه حتى لو عصى ثم تاب ثم عصى ثم تاب، فإنه يقبل توبته، لكن الطامة الكبرى والخسران العظيم والفرصة التي لا تعوّض حين يأتي الإنسان أجله وهو مقيم على معصيته غير تائب منها.
✍️ سأل موسى عليه السلام ربه جلّ جلاله فقال: “يا رب كيف تعامل من عصاك؟ فقال الله لموسى عليه السلام: يا موسى من عصاني أمهلته، فإن فعل ذنبًا سترته، فإن رجع إليّ قبلته، فإن عاد إلى الذنب انتظرته، فإن تاب غفرت له وأحببته وإلا خذلته وإلى نفسه وكّلته، كي لا يكون لعبدي حجة وما أنا بظلّام للعبيد”.
✍️ نعم إن حرارة دموع التوبة يقابلها دفء العفو من الله تعالى، فإذا أنت رفعت يديك إلى السماء ودموعك على خديك تقول: يا رب أنا أذنبت، يا رب أنا عصيت، يا رب أنا أخطأت، فلن يكون الجواب من الرحمن الرحيم إلا قوله: عبدي، وأنا غفرت وسامحت وصفحت وسترت.
✍️ من أجمل ما قيل:
أنا مخطئ أنا مذنب أنا عاصي هو راحم هو غافر هو كافي
قابلتهن ثلاثة بثلاثة ولتغلبن أوصافه أوصافي
✍️وما أعظمها أبيات الشعر فيها يناجي الإمام الشافعي ربه سبحانه قائلًا:
يا من عصيتك جاهلًا فسترتني وترد حين أسيء بالإحسان
كم جئت بابك سائلًا فأجبتني من قبل حتى أن يقول لساني
واليوم جئتك تائبًا مستغفرًا شيء بقلبي للهدى ناداني
عيناي لو تبكي بقية عمرها لأصبحت بعد العمر عمرًا ثاني
إن لم أكن للعفو أهلًا خالقي فأنت أهل العفو والغفران
????ساعدني الطبيب مرة
✍️ يروي الدكتور حسان شمسي باشا في كتابه النافع “قلوب تهوى العطاء” قصة ذلك الشيخ فيقول: “هو شيخ كبير، عمره ثمانون عامًا، أصيب فجأة باحتباس في البول، فحمله أبناؤه إلى المستشفى وهناك قام الطبيب بإجراء قسطرة بولية فخرج البول وتنهد الوالد الشيخ المريض عميقًا وانتهت آلامه.
توجه الأبناء والأحفاد للطبيب يشكرونه ويثنون عليه بما قام به بمهنية عالية في علاج والدهم، ثم التفتوا إلى والدهم على صوت نشيجه وبكائه وهو غارق في البكاء، أخذ الأبناء يهدئون والدهم ومعهم الطبيب، ويؤكدون له أن المشكلة انتهت ولن تعود بإذن الله فلم البكاء.
وكانت المفاجأة أن الوالد قد قال لهم ودموعه تسيل على خدّيه ولحيته: لقد ساعدني الطبيب مرة واحدة فاستشعرنا فضله ومعروفه فشكرناه وأثنينا عليه بما هو أهل له، فتذكرت كيف أن الله تعالى قد غمرني بكرمه وإحسانه ثمانين عامًا ولكنني لم استشعر فضله، لقد أزاح عني الطبيب الألم مرة واحدة فشكرته، فكم مرة دفع الله عني من البلايا والخطوب على مدى العمر والسنين ولم أشكره.
إفرح إذا لاح الصباح وأنت تحيا في سلام
واشكر إلٰهك إن سمعت اليوم ترتيل الحمام
ألطاف ربي لا تعدّ وليس يحصيها الكلام
✍️ إنه الله جل جلاله الذي قال: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} آية 18 سورة النمل.
▪️ فإذا أويت في المساء إلى بيتك وأغلقت عليك بابك لتنام بأمان، فتذكر أن لك إخوة قد دُمرت بيوتهم، فليس لهم ما يأويهم إلا خيمة من صفيح أو قماش.
▪️ وإذا استلقيت على سريرك لتنام على فراشك المريح، فتذكّر أن لك إخوة يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.
▪️ وإذا رأيت أولادك وإخوتك وأحفادك يتحلّقون حولك يلعبون ويضحكون، فتذكّر أن لك إخوة لعلّ أحدهم زوج قد فقد وقُتلت زوجته وكل أطفالها، أو لعلّ إحداهنّ زوجة قد قُتل أطفالها، ولعلّه طفل قد قُتل أبوه وأمه وإخوته ولم يبق له أحد يحنو عليه.
▪️ وإذا وقفت أمام ثلاجة بيتك أو جلست على مائدة الطعام فيها من كل أصناف الطعام والشراب مما لذّ وطاب، فتذكّر أن لك إخوة لا يجدون كسرة خبز ولا شربة ماء.
▪️ وإذا وقفت أمام خزانة ملابسك لتختار ما تلبس، فتحتار لكثرة ما فيها من القمصان والبناطيل، فتذكّر أن لك إخوة يلبسون الأسمال ويمشون حفاة أو يلبسون في الصيف ملابس الشتاء وفي الشتاء ملابس الصيف لأنهم لا يجدون غيرها ما يلبسون.
✍️ كان أحد السلف أقرع أبرص البدن أعمى العينين مشلول القدمين والرجلين. وكان دائمًا يردد: “الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيرًا من خلقه وفضّلني تفضيلا”. فمرّ عليه رجل فسمعه يقول ما قاله، فقال له: ومما عافاك الله وأنت أعمى وأبرص وأقرع ومشلول فمما عافاك؟ فقال: ويحك يا رجل، لقد جعل لي لسانًا ذاكرًا وقلبًا شاكرًا وبدنًا على البلاء صابراً”.
✍️ فإذا كان الذي يكرمك بفنجان قهوة ترتشفه، فإنك لا تتردد بأن تقول له شكرًا، وإذا كان قد استضافك في بيته وأعدّ لك طعامًا فإنك ستجد في شكره والإطراء والثناء عليه بما قدم لك، فما بالك وأنت الذي ما من نعمة تصيبك إلا منه سبحانه {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} آية 53 سورة النحل.
فأي جحود وأي نكران يكون منك حين لا تشكره سبحانه، ولعلّ أعظم ما يستوجب الشكر هي نعمة الإسلام أنعم بها علينا. فالحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها من نعمة.
????للملائكة أقلام
✍️اعتاد الناس في ظلّ عيشهم تحت حكم أنظمة بوليسية دكتاتورية، وفي ظلّ وجود عشرات أجهزة المخابرات التي تحصي عليهم أنفاسهم، حتى بات الناس لا يثق الواحد منهم بالآخر خشية أن يكون هذا الآخر هو الأخ أو الأب عضوًا ومخبرًا في أحد أجهزة المخابرات، حتى وصل الحال بالناس لأن يوصوا بعضهم البعض بالحذر والانتباه من العيون والجواسيس بالقول “إن للجدران آذانًا”، أي أن جدران بيتك يمكن أن تتجسس عليك بما تسمع منك في داخل بيتك، وهذا يمثل قمه الخوف والقمع والإرهاب تمارسه الأنظمة ضد الشعوب. فإذا كنا نحذّر بعضنا البعض من أن للجدران آذانًا حتى لا نقول ما قد نحاسب عليه من طواغيت وجبابرة الأرض ونؤاخذ به من بشر مثلنا.
✍️ فالأولى أن ننصح بعضنا البعض ونذكّر بعضنا البعض بالقول أن للملائكة أقلامًا، فننتبه إلى كل كلمة نقولها، ليس لأن المخبر سيبلّغ عنّا فنحاسب على ما قلناه، وإنما لأن الملاك على أكتافنا سيكتب ما نقول ويحاسبنا عليه الله يوم القيامة {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} آية 18 سورة ق. {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ*كِرَامًا كَاتِبِينَ} آية 10+11 سورة الانفطار.
✍️إننا بهذه المقولة سنزرع في أبنائنا الورع والخوف من الله تعالى ومراقبته سبحانه في السرّ والعلن، في كل سكنة وكل حركة، فإذا هممنا بقول أو فعل فنتذكر أن أقلام الملائكة ستكتبه، ويوم القيامة سنسأل عنه ونحاسب عليه. فخشية الله أولى من خشية البشر، وقد قال ذاك الرجل الصالح: “لا تخف إلا ذنبك ولا تخشَ إلا ربك”.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا .
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

مقالات ذات صلة كيم يختبر مسيّرات متفجرة ويدعو إلى تسريع إنتاج “ضخم” منها 2024/11/15

المصدر: سواليف

كلمات دلالية: سواليف الشيخ كمال الخطيب البلاء الأعداء علیه السلام الله تعالى أقلام ا

إقرأ أيضاً:

الإسلام.. يجرّد الدين من الكهنوت

الكهانة.. عمود الدين؛ منذ ما قبل الإسلام، فما من دين إلا والكاهن فيه واسطة بين الإنسان ومعبوده، لكن القرآن أعطى تصوراً سلبياً عنه، حيث قرنه بالمجنون: (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ) - الطور: 29-. ورغم أن القرآن ذكر الشاعر في سياق ذكره الكاهن، بما يشيء بموقفه السلبي من كليهما، إلا أنه استثنى صنفاً من الشعراء: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) - الشعراء:224-227 -. لم يكن القرآن -بحسب تبيينه- من جنس الشعر والكهانة، فهو ليس من وحي الجن والشياطين؛ كما كان المعتقد قبل الإسلام.. بل هو قول رسول يتلقى التنزيل من عند الله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ، وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) - الحاقة:40-43 -.

رفضُ القرآنِ الكهانةَ جاء لبناء «منظومة الوحي الإلهي»، وهي منظومة تحتاج لإعادة قراءة بعيداً عن التأويلات التي لحقت بمعاني القرآن، وما يعنينا هنا هو الحديث عن الكهنوت وموقف الإسلام منه، وتجريد الدين منه.

المعاجم العربية القديمة.. تعرّف الكهانة بأنها «علم بالغيب مدّعى»، ففي «لسان العرب» لمحمد ابن منظور (ت:711هـ): (الكاهِنُ الذي يَتعاطى الخبرَ عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدَّعي معرفة الأَسرار)، و(تكهّن... قضى له بالغيب)، هذا هو المعنى المعجمي، بيد أن المفهوم أوسع منه، ففي أديان المنطقة ترد كلمة «كاهن» بلفظ متقارب، فـ(هي لفظ تستخدم للتعبير عن الكاهن وخادم الله، وهي موجودة حتى في الحضارات القديمة مثل: الأوغارتية والفينيقية والآرامية والفرعونية والنبطية والسريانية والحبشية. وهذه الكلمة من أصل «ك هـ ن»، وهي موجودة في الأكادي القديم بهذا النطق، وتطورت إلى «كانو» ثم «كهانو» بمعني ينحني أمام؛ لأن الكاهن هو الذي يقف أمام الله، وينحني أمامه ويقدم ذبيحته، وتوجد أدلة على هذا من اللغة الأكادية تعود إلى 2250ق.م تقريباً) - موقع الدكتور غالي على الإنترنت -. وتوجد لدى اليهود والمسيحيين بلفظ «كوهين». وهذا يدل على تجذّرها في الأديان، ومازلت باقية فيها حتى اليوم، ولها في كل دين وظائف معلومة لدى أتباعه؛ تقوم على أن العابد لتُقْبَل عبادته لابد أن يقدمها عبر الكاهن.

جاء الإسلام؛ الدين الخاتم ليجرّد الدين من الكهانة؛ في منظوماته:

1. وحدانية الله.. أول منظومة سعى الإسلام إلى تجريدها من الكهانة، لأن هدفه الأسمى إقرار الإيمان بالله وحده رباً للوجود، ولا اعتبار لأية ألوهية لغيره، فنفى عن الملائكة والأنبياء والصالحين والبشر والجن ما ألصق بهم من صفات الألوهية، وأبطل التوجه بالعبادة لمخلوق. وهذا استلزم تحريم التوجه إلى الأحياء بالعبادة؛ حتى لو كانوا من كبراء القوم: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) - الأحزاب:67-68-، فالكبراء الأحياء.. «أشد خطراً» من أي معبود سواهم، سواء أكانوا من رجال الدين؛ وهم الذين يعنيهم القرآن بالأصالة، أم الملأ من الساسة، أم زعماء القوم، لكون الناس تتبع كبراءها. فتحقيق مفهوم «لا إله إلا الله» يقتضي عبادة الله مباشرة دون واسطة.

2. الرسالة.. الرسل هم وحدهم المعتبرون في الإسلام لتبليغ تعاليم الله إلى الناس، ففي إطار تجريد الدين من الكهنوت.. أحل الإسلام «منظومة النبوة» محل «منظومة الكهانة». وإن كان الكاهن في الأديان هو الواسطة بين الآلهة والإنسان؛ بيده يرفع أعمال العبد إليها، وبموافقته تقبل قرابينه، وبمباركته تقدم الطقوس التعبدية، فإن الإسلام ألغى كل ذلك؛ فالنبي.. مبلغ عن ربه فحسب، وليس له أن يشرّع شيئاً من نفسه. إنه كبقية البشر.. بيد أنه يوحى إليه؛ معصوم في تبليغه الوحي كعصمة سلوكه في الأخلاق. أما ما يتعلق بأية وساطة أخرى فليس للنبي منها نصيب، حتى ما يتعلق بالشفاعة؛ دنيا وأخرى، - انظر: الواسطة في القرآن، جريدة «عمان»، 11/ 4/ 2023م- . والنبي.. ليست له سيطرة على الناس، فهو مذكِّر لهم فحسب: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) - الغاشية:21-22-، وليست له عليهم وكالة، فهو مبلغ فقط: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) - الإسراء:54 -.

3. علم الغيب.. أخطر دعوى قامت عليها الكهانة في الأديان، فبها يهيمن الكهنوت على الأتباع، وهي «عمل خفي» لا يمكن للأتباع الاعتراض على ما يأتي عبرها، فالكاهن.. هو مَن يقرر التعاليم التي تستعبد بها الآلهةُ البشرَ، ومن لا يصدق بأنه على حق؛ فإنه يسومه سوء العذاب الدنيوي، ثم يردفه بالعذاب الأخروي، أو يصيبه بالأمراض تركسه في وَصَبها، أو يرسل إليه الجن تمسه برهقها، أو يصبّ عليه وابل دعائه ويستمطر عليه غضب آلهته، وبهذا فرض الكهنوت هيمنته عليهم، وأغلق أي منفذ إلى الله غير نافذته الضيّقة. فلما جاء الإسلام أبطل ما يدعيه الكهنوت، فالله وحده عالم الغيب، ولا أحد يعلمه؛ حتى الأنبياء، فالنبي يقول: (َلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) - الأنعام:50- ، وهو كغيره بشر: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) - الكهف:110-.

4. التشريع.. مما ابتلي به الناس على مدى تأريخهم الطويل؛ التشريع بما لم يأذن به الله. وهذا لم يُصب به دين دون آخر، فهو عام في الأديان حالَ قوتها وإثبات قبضتها على المجتمع. وخطورته عندما يتآصر مع السياسة.. فرغم أن الفقهاء المسلمين الأوائل رفضوا أن تعتمد اجتهاداتهم تشريعاً، لكن السياسة حتى تحكم قبضتها على الشعوب اتخذت من المادة الفقهية والروائية المدونة، ومن الفقهاء الذين تعانقوا مع الساسة؛ مادة كهنوتية تشريعية، وهو ما حرّمه الإسلام من الأساس، قال الله: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) - التوبة:31-، فالقرآن.. حرّم التشريع ولو كان من نبي: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) - الشورى:21-، فالله.. وحده المشرّع، والقرآن بيّن ميسّر، لا إبهام فيه لكي يحتاج إلى الخاصة في بيانه، والأخذ بالدليل لا بما يقول الفقيه. فالفقيه.. له أن يمارس فهمه للإسلام ويتدبر القرآن لكن دون أن يفرض رأيه على الناس. والإسلام.. لم يفصّل القوانين اللازمة لانتظام أمر الناس؛ السياسية والاجتماعية والاقتصادية ونحوها، لكون الحياة متغيّرة، ولذا؛ يجب أن يحكمها شرع الله بمبادئه الكلية كالعدل والرحمة والمساواة؛ وهي الآيات المحكمات؛ قال الله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) - آل عمران:7 -.

5. الشعائر.. لا تقام إلا في المعبد، وبواسطة الكاهن تُرفع إلى الآلهة، وهو من يُعَمِّد الناس ليدخلوا في حياض الدين، وبين يديه تقدّم النذور والأضاحي، وبه تفتح أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران. فلما جاء الإسلام حرر الشعائر من الكهانة، لكي تؤدى لله من دون واسطة.

فالصلاة.. شعيرة لمناجاة الفرد ربه؛ يؤديها أينما حل عليه وقتها، وإنما تقام الصلوات جماعةً لشأن اجتماعي كالمحبة والتعاون والوحدة. ويقيم الصلاة بالمصلين كل مَن يحسنها ولا يدخل فيها ما يفسدها. والأظهر أنه لا ارتباط بين صلاة المأمومين وصلاة الإمام. ومَن ثبت لديه دخول شهر رمضان فعليه صومه، وإعلان دخوله وخروجه من قِبَل السلطة هو شأن تنظيمي لا تشريعي. ومناسك الحج.. يؤديها الفرد بنفسه، فليس هناك من يفتح له مغاليق المسجد الحرام، أو مَن طوف به حول البيت أو يسعى به بين المروتين، وبنفسه يقدم أضحيته ويقف في عرفات مع الواقفين، وكل فرد منهم يتجه إلى الله بدعائه.

مقالات مشابهة

  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (تحت أرض الخرطوم) 4
  • سجناء المُطالبات المالية
  • محمد نجيب عوضين: آيات الميراث التفصيلية نزلت بسبب امرأة
  • أمين عام هيئة كبار العلماء: أنصبة المواريث إلزامية ومن خالفها ضال
  • سبب استحباب أداء العُمرة في شهر ذي القعدة .. تعرّف عليه
  • التصالح مع الذات (السعادة الأبدية)
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (تحت أرض الخرطوم..) 3
  • آداب ينبغي التحلى بها الحاج في تأدية المناسك.. تعرف عليها
  • خالد الجندي يشكر الرئيس السيسي: دعا لعودة المساجد لما كانت عليه في زمن النبي
  • الإسلام.. يجرّد الدين من الكهنوت