ما عاد فى القلب متسع للحزن.. النشرات الاخبارية تطاردنى منذ الصباح الباكر.. تلاحقنى كأذرع العنكبوت الأسود.. كالشاهد الصنم.. أسجل بقلم أحمر غامق فى مفكرة بجوار مقعدى القابع أمام شاشة التلفاز أعطيتها عنوان «يوميات من التعاسة والألم».. فى الصفحة الربعمائة بعدد أيام الحرب على قطاع غزة كتبت عبارة مختصرة ولكنها نزفت من عقلى وأعصابى طوال الليل بدأتها هكذا حتى لا أنسى ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلى 3798 مجزرة، أسفرت عن استشهاد 43 ألفا و552 فلسطينيا بينهم أكثر من 17 ألف طفل ونحو 12 ألف امرأة، بالإضافة إلى إصابة 102 ألف و765 آخرين.
كما ألقت قوات الاحتلال أكثر من 86 ألف طن من المتفجرات على القطاع، دمرت خلالها 159 ألف وحدة سكنية كليا، وأكثر من 200 ألف وحدة جزئيا، وأخرجت 34 مستشفى من الخدمة.
وسط هذا الترقب العاجز لما يجرى فى قطاع غزة والاجتياح الإسرائيلى لجنوب لبنان، وفوز «ترامب» برئاسة جديدة لأمريكا، يأتى صباح جديد متعب بخبر غياب الشاعر المصرى الكبير «محمد إبراهيم أبوسنة»، فيكون الحزن عليه مغايرا واستثنائيا كما عاش، هو إنسان رقيق رومانسى مرتبط بالطبيعة والخيال أكثر من الواقع وعذاباته اليومية، أيضاً فقده لوالدته فى سن صغيرة لا تتجاوز الخمس سنوات، جعله يرى المرأة كائنا مقدسا لا يجب الاقتراب منه إلا بحذر والتحدث اليه عبر وسيط الشعر بصوت خفيض يقترب إلى الهمس.
هل كان يعرف أن العالم لم يعد صالحا لنقائه ورقته وانسانيته، ربما أدرك ذلك مثل الآف الحالمين فى عالمنا العربى بسماء صافية يحلق فيها أسراب من الحمام، وأنهار دجلة والفرات والأردن تجرى فى الحقول والمدن، وخير يصنع بأيدى هؤلاء الطيبين العرب يحصده اولادهم ومائة جيل من بعدهم، وأخيراً سكون وطمأنينة يلفان العالم العربى مؤذنتين بنهاية الحروب والأطماع على أرضه.
يقول فى قصيدته « مفتتح»:
«وكأنى ما عشت حياتى
لقد حلقت فوقها
كما يحوم طائر فوق غابة تحترق
و ها هو المساء يوشك..»!
أما الأحساس بالغربة والوحشة فقد لازم الشاعر الكبير «محمد ابراهيم أبوسنة» طوال حياته، فقد كان رقيق الاحساس والتماهى، مع تبدل الأمكنة والمدن التى يسكنها، وهناك قصيدة مؤثرة تحمل عنوان «غريبُ من قِنا» وهى قصيدة عن عامل بناء مجهول واحد من هؤلاء الذين يبنون المدن ويسكنون القبور، يقول فيها:
وتسأل سيدة فى الطريق:
ومن ذا القتيل؟
ويهمس صوت جليل:
غريب أتى من قنا
ويعمل بين رجال البناء
هوت رِجله ثم زلت وحم القضاء
فى حوار أجرى معه على صفحات مجلة الأقلام عام 1987، يقول الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة عن حضور المرأة فى شعره: «احتلت المرأة موقعا بارزا فى شعرى بسبب الفقد المبكر لأمى وتطلعى إلى التماس الحنان لدى المصدر الأول للرقة والجمال والذى تمثله المرأة.
ويكمل: وربما تكون الدوافع العميقة التى تحركها حاجتى إلى المرأة قد اوقعتنى فى رسم صورة مثالية أو خيالية. فقد رأيت فى المرأة الحبيبة نوعًا من الخلاص المطلق لأحزان حياتى كما توهمت لفترة طويلة أن المرأة كائن فوق الإنسان ودون الملاك بفارق بسيط فهى فى خيالى الأول، الجمال المطلق الذى يشع بالخير والحنان والرقة».
وتعد قصيدة «رسائل إلى حبيبة غائبة» قصيدة مشحونة بالشجن والحنين يبدأها قائلًا:
بالأمس يا حبيبتى خرجتُ للطريق
لأقرأ الهموم فى العيون
همومَهم، أولئك الذين يعبرون
فى شارع المدينة الحزين
لعل هم وحدتى يهون.
إشارة حمراء قف
إشارة خضراء من هنا انصرف
وفجأة توقف الترام
وطوق الزحام جثة لطفلة تنام فى الدماء
ما زالت الحياة فى الأعضاء
ووجهها حمامة تموت فى الشفق
نوارة من الحقول تحترق
وشقت الزحام صيحة: صغيرتى
وكانت العجوز ترتجف
وتمتم الجميع بالأسف
تكسرت دوائر الزحام
وتابع الجميع سيرهم
ما أعجز الكلام
سوى إشارة حمراء قف
إشارة خضراء من هنا انصرف
والموت موغل ولا يكف
الموت يا حبيبتى لا يعرف الإشارة الحمراء
يلوح ثم يختفى
الموت والحياة يا حبيبتى
زجاجة تضاء
ثم تنطفى.
سلاماً على روحك الطاهرة شاعرنا الكبير «محمد إبراهيم أبوسنة».. وكأنك طلبت من الرحمن الرحيم أن ترحل أيها الطائر المحلق قبل أن يسقط درعك الشعرى فى غابتك المحرقة.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الصباح الباكر تلاحقنى
إقرأ أيضاً:
لهم فضْلُ القديمِ وسابقاته.. عن لغة الشعر النبطي
تزوج شاعر البادية الأردنية محمد علي عذيمان من فتاة أحبها وكانت تنتقل معه في البادية حيث حل وارتحل، وبعد أن أنجبت له مولودته الأولى أصابتها حمى النفاس ومرضت وماتت في أثناء ولادتها.
وكانت الثلوج حينها تهطل بغزارة ولم يكن له في منزله ذاك جيران قريبون، فلم يتمكن من دفنها فجلس حاملا ابنته التي رفضت النوم في أحضانه، فما كان منه إلا أن ذهب بها إلى فراش أمها المسجّاة، ووضعها في حضنها فسكتت البنت عن البكاء ونامت، وفي منتصف الليل سكن الجو وتوقف الثلج عن الهطول وتوقفت الرياح وإذا عواء الذئب يجلجل بين تلك التلال، وفي ذلك الموقف الحزين قال الشاعر عذيمان:
يا ذيب ياللي توحش القلب بعواك
أظن حالك صاير(ن) مثل حالي
انت عويلك يوم فاتك معشاك
وانا عويلي من تيتَّمْ عيالي
وان كان صيدك فاقد(ن) من خوياك
انا فقدت من الخويا الغوالي
حذراك من سود الليالي تغشاك
ويعتم عليك الضو عقب الدلالي
وتعال أيها القارئ نستمع معًا إلى الشاعر الشيخ نمر بن عدوان وهو يبكي زوجته وضحاء، ويذكر حالها في القبر وحاله بفقدها، ويشنّع على لائميه داعيًا عليهم، وجرّب أن تقرأ الأبيات الآتية بتسكين أواخرها، واستحضِر في نفسك واجلب إلى مسامعك أسلوب إلقاء الشعر النبطي:
سار القلم بداجي الليل مهتاج
سار بهوى قليبي وحير دليلي
بكيت غرام بالحشا يوهج اوهاج
من وجد وجدي الويل فرقا خليلي
عيني تهل الدمع لاجن بلجلاج
ودموع عيني سيل دوما يسيلي
واجب علي أهله بكل ملعاج
ودموع عيني مثل نهر تسيلي
سمعت انا بظلمة القبر مهتاج
عفت الحياه وعند قبره نزيلي
ياقبر انا ما أظن من جاك يحتاج
تعريف هي وضحا أُو قلبي عليلي
ياقبرها يامنوة الروح وسراج
والله انا عندك طنيب ودخيلي
مجنون ليلى كان داير بلجلاج
ما أضن يشبهني ولا هو مثيلي
هات الكفن يا عقاب وتابوت من صاج
أو علي من رمل السبايب هيلي
واحفر على قبري بازميل وهاج
اللي جرى ياعقاب وانت الوكيلي
انقش سقيم عايف الطب واعلاج
أضحى طريح الحب وامسى قتيلي
من لامني يبلاه بالهم وهاج
عليه حسبي الله ونعم الوكيلي
يُكتب الشعر النبطي كما ينطق، وقد استحدثت كل قبيلة مفردات وألفاظا جديدة، واستعملتها وأدخلتها على الشعر النبطي بقصد أو بدون قصد، فضم بذلك الشعر النبطي كثيرا من اللهجات المختلفة، وصار له قاموسه الخاص. وفي توصيف لغة الشعر النبطي وبُعدها عن الإعراب والحركات قال ابن خلدون "أساليب الشّعر وفنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم، فإنّ غالب كلماتهم موقوفة الآخر، ويتميز عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2جماعة تحت السور التونسية.. أدباء ساخرون من المجتمع والاستعمار وكل شيءlist 2 of 2غيث حمور: أدب المنفى السوري وجد طريقه أخيرا للوطنend of list إعلانيعتمد الشعر النبطي على اللهجة العامية الدارجة والمتداولة بين الناس والأسلوب البسيط الواضح قريب المأخذ في سرد الوقائع والقصص، وله قدرة عالية على نشر الحكمة وتوثيق الأحداث بأسلوب يسير ومشوق يربط بين الماضي والحاضر بسلاسة وعذوبة؛ وذلك لاستعماله لغة الناس المحكية.
قد يتعذّر عليك فهم بعض الكلمات وربما كثير منها لبعد اللهجات المحلية اليوم عن بعضها، غير أن ذلك لا يحجب عنك تذوق سحر اللغة و جمال الشعور والاستمتاع بعذوبة التراكيب؛ فالشعر النبطي يمتاز بقدرة عالية على سكب المشاعر الإنسانية في ألفاظ شعرية بسيطة وواضحة ومباشرة، وفي قوالب شعرية قريبة من قلوب عامة الناس، فهو في المحصلة شعر، والشعر يتكئ على الخيال والتصوير والفني، ويعتمد على ألوان البلاغة وأساليبها المتنوعة كالتشبيه والاستعارة، ويميل إلى تزيين النصوص الشعرية بألوان البديع التي تضفي على النصوص جمالًا وعمقًا.
ومن أهم ما يتميز به الشعر النبطي أسلوب الإلقاء والقدرة على جعله غنائيا، إذ يلتقط كُتاب الأغاني الشعبية القصائد النبطية ويستثمرونها ويحولونها إلى أغان تحقق شهرته وانتشاره وشعبيته بين الناس.
ما الذي يجعل بعض أبناء العربية ينظرون إلى الشعر النبطي نظرة سلبية؟وُجّهت انتقادات كثيرة لناظمي هذا النوع من الشعر، لأنه يبدو تأصيلا للعامية على حساب الفصحى وتنحيتها، وقد أُلّف كتاب بهذا الهدف بعنوان (كَفُّ المُخْطِي عن الدَّعوةِ إلى الشِّعرِ النَّبَطِي)؛ رأى فيه المؤلف ذياب الغامدي أن الشعراء الذين ينظمون الشعر النبطي: "دُعاة العامِّيَّة، وما أدراك ما العامِّيَّة؟! سواء كانت دَعوتهم سافرة جِهارًا نهارًا، كما تبنَّتْه الصُّحف وغيرها، أو دعوة مُستَتِرة تحت ثوب فَضفاض نسجَتْه أيدي الأعداء فألبسَته أمَّة الإسلام، والعرب العَرْباء، وشباب الصَّحوة؛ وذلك فيما يُسمى بالشّعر النَّبَطيِّ".
ويقول الغامدي في موضع آخر من هذا الكتاب "ولو استسلم العُلماء أمام هذه السَّفسَطة والجَهالة التي يتّكئ عليها عشاق النَّبَطيّ في القرن الثّاني عشر الهجريّ وما تلاه من قرون، لكانت اللّغة الفصحى اليوم خبرًا بعد عِيان، كما يراد لها… وما زلنا نظنّ أن جَذوة دُعاة النّبطي ستنطفئ، وتنهار قواهم، حتَّى اتّسع الخَرق، وتجاوز شِعرُهم حُدوده، وعَلَت أصواتُهم، حتى استباحوا الصُّحف والمجلَّات والإذاعات، وأقاموا النَّدَوات والأُمسِيات؛ تمجيدًا وتعزيزًا، وتقريرًا وتقنينًا لنشر النَّبَطيّ".
إعلانيرى بعض الباحثين أن التغيير اللغوي أمر طبيعي في سياق مرور الزمن وتطور الحياة، ولا يمكن أن ننظر إلى الشعر النبطي لأنه يعتمد العامية على أنه فساد لغوي، لا سيّما في ظل إمكانية رد الألفاظ العامية إلى الفصيح منها استنادا إلى القواعد الصرفية والصوتية تحديدا، ناهيك عن أن عامل الزمن يفرض تغيُّرات وتطوّرات حتمية يقررها تقدُّم الحياة وتطوّرها، وتمر بها أي لغة حية في سيرورة الأيام.
إن أكبر سبب -في حقيقة الأمر- للنظرة السلبية التي يحملها بعض أبناء العربية تجاه الشعر النبطي تتعلق باعتماده على اللهجات المحكية الدارجة، وذلك ليس إلا تخوفا من شيوعها وانتشارها واستسهالها على حساب العناية باللغة العربية الفصيحة التي تعد حاملا للدين ومصادره وأداة لمعرفة التاريخ العربي الممتد عبر العصور، وجسرا لعبور المعارف والوقائع والأحداث من جيل إلى آخر.
تبدو هذه المخاوف مشروعة لكن ينبغي ألا نبالغ فيها، فالشعر النبطي لون من ألوان الفنون الكلامية، وشكل من أشكال الإبداع الشعري، لا يهدف إلى إزاحة الشعر العربي التقليدي عن عرشه ولا قدرة له على ذلك، وإن كنا نستمع إليه ونتذوق جمالياته لقرب عهده أو قرب لغته، فإن ذلك لا يعني أنه راجح على ما سواه من أشكال الشعر العربي في الذائقة العربية.
تولي دول الخليج العربي أهمية كبيرة للشعر النبطي باعتباره امتدادا لأصالة عاشها الأجداد في غابر الزمن، واستمر عبقها أخاذا على مر العصور، يربط الماضي بالحاضر، ويوحد الذائقة الشعرية لدى الأجيال المتعاقبة، وكأنه الحبل الأصيل المتين الذي يربط إنسان العصر في بوادي العربية بالإنسان العربي القديم الذي عاش فيها وأثبت عراقته وبنى حضارة ما تزال مشعة بين صفحات التاريخ، لا سيما في بادية الحجاز وما والاها، لأنه سجل دقيق دوّنوا فيه أهم الأحداث التاريخية والاجتماعية، وهو وسيلة للحفاظ على اللهجات المحلية والتراث الثقافي، ناهيك عن أنه يعزز القيم البدوية كالكرم والشجاعة وغيرها.
إعلانحافظت أرض الحجاز على كثير من أخبار الشعر النبطي الذي نشأ في شبه الجزيرة العربية، وأولته عناية خاصة لأنه يعكس كثيرا من القيم والعادات والتقاليد المهمة لدى المجتمعات الخليجية. غير أن مجال النظر في موضوع الشعر النبطي واسع جدا، ويحتاج إلى كثير من البحث والتدقيق والجهد للوصول إلى نتائج دقيقة وأجوبة شافية، لا سيما في مسألة اللغة المحكية التي يعتمدها.
الشعر النبطي جزء أساسي لا يتجزأ من الثقافة البدوية، وقد شهد بمرور الأيام والعصور تحولات كبيرة جعلته يتماشى مع متطلبات العصر الحديث، فصار الشعراء يميلون إلى استخدام وسائل الإعلام والتواصل الحديثة لنشر قصائدهم وإبداعاتهم، فازدادت شعبية الشعر النبطي، وعمد بعض الشعراء إلى المزج بين الشعر الفصيح والنبطي فأضافوا بذلك أبعادا جديدة فنية وجمالية لقصائدهم وأشعارهم.
ومن أمثال ذلك الحديث عن القهوة العربيّة ومجالسها التي تعد أهم معالم الهويّة البدويّة، وقد قيل في ذلك كثير من الأشعار؛ منها ما قاله الشاعر حوشان بن عبود بن سويلم الشلواني العازمي:
لادك في قلبي من الهم هوجاس
حطيت فوق النار زين المحاميس
وحمست ما يجلى من الهم وعماس
بنٍّ من النيبار يجلى الحواسيس
لا ذاقه اللي من عنا الوقت محتاس
من لذته تنجال عنه النواحيس
ولننظر معا إلى قول الشاعر راكان بن فلاح بن مانع بن حثلين العجمي متغزلًا بفنجان القهوة راسمًا تفاصيل الشعور المرافق لاحتسائه القهوة في مجلس برفقة الأصحاب والأحباب؛ في صورة شعرية بديعة:
ياما حلى الفنجال مع سجّة البال
في مجلس ما فيه نفس ثقيله
هذا ولد عم وهذا ولد خال
وهذا رفيق ما لقينا مثيله
يركز الشعر النبطي على القيم والأخلاق والعادات والتقاليد ويقدسها، ولا عجب في ذلك لأن الشاعر ابن بيئته، والشعر محاكاة للبيئة التي يُنظم فيها، والشعر النبطي بدوي في أصالته، يؤكد أهمية الحفاظ على القيم المجتمعية وتوارثها بين الأجيال، فالقيم الأخلاقية تحدد هوية الشعوب وانتماء المجتمعات، لذا يبدو الشعر النبطي ممتلئًا بكل ما يحض على مكارم الأخلاق ويزكيها في النفوس، ومن ذلك قول الشاعر محمد بن ناصر بن صقر السياري:
ياللي تعرف الجوهرة من نحاسَـــــهْ
خذ لك على درب التـــجاريب مرواس
مبنى على الغرمول ينــهد ساســـــه
ويثــبت إليــا عزيت مبنى على ســاس
واجب على الرجال يلبـــــس مقاسه
ويـصــير بعـيون الرياجــيل نــبراس
يرفع مجـــــاله عن دروب الـدناسـه
ونفــســه يدربـــها عـلى قــوة الـــباس
ويحــسن أخلا قـه بلــيّا شراســـــــه
لــو هـو شجاع ويلبس الـدرع والطاس
وياخذ تجاريب الـــــليالي دراســـه
ويمــيـّز الياقــوت من لمــعة الــــماس
ومن يصحب الأنذال وأهل النجاسه
يُــقـْـلب عــليه الهـرج في كل مجلاس
الذيــب يرفع هــمته عن مداســـــه
يوم يجوع وســاعـةٍ يــــرفــع الــراس
وبعض العرب مـــا همه إلا لباســـه
ودايم على عورات الأجواد عـــســاس
وحين نطالع قصائد الشعر النبطي نلحظ مدى سعة ثقافة الشعراء واطلاعهم على التراث الثقافي، ونلحظ جمال المزج بين الماضي والحاضر حين يعمد الشاعر إلى مفاجأة المستمع بنقله من الماضي السحيق إلى الواقع المعاصر، بذكر حكاية مشهورة من حكايا التراث القديم، وإسقاط المعاني بعدها على واقعنا المعيش بذكر أسماء أو رموز تدل عليه، وها هو الشاعر حمد بن علي بن مايقة الحبابي يَذكر في الأبيات الآتية حشدًا من الشُّعراء الأماجد في الفصحى؛ فيقول:
صناديد لهم باب النَّشيد
تفتَّح واستحلُّوا مغلقاتِهْ
الاخْطَل والفرزْدق مع جريرٍ
والاعْشى والذي سوَّى سواتِهْ
وابن ثابت وأبي سلمى زهير
وعمرٍو والضليلِ ومبكياتِهْ
وعنتر مَن هوى عبلةْ وقيس
هوى ليلى مسوِّي بهْ شراتِهْ
وذي الرمة والأقرع مع جميل
ومن قولهْ تسبَّب في وفاتِهْ
وبشار بن بردٍ والمهلهلْ
ومَن سمي الفحل بمقدماته
وحاتم والنوابغ وابن حلزهْ
وطرفة واطراف المعاني طراته
وأنا قصدي هو الشِّعر الفصيح
لهم فضْلُ القديمِ وسابقاتِه
إنّ الشعر النبطي لم ينشَأ لمحاربة الفُصحى ولم يعرف عنه مزاحمتها، بل إنَّ التجارب المتراكمة تؤكد أنّه حاول أن يسير جنبًا إلى جنب معها واستقى منها واعتمد عليها ونهل من معينها، فقد اتخذ من طُرق الشعر التقليدي الذي يعتمد اللغة الفصيحة وأساليبه مرجعًا له.
إعلان