جوزيبّه كونته.. دانتي العاشق
تاريخ النشر: 15th, August 2023 GMT
لم تعد «الرواية التاريخية» الحديثة ــ في جزء منها بالطبع ــ هي تلك التي تستعيد أحداثا ومواقف معينة، سجلها التاريخ (والمؤرخون) في حولياته، فأعيد صوغها من قبل روائي معاصر، ليكتبها أحيانا مثلما حصلت، بأسلوبه ولغته. فنحن لو نظرنا اليوم، إلى عدد لا بأس به من هذه الروايات «التاريخية» التي تصدر (شرقا وغربا) لوجدنا تلك المحاولة، التي لا تستعيد التاريخ حرفيا، بل تلك التي تستنطقه، وتقرأه من وجهة نظر مخالفة، بل حتى أحيانا تخالفه، وتقدم عنه صورة لا نعرفها.
الكاتب الإيطالي، جوزيبّه كونته (مواليد عام 1945، في ليغوريا) هو شاعر قبل أي شيء آخر. فرحلته مع الكتابة، بدأت مع الشعر (وهو يعدّ اليوم من أبرز شعراء تلك البلاد)، قبل أن يجرّب أنواعا أخرى: الرواية والمسرح والنقد. في أي حال، ربما نستطيع أن نضعه ضمن هذه الفئة من الكتّاب الذين يحاولون «زيارة التاريخ من جديد»، عبر كتاباته المتنوعة، وبخاصة الروائية، التي حاول فيها أن يقدم نظرته الخاصة، سواء حول أشخاص معينين، أو حول أحداث تاريخية فعلية.
هكذا أتت روايته «الرجل الذي أراد أن يقتل شيلي»، وهي رواية تاريخية تتأرجح بين «الصواب والخطأ»، أي بين الأحداث الحقيقية وتلك المتخيلة، عن حياة الشاعر الإنجليزي العظيم شيلي، لذا يمكن وضعها أيضا في خانة ما يعرف باسم الرواية التشردية (البيكاريسك)، لنجد فيها أيضا، وكأننا في معرض صور، وجوها كبيرة من وجوه الكتابة: اللورد بايرون وماري شيلي... ففي الثامن من يوليو من عام 1822، عُثر على جثة الشاعر الرومانسي الشاب شيلي على شاطئ البحر التيراني: بدا أن مركبته الشراعية قد تحطمت في عاصفة.
لكن الكابتن أنجيلو ميدوسي، اليعقوبي الذي خدم في أسطول نابليون، لا يؤمن بأنه مجرد حادث. كان مقتنعًا بأن شخصًا ما أراد اغتيال الرجل الذي كان يحبه ومعجبا به، غادر إلى ليفورنو لمحاولة اكتشاف الحقيقة، بينما تبحث أخته المتقلبة والمرهقة هناك عن عشيقها الأخير -رجل إنجليزي غامض غادر دون أن يترك عنوانا... في هذا الفضاء «الخانق» لبلاد «مضطهدة» اسمها إيطاليا، «فريسة الثورات الصمّاء»، يشرع بطلانا في مسارات محفوفة بالمخاطر ليعرضا حياتيهما للخطر.
«رواية تاريخية» رائعة لكنها أيضًا تحقيق بوليسي وترنيمة للبحر. في محيط ساحل ليغوريا الساحر، يعود الكاتب ليحيي، حقبة كاملة، بعرضها للمشاهير: كاسلريه الشرير، رئيس الدبلوماسية الإنجليزية، اللورد بايرون «المظلم»، الفخور بنفسه بقدر ما كان متفلتا، ماري شيلي (مؤلفة كتاب فرانكشتاين الشهير)، وفوق كل شيء، الشخصية المذهلة لهذا الحالم المتحمس، هذا الحالم المثالي الذي كان بيرسي بيش شيلي.
شخصية تاريخية أخرى، تحضر في رواية ثانية لكونته، هي «المرأة الزانية» (عنوان الكتاب أيضا) التي يرد ذكرها في الأناجيل. فالقصة التاريخية تقول إن الكتبة والفريسيين ألقوا القبض على امرأة متزوجة ارتكبت الزنا، فأحضروها أمام عيسى بن مريم، وقالوا له: هذه المرأة زنت، وقد أمرنا موسى النبي، في الناموس، برجم هذا النوع من النساء حتى الموت. وحين ألحوا على معرفة رأيه، قال جملته الشهيرة: «من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر».
من كانت تلك المرأة؟ ما كانت عليها حياتها قبل هذه الواقعة؟ ما ستكون عليها حياتها أيضا بعد الواقعة؟ صحيح أن هذه الشخصية مستوحاة من فعل تاريخي (الأناجيل)، إلا أن كونته لا يعيد تأريخ تلك الحقبة الدينية، بل يتخيل كل شيء عن هذه المرأة، أي يتخيل تاريخها: يخبرنا عن طفولتها قرب البحر، زواجها من تاجر حزين، اكتشافها للحب والشهوة، وتجولها بعد ذلك، من يافا إلى روما، ومن فلسطين التي كانت تحت الاحتلال الروماني إلى إيطاليا النيرونية التي شهدت ولادة المسيحية. بلغة وفيرة وحساسة، ولنقل بلغة حسيّة أيضا، يأخذنا كونتي إلى رحلة في التاريخ الحقيقي/ المتخيل. (حازت الرواية جائزة مانزوني لأفضل رواية تاريخية عام 2008).
عودة أخرى إلى التاريخ، يقوم به كونته في روايته «دانتي في حب» (التي يمكن للقارئ العربي أن يكتشفها مع الترجمة الصادرة عن «المدى» (ترجمة نبيل رضا المهايني)، التي يستعيد فيها شخصية شاعر إيطاليا الأكبر دانتي أليغري. لنقل هي قصة شبح، بمعنى من المعاني. فقبل 699 سنة، ينزله الأب السماوي، لليلة واحدة، من الفردوس إلى مدينة فلورنسا كي ينشر حبه المفرط للشعر والجمال الأرضي. هناك، وهو قاعد عند سفح المعمودية، كان ينظر إلى مشهد النساء العابرات ليستعيد مشروعه في تصنيف أجمل ستين امرأة من بينها. وفي الليلة السبعمائة، تمرّ طالبة شابة أجنبية تدعى غريس، فتترك لديه انطباعا بأنه يشعر بوجوده للمرة الأولى. ليبدأ في ملاحقتها في سلسلة من اللقاءات المرحة ليتحدث معها، كما لو كان بإمكاننا سماعه، عن حبه لبياتريس وعن تجربته السرية مع الحب المخلص. ليدعوها إلى تنظيم رحلة حب معًا على السفينة السحرية التي أرسلتها ميرلين الساحر. وعندما تقبل غريس صورة الشاعر، يتغير كل شيء...
بين حكاية مليئة بسوء الفهم ومآسي مدينة خائفة ومهجورة كما في زمن الطاعون الأسود، (بدأ كونته كتابة روايته هذه مع أولى أيام وباء كوفيد الذي اجتاح العالم). يظهر الحب لدانتي ــ كما يظهر دانتي لكونتي ــ في لعبة من المرايا المشوهة، التي لا تعرف متى تبدأ ومتى تنتهي. يروي أحد أعظم الشعراء الإيطاليين الحاليين بخفة رائعة، مليئة بالإشراق وبعيدا عن أي تحذلق، رحلة حب قام بها شاعر «فيتا نوفا» (الحياة الجديدة) العظيم إلى «القصيدة المقدسة». لذا لا يعرف القارئ في نهاية الكتاب أي من الشاعرين هو «أليغري» (دانتي أم كونته) الذي يلعب الدور الأكبر في هذه الكوميديا.
قد تكون لعبة المرايا هذه هي ما يميز هذه «الرواية التاريخية الجديدة» المليئة بالتخييل الذاتي: أي حين لا تعرف متى يبدأ (أو ينتهي) التاريخ العام ومتى يبدأ (أو ينتهي أيضا) التاريخ الخاص. ربما التاريخ ليس في النهاية سوى تاريخ... خاص.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الأكبر في التاريخ.. رئيس الوزراء اليوناني يعلن تنفيذ عملية لتطوير الجيش
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
من المُقرر أن تُعلن اليونان، العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، اليوم الأربعاء عن تحديث شامل لقواتها المسلحة، مُقتديةً بجهود العديد من حلفائها الأوروبيين.
ومن المُتوقع أن يُقدّم رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس الجدول الزمني للبرلمان، والذي يتصدّره نظام دفاع جوي جديد ومُلفت يُسمى "درع أخيل"، بحسب ما أوردته وكال فرانس برس.
تُخصّص الدولة المُطلة على البحر الأبيض المتوسط بالفعل أكثر من 3% من ناتجها المحلي الإجمالي للدفاع - بسبب عقود من التوتر مع تركيا المُجاورة.
وتُخطط اليونان الآن لاستثمار ما يُقارب 26 مليار يورو (28 مليار دولار) في أنظمة أسلحة جديدة بحلول عام 2036، وفقًا لمصادر وزارية.
وصفت الحكومة اليونانية هذا بأنه "أهم إصلاح يُجرى على الإطلاق في تاريخ الدولة اليونانية فيما يتعلق بالدفاع الوطني".
وقال المتحدث باسم الحكومة اليونانية بافلوس ماريناكيس، الأسبوع الماضي: "بلدنا يحمي نفسه، ويُسلّح نفسه، ويُعزّز قدراته".
إلى جانب بولندا وإستونيا ولاتفيا، تُعد اليونان واحدة من الدول الأعضاء القليلة في حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي تخصص أكثر من 3% من ناتجها الدفاعي.
وقد ضاعفت هذه الدولة، التي يبلغ عدد سكانها 10.5 مليون نسمة، ميزانيتها العسكرية هذا العام لتصل إلى 6.13 مليار يورو (6.6 مليار دولار).
ووفقًا لمصدر مطلع، فإن جزءًا رئيسيًا من هذه التغييرات يتمثل في تحديث منظوماتها المضادة للصواريخ والطائرات، والتي تُسمى "درع أخيل".
وتشير تقارير إعلامية يونانية إلى أن أثينا تجري مفاوضات مع إسرائيل للحصول على الدرع، الذي يشمل أيضًا أنظمة مُحسّنة مضادة للطائرات المُسيّرة.
كما ذُكرت فرنسا وإيطاليا والنرويج كموردين محتملين للأسلحة الجديدة، التي تشمل سفنًا مُسيّرة وطائرات مُسيّرة ورادارات.
سعت اليونان إلى تعزيز موقعها على حدود الاتحاد الأوروبي في شرق البحر الأبيض المتوسط، على مقربة من مناطق الصراع في الشرق الأوسط.
وبصفتها مشتريًا ملتزمًا للمعدات العسكرية الأوروبية، وخاصة من فرنسا وألمانيا، لطالما بررت اليونان إنفاقها على الأسلحة بالإشارة إلى النزاعات الإقليمية والتهديدات من منافستها التاريخية تركيا.