لماذا نجحت أغنية "أنا من غيرك" .. الكلمات وحدها لا تكفي
تاريخ النشر: 13th, November 2024 GMT
“أنا من غيرك بتوه توهان أنا من غيرك ماليش عنوان”.. هكذا بدأت حكاية أغنية"أنا من غيرك" للفنان بهاء سلطان التي جاءت خلال أحداث الفيلم الجديد"الهوى سلطان"، وحققت نجاحًا جارفًا وأعطى صورة سينمائية أخرى للفيلم وكانت عامل هام في نجاح الفيلم وانتشاره على نطاق واسع، وعنصرجذاب لمشاهدته .
نستطرد في ذلك التقرير أسباب نجاح “أنا من غيرك” فهي ليست بقصيدة طويلة ذات كلمات عميقة نظل نبحث عن معانيها في قواميس اللغة العربية، أو أزمة اجتماعية بعينها تعرض علينا قوتها لتجعلنا دون أن نشعر منغمسين في قوة تأثيرها.
بل هي مجرد حالة هادئة من الحديث مع الحبيب خارج كلمات الحب المعتادة وموجات الوعود بالبقاء والخلود وكلمات تائهة في عالم الخيال ليس لها مكان في الواقع، هي وصف لحالة الحب الهادىء ذات الطلبات البسيطة بأن يبقى حبيبه بجانبه ، ينضم لعالمه الذي يمتلىء بالعناصر الحالمة لطالما تمنى أحد أن يشاركهه فيها .
جو منة القيعي الرومانسي ومدى تأثيره في “أنا من غيرك ”فكتبت الشاعرة الاجتماعي المذهلة منة القيعي وصف أشبه بنداء “أنا من غيرك بتوه توهان أنا من غيرك ماليش عنوان … يا ترى انت زيي كمان، زيي كمان مشتاق لزمان” فهي جملة السهل الممتنع التي من الممكن أن تذيب جبال من الخصام والفراق
لتستغرق منة القيعي في رسم تفاصيل تلك الحالة الحالمة التي يتمناها الحبيبان “فعدة عادية ومكالمة بتسأل فيها عليا في العربية واقفين والدنيا معدية نرغي شوية نضحك نسمع كام أغنية ”
قبل أن نسمع تلك الكلمات من صوت السلطان بهاء سلطان نراها جيدًا في مخيلتنا بجلسة تخلو من التكلف والتصنع تجمع بين حبيبين يتمنوا فيها أن تتوقف الدنيا من أجلهما لدقائق، وهنا السر يكمن في الواقعية حيث تُعد الجلسات البسيطة للحبيبين على كورنيش النيل أو السيارة الخاصة بهما خارج أماكن السهر الشهيرة أو المقاهي المتزينة بالأضواء المتكلفة وأسعارها الباهظة، نحن فقط نريد أن نجتمع مع نسمة هواء عليلة وأغنية مفضلة نكررها مرات ومرات وتظل ذكراها في أذهاننا تغمرنا بالسعادة كلما تذكرناها، مع الخروج عن وعي الدنيا قليلا لتقف الحياة قليلا في هذا اللقاء ونبتعت عن عوامل جديتها، ومن ثَم تفعل بنا ماتريد.
لتعاود منة القيعي وصف مشهد عاطفي جديد كثيرا مايحدث في “ لما أقولك تبعد إياك تسمع مني قرب أكتر امسك فيا بكلمة احضني .. ازاي تمشي ده انت لوحدك بس فاهمني أنا مستني أهو تكلمني”.
أمنية غنائية ترفع شعار" لا للبعد.. فقط اقترب" فكيف ستستمر حياتنا وكلانا بعيد فقط تمسك بي حتى إذا ناديت بالبعد صراحة، وصفت القيعي ذلك المشهد بتعابير قريبة من لسان مجتمعنا وبسؤال يتلصص داخل تجويف القلب قائلًا:" ازاي تمشي ده انت لوحدك بس فاهمني" ومن هنا تنكسر كل قواعد الخلافات والمشاجرات وتستعيد الحياة أضواءها في كلمة الصلح بعد جملة “أنا مستني أهو تكلمني”
وتسترسل القيعي في حديثها عن وصف تلك الحالة العاطفية المنهمكة في واقعيتها بوصف مختصر عن أهمية وجود الحبيب، قائلة “أصل التفاصيل أجمل بكتير بوجودك فيها، بوجودك فيها أتاريك انت يا حبيبي انت، اللي محليها حياتي انت محليها”
عناصر النجاح في أغنية أنا من غيرك.. ليست وحدها الكلماتفلم تكن الكلمات فقط هي الرابح الأول في الأغنية بل حالتها ومصداقيتها وواقعيتها الشديدة مع الصوت الطربي الآخاذ لـ بهاء سلطان الذي يجعلنا نشاهد الحالة قبل أن نسمعها ونعيشها.
بهاء سلطانالموزع الموسيقي نادر حمدي المؤلف والملحن عزيز الشافعيبهاء سلطان وعزيز الشافعي ونادر حمدي.. تحقيق المزاج العاطفي لـ “أنا من غيرك”
وهناك عامل آخر هام اكتملت به عناصر نجاح الأغنية وبروزتها باللون الذهبي هو اللحن والتوزيع الموسيقي الشرقي الأصيل دون الاحتياج للوسائل التكنولوجية الجديدة في الموسيقى، فقط آلات شرقية بحتة ولحن جعل الجمل تسكن في قلوبنا أكثر وأكثر مع الملحن الكبير عزيز الشافعي والموزع العبقري نادر حمدي، وبذلك اكتملت الأركان الأربعة للأغنية وكانت خير دعاية للفيلم خاصةً أنها عُرضت قبل الفيلم بأيام قليلة، فعلى الأغلب أغاني العمل الفني تشتهر بعد عرضه .
حالة فيلم “الهوى سلطان ”وأغنية “أنا من غيرك” أعادت لنا السينما البسيطة البعيدة عن الاكشن والغموض ومشاهد العنف فقط قصة رومانسية مع دندنات عاطفية تأخذنا لعالم آخر بعيدا عن الضغوطات الاجتماعية المستمرة، ومناسبة جدا لفصل الشتاء التي بدأت نسماته في منتصف أكتوبر الماضي، فإقامة عنصر العاطفة في فيلم أو أغنية ليس بالسهل كما هو شائع في تصور البعض، إما أن يكون حقيقي ومكتمل الأركان في نجاحه أو رقيق ومتكرر وساذج. والكرة هنا في ملعب الصناع أولا قبل المشاهد إما أن تصيب أو تخيب.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: أغنية أنا من غيرك بهاء سلطان منة القيعي نادر حمدي فيلم الهوى سلطان أغاني بهاء سلطان مشاهدة فيلم الهوى سلطان أنا من غیرک بهاء سلطان منة القیعی
إقرأ أيضاً:
مأساة الكلمات الكبيرة: وحدة، حرية، اشتراكية!
من وحي الكلمات الثلاث (وحدة، حرية، اشتراكية) ومقولة «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» صعد الخطاب البعثي تدريجيًا أواخر أربعينيات القرن الماضي، بعد عام تقريبًا من الاستقلال الرسمي لسوريا عن الانتداب الفرنسي عام 1946. كانت النواة الفكرية الأولى لحزب البعث قد بدأت مع طالبين سوريين التقيا في جامعة السوربون الفرنسية، وهما ميشيل عفلق، المسيحي الأرثوذكسي، ورفيقه صلاح الدين البيطار، المسلم السني، قبل أن ينضم لهما شاب آخر من أصول علوية هو زكي الأرسوزي، العائد هو الآخر من دراسة الفلسفة في الجامعة الفرنسية نفسها. وبعد فترة قصيرة، عام 1954، سيندمج حزب البعث العربي مع الحزب العربي الاشتراكي بزعامة أكرم الحوراني، الاندماج الذي أفضى إلى الصيغة اللغوية النهائية التي سيواصل بها البعث تبشيره الأيديولوجي باسم «حزب البعث العربي الاشتراكي».
بلوّر منظرو الحزب لغةً جديدةً كانت مزيجًا من القومية والاشتراكية والوحدة العربية ومعاداة الاستعمار، رغم أن الكثير من ذلك «التنظير» سيبدو بعد الفحص المتأني أقرب إلى لغة الأدب والشعارات التعبوية من الكلام في الفلسفة والسياسة والتاريخ. تلفتني مثلًا سطور بعينها من كتابه «في سبيل البعث» والذي عبَّر فيه ميشيل عفلق عن خلاصة أفكاره على مدى أربعة عقود حول ماهية القومية والاشتراكية العربية المنشودة إلى جانب آرائه في قضايا أخرى كالموقف من التراث والدين ومعنى الأمة. وضع عفلق أول نصوص مؤلَّفه خلال سنوات الغليان الحزبي منتصف الثلاثينيات واستمر بتأليف فصوله إلى نهاية حياته، حتى طُبع الكتاب في خمسة أجزاء بعد وفاته عام 1989، ليكون أهم وثيقة مرجعية لتتبع أصول حزب البعث وأدبياته. هذه السطور التي أتناولها -على سبيل المثال لا أكثر- تمهد للتصور البعثي عن مفهوم القومية، وفيها يحاول الأستاذ الإجابة عن تساؤل طلابه المستمر حول تعريف القومية التي ينادي بها، فيقول: «هي حب قبل كل شيء. هي العاطفة نفسها التي تربط الفرد بأهل بيته، لأن الوطن بيت كبير والأمة أسرة واسعة. والقومية ككل حب، تُفعم القلب فرحًا وتشيع الأمل في جوانب النفس، ويود من يشعر بها لو أن الناس يشاركونه في الغبطة التي تسمو فوق أنانيته الضيقة وتقربه من أفق الخير والكمال، وهي لذلك غريبة عن إرادة الشر وأبعد ما تكون عن البغضاء. إذ أن الذي يشعر بقدسيتها ينقاد في الوقت نفسه إلى تقديسها عند سائر الشعوب فتكون هكذا خير طريق إلى الإنسانية الصحيحة». (الجزء الخامس، ص 133: القومية حب قبل كل شيء).
الإنشائية الفاقعة في هذا النموذج، والرومانسية المفرطة في وصف القومية بأنها «حب قبل كل شيء»، كلها قرائن لا تفتأ تذكرنا بأن «فيلسوف» البعث كان قد بدأ علاقته مع الكتابة بمحاولات شعرية متعثرة تتوسل كتابة قصائد رومنطيقية، كما يشير إلى ذلك حازم صاغية في كتابه «البعث السوري.. تاريخ موجز» مستشهدًا بمقولة تنسب لزكي الأرسوزي عن رفيقه، عفلق، الذي لم تكن العلاقة معه وديةً في معظم الأحيان: «خسره الأدب فيما ابتُليت به السياسة».
كلمة «البعث» نفسها تنم عن فكر مسكون بالنظريات القيامية الحالمة، ولكن في سياق تبشيري على منوال كلمات مثل «الإحياء» و«النهضة» التي استنفدت معانيها النخب السياسية في مرحلة ما قبل الاستقلال خلال القرن التاسع عشر. ثمة هوس واضح بالكلمات الكبيرة عند البعثيين عمومًا، وتعميم هذه الملاحظة على سائر البعثيين لا يشوبه ظلم في نظري، بل يبدو منصفًا إلى حد بعيد. غير أن الممارسة السياسية، عبر السلطة ومن أجلها وخلالها، سرعان ما حولت هذه اللغة الجديدة إلى ألفاظ جوفاء. الكلمات الكبيرة تفسّخت على ألسنة خطباء البعث حتى صارت شعارات للتعبئة ومطايا للضبّاط الواثبين إلى السلطة في بغداد والشام.
في فبراير من عام 1958 نجح بعض الضباط البعثيين المتحمسين في الدفع بمشروع الوحدة مع مصر الناصرية. وكانت «الوحدة» هي الكلمة السحرية التي اعتبرها البعثيون مقدمةً لتوابعها: الحرية ثم الاشتراكية وصولًا إلى الحُلم .. وهو «البعث» وفقًا لعفلق ورفاقه. لكن الخلاف كان حول صيغة الوحدة مع مصر؛ أرادها بعض العقلانيين أو المترددين اتحادًا، بينما أصر الآخرون على وحدة فورية اندماجية رغم اقتراح المصريين تأجيلها لخمس سنوات. يُذكر أن المقدم البعثي أمين الحافظ وقف يومها أمام جمال عبدالناصر وخاطبه قائلًا: «بيننا وبينكم حائط يجب أن نهدمه الساعة. لماذا الاتحاد؟! لتكن وحدة». وكما هو معلوم، لم يدم حلم الوحدة البعثي الناصري طويلًا، إذ سرعان ما أطيح به في دمشق بانقلاب عسكري في 28 سبتمبر 1961. ولم يبق للمصريين منه سوى اسم «الجمهورية العربية المتحدة» الذي نُعي به جمال عبدالناصر يوم رحيله، قبل أن يعلن السادات لاحقًا عن تغيير الاسم عام 1971.
مأساة الكلمات الكبيرة، وربما نفاقها، تتجلى أكثر في العلاقة التي توترت حد العداء بين نسختي البعث، العراقية والسورية. نفس الأيديولوجيا، والمعجم اللغوي نفسه تقريبًا، والشعارات والأناشيد الحزبية هي ذاتها التي هتف بها التلاميذ الصغار في المدارس السورية والعراقية على مدى عقود، لكن الصراع بين النظام الأسدي في سوريا والنظام الصدَّامي في العراق بدد أي معنى لكلمة الوحدة، وكانت الفضيحة الكبرى في سجل هذه الأيديولوجيا؛ فقد بلغ الصراع أوجه مع اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية، حينما حالف حافظ الأسد الخميني، عدو صدَّام اللدود، وانقشع الضباب عن زيف الكلام.
للشعارات التي تُقال على المنابر استحقاقاتها الصارمة التي لا بدَّ أن تحين يومًا ما، وللقول كلفته على القائل، والتاريخ هو المختبر الحقيقي لجدارة النظريات والنصوص المزخرفة. عبرتنا من الأنظمة العربية الشمولية التي شهدنا انهيارها المتتابع في تاريخنا السياسي المعاصر، والتي تكشَّفت عن نماذج ممسوخة للفاشيات الأوروبية في القرن العشرين، شكلًا ومضمونًا، أنها اتسمت كلها، دون استثناء، بالمبالغة في الخطاب والفوقية والتشدق بأعدل القضايا، دون أن تتعلم من مصائر بعضها البعض؛ فلم تتورع عن إغواء المبالغات اللغوية ومغبتها، ولم تتقن التواضع في التعامل مع اللغة. فأولئك الرجال الطامحون الذين خرجوا من ثكنات الضباط إلى منابر السياسة، والذين ظلوا يتعثرون في النحو والصرف على الملأ من غير أن يجرؤ أحد على تصحيح لغتهم، لم يتقنوا إلا النفخ في تلك الكلمات الكبيرة حتى استنزفوا معانيها.. ننسى أحيانًا أن «فلسطين» كانت من بين تلك الكلمات التي استهلكوها! لقد قتلهم فقرهم للبلاغة التي تنتج عن مقاربة «معقولة» بين الواقع والخيال، فاستعاضوا عن البلاغة بالمبالغة.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني