الجميع يتذكر الأجواء التي شهدها الاقتصاد العالمي، بعد العام الأول من ولاية الرئيس دونالد ترامب، الفترة 2017-2020، حيث تم تصعيد إجراءات حماية التجارة تجاه مجموعة من الدول وعلى رأسها الصين، وأصبحنا أمام حرب تجارية معلنة.

وتظهر الأرقام الرسمية لأميركا، والخاصة بالتبادل التجاري مع بكين، أن الواردات الأميركية من الصين عام 2017 كانت 505 مليارات دولار.

ولكنها بنهاية 2020 بلغت 432 مليارا، كما أن الفائض التجاري المتحقق لصالح الصين انخفاض إلى 307 مليارات عام 2020 بعد ما كان 375 مليارا عام 2017.

وقد يظن البعض أن الانخفاض نتيجة جائحة كورونا وما نتج عنها من قيود على حركة التجارة الخارجية، ولكن أرقام 2019 تبين أن الواردات الأميركية للصين تراجعت بنحو 89 مليار دولار. ففي عام 2018 كانت الواردات الأميركية من الصين 538 مليارا، وتراجعت بعد سنة إلى 449 مليارا.

ورغم ارتباط الظاهرة بولاية ترامب وقراراته بفرض رسوم جمركية، فإن الاطلاع على الأرقام الخاصة بالتبادل التجاري بين واشنطن وبكين خلال ولاية بايدن، يبين لنا أن الأمر أصبح سياسة وليس مجرد وجود أو قرار لشخص ترامب.

فالواردات السلعية لأميركا من الصين عام 2023 كانت الأقل على مدار الفترة من 2017-2023، حيث بلغت 423 مليار دولار، كما أن الفائض التجاري لصالح الأخيرة انخفض إلى 279 مليارا، وهو الأقل على الإطلاق خلال نفس الفترة.

الواردات السلعية الأميركية من الصين عام 2023 كانت الأقل على مدار سنوات (شترستوك)

وخلال الفترة من يناير/كانون الثاني إلى سبتمبر/أيلول 2024، بلغت الواردات الأميركية من الصين 322 مليار دولار، وبلغ الفائض التجاري لصالح الأخيرة 217 مليارا، مما يعني أن التبادل التجاري بين البلدين، بنهاية 2024، سيكون قريبًا مما كان عليه العام الماضي، أو أقل من ذلك بمعدلات طفيفة.

إضافة إلى أن فترة بايدن شهدت تطورًا جديدًا في الحظر على التعاملات الاقتصادية مع الصين، وهو المتعلق بحظر التكنولوجيا، الأمر الذي فرض تحديًا جديدًا على الصين، وبخاصة أن بايدن نجح في ضم الاتحاد الأوروبي واليابان إلى صفه في مواجهة بكين تكنولوجيًا.

ما الجديد؟

في سبتمبر/أيلول الماضي وخلال حملته الانتخابية، صرح ترامب بأنه سيكون أكثر تشددًا في سياسته التجارية مع الاتحاد الأوروبي والصين، وأنه سيفرض رسوما جمركية بنسبة 100% على الدول التي تتجه للتخلي عن عملته "الخضراء" الدولار.

وبتحليل مضمون تصريحات ترامب، فإن هناك مجموعة من التحديات يفرضها على نفسه وعلى أميركا، إذا ما ذهب لتنفيذ ما وعد به من سياسة تجارية متشددة تجاه الصين والاتحاد الأوروبي، على رأسها البحث عن بديل لهما لتعويض واردات أميركا السلعية.

وقد ينتج عن سياسات ترامب المنتظرة تحسن ملحوظ على صعيد الاقتصاد الأميركي، لما يوفره من تنشيط التصنيع والإنتاج وفرص العمل محليًا، وبخاصة أن الاقتصاد الأميركي في حالة تحسن منذ عام 2021، ويظهر ذلك بوضوح من تطور قيمة الناتج المحلي الذي بلغ 27.3 تريليون دولار بنهاية 2023، بعد أن كان 23.5 تريليونا عام 2021.

ومن خلال قراءة سياسة ترامب السابقة التي اتجهت لخفض الضرائب، والعمل على عودة الاستثمارات الأميركية، فسيدفع هذا الأمر لمزيد من التدفقات الاستثمارية للداخل الأميركي.

أما على صعيد الصين، فإننا أمام المزيد من التحديات، حال تنفيذ سياسة ترامب الداعية للحمائية التجارية، وبخاصة أن الاقتصاد الصيني يعاني من مشكلات تتعلق بالداخلي حيث نجد أزمة مديونية الشركات المحلية، وكذلك تراجع معدلات النمو.

ومن شأن سياسة حماية التجارة بأميركا -الفترة القادمة- وتخفيض تجارتها السلعية مع الصين، أن يكون لذلك مردود سلبي على تجارة الصين الخارجية وكذلك حركة الإنتاج والنشاط الاقتصادي، لما يمثله التبادل التجاري مع أميركا من أهمية كبيرة للصين.

فالصادرات السلعية الصينية عام 2023 بلغت 3.38 تريليونات دولار، بينما الواردات السلعية الأميركية من بكين بلغت نفس العام 426 مليارا، وبما يمثل 12.6% من إجمالي الصادرات السلعية الصينية.

ترامب قال إنه سيفرض ضرائب جمركية 100% على الدول التي تتجه للتخلي عن الدولار (شترستوك)

ولكن إذا اتجه ترامب للمزاوجة في سياسته التجارية الحمائية تجاه الصين والاتحاد الأوروبي معًا، فقد يولد ذلك فرصة أكبر لعودة الاتفاقات الخاصة بالتجارة والاستثمار بينهما والذي توقف عام 2021، بعدما أنجزت خطوات مهمة في هذا الشأن، وقد يدفع هذا الأمر كذلك لمزيد من التعاون التكنولوجي بين الاتحاد الأوروبي وبكين، مما يساعد الأخيرة على مواجهة الحظر التكنولوجي المفروض عليها.

الأصداء عالميًا

التجارة السلعية سنة 2023 بلغت نسبة 45% من الناتج المحلي العالمي، وكانت قيمة التجارة السلعية في نفس العام 47.4 تريليون دولار. بينما كانت قيمة الناتج المحلي 105.4 تريليونات، وذلك وفق أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي.

وبالنظر إلى الأهمية النسبية للتجارة السلعية لمثلث الصراع المنتظر لسياسة ترامب، والخاصة بالحماية التجارية، نجد أن التجارة السلعية لأميركا بحدود 19% كنسبة من ناتجها المحلي الإجمالي، وبما يعادل قيمة 5.1 تريليونات دولار.

بينما في حالة الصين نجد أن التجارة السلعية تمثل 33.4% من ناتجها المحلي الإجمالي، وبما يعادل قيمة 5.9 تريليونات دولار. أما الاتحاد الأوروبي فتمثل تجارته السلعية 77.6% من ناتجه المحلي الإجمالي، وبما يعادل 14.2 تريليونا.

ومن هذه الأرقام، يتضح لنا الأهمية الكبرى للتجارة السلعية لكل من الاتحاد الأوروبي والصين، بنسبة تزيد على أميركا. ولكن الأمر لا ينظر إليه بهذه الحدود الضيقة، فأي تقليص في حجم وقيمة التجارة السلعية الخارجية، يعني المزيد من الانكماش بالنشاط الاقتصادي العالمي، لما يرتبط بالتجارة السلعية من روابط أمامية وخلفية، في مجالات الإنتاج والخدمات.

ولن يضار طرف واحد من سياسة حماية التجارة، وإذا توسع فيها ترامب خلال ولايته القادمة فسيواجه بما هو معروف في مجال العلاقات الدولية "المعاملة بالمثل" وبذلك سيكون أمام الصادرات السلعية لأميركا تحديات جمركية مماثلة، مما سيعوق حركة التجارة السلعية لهذا البلد.

مزيد من التوتر

أضافت الحرب الروسية على أوكرانيا مزيد الأعباء على الاقتصاد العالمي، وكذلك فعلت حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة ولبنان، وكان العالم ينتظر أن تنجح مساعي السلام في إنهاء هذه الحروب، وتوجيه الموارد الاقتصادية والمالية لمشروعات التنمية.

سياسات ترامب الحمائية ستولد فرصة أكبر لعودة الاتفاقات الخاصة بالتجارة والاستثمار بين الصين وأوروبا (شترستوك)

ولكن على ما يبدو فإن وجود حالة من السياسات الحمائية للتجارة، والمنتظر أن يفعل ترامب المزيد منها، أن تضيف أعباء أخرى على الاقتصاد العالمي، وبخاصة منطقة الشرق الأوسط التي تعاني منذ أكثر من عقد من غياب الاستقرار السياسي والأمني.

وقد عانى الاقتصاد العالمي من موجة تضخمية كبيرة، منذ الربع الأول من عام 2022، وكانت أصداؤها في أميركا والاتحاد الأوروبي هي الأعلى. إلا أنه منذ سبتمبر/أيلول 2024 واتخاذ المجلس الفدرالي الأميركي قرار تخفيض سعر الفائدة بمقدار 0.5% وكذلك تراجع معدلات التضخم بأميركا والاتحاد الأوروبي، ذهبت التوقعات بأداء أفضل على صعيد الاقتصاد العالمي.

ومن الصعب الحديث عن مستقبل العلاقات الاقتصادية مع الصين، في ظل ولاية جديدة لترامب، دون الإشارة إلى رد الفعل المنتظر من تجمع "بريكس" حيث سيجد التجمع نفسه أمام إجراءات لن تنال من الصين وحدها ولكن قد تشمل دولا أخرى، مثل الهند والبرازيل، باعتبارهما ينتجان بعض السلع التي يتم تصديرها لواشنطن.

كما أن التجمع عبر قممه المتعاقبة، دعا إلى البحث عن بديل للدولار لتسوية المعاملات المالية، وكذلك توسعة قاعدة التبادل التجاري بالعملات المحلية دون توسيط الدولار، وهي القضية التي تعد مصيرية لترامب، حيث ظهر ذلك بوضوح خلال تصريحه بحملته الانتخابية في سبتمبر/أيلول الماضي.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الأمیرکیة من الصین والاتحاد الأوروبی الاقتصاد العالمی الاتحاد الأوروبی التجارة السلعیة سبتمبر أیلول

إقرأ أيضاً:

الفاينتنال قصة المخدر الخطير الذي تتهم أميركا الصين بنشره

في مسلسل "ذا ووكينغ ديد The walking dead" الشهير، يستقيظ البطل "ريك غرامز" وسط المستشفى الذي يبدو مهجورا باحثا بصعوبة عن أي شيء يساعده على فهم ما يحدث حوله. بعد معاناة وجهد جهيد، يتمكن "ريك" من الخروج إلى الشارع ليكتشف أن الجنس البشري بات قاب قوسين أو أدنى من الانقراض، وأن الجنس الجديد الذي ظهر هم أموات يمشون، يبحثون عن نشر الموت في كل مكان.

تُظهر لنا الكاميرا في الشوارع عددا من الهائمين على أنفسهم: وحشة وظلمة وأشخاص يصعب التعرف على ملامحهم. صحيح أن المسلسل يندرج ضمن مسلسلات الخيال العلمي، إلا أن المشاهد التي قدمها المسلسل باتت لا تبتعد كثيرا عما يدور حقيقة في شوارع كثير من الولايات الأميركية التي باتت تنتشر فيها المخدرات، وعلى رأسها مخدر "الفاينتنال"، كما تذكر إدارة مكافحة المخدرات الأميركية.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف فجر ترامب الكراهية الخفية بين أميركا وأوروبا؟list 2 of 2ما خطة الصين لكسر الطوق الأميركي على تايوان والجزر المحيطة بها؟end of list

واليوم باتت أميركا تعاني من المخدرات التي باتت تهدد زهرة شبابها، وقد رصدت الحكومة الفيدرالية على إثر ذلك عشرات الملايين من الدولارات لمحاربة هذا الواقع. لكن، يبدو أن الأمر لا يقتصر على مجرد انتشار المخدرات في مجتمع يعاني من هذه الظاهرة منذ سنوات، لكن الأمر أصبح كأنه حرب كيميائية، على الأقل هكذا تراها واشنطن، وبهذا تتهم الطرف الثاني في هذه الحرب (بكين).

ففي أبريل/نيسان من العام الحالي، خلصت لجنة تتبع للكونغرس الأميركي إلى نتيجة مفادها أن الصين تعمل على ما وصفته بتأجيج أزمة المواد الأفيونية في الولايات المتحدة. في حين ردت السفارة الصينية في واشنطن على هذه الادعاءات وقالت إن محاولات واشنطن لاتهام بكين بأزمة الأفيون لن يعالج المشكلة، لأن الصين ليست سببها.

الأفيون الاستعماري

يعتبر استعمال المخدرات كسلاح لتدمير المجتمعات من الأسلحة القديمة. إذ يعد الأمر مغريا فوق العادة، فبجانب المنافع الاقتصادية التي توفرها تجارة المخدرات للطرف المُصدّر، تعمل هذه الأخيرة على خلق مجتمع رخو مفكك غير قادر على الإنتاج أو المواجهة أو خلق بيئة صحية لأي مشروع كان عند الطرف المستهلك.

وهذه الآلية قديمة، فاستعمال المخدرات ضد الأعداء هو أمر متعارف عليه، وسيقودنا إلى أحد الأمثلة "القذرة" المعروفة كما يصفها المؤرخون، وهي حرب الأفيون أو حروب الأفيون التي عاشتها الصين ضد خصومها الغربيين.

مع بداية القرن 19م كانت الصين تواجه أزمة أخلاقية واقتصادية كبيرة بسبب انتشار تجارة الأفيون غير المشروعة والتي كان يمارسها الإنجليز عبر "شركة الهند الشرقية" أداتهم الاستعمارية الأبرز التي أتاحت لهم الانتشار في آسيا.

كانت تجارة الأفيون قد استفحلت منذ بداية القرن 18م، إذ ليس هناك سبيل أفضل من إدمان المخدرات لفك أواصر المجتمع ونشر المشاكل الصحية والإجهاز على القوى العاملة، مما يجعل الدولة نفسها في مهب الريح.

في العام 1839 بدأت الحكومة الصينية التحرك لمواجهة هذه الكارثة الكبيرة، فأقدمت على إحراق مخزون ضخم من الأفيون الذي كان مملوكا لتجار إنجليز بإقليم غوانغزو، كما صادرت 1400 طن من مادة الأفيون. وهي خطوات لم تعجب بريطانيا بالتأكيد.

سيتسبب كل هذا الاحتقان في زرع لغم قادر على الانفجار في أية لحظة. حينها رفضت الصين، السماح بتجارة الأفيون إلا بشروط على رأسها الالتزام بالقانون الصيني، وطبعا، التوقف فورا عن تهريب هذه المادة المخدرة بطريقة غير قانونية.

رفض "تشارلز إليوت" الذي كان يعمل كمراقب بريطاني للتجارة مع الصين جميع هذه الشروط. صل الاحتقان مداه، فكان كل شيء جاهزا للانفجار، وكل ما كان ينقص هو عود الكبريت، أما حامل ذلك العود كان يدعى "رويال ساكسون".

في العام 1839 تحدى ساكسون، الذي كان تاجرا بريطانيا الحظر الصيني المفروض، وأصر على كسره، مما جعل السفن البحرية الصينية تخرج لمنعه وإرغامه على العودة من حيث أتى. اتخذت بريطانيا من هذه الحادثة ذريعة لإعلان الحرب على الصين بحجة التعدي على أحد مواطنيها.

وقتها، خرج أسطول "بريطانيا العظمى" لحماية "السيد ساكسون" وهاجم بطريقة مدمرة السفن الصينية التي تحركت. وفي العام 1840 سترسل بريطانيا قوة عسكرية أخرى إلى الصين حاملة معها أسلحة متطورة بمقياس ذلك العصر، وبانتصاف العام 1841 كانت الإمبراطورية البريطانية قد أجهزت على نظيرتها الصينية.

وفي أواخر أغسطس/آب 1842 سيستولي البريطانيون على عاصمة الصين آنذاك "نانجينغ"، وهو ما دفع الإمبراطور لإعلان القبول بالأمر الواقع، والاستسلام بل وتوقيع وثيقة معاهدة سلام قبل ضمنها عددا من الشروطمن قبيل فتح 5 موانئ صينية للتجارة الأجنبية، ودفع تعويضات كبيرة لبريطانيا، إضافة لتنازل الصين عن جزيرة هونغ كونغ لصالح بريطانيا.

شروط كهذه، مذعنة في إذلال أمة ذات تاريخ عريق كالصين لم تكن لتمر مرور الكرام، فقد حاول الصينيون حكومة وشعبا التكيف مع شروط معاهدة "نانجينغ" لكنهم فشلوا في ذلك. ليس هذا فحسب، بل كان على الصين أيضا التكيف مع معاهدات أخرى فرضت عليها من طرف فرنسا والولايات المتحدة الأميركية.

في العام 1954 تجددت المطالب البريطانية للصين بفتح جميع موانئها أمام التجار الأجانب وإلغاء التعريفة المفروضة على جميع المنتجات البريطانية. لن تتوقف المطالب هنا، فهناك ذلك الطلب الذي سيُفيض كأس الغضب، وهو منح الشرعية لتجارة الأفيون الذي تقوم باستيراده من الهند وبورما إلى الصين، هنا رفضت الحكومة الصينية الخضوع  لبريطانية مرة جديدة.

ولأن "السيد الأبيض" لا يقبل أن يُقال له "لا"، شنت بريطانيا ومعها فرنسا هذه المرة حربا ثانية على الصين حملت اسم "حرب الأفيون الثانية"، حرب دامية أكثر من الأولى، دماء وأشلاء وأسلحة متطورة لم تجد لها الصين من بأس ولا قوة، فانتهت الحرب كما الأولى في مايو/أيار 1858.

أما معاهدة إنهاء الحرب فكانت تحمل شروطا مجحفة أكثر فأكثر، يمكن اختصارها في "منح البريطانيين حقوقا أكبر في كل شيء"، وخصوصا الحق في نشر الإدمان بقوة السلاح، الأفيون الذي تغذى على صحة عشرات الملايين من الصينيين.

الأفيون .. دائما

لم يكن ذكرنا لهذه القصة مجرد استشهاد بقصة شبيهة في واقع حالي، بل لهذه القصة ارتباط مباشر بما يحدث اليوم.

لم ينس الصينيون أبدا حروب الأفيون، وما زال الشعب حتى اليوم ينظر إلى المخدرات نظرة ازدراء كبير، كما أن نسبة من الشعب تجد صعوبة في التعامل مع المهدئات تماما، حتى ولو كانت هذه المهدئات بأمر طبي.

لكن، ورغم هذا الماضي المعقد، فإن الصين الآن تعتبر المصنّع رقم 1 عالميا للمنتجات الصيدلانية، وهو وضع لم يكن هكذا سابقا. حدثت الطفرة في منتصف ثمانينيات القرن الفائت في عهد "دينغ شياو بينغ"، ففي العام 1985 بدأت الصين في فتح أبوابها في وجه رؤوس الأموال الأجنبية، وأحد أوائل من دخلوا هذا الباب كان "بول جانسن" صاحب المختبر البلجيكي الشهير "جانسن".

كان جانسن يحب الصين جدا، لكن ليس هذا ما يهمنا حاليا، بل أن هذا الكيميائي الشهير كان قد توصل في العام 1959 لتركيبة "الفاينتال"، أحد أهم مسكنات الآلام الأفيونية التي تم التوصل إليها عالميا.

لا يمكن وصف اختراع الفاينتنال إلا بالعظيم، فالمادة المسكنة هي أقوى بمائة مرة من المورفين؛ لذلك دخلت للاستعمال البشري سريعا مع حلول العام 1960، بيد أنه تحول بسرعة إلى مطلب لمستهلكي المسكنات كمخدرات، خصوصا مع قابلية إدمانه السريع للشخص الذي يستعمله.

في العام 2000 بدأت أجراس الخطر تدق في الولايات المتحدة الأميركية وكندا بسبب سيطرة الإدمان على عدد من مواطني الدولتين عبر الوصفات الطبية التي تخرج من الأطباء أنفسهم.

بعد سنوات قليلة، سيتحول هذا المخدر المسكن إلى مصيبة بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث سيصبح سبب الوفاة الأول للأميركيين ما بين 18 و45 سنة.

في العام 2022 مثلا، قتل الفاينتنال 110 آلاف شخص في الولايات المتحدة الأميركية، ضحايا من جميع طبقات المجتمع، بدءا من المجهولين المنبوذين حتى المشاهير كالمغني "كوليو" أو المغني "برينس" اللذين رحلا عن العالم بسبب جرعة زائدة.

تجاوزت أزمة "الفاينتنال" كونها أزمة صحية، بل وصلت إلى أن تكون أزمة دبلوماسية بين الولايات المتحدة الأميركية، "الضحية" في هذه الحالة، وبين المتهم الأول الذي توجه إليه أصابع اتهامها.. الصين.

انتشار مخدر الفاينتنال من أكثر الأزمات التي تشغل صناع القرار في أميركا (شترستوك) من يقتل الأميركيين؟

في العام 2022، وعلى هامش قمة العشرين سيلتقي الرئيس الأميركي جو بايدن نظيره الصيني "شي جين بينغ" لمناقشة عدد من القضايا من أهمها قضية مخدر الفاينتنال. ستذكر بعض المصادر الأميركية بعد ذلك أن بكين قالت إنها بدأت بالفعل في أخذ بعض الخطوات الفعلية للحد من وصول هذا المخدر القاتل إلى الولايات المتحدة الأميركية.

وبعد يومين من لقاء الرئيس الصيني، سيلتقي بايدن نظيره المكسيكي أندريس مانويل لوبيس أوبرادور من أجل التنسيق في الموضوع نفسه.

يعتقد المسؤولون الأميركيون أن السيطرة الصينية على صناعة المواد الكيميائية تجعل من بكين متهما منطقيا في هذا الملف. حينما سافر وفد من الكونغرس يضم 3 نواب من الديمقراطيين ومثلهم من الجمهوريين لبكين، لم يكن الهم الأول لهذا الوفد هو مناقشة التنسيق العسكري أو التحديات الاقتصادية أو التغير المناخي، كان الموضوع رقم 1 هو الفاينتنال الذي يحصد أرواح مئات الآلاف من الأميركيين.

في تصريحه لصحيفة "نيويورك تايمز"، سيقول السيناتور الديمقراطي "تشاك شومر" إن الموت عبر هذا المخدر أصبح قصة للجميع في الولايات المتحدة الأميركية، يقول "هناك الكثير من القصص الشخصية، أصدقاؤنا وعائلاتنا ومقربون منا توفوا بسبب "الفاينتنال"، هذا يفسر لماذا يهمنا الأمر  جميعا".

هناك جزء ظاهر من القصة، هي أن الولايات المتحدة الأميركية تفقد سنويا عشرات الآلاف من المواطنين، لكن لماذا يتهم الأميركيون الصين بالوقوف خلف كل هذه الوفيات؟

هناك العديد من النقاط التي يذكرها الأميركيون حول هذا الأمر، فبجانب أن المواد المتخذة في صناعة هذا المخدر هي قادمة أساسا من الصين، هناك معطى مهم جدا، هو أن المسؤولين الأميركيين يرون أن نظراءهم الصينيين لا يقومون بالواجب لمنع الكميات الكبيرة التي تصل للأسواق الأميركية.

في أبريل/نيسان الماضي، كشف محققون أميركيون النقاب عن تقرير يتناول تورط الصين بوصول مخدر الفاينتنال إلى الولايات المتحدة الأميركية. يقول التقرير الذي تم إرساله للمسؤولين عن الملف الصيني في مجلس النواب الأميركي: إن الحكومة الصينية تمول بطرق مباشرة وغير مباشرة الشركات المحلية التي تعمل في مجال صناعة الفاينتنال.

ويقول المحققون إن الشركات الصينية التي تنشط في تصنيع المواد المكونة لهذا المخدر تستفيد من دعم الدولة الصينية عبر التخفيضات الضريبية أو مساعدات مالية أخرى مختلفة، وهو أمر سبق وأن تم ذكره في العام 2019 من طرف صحفي التحقيقات الأميركي "بين ويستوف" في كتابه الذي يحمل عنوان "الفاينتنال".

خصصت الولايات المتحدة الأميركية موارد مالية كبيرة من أجل إيجاد حلول لمحاربة انتشار هذا المخدر القاتل، كما أنها جندت ترسانتها القانونية لخنق الشركات الصينية التي تعمل في صنع المواد المشكلة للفاينتنال، فقد قررت وزارة العدل الأميركية متابعة 4 مختبرات صينية بتهمة إدخال عدد من المواد المحظورة إلى التراب الأميركي.

في السياق نفسه، سيصدر "ميريك غارلاند" النائب العام في الولايات المتحدة الأميركية مذكرة بحث في حق 8 صينيين يعملون في هذه المختبرات، اثنان منهم تم توقيفهما في هاواي الأميركية وتم وضعهما تحت الحراسة النظرية. أحد هذه المختبرات التي تتابعها واشنطن هو مختبر "أمارفيل بيوتيك" بمدينة "ووهان" والذي تتهمه الحكومة الأميركية بإدخاله هو وحده أكثر من 200 كيلوغرام من المواد الكيميائية التي يمكن من خلالها صنع 50 كيلوغراما من الفاينتنال، وإن كانت تبدو هذه الكمية ليست بالكبيرة، فإنه من الضروري الإشارة إلى أنها قادرة على قتل 25 مليون أميركي حسب النيويورك تايمز.

وحسب التهم التي قدمتها وزارة العدل الأميركية فإن هذه المختبرات والشركات الصينية للأدوية كانت تمد العصابات المكسيكية الناشطة في مجال المخدرات وعلى رأسها عصابتا "سينالو" و"جاليسكو" بالمواد الكيميائية اللازمة من أجل تصنيع مخدر الفاينتنال ثم بيعه بعد ذلك في الأسواق الأميركية حسب تأكيد المعلومات التي أكدتها إدارة مكافحة المخدرات الأميركية.

وبينما تتوالى الاتهامات الأميركية للصين بضلوعها وراء هذه الأزمة التي تعصف بمجتمعها، تنفي الصين تلك المزاعم جملة وتفصيلا، وتضعها في إطار الدعاية الأميركية التي تصنع من كل ما هو صيني عدوا، نظرا للصعود الصيني وما تمثله من خطر مستقبلي على الهيمنة الأميركية العالمية.

مُطمئنات مريبة

في تقرير لها حول تطور الوضع الداخلي في الولايات المتحدة الأميركية، قالت "صحيفة نيويورك تايمز"، إن المجهودات الكبيرة التي قامت بها الحكومة الأميركية من أجل خفض الوفيات وسط الأميركيين بدأت تعطي بعض المؤشرات الإيجابية.

الصحيفة الأميركية قالت إن ما بين أبريل/نيسان 2023 وأبريل/نيسان 2024 قلّت نسبة الوفيات الناتجة عن جرعات زائدة من المخدرات بحوالي 10% لتصل إلى 101 ألف حالة وفاة، وهو ما يشكل أكثر نسبة انخفاض عرفتها السنوات الأخيرة، كما عرفت نسبة الجرعات الزائدة غير القاتلة انخفاضا بنسبة 10%.

تقول بعض المعطيات إن عددا من الأدوية التي تم استعمالها أظهرت نوعا من التجاوب الإيجابي، لكن الحقيقة تقول إن الأطباء والمحققين الفدراليين لا يعلمون أبدا ماذا يحدث بالضبط، وما الذي يفسر هذا الانخفاض.

تعاني أميركا منذ العام 1970 من ارتفاع في عدد الوفيات بسبب الجرعات الزائدة بشكل سنوي حتى وصل العدد لـ111 ألف وفاة في عام 2022. ورغم الانخفاض في عدد الوفيات هذا العام، فإن المراقبين الأميركيين لم يتوصلوا حتى الآن لسبب موضوعي لهذا الانخفاض، وبالتالي لا يمكن الجزم بفرضية واضحة حول تواصل النزول في هذه المعدلات، أو اعتبار أرقام هذه السنة مجرد مسكّن قد يُكتشف زيفه في الأعوام المقبلة.

تشكل هذه الوفيات صُداعا كبيرا في رأس الولايات المتحدة الأميركية، ويبدو أن هذا الملف يزيد من تعقيد علاقاتها مع الصين ضمن ملفات أخرى كثيرة.

فهذا الموضوع لم يعد مجرد لقطة خادشة في صورة "الحلم الأميركي" والمجتمع الفاضل، لكنه بات يمس جوهر الأمن القومي الأميركي، ويقلق البيت الأبيض والكونغرس ومؤسسات الحكم في البلاد، وسيكون أحد أهم الملفات التي سيتعاقب رؤساء أميركا المقبلين سعيا لحلها.

مقالات مشابهة

  • أردوغان: قطعنا التجارة والعلاقات مع إسرائيل ونقف مع فلسطين حتى النهاية
  • هل يستغل ترامب علاقته مع بوتين لإبعاد روسيا عن الصين؟
  • فاينانشيال تايمز تحث الاتحاد الأوروبي والصين على ملء أي فراغ تخلفه أمريكا في قضية المناخ
  • بتكوين تقترب من 90 ألف دولار بدعم من فوز ترامب برئاسة أميركا
  • سيغير النظام الدولي.. الاتحاد الأوروبي يحذر من تحالف روسيا والصين وكوريا الشمالية
  • الاتحاد الأوروبي: التحالف بين روسيا والصين وكوريا الشمالية يغير النظام الدولي
  • الفاينتنال قصة المخدر الخطير الذي تتهم أميركا الصين بنشره
  • هذا ما تتوقعه الصين من ولاية ترامب الثانية
  • اتفاق تركي مصري يرفع التبادل التجاري بينهما إلى مبلغ فلكي