ـ السائل يقول: هل يوجد فرق فـي الاطمئنان القلبي بين الذي طلبه إبراهيم عليه السلام «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى لكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» والاطمئنان الذي أراده الحواريون عندما طلبوا مائدة من السماء « قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا»؟ الذي نص عليه كثير من المفسرين أن الذي طلبه الحواريون من نبينا عيسى عليه السلام من إنزال المائدة عليهم إنما أرادوا به فعلا طمأنينة قلوبهم لينتقلوا بإيمانهم إلى درجة اليقين، والعلم الضروري بأن عيسى عليه السلام مرسل من ربه، وأن الذي أيد به من معجزات هي من عند الله تبارك وتعالى، وهذه الطمأنينة هي من حيث النوع الطمأنينة ذاتها التي طلبها إبراهيم حينما سأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، إلا أن الدرجة لا شك تختلف، فإبراهيم عليه السلام هو خليل الرحمن وعلى هذا فلا يتصور إلا أنه أراد اليقين الكامل التام، وأما هم فهم المؤمنون الأنصار لعيسى عليه السلام وهم الحواريون فإن درجة اليقين إنما هي بحسب منزلتهم، فكل بحسب منزلته لكن من حيث نوع الطمأنينة المطلوبة هي من جنس برد اليقين الذي ينشدونه من اليقين الذي ينتقلون به إلى العلم الضروري الذي يتحصل لهم دون نظر وتأمل، وهذا مما نص عليه جمهور أهل العلم فـي تفسيرهم لهذه الآية الكريمة خلافا لما ذهب إليها الزمخشري ومن تابعه وهم الأقل.
لكن هذا ليس هو محل سؤال السائل لأن هذه الآية الكريمة فـيها جملة من المواضع المشكلة التي ناقشها المفسرون لكن محل سؤال هذا السائل الذي وصلنا اليوم إنما هو عن هذه الجزئية، والفرق بين الاطمئنانين هو فـي الدرجة، فإبراهيم عليه السلام هو خليل الرحمن واليقين الذي ينشده هو فـي الكيفـية، فهو يريد أن يتعرف على شيء يكشف له من عالم الغيب يتعلق بكيفـية إحياء الموتى، أما ذات اليقين وأن هذه الطمأنينة التي عبر عنها حينما أخبرنا القرآن الكريم بأن الله عز وجل قال له: «قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَال بلا ولكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» فدرجة اليقين التي تتحصل لإبراهيم الخليل عليه السلام ليست كدرجة اليقين التي تتحصل لغير الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فالاختلاف فقط إنما هو فـي الدرجة لكن من حيث الذات فمطلوب حواريي عيسى عليه السلام كان هو طمأنينة القلب مع معاني أخرى عبروا عنها: «قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ» فهم طلبوا ذلك وبيّنوا هذه المقاصد فـي طلبهم من عيسى عليه السلام إنزال المائدة حينما قال لهم اتقوا الله إن كنتم مؤمنين فبيّنوا أنهم إنما يفعلون ذلك لرغبتهم فـي التيمّن والتبرك بمائدة تنزل عليهم من غير عالمهم، ينزلها عليهم المولى الكريم ليأكلوا منها ثم بيّنوا العلة الثانية وهي لتطمئن قلوبهم فصرحوا بذلك تصريحا أنهم يريدون أن ينتقلوا من عالم المادة والمحسوسات بخوارق العادات بالمعجزات التي أجريت على يد عيسى عليه السلام أنهم يريدون أن ينتقلوا إلى آية أخرى يشهدونها ويكونون عليها من الشاهدين، ولذلك أضافوا «وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا» أي علم اليقين لا بحسب ما رأيناه فقط من معجزات تقدمت وإنما ننتقل من هذه المرحلة التي تحصلت لنا بنظر واستدلال أن هذه المعجزات لا يستطيعها إلا نبي مرسل من عند الله تبارك وتعالى، فآمنا نحن نريد أن ننتقل بإيماننا إلى درجة اليقين، ثم نكون بعد ذلك شاهدين نبلغ من وراءنا، هذه هي الاعتبارات الأربع التي نص عليها بنو إسرائيل والله تعالى أعلم. ـ يقول السائل: أحيانا ينشر بعضهم تسجيلا معينا بأنه رأى نورا معينا أورثه درجة من اطمئنان، وأن هذا النور أيضا صعد به إلى مكان عال فوجد شجرة وفـيها اسم شيخه الذي يتلقى منه المعرفة والعلم ثم يبشر بذلك ويجزم ويحلف بأنه فعلا تحقق له هذا الأمر، تتوسع أحيانا مثل هذه الأفكار وتنتشر خاصة مع وسائل التواصل الحديثة إلى درجة التشكيك فـي المعتقد أحيانا، إلى درجة الانتقالات الشديدة غير المنطقية من عقيدة إلى أخرى، فما تفسيركم لهذا الموضوع؟ هذا ليس بالأمر الحادث وليس بالأمر الجديد، فقد نص العلامة السيد محمد رشيد رضا فـي تفسيره المنار فـي هذا الموضع بالذات، وحكى قصتين مما يتعلق بخوارق العادات فـي عادات الناس ومألوفهم، وهو يشير بذلك إلى موقف الناس من هذه القضايا بالماديات معطل لكل ما يمكن أن يكون خارقا للعادة، وبين من يبالغ فـي هذه الجوانب ويجعلها علامة على الولاية والكرامة وحسن الاستقامة والتدين ويسعى إلى أن يجعلها غاية يتوصل بها بأي طريقة كانت، وهو يقول: إن تاريخ الأمم وأحوال الشعوب وهذه المواقف كانت فـيهم، وأن ذلك هو الذي دفع بحواري عيسى عليه السلام إلى طلب مائدة من السماء، ولذلك قالوا ولنكون عليها من الشاهدين وذكر حكايتين لا حاجة إلى إطالة الحديث بهما، يمكن أن يرجع إلى تفسيره فـيهما، وفـي الحكاية الثانية يشير إلى أن بعض ما يظنه الناس أنه من خوارق العادات، أو ما يمكن أنه يجري عند بعض الناس على أنه من الكرامات، إنما هو بإعداد وترتيب وتهيئة، وإن لم يعلمها أكثر الناس، يعني ذكر فـيها جانبا من الكشف أن أحدا ممن يظن أنه من العباد الأولياء أصحاب الكرامات أنه دعا آخر يظن به مثل ذلك وكان كل واحد منهما يريد أن يكتشف ما عند صاحبه من سر، فأخذ المضيف ضيفه إلى جولة ثم زار شيئا من مقابر المسلمين، ثم أخذا يستريحان وقد أنهكهما التعب، فقال له: هل تريد طعاما؟ قال: نعم، قال: فلو جئتك بطعام ساخن قد أعد للتو؟ قال: كيف يكون ذلك إلا لمن هو من أهل الكرامة؟ فمد يده، فـي التراب وأخرج له طعاما ساخنا، من كرش حشيت بالأرز واللحم، والتي طبخت لتوها، فأكل منها فبلغ هذا الموقف بالضيف مبلغا كبيرا ثم تبين أنه كان قد أمر خادمه أن يعد الطعام، وأن يدسه فـي التراب على صفـيح بحيث لا يصيبه شيء من التراب، فـي موضع اتفق عليه، وأوهم صاحبه أن ذلك إنما هو من الكرامة، الحاصل أن السيد رشيد الرضا أيضا يقول: لم أتبين ما الذي كان عند الضيف مما كان يريد ذلك أن يطلع عليه، وهو يقول: إن ذلك كان فـي أوائل طلبه للعلم. فالحاصل أن هذا الجدل فـيما يتعلق بمثل هذه القضايا الموقف الصحيح منه هو موقف الاعتدال، فـيمكن أن يجري الله تبارك وتعالى ابتلاءً لعباده، شيئا مما لم يألفوه، فإن ثبت فلا حاجة إلى تكلف رده، كما أنه أيضا لا حاجة إلى أن يضفى عليه من الهالات ومن الأوصاف ما يخرج به عن حقيقته، فهو فـي كل الأحوال فتنة من الله عز وجل وابتلاء. والله تعالى أعلم. ـ السائلة تقول: ما حكم الوضوء بعد وضع كريم واق من الشمس؟ هناك من يقول: إنه يمنع وصول الماء رغم أن هذا الكريم عادي تمتصه البشرة، وهذا هو الأقرب أن أكثر هذه الأدهان والكريمات المستعملة خفـيفة لا تشكل جرما يمنع وصول الماء إلى الأعضاء، فإن كان الحال كذلك فإنه لا يؤثر على الوضوء مع التنبيه على أهمية تبين أن تكون المواد التي صنعت منها هذه الأدهان والكريمات مواد طاهرة، وإلا فإن مبعث التحريم قد يكون سببا آخر وهو نجاسة هذه المواد، أما من حيث عزل الماء فإن ما كان يشكل جرما ثقيلا على البشرة ويمنع وصول الماء فإنه هو الذي لا يصح أن يكون قبل الوضوء، فإذا كان طاهرا فلا مانع من استعماله بعد الوضوء، أما إذا كان ليس بذي الجرم، وإنما هو دهان له مسامات يصل الماء إلى الأعضاء من خلالها فهذا لا حرج فـي استعماله قبل الوضوء والله تعالى أعلم. ـ ما صحة الحديث الذي ورد فـي صحيح مسلم عن سمر بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسمين غلامك يسارا، ولا رباحا، ولا نجيحا، ولا أفلح، فإنك تقول أثم هو، فـيقول لا» ما صحة هذا الحديث؟ فـيما يبدو أن الحديث صحيح ولكن أكثر أهل العلم على أن النهي عن التسمي بهذه الأسماء إنما هو من باب كراهة التنزيه لأن العلة ذكرت فـي هذا الحديث، فسمر بن جندب حينما ذكر هذه الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر معها أن هذا يمكن أن يدخل سوء ظن عند الناس، إذ من عادة الناس الفأل الحسن، فـيكون مثل هذا الجواب مدعاة لضد ما يرجون، فـيمكن أن يدخل عليهم الشيطان بوساوسه وأوهامه، وفـي بعض الروايات الأخرى أن النهي عن التسمي بمثل هذه الأسماء لما تحمله من تزكية قد لا توجد عند المسمى بها، لكن الحاصل حتى يطمئن السائل أن أكثر أهل العلم على أن النهي عن هذه الأسماء من باب كراهة التنزيه لا كراهة تحريم. والله تعالى أعلم. ـ ما تفسير هذه الآية الكريمة « لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِم وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا» كيف يُسأل الصادقون عن صدقهم؟ هذه الآية الكريمة جاءت بعد قول الله تبارك وتعالى: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا» وللمفسرين أقوال فـي معنى قوله جل وعلا ليسأل الصادقين عن صدقهم أشهر هذه الأقوال قولان: إن المقصود هم النبيون الذين أخذ الله تبارك وتعالى عليهم الميثاق المذكور فـي الآية قبلها: « وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ» ثم خص بالذكر أولي العزم من الرسل قال ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأكد هذا بقوله «وأخذنا منهم ميثاقا غليظا»، وهذا الميثاق هو ميثاق الدين بالإيمان بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخاتم وتصديقه ونصرته لتؤمنن به ولتنصرنه. إذن فالميثاق الذي أخذه الله تبارك وتعالى على أنبيائه ورسله الكرام عليهم الصلاة والسلام هو تبليغ هذا الدين وأداء هذه الرسالة ونصرة دين الله تبارك وتعالى، والتصديق والإيمان بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته إن أدركوه، فقال بعد ذلك ليسأل الصادقين عن صدقهم، قلت أشهر هذه الأقوال قولان القول الأول أنهم النبيون فـيسألون عن صدقهم هو اسم مصدر بمعنى التصديق عن استجابة أقوامهم لهم عمن تلقى عنهم الرسالة وبلغتهم الدعوة تبكيتا للكفار، فإن الله تبارك وتعالى أعلم بأحوال عباده. وقيل: إن السؤال لكل من يصدق عليهم وصف الصدق، قال: « لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ» هل كانت استجابتهم لأنبيائهم ورسلهم استجابة حقيقية، هي استجابة امتثال والتزام لأمر الله تبارك وتعالى؟ وهذا هو القول الثاني. |