الموت يفجع الفنان الإماراتي حسين الجسمي
تاريخ النشر: 15th, November 2024 GMT
الموت يفجع الفنان الإماراتي حسين الجسمي.
المصدر: المشهد اليمني
إقرأ أيضاً:
استثمار النفس
«لقد عجز البشر عن علاج الموت والبؤس والجهل، لقد قرروا أن يجعلوا أنفسهم سعداء، وألا يفكروا فـي الأمر»
من خلال هذه الملاحظة، يُسلط الفـيلسوف الفرنسي باسكال الضوء على الأسباب التي تجعل البشر -حسب رأيه- يقضون أوقاتهم فـي الاستمتاع، أي استثمار أنفسهم بلا حدود فـي العمل حتى لا يضطروا إلى مواجهة العدم الذي هو جوهر وجودهم. تستحضر جميع المصطلحات المستخدمة هنا فكرة الحرمان أو النقص، والموت الذي يشير إلى نهاية الحياة البشرية، والبؤس الذي يثير الحرمان المادي، ولكن قبل كل شيء، الحرمان الأخلاقي، وأخيرا الجهل الذي يشير إلى عدم قدرتنا فـي الوصول إلى حقيقة مؤكدة، وأيضًا، فـي مواجهة هذا العدم، وفـي مواجهة محدودية وجودهم، لم يجد الناس أي حل آخر سوى الترفـيه عن أنفسهم، أي الابتعاد عمّا يعتبر مصدرًا للكرب بالنسبة إليهم، ولهذا السبب يكرسون أنفسهم بكل إخلاص لمختلف الأنشطة، وأحيانًا إلى حدّ الإرهاق.
وذلك لأن الترفـيه الذي يشير إليه باسكال هنا لا علاقة له بالمتعة. يجب علينا فـي هذا الحيّز، أن نفهم المصطلح بمعناه الحرفـي، فالأمر يتعلق بالابتعاد عن الجوهر، وعدم النظر وجهًا لوجه إلى ما يشكل حالتنا. وهكذا، فإن العمل بالنسبة إلى العديد من إخواننا من البشر هو ترفـيه، ولكن الأمر نفسه ينطبق على أوقات الفراغ أو الرياضة أو أي نشاط آخر يجذب انتباهنا ويمنعنا من مواجهة هشاشة وجودنا.
ولكن هل هذه الطريقة فـي فهم الحياة البشرية من الزاوية السلبية هي الطريقة الوحيدة الممكنة؟ ألا يعني التفكير فـي الموت بالضرورة اتخاذ موقف الإنكار؟
إذا كنا لا نستطيع أن نفكر فـي الموت، فربما يكون ذلك ببساطة؛ لأنه -كما يعلمنا أبيقور- الموت ليس شيئًا بالنسبة لنا. لذلك، إذا كان الموت لا شيء، فهو ببساطة غير قابل للتفكير؛ لأنه -بكل بساطة- لا يوجد شيء للتفكير فـي الموت. ومن ناحية أخرى، ما يمكن أن نفكر فـيه هو الحياة، وهي بالتأكيد حياة فانية ومحدودة لا نعرف متى ستنتهي، ولكنها حياة، ما دامت موجودة، فهي قبل كل شيء تأكيد لقوتنا من الوجود، من رغبتنا فـي تأكيد أنفسنا فـي الوجود. وبهذا المعنى، فإن فكر أبيقور ليس بأي حال من الأحوال رفضًا لمواجهة الحالة الإنسانية، والحكمة التي يعلنها لا علاقة لها بالترفـيه الباسكالي.
إذا كان الموت لا شيء بالنسبة لنا، فـيجب علينا مع ذلك أن نضع فـي اعتبارنا دائمًا أننا فانون، وإذا لم نتمكن من التفكير فـي الموت الذي هو لا شيء، فـيجب أن نكون واعين بفنائنا إذا أردنا أن ننجح فـي حياتنا. وهذا هو السبب الذي دفع أبيقور إلى تعليم تلميذه مينوسيوس ضرورة التفلسف. الفلسفة هي الطريق الذي يؤدي إلى السعادة، الطريق الذي يسمح لنا بالتفكير وطرح الأسئلة على أنفسنا حول ما يستحق المتابعة حقًا فـي الوجود لتحقيق الحياة الطيبة، فليس من المبكر جدًا أو المتأخر جدًا الانخراط فـي مثل هذه الممارسة. فـي هذا، يوافق أبيقور، إلى حدّ ما، مع النصيحة التي قدمها ماركوس أوريليوس فـي كتابه أفكار للعيش كل يوم كما لو كان هو اليوم الأخير. الذي يمكن تفسيره على أنه تعبير عن الحاجة إلى عيش كل لحظة دائمًا باعتبارها إنجازًا مملوءًا وكاملًا لوجودنا الذي ربما يمكن أن يقترب من الاستغلال اليومي الذي أوصى به الأبيقوريون اللاحقون لأبيقور نفسه.
علاوة على ذلك، للتغلب على الخوف من الموت، يجب علينا الاستجابة لضرورة التفلسف وبالتالي نكون قادرين على تنفـيذ العلاج الرباعي الذي يتلخص مذهبه فـي البيانات الأربعة التالية:
1) لا ينبغي أن نخاف من الآلهة.
2) لا ينبغي أن نخاف من الموت.
3) السعادة متاحة.
4) يمكن التغلب على الألم.
المشكلة هي أن هذا العلاج الرباعي ربما يكون أيضًا سمًا رباعيًا ـــ إذ أن مصطلح فارماكون يشير فـي اللغة اليونانية إلى العلاج والسُمّ ـــ لذلك من الضروري استخدامه بتمييز، وإلا فسيكون هناك خطر قوي فـي تحويل عقيدة المتعة إلى زهد منكر لمتعة الحياة نفسها. إن الأبيقورية ليست فـي الواقع دعوة إلى متعة غير محدودة؛ وهذا التفسير ليس أكثر من صورة كاريكاتورية ابتكرها أولئك الذين سعوا إلى تشويه سمعتها. يبحث الأبيقوري أولاً عن المتعة فـي الراحة من أجل تحقيق الطمأنينة- غياب متاعب الروح- ولهذا السبب يكفـي لأبيقور أن يرضي الجوع والعطش، وأن يعيش محاطاً بالأصدقاء ليكون سعيدا. لذا فإن القليل من الخبز والجبن مع إبريق ماء يمكن أن يكون كافـيًا لإسعاد الرجل الحكيم. ومع ذلك، إذا كانت كافـية، فهذا لم يمنع أبيقور فـي أي وقت من الأوقات الاستمتاع بأطباق أكثر حساسية إذا أمكن للمرء الحصول عليها؛ من ناحية أخرى، فهو يعلم عدم الشكوى عند نقصها. ولهذا السبب يمكن أن يكون العلاج الرباعي أيضًا سمًا رباعيًا؛ لأنه إذا أسيء تفسيره فقد يُفهم على أنه زهد.
ينضم أبيقور هنا إلى سبينوزا الذي يدين فـي مقترحه الخامس والأربعين من كتاب الأخلاق الرابع منتقدي اللذة الذين يصفهم بالحاسدين لدعوتنا للاستمتاع بمتع الوجود باعتدال، أي من دون الذهاب إلى أبعد من الاشمئزاز، بمعنى آخر عن طريق تجنب تحويل المتعة إلى معاناة:
«أقول: على الإنسان العاقل أن يعيد خلق نفسه ويعيد خلقها، بأكل الطيبات وشربها باعتدال، وكذلك باستعمال الروائح الطيبة للنباتات الخضراء، والزينة، والموسيقى، والألعاب التي تنمي الجسم، والمسارح وغيرها. أشياء من هذا النوع يمكن لأي شخص استخدامها من دون أي ضرر للآخرين».
هل ينبغي لنا أن نرى فـي هذه الأنشطة أن سبينوزا يوصي هنا بدعوة للترفـيه وهي مثلما يقول لنا باسكال: إنها مجرد مسكن لبؤس وجودنا؟ قد يكون هذا إساءة فهم لفكرة سبينوزا التي، بعيدًا عن كونها إنكارًا لحالتنا كبشر، هي قبل كل شيء تعبير عن قوة الحياة ذاتها، وهي قوة محدودة بالتأكيد؛ لأننا جميعًا سنستسلم للأسباب الخارجية التي تهاجمنا والتي ستقودنا إلى الموت. وبهذا المعنى، لا ينكر سبينوزا البعد المأساوي للوجود الإنساني الذي يحاول التغلب عليه من خلال فلسفة «ليست تأملًا فـي الموت، بل فـي الحياة».