لجريدة عمان:
2024-11-15@22:57:21 GMT

جوزيبّه كونته.. دانتي العاشق

تاريخ النشر: 15th, August 2023 GMT

لم تعد «الرواية التاريخية» الحديثة ــ في جزء منها بالطبع ــ هي تلك التي تستعيد أحداثا ومواقف معينة، سجلها التاريخ (والمؤرخون) في حولياته، فأعيد صوغها من قبل روائي معاصر، ليكتبها أحيانا مثلما حصلت، بأسلوبه ولغته. فنحن لو نظرنا اليوم، إلى عدد لا بأس به من هذه الروايات «التاريخية» التي تصدر (شرقا وغربا) لوجدنا تلك المحاولة، التي لا تستعيد التاريخ حرفيا، بل تلك التي تستنطقه، وتقرأه من وجهة نظر مخالفة، بل حتى أحيانا تخالفه، وتقدم عنه صورة لا نعرفها.

هو الأدب بالطبع، الذي يملك هذه الحرية الواسعة، في إبداع فضاءت ومناخات، تأخذنا في رحلة جميلة، لدرجة نتمنى معها أن يكون ما كُتِب هو التاريخ الفعلي، لا ذاك الحقيقي، المبثوث في بطون الكتب القديمة.

الكاتب الإيطالي، جوزيبّه كونته (مواليد عام 1945، في ليغوريا) هو شاعر قبل أي شيء آخر. فرحلته مع الكتابة، بدأت مع الشعر (وهو يعدّ اليوم من أبرز شعراء تلك البلاد)، قبل أن يجرّب أنواعا أخرى: الرواية والمسرح والنقد. في أي حال، ربما نستطيع أن نضعه ضمن هذه الفئة من الكتّاب الذين يحاولون «زيارة التاريخ من جديد»، عبر كتاباته المتنوعة، وبخاصة الروائية، التي حاول فيها أن يقدم نظرته الخاصة، سواء حول أشخاص معينين، أو حول أحداث تاريخية فعلية.

هكذا أتت روايته «الرجل الذي أراد أن يقتل شيلي»، وهي رواية تاريخية تتأرجح بين «الصواب والخطأ»، أي بين الأحداث الحقيقية وتلك المتخيلة، عن حياة الشاعر الإنجليزي العظيم شيلي، لذا يمكن وضعها أيضا في خانة ما يعرف باسم الرواية التشردية (البيكاريسك)، لنجد فيها أيضا، وكأننا في معرض صور، وجوها كبيرة من وجوه الكتابة: اللورد بايرون وماري شيلي... ففي الثامن من يوليو من عام 1822، عُثر على جثة الشاعر الرومانسي الشاب شيلي على شاطئ البحر التيراني: بدا أن مركبته الشراعية قد تحطمت في عاصفة.

لكن الكابتن أنجيلو ميدوسي، اليعقوبي الذي خدم في أسطول نابليون، لا يؤمن بأنه مجرد حادث. كان مقتنعًا بأن شخصًا ما أراد اغتيال الرجل الذي كان يحبه ومعجبا به، غادر إلى ليفورنو لمحاولة اكتشاف الحقيقة، بينما تبحث أخته المتقلبة والمرهقة هناك عن عشيقها الأخير -رجل إنجليزي غامض غادر دون أن يترك عنوانا... في هذا الفضاء «الخانق» لبلاد «مضطهدة» اسمها إيطاليا، «فريسة الثورات الصمّاء»، يشرع بطلانا في مسارات محفوفة بالمخاطر ليعرضا حياتيهما للخطر.

«رواية تاريخية» رائعة لكنها أيضًا تحقيق بوليسي وترنيمة للبحر. في محيط ساحل ليغوريا الساحر، يعود الكاتب ليحيي، حقبة كاملة، بعرضها للمشاهير: كاسلريه الشرير، رئيس الدبلوماسية الإنجليزية، اللورد بايرون «المظلم»، الفخور بنفسه بقدر ما كان متفلتا، ماري شيلي (مؤلفة كتاب فرانكشتاين الشهير)، وفوق كل شيء، الشخصية المذهلة لهذا الحالم المتحمس، هذا الحالم المثالي الذي كان بيرسي بيش شيلي.

شخصية تاريخية أخرى، تحضر في رواية ثانية لكونته، هي «المرأة الزانية» (عنوان الكتاب أيضا) التي يرد ذكرها في الأناجيل. فالقصة التاريخية تقول إن الكتبة والفريسيين ألقوا القبض على امرأة متزوجة ارتكبت الزنا، فأحضروها أمام عيسى بن مريم، وقالوا له: هذه المرأة زنت، وقد أمرنا موسى النبي، في الناموس، برجم هذا النوع من النساء حتى الموت. وحين ألحوا على معرفة رأيه، قال جملته الشهيرة: «من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر».

من كانت تلك المرأة؟ ما كانت عليها حياتها قبل هذه الواقعة؟ ما ستكون عليها حياتها أيضا بعد الواقعة؟ صحيح أن هذه الشخصية مستوحاة من فعل تاريخي (الأناجيل)، إلا أن كونته لا يعيد تأريخ تلك الحقبة الدينية، بل يتخيل كل شيء عن هذه المرأة، أي يتخيل تاريخها: يخبرنا عن طفولتها قرب البحر، زواجها من تاجر حزين، اكتشافها للحب والشهوة، وتجولها بعد ذلك، من يافا إلى روما، ومن فلسطين التي كانت تحت الاحتلال الروماني إلى إيطاليا النيرونية التي شهدت ولادة المسيحية. بلغة وفيرة وحساسة، ولنقل بلغة حسيّة أيضا، يأخذنا كونتي إلى رحلة في التاريخ الحقيقي/ المتخيل. (حازت الرواية جائزة مانزوني لأفضل رواية تاريخية عام 2008).

عودة أخرى إلى التاريخ، يقوم به كونته في روايته «دانتي في حب» (التي يمكن للقارئ العربي أن يكتشفها مع الترجمة الصادرة عن «المدى» (ترجمة نبيل رضا المهايني)، التي يستعيد فيها شخصية شاعر إيطاليا الأكبر دانتي أليغري. لنقل هي قصة شبح، بمعنى من المعاني. فقبل 699 سنة، ينزله الأب السماوي، لليلة واحدة، من الفردوس إلى مدينة فلورنسا كي ينشر حبه المفرط للشعر والجمال الأرضي. هناك، وهو قاعد عند سفح المعمودية، كان ينظر إلى مشهد النساء العابرات ليستعيد مشروعه في تصنيف أجمل ستين امرأة من بينها. وفي الليلة السبعمائة، تمرّ طالبة شابة أجنبية تدعى غريس، فتترك لديه انطباعا بأنه يشعر بوجوده للمرة الأولى. ليبدأ في ملاحقتها في سلسلة من اللقاءات المرحة ليتحدث معها، كما لو كان بإمكاننا سماعه، عن حبه لبياتريس وعن تجربته السرية مع الحب المخلص. ليدعوها إلى تنظيم رحلة حب معًا على السفينة السحرية التي أرسلتها ميرلين الساحر. وعندما تقبل غريس صورة الشاعر، يتغير كل شيء...

بين حكاية مليئة بسوء الفهم ومآسي مدينة خائفة ومهجورة كما في زمن الطاعون الأسود، (بدأ كونته كتابة روايته هذه مع أولى أيام وباء كوفيد الذي اجتاح العالم). يظهر الحب لدانتي ــ كما يظهر دانتي لكونتي ــ في لعبة من المرايا المشوهة، التي لا تعرف متى تبدأ ومتى تنتهي. يروي أحد أعظم الشعراء الإيطاليين الحاليين بخفة رائعة، مليئة بالإشراق وبعيدا عن أي تحذلق، رحلة حب قام بها شاعر «فيتا نوفا» (الحياة الجديدة) العظيم إلى «القصيدة المقدسة». لذا لا يعرف القارئ في نهاية الكتاب أي من الشاعرين هو «أليغري» (دانتي أم كونته) الذي يلعب الدور الأكبر في هذه الكوميديا.

قد تكون لعبة المرايا هذه هي ما يميز هذه «الرواية التاريخية الجديدة» المليئة بالتخييل الذاتي: أي حين لا تعرف متى يبدأ (أو ينتهي) التاريخ العام ومتى يبدأ (أو ينتهي أيضا) التاريخ الخاص. ربما التاريخ ليس في النهاية سوى تاريخ... خاص.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

نهضة عُمان عبر التاريخ

 

خالد بن أحمد الأغبري

بمشاعر وطنية مليئة وفياضة بالبهجة والسرور تستقبل عُمان الأبية تلك الذكرى الخالدة خلال هذه الأيام المباركة.. ذكرى الثامن عشر من نوفمبر المجيد والكل يعيش هذه الفرحة الغامرة التي يلامس فيها المواطن العُماني ما تم انجازه خلال عهد نهضة عُمان الطموحة ويستعيد ذكرياته الجميلة التي بدأت تتفاعل مع تلك الخطوات المتسارعة التي هيأت للإنسان العُماني سبل الحياة السعيدة والاستفادة المثلى مما تقدمه الدولة من مقومات ومعطيات ورعاية وخدمات شملت كافة القطاعات الحيوية والمجالات الإنسانية والإنجازات التنموية.

في حين أن هذا المواطن لا زال يتطلع إلى تحقيق المزيد من التقدم والتطور والرفاهية في ظل قيادته الحكيمة ومساعيها الحثيثة ومنهجيتها الثابتة انسجامًا مع متطلبات المرحلة القادمة وتنفيذًا لرؤية "عُمان 2040" والتي تحددت من خلالها ملامح وأفاق وخطط وبرامج مسيرة التنمية المستدامة بما يتلائم ويتوافق مع استراتيجيات وأهداف الحكومة الرشيدة لتحقيق نموًا مطردًا ينسجم مع تطلعات وطموحات أفراد المجتمع ومستوياتهم المعيشية ومسؤولياتهم الاجتماعية والأسرية، وذلك في ضوء المتغيرات والتطورات التي من شأنها تعزيز القدرة الإقتصادية والإرتقاء بمواردها المالية والطبيعية والبشرية كمًا ونوعًا وتقديم الخدمات الأساسية والبنى التحتية التي يحتاجها المواطن بأفضل ما يكون من حيث الجودة والكفاءة التشغيلية والعمل الجاد والمخلص.

ومع هذه المعطيات الخيرة لتلك المساعي الحثيثة النابعة من الجهود المتواصلة والقلوب الوفية والأيادي المخلصة والمتشابكة في خط سيرها وأهدافها وغاياتها والتي يبديها الشعب العُماني متمثلة في مضامين ومظاهر الحياة اليومية ومفاصلها ونهضتها الشامخة بما تمثله من إنجازات كبيرة وتنمية شاملة، وذلك بما يحقق طموح شبابها وتطلعاته وذلك بفضل مواقف أبنائها المخلصين الذين أخذوا على عاتقهم مسؤولية بناء هذا الوطن العزيز وتحديث بنيته وتطوير منظومته بما يتوافق مع متطلبات واحتياجات مستقبله على المدى القريب والبعيد، للاستفادة من خلال الحصيلة المتجددة لتلك المراكز المتقدمة التي حصدتها السلطنة أثناء مسيرتها الظافرة وذلك على كافة المستويات وفي مختلف القطاعات والمجالات بأيدٍ عُمانية متماسكة وقلوب متحابة ووحدة متكاملة ورؤية واضحة وعمل مشترك تحكمها سياسة معتدلة ونظرة شاملة وحكمة متأصلة قائمة على عقيدة راسخة ومنهج ثابت وحضارة عريقة وإرث وطني حافل بالكثير من المنجزات وفي شتى المجالات التنموية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وموقعها الجغرافي المتميز وعلاقاتها الإنسانية الصادقة التي لا تقبل الإفراط ولا التفريط في حقوقها ومصالحها بجانب حقوق ومصالح الآخرين أيًا كان مصدرها وموقعها، بقدر ما تشكله من مرتكزات إيمانية عميقة مدعمة بحسن النوايا والإخلاص في القول والفعل والعمل بعيدا عن تلكم التعقيدات والانفعالات والتخبطات العشوائية التي تزدري حقوق الآخرين وتحتقر جهودهم ومصالحهم ودماءهم وتاريخهم.

وبالرغم مما يشهده العالم من إرهاصات وتوترات تتسم بالعنف والصخب والنزاعات الأيديولوجية،إلا أن عُمان بفضل الله تتعامل مع هذه المفارقات وهذه التحيزات وهذه الملفات الساخنة بعقلية واعية وعين ساهرة وقلب بنبض بالإيمان المطلق وبالعطاء والحيوية، وبالفكر الناضج الذي يعمل بكامل طاقاته وإدراكه لمقتضيات الواجب الوطني ومساعيه الحميدة التي لا تقبل التحيز أو الانجذاب نحو تلك التيارات المتطرفة التي لا تعبأ بحقوق الآخرين ولا تعترف بنظم الحياة الإيجابية التي تجسدها الفطرة السليمة ويدعمها منهج خالقنا جلت قدرته وعظيم شأنه وسلطانه،وذلك من أجل تحقيق العدالة والمساواة بين الأفراد والمجتمعات، بحيث تظل الروح الإنسانية هي القوة الحقيقية الداعمة والنافذة التي يحتاجها الإنسان أينما كان، لمواجهة ذلك العالم المضطرب فكريًا وعقائديًا، والذي يسعى دائما إلى إستعراض عضلاته ونشر أفكاره السلبية المتعطشة إلى سفك الدماء وإثارة القلاقل والفتن وتدمير المجتمعات بافساد أخلاقياتهم وعدم إحترام سيادة دولهم، وهو بذلك يتجه إلى خلق أجواء مأساوية تتعارض مع الفطرة السليمة وتدعو إلى الانحراف وعدم التأدب مع شريعة الله، مستغلًا بذلك كل الظروف السلبية من أجل زعزعت الأمن والاستقرار الاجتماعي في إشارة واضحة إلى الانحراف الذي أصبحت تعاني منه الكثير من المجتمعات نتيجة العنجهية التي تدار بها المصالح العامة والقوى الفاعلة لكي تفرض عليها ثقافة دخيلة على المجتمع الإسلامي متجردة من الأخلاقيات وفارغة من المبادئ والقيم الإنسانية والزج به في أنفاق منحدرة إلى أبعد الحدود محاطة بمستنقع خطير تثار من بين زواياه الكثير من دوافع الأزمات المعنوية والأخلاقية المؤثرة سلبًا على كافة المستويات بحكم تأرجح البعض في إتخاذ قرارته السيادية على حساب ثقافته وسلوكه وقيمه الدينية.

وهذا الأمر يتوجب معه معالجة تلك الاخفاقات والنزوات وتصحيح مساراتها بشكل مباشر وإعادة النظر بشأنها والقيام بإجراء إصلاحات جذرية للحد من تفاقم ما يليها من أزمات اقتصادية واجتماعية وإنسانية وخلق أجواء ذات بعد استراتيجي يضمن لكل ذي حق حقه..

حفظ الله عُمان وشعبها وقائدها المعظم جلالة السلطان هيثم بن طارق، أمد الله في عمره.

وكل عام والجميع بوافر الصحة والعافية والسعادة.

مقالات مشابهة

  • جوزيب بوريل: سأقترح على أعضاء الاتحاد الأوروبي تعليق الحوار السياسي مع إسرائيل
  • حكاية قصر حسين هيكل أبو الرواية المصرية.. ملهم قصة «زينب»
  • الخارجية : سورية تؤكد على أن إمعان هذا الكيان الغاصب بالاستهتار المنقطع النظير بالقوانين الدولية، وعدم اكتراثه بكل المطالبات الدولية لوقف عدوانه وانتهاكاته، يأتي جراء عدم اتخاذ مجلس الأمن لموقف حازم وحقيقي لردعه عن جرائمه، التي شملت أيضاً الاعتداء على قوا
  • فاطمة الكعبي: مهمة الرواية كشف الجراح
  • التاريخ لا يكتبه إلاّ المنتصرون
  • نهضة عُمان عبر التاريخ
  • الرد بالكتابة.. ثورة التحرير في الرواية الجزائرية الحديثة
  • مؤسسة العويس تناقش الرواية الإماراتية في «الشارقة للكتاب»
  • الرواية الأمريكية الرسمية حول حقيقة استهداف الحوثيين حاملة طائرات ومدمرتين في باب المندب
  • ما الذي نعرفه عن المقاتلات الأمريكية التي تقصف الحوثيين لأول مرة؟