لجريدة عمان:
2025-01-16@12:18:34 GMT

جوزيبّه كونته.. دانتي العاشق

تاريخ النشر: 15th, August 2023 GMT

لم تعد «الرواية التاريخية» الحديثة ــ في جزء منها بالطبع ــ هي تلك التي تستعيد أحداثا ومواقف معينة، سجلها التاريخ (والمؤرخون) في حولياته، فأعيد صوغها من قبل روائي معاصر، ليكتبها أحيانا مثلما حصلت، بأسلوبه ولغته. فنحن لو نظرنا اليوم، إلى عدد لا بأس به من هذه الروايات «التاريخية» التي تصدر (شرقا وغربا) لوجدنا تلك المحاولة، التي لا تستعيد التاريخ حرفيا، بل تلك التي تستنطقه، وتقرأه من وجهة نظر مخالفة، بل حتى أحيانا تخالفه، وتقدم عنه صورة لا نعرفها.

هو الأدب بالطبع، الذي يملك هذه الحرية الواسعة، في إبداع فضاءت ومناخات، تأخذنا في رحلة جميلة، لدرجة نتمنى معها أن يكون ما كُتِب هو التاريخ الفعلي، لا ذاك الحقيقي، المبثوث في بطون الكتب القديمة.

الكاتب الإيطالي، جوزيبّه كونته (مواليد عام 1945، في ليغوريا) هو شاعر قبل أي شيء آخر. فرحلته مع الكتابة، بدأت مع الشعر (وهو يعدّ اليوم من أبرز شعراء تلك البلاد)، قبل أن يجرّب أنواعا أخرى: الرواية والمسرح والنقد. في أي حال، ربما نستطيع أن نضعه ضمن هذه الفئة من الكتّاب الذين يحاولون «زيارة التاريخ من جديد»، عبر كتاباته المتنوعة، وبخاصة الروائية، التي حاول فيها أن يقدم نظرته الخاصة، سواء حول أشخاص معينين، أو حول أحداث تاريخية فعلية.

هكذا أتت روايته «الرجل الذي أراد أن يقتل شيلي»، وهي رواية تاريخية تتأرجح بين «الصواب والخطأ»، أي بين الأحداث الحقيقية وتلك المتخيلة، عن حياة الشاعر الإنجليزي العظيم شيلي، لذا يمكن وضعها أيضا في خانة ما يعرف باسم الرواية التشردية (البيكاريسك)، لنجد فيها أيضا، وكأننا في معرض صور، وجوها كبيرة من وجوه الكتابة: اللورد بايرون وماري شيلي... ففي الثامن من يوليو من عام 1822، عُثر على جثة الشاعر الرومانسي الشاب شيلي على شاطئ البحر التيراني: بدا أن مركبته الشراعية قد تحطمت في عاصفة.

لكن الكابتن أنجيلو ميدوسي، اليعقوبي الذي خدم في أسطول نابليون، لا يؤمن بأنه مجرد حادث. كان مقتنعًا بأن شخصًا ما أراد اغتيال الرجل الذي كان يحبه ومعجبا به، غادر إلى ليفورنو لمحاولة اكتشاف الحقيقة، بينما تبحث أخته المتقلبة والمرهقة هناك عن عشيقها الأخير -رجل إنجليزي غامض غادر دون أن يترك عنوانا... في هذا الفضاء «الخانق» لبلاد «مضطهدة» اسمها إيطاليا، «فريسة الثورات الصمّاء»، يشرع بطلانا في مسارات محفوفة بالمخاطر ليعرضا حياتيهما للخطر.

«رواية تاريخية» رائعة لكنها أيضًا تحقيق بوليسي وترنيمة للبحر. في محيط ساحل ليغوريا الساحر، يعود الكاتب ليحيي، حقبة كاملة، بعرضها للمشاهير: كاسلريه الشرير، رئيس الدبلوماسية الإنجليزية، اللورد بايرون «المظلم»، الفخور بنفسه بقدر ما كان متفلتا، ماري شيلي (مؤلفة كتاب فرانكشتاين الشهير)، وفوق كل شيء، الشخصية المذهلة لهذا الحالم المتحمس، هذا الحالم المثالي الذي كان بيرسي بيش شيلي.

شخصية تاريخية أخرى، تحضر في رواية ثانية لكونته، هي «المرأة الزانية» (عنوان الكتاب أيضا) التي يرد ذكرها في الأناجيل. فالقصة التاريخية تقول إن الكتبة والفريسيين ألقوا القبض على امرأة متزوجة ارتكبت الزنا، فأحضروها أمام عيسى بن مريم، وقالوا له: هذه المرأة زنت، وقد أمرنا موسى النبي، في الناموس، برجم هذا النوع من النساء حتى الموت. وحين ألحوا على معرفة رأيه، قال جملته الشهيرة: «من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر».

من كانت تلك المرأة؟ ما كانت عليها حياتها قبل هذه الواقعة؟ ما ستكون عليها حياتها أيضا بعد الواقعة؟ صحيح أن هذه الشخصية مستوحاة من فعل تاريخي (الأناجيل)، إلا أن كونته لا يعيد تأريخ تلك الحقبة الدينية، بل يتخيل كل شيء عن هذه المرأة، أي يتخيل تاريخها: يخبرنا عن طفولتها قرب البحر، زواجها من تاجر حزين، اكتشافها للحب والشهوة، وتجولها بعد ذلك، من يافا إلى روما، ومن فلسطين التي كانت تحت الاحتلال الروماني إلى إيطاليا النيرونية التي شهدت ولادة المسيحية. بلغة وفيرة وحساسة، ولنقل بلغة حسيّة أيضا، يأخذنا كونتي إلى رحلة في التاريخ الحقيقي/ المتخيل. (حازت الرواية جائزة مانزوني لأفضل رواية تاريخية عام 2008).

عودة أخرى إلى التاريخ، يقوم به كونته في روايته «دانتي في حب» (التي يمكن للقارئ العربي أن يكتشفها مع الترجمة الصادرة عن «المدى» (ترجمة نبيل رضا المهايني)، التي يستعيد فيها شخصية شاعر إيطاليا الأكبر دانتي أليغري. لنقل هي قصة شبح، بمعنى من المعاني. فقبل 699 سنة، ينزله الأب السماوي، لليلة واحدة، من الفردوس إلى مدينة فلورنسا كي ينشر حبه المفرط للشعر والجمال الأرضي. هناك، وهو قاعد عند سفح المعمودية، كان ينظر إلى مشهد النساء العابرات ليستعيد مشروعه في تصنيف أجمل ستين امرأة من بينها. وفي الليلة السبعمائة، تمرّ طالبة شابة أجنبية تدعى غريس، فتترك لديه انطباعا بأنه يشعر بوجوده للمرة الأولى. ليبدأ في ملاحقتها في سلسلة من اللقاءات المرحة ليتحدث معها، كما لو كان بإمكاننا سماعه، عن حبه لبياتريس وعن تجربته السرية مع الحب المخلص. ليدعوها إلى تنظيم رحلة حب معًا على السفينة السحرية التي أرسلتها ميرلين الساحر. وعندما تقبل غريس صورة الشاعر، يتغير كل شيء...

بين حكاية مليئة بسوء الفهم ومآسي مدينة خائفة ومهجورة كما في زمن الطاعون الأسود، (بدأ كونته كتابة روايته هذه مع أولى أيام وباء كوفيد الذي اجتاح العالم). يظهر الحب لدانتي ــ كما يظهر دانتي لكونتي ــ في لعبة من المرايا المشوهة، التي لا تعرف متى تبدأ ومتى تنتهي. يروي أحد أعظم الشعراء الإيطاليين الحاليين بخفة رائعة، مليئة بالإشراق وبعيدا عن أي تحذلق، رحلة حب قام بها شاعر «فيتا نوفا» (الحياة الجديدة) العظيم إلى «القصيدة المقدسة». لذا لا يعرف القارئ في نهاية الكتاب أي من الشاعرين هو «أليغري» (دانتي أم كونته) الذي يلعب الدور الأكبر في هذه الكوميديا.

قد تكون لعبة المرايا هذه هي ما يميز هذه «الرواية التاريخية الجديدة» المليئة بالتخييل الذاتي: أي حين لا تعرف متى يبدأ (أو ينتهي) التاريخ العام ومتى يبدأ (أو ينتهي أيضا) التاريخ الخاص. ربما التاريخ ليس في النهاية سوى تاريخ... خاص.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

القبيلة اليمنية حضورُها مشرّف عبر التاريخ

القاضي/ علي يحيى عبد المغني

تُعرف القبيلة اليمنية بأنها كيانٌ منظمٌ، تحكمه أعراف وأسلاف؛ تعتبر كصورةٍ أوليةٍ عن القوانين الوضعية المعروفة اليوم، وقد كشفت كُـلّ النقوش اليمنية القديمة، جزءًا من هذه الأعراف التي غطت كافة جوانب الحياة الأمنية والعسكرية والإدارة والقضاء، والزراعة والتجارة.. وغيرها.

ولا تزال القبيلة اليمنية تحتفظ بهذه الأعراف والأسلاف وتمارسها حتى اليوم، إذ لم تكن قبائل فوضوية تعيش في الصحراء، أَو تتقاتل فيما بينها إلا في مراحل متأخرة من العصر الجاهلي، بل كانت القبيلة اليمنية تمتلك نظامًا خاصًّا بالحكم يبدأ من الملك وينتهي بشيخ العزلة والقرية، وكانت ديانة أبنائها قبل الإسلام هي الديانة التوحيد “الإبراهيمية” قبل أن تفرضَ عليهم الديانة اليهودية في عهد الملك “ذو نواس” أواخر الدولة الحميرية.

ومن يقرأ النقوش القديمة المكتوبة بخط “المسند” سيجد أن اليمنيين عرفوا الصلاة والزكاة والحج قبل أن تشرع في الإسلام، ولذلك حينما اقتربت بعثة الرسول صلوات الله عليه وعلى آله، هاجرت قبيلتان يمنيتان هما “الأوس والخزرج” من اليمن إلى المدينة المنورة “يثرب” سابقًا، لمناصرته عند ظهوره، وهذا ما حدث فعلاً، فهما القبيلتان العربيتان الوحيدتان اللتان ناصرتا رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله، بداية ظهور الإسلام.

ومع انتشار الإسلام أرسل رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله، الإمام علي عليه السلام؛ إلى اليمن لدعوتهم إلى الإسلام، فاستجابت له كافة القبائل اليمنية، وظلت علاقتها بالإمام علي عليه السلام خَاصَّة؛ وذريته من بعده، قوية ومتينة وراسخة لقرونٍ طويلة، وهناك قبائل يمنية كثيرة ذكرها الإمام علي عليه السلام في شعره ونثره ومنها (همدان وأرحب وخولان) وغيرها.

حينما بدأ الإسلام يتوسع انطلق أبناء القبائل اليمنية بأعدادٍ كبيرةٍ في الفتوحات الإسلامية، واستوطنوا الكثير من الأمصار والبلدان التي فتحوها، ولذلك لا نجد بلدًا من البلدان أَو شعبًا من الشعوب العربية والإسلامية إلا وفيها قبائل تعود أصولها إلى اليمن، وحينما انحرف “بنو أمية وبنو العباس” بالخلافة الإسلامية وحولوها إلى وراثة ملكية استقلت اليمن عنها قبل غيرها من البلدان الأُخرى.

وفي نهاية القرن الثاني الهجري تقريبًا ذهبت بعض القبائل اليمنية إلى المدنية المنورة، وبايعت الإمام “الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام”؛ على السمع والطاعة، وكان أول إمامٍ من أئمة أهل البيت عليهم السلام يحكم اليمن، وكان نظام الحكم في اليمن يقوم على مبدأ الرأي والمشورة، فمن تتوفر فيه شروط الحكم (الإمامة)، ويجمع عليه أهل الحل والعقد من العلماء والمشايخ والوجهاء؛ هو من يحكم اليمن.

كما تعتبر اليمن أول بلدٍ عربي عرف نظام الحكم المحلي واسع الصلاحيات، فكل قبيلةٍ هي من تدير شؤنها، وتحفظ أمنها، وتحل خلافاتها، يرأسها شيخ من أبنائها كان المسؤول عنها أمام الحكومة في صنعاء المعنية بالشؤون الخارجية والعلاقات الدولية، وحينما كانت تضعف الحكومة أَو تتعرض صنعاء لتهديدات خارجية كانت القبيلة اليمنية هي من تتصدر المواجهة، لذلك لم يتمكّن أي غازٍ أَو معتدٍ من احتلالها عبر التاريخ.

وكونها تملك ما تملكه الدولة من المقاتلين والسلاح وغيره، لم تضعف القبيلة اليمنية إلا من خلال النظام السابق الذي أوجد الخلافات والأحقاد وأجج الثارات بين كافة القبائل، ليتمكّن من السيطرة عليها، وإخضاعها للقوى الإقليمية والدولية، لكن ومع قيام ثورة الـ 21 من سبتمبر، ظهرت قيادة ثورية وطنية مخلصة ألتفت حولها كافة القبائل اليمنية، ووقفت إلى جانبها للدفاع عن اليمن، ضد قوى تحالف العدوان الإقليمي والدولي.

هُنا قدمت القبيلة اليمنية خيرة أبنائها شهداء في سبيل الله، وقدمت القوافل الكبيرة والكثيرة من المال والرجال على مدى عشر سنوات، فمنذُ سقوط حكومة الانبطاح والعمالة في صنعاء في سبتمبر 2014م، ومع بداية العدوان السعوأمريكي 2015م، وانهيار المنظومة العسكرية والأمنية، والتحاق أغلب القيادات السابقة “سياسية وحزبية وعسكرية وأمنية” وغيرها، إلى مربع العدوان، لم يتبق للدفاع عن اليمن سوى القبيلة اليمنية، التي انتصرت للأرض اليمنية، وانتصرت لمشروع ثورة الـ 21 من سبتمبر، وانتصر الجيش واللجان الشعبيّة، وانتصر الشعب اليمني كافة؛ رغم التضحيات الكبيرة.

اليوم؛ ها هي القبيلة اليمنية تؤكّـد مجدّدًا جهوزيتها العالية للدفاع عن اليمن والوقوف بحزم ضد الأطماع الأمريكية والصهيونية وأدواتهم المحلية، وتستعرض جزءًا بسيطًا من قوتها البشرية والعسكرية خلال وقفاتها وتظاهراتها الشعبيّة المسلحة التي نفذتها وتنفذها خلال معركة “الفتح الموعود والجهاد المقدس”.

وهذا ما جعل قائد الثورة يحفظه الله؛ يثني على القبيلة اليمنية، مشيدًا بدورها وجهوزيتها العالية، خلال خطابه الأخير الخميس الماضي، والموجه لكافة الشعوب العربية والإسلامية، والذي يدعوها فيه للالتحاق بركب أبناء القبائل اليمنية، والقيام بدروها وواجبها في نصرة القضية الفلسطينية، ورفع الظلم والمعاناة الذي حَـلّ بسكان قطاع غزة، حتى لا تتعرض لما تعرض له الشعب الفلسطيني، فالعدوّ لن يردعه ويوقفه عند حده إلا الجهاد في سبيل الله.

* أمين عام مجلس الشورى

مقالات مشابهة

  • صور.. 28 طالبًا وطالبة يتنافسون في أولمبياد التاريخ بالشرقية
  • الأزهر الشريف: صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته سيسطره التاريخ
  • «قناص» نيوكاسل يكتب التاريخ في «البريميرليج»
  • أرسنال يكتب التاريخ في «قمة شمال لندن» بعد 36 عاماً!
  • القبيلة اليمنية حضورُها مشرّف عبر التاريخ
  • هل الهلال السعودي يتحدى التاريخ للتعاقد مع محمد صلاح؟
  • شواطئ.. الرواية الرسائلية والرسالة الروائية
  • لغاية هذا التاريخ.. لا تسلكوا شارع جاندارك - الحمرا
  • تاريخ دوري أبطال أوروبا.. أبطال أوروبا عبر التاريخ
  • ما الذي تتضمنه مسودة اتفاق وقف النار في غزة؟