الموت والوجود (أُنطولوجيا الموت)
تاريخ النشر: 12th, November 2024 GMT
الكلام عن أُنطولوجيا الموت هو كلام عن الموت من حيث هو ظاهرة كلية عامة فـي الوجود، وليس من حيث هو ظاهرة يمكن أن يعيشها أو يعانيها الفرد فـي تجربة الحياة. ولا شك فـي أن الكلام عن الموت بهذا الاعتبار يبدو كلامًا خارج السياق فـي هذه الآونة التي يموج فـيها العالم بأحداث كبرى تؤثر فـي مجريات الواقع وتستدعي التأمل؛ ولذلك فإن دوائر السياسة والإعلام والصحف تنشغل فـي هذه الآونة برصد الصراعات والحروب التي لا تهدأ فـي عالمنا، فضلًا عن رصد وتحليل تبعات عودة الجمهوريين برئاسة ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية الأكثر تأثيرًا فـي الأوضاع والسياسات العالمية.
ومع ذلك، فإننا فـي خضم هذه الحقائق والأحداث الواقعية الجسام ننسى أو نتناسى أن الموت يظل هو الحقيقة اليقينية الكبرى، ليس فقط على المستوى الوجودي، وإنما أيضًا على المستوى الواقعي فـي عالمنا الراهن: فالموت يطل برأسه يوميًّا ليحصد الأفراد والجماعات فـي الصراعات والحروب، حتى باتت مشاهد الموت مألوفة فـي كل لحظة من لحظات حياتنا اليومية، وكأننا أمام حالة من صناعة الموت بفعل القتل والعدوان، ويكفـي أن نشاهد يوميًّا آلة القتل الإسرائيلية التي ترتكب مذابح قتل الفلسطينيين وغيرهم. وبذلك فإن حضور الموت الدائم يفرض نفسه علينا ويدعونا إلى تأمله. لنـتأمل أولًا معنى الدلالة الأُنطولوجية للموت: يصف هَيدجر الوجود الإنساني بأنه وجود من أجل الموت أو -على الأدق- وجود متجه نحو الموت Zein zum Tode، وهو لا يعني بذلك أن الموت يمثل نهاية أو نقطة وصول نهائية لمسار الحياة؛ فالموت لا يشبه سقوط ثمرة بلغت تمام نضجها بعد مسار نموها، كما صوره ماركوس أوريليوس: فلو تصورنا الحياة باعتبارها مسارًا، وتساءلنا: أين يقع الموت على هذا المسار؟ فسنجد أن الموت لا يقع عند نقطة محددة من هذا المسار، بل يمكن أن يقع عند أية نقطة من هذا المسار باعتباره إمكانية دائمة كامنة فـي قلب الوجود. لا يعي الحيوان وغيره من الكائنات الحية هذه الحقيقة؛ لأن الحيوان لا يعرف الموت إلا فـي اللحظة التي يكون فـيها مهددًا بالموت، أما الموجود البشري فإنه يعي حقيقة الموت باعتباره متأصلًا فـي ماهية وجوده، أي باعتباره موجودًا متجهًا باستمرار نحو الموت؛ وهذا هو الأصل فـي الوعي بالزمانية والتناهي، وهو أيضًا سر من أسرار القلق الوجودي العميق المتأصل فـي طبيعة الموجود البشري الذي يعي معنى وجوده. هذا فحوى ما يريد هيدجر قوله، وهو بلا شك حقيقة يقينية لا مراء فـيها. ومع ذلك فإننا لا يمكن أن نكتفـي بهذه الحقيقة فـي فهمنا لماهية الوجود الإنساني: حقًّا إننا نعي -أو ينبغي أن نعي- وجودنا باعتبارنا موجودات زمانية متناهية، ولكننا أيضًا لا ينبغي أن نكتفـي بفهم وجودنا باعتباره «وجودًا من أجل الموت» أو «وجودًا متجهًا نحو الموت: فنحن، وإن كنا موجودات متناهية، فإننا لم نُوجد بهذا الاعتبار وحده، أعني أننا لم نُوجد لكي نموت، وإنما لكي نبقى، على الأقل إذا كنا نريد أن نحيا كموجودات حقيقية. فما معنى أن نبقى، وعلى أي نحو يمكن أن نبقى؟ من البديهي أن البقاء هنا لا يعني عدم الموت، وإنما يعني البقاء رغم الزوال والتلاشي وفـي مواجهته، فمن دون ذلك يصبح الوجود الإنساني أشبه بالوجود الحيواني، أعني يصبح وجودًا متلاشيًّا لا يبقى منه شيء فـي هذا العالم من بعد زواله؛ ولذلك فإننا نصف الحيوان الذي انتهى أجله بأنه «قد نفق»، بينما نصف الموجود البشري الذي انتهى أجله بأنه «قد مات»؛ لأن الموت ليس «نفوقًا: أو تلاشيًا من الوجود؛ لأن الموجود البشري يمكن أن يظل باقيًا وحاضرًا فـي الوجود بعد مماته عبر قرون، بل عبر آلاف السنين. فعلى أي نحو يمكن أن يبقى الموجود البشري؟ يبقى الموجود البشري على أنحاء عديدة، من خلال الأفعال التي يقوم بها والأشياء التي يبدعها لتبقى بعد مماته: قد يتمثل ذلك فـي موته دفاعًا عن مبدأ أو قيمة عليا، وهو ما يتبدى فـي سير الأبطال والشهداء العظام التي تبقى عبر الأجيال، وفـي إبداعات الأفراد وصروح الحضارات ومنجزاتها التي تبقى شاهدة على حضور أصحابها فـي التاريخ. وربما أمكنني القول فـي النهاية: إن إبداعات الوجود الإنساني على مستوى الأفراد والأمم تنبع من دافعية أنثروبولوجية عميقة نحو البقاء، من دونها يصبح الوجود الإنساني عابرًا متلاشيًا. |
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أن الموت یمکن أن وجود ا
إقرأ أيضاً:
هل يمكن أن يعود حظر الحجاب إلى الجامعات التركية؟
صرح وزير التعليم التركي يوسف تكين، قبل أيام، بأن حظر ارتداء الحجاب قد يعود إلى المدارس والجامعات التركية في حال فاز مرشح حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية القادمة. وأشار تكين في جوابه على سؤال الصحفي التركي آدم متان، حول هذا الاحتمال، إلى أن حزب الشعب الجمهوري تقدم عام 2007 إلى المحكمة الدستورية بطلب إلغاء التعديل المتعلق بحرية ارتداء الحجاب في الجامعات، وقال في طلبه آنذاك إن هذه الخطوة يمكن أن تفتح الباب أمام المطالبة بحرية ارتداء الحجاب في الدوائر الحكومية والشرطة والجيش. ولفت الوزير إلى أن هذا حدث قبل بضع سنوات فقط، وليس قبل زمن طويل.
حزب الشعب الجمهوري يحاول أن يظهر نفسه كحزب يحترم قيم المجتمع المسلم والحريات الشخصية، ويقول إن حظر ارتداء الحجاب لن يعود، إلا أن التجارب السابقة والحالية تؤكد أن عقلية هذا الحزب مثل "الذيل الذي لا ينعدل"، ولا يمكن أن تتغير، مهما قال وفعل قبل الانتخابات لكسب أصوات الناخبين المتدينين. ولعل أقرب مثال لذلك، هو ما قامت به رئيسة بلدية أسكودار في إسطنبول، سِينَمْ دَدَطاشْ، المنتمية إلى حزب الشعب الجمهوري.
الشعب الجمهوري يحاول أن يظهر نفسه كحزب يحترم قيم المجتمع المسلم والحريات الشخصية، ويقول إن حظر ارتداء الحجاب لن يعود، إلا أن التجارب السابقة والحالية تؤكد أن عقلية هذا الحزب مثل "الذيل الذي لا ينعدل"، ولا يمكن أن تتغير، مهما قال وفعل قبل الانتخابات لكسب أصوات الناخبين المتدينين
منطقة أسكودار معروفة بسكانها المتدينين، وكانت تعتبر من قلاع الأحزاب المحافظة، كما أن الرئيس السابق لبلديتها كان منتميا إلى حزب العدالة والتنمية. ولما فازت مرشحة حزب الشعب الجمهوري برئاسة بلدية أسكودار في الانتخابات المحلية الأخيرة، قامت بإلغاء الأيام والساعات المخصصة للنساء في مسبح البلدية، وفرضت الاختلاط على الجميع في استخدام المسبح. كما أحضرت معلمة رقص من أفريقيا في شهر رمضان المبارك لتعليم الفتيات رقصة "توركينغ"، وهي "تدوير إيقاعي للأطراف اللحمية السفلية بقصد الإثارة الجنسية أو الضحك للجمهور المستهدف"، وفقا لــ"الموسوعة الحرة ويكيبيديا".
تركيا برئاسة رجب طيب أردوغان أزالت العوائق التي وضعت أمام تحفيظ القرآن الكريم وتعليم تلاوته، ومكَّنت الطلاب من حفظ القرآن الكريم كاملا وتلقي العلوم الإسلامية بالتوازي مع مواصلة دراستهم المتوسطة. وإضافةً إلى ذلك، تنظِّم رئاسة الشؤون الدينية دورات صيفية لتعليم الأطفال الصغار تلاوة القرآن الكريم، وهو ما يعارضه حزب الشعب الجمهوري جملة وتفصيلا، بحجة أن النظام العلماني يجب أن لا يلقن الأطفال الصغار أي معلومة متعلقة بالدين ليبقى على مسافة واحدة من جميع الأديان والمذاهب والمعتقدات، ما يعني أن هذه العقلية ستغلق مدارس تحفيظ القرآن الكريم ودورات تعليم تلاوته، إن تمكنت من الفوز في الانتخابات وشكَّلت الحكومة.
رئيس حزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزل، في رده على ما قاله وزير التعليم، حاول أن يطمئن الناخبين المتدينين، قائلا إنه هو من سيقف ضد محاولات حظر ارتداء الحجاب في ظل أي حكومة يشكلها حزب الشعب الجمهوري. ولكن مثل هذه التصريحات لا تكفي لإزالة المخاوف، لأن ارتداء الحجاب لم يكن محظورا لوجود قانون أو مادة دستورية، بل كانت القوى المتسلطة على الإرادة الشعبية تحظره بناء على تفسيرها لمبدأ العلمانية، ولا يوجد أي مؤشر يشير إلى تراجع مؤيدي حزب الشعب الجمهوري عن ذاك التفسير المتطرف للعلمانية. مثل هذه التصريحات لا تكفي لإزالة المخاوف، لأن ارتداء الحجاب لم يكن محظورا لوجود قانون أو مادة دستورية، بل كانت القوى المتسلطة على الإرادة الشعبية تحظره بناء على تفسيرها لمبدأ العلمانية، ولا يوجد أي مؤشر يشير إلى تراجع مؤيدي حزب الشعب الجمهوري عن ذاك التفسير المتطرف للعلمانيةبل هناك من يتجرأ منهم على محاولة حظر ارتداء الحجاب في حصته بالجامعة أو شتم الفتيات المحجبات والاعتداء عليهن في الشوارع، رغم وجود حكومة تدافع عن حقوقهن. ومن المتوقع أن يطبق كثير من المسؤولين الموالين للمعارضة، حظر ارتداء الحجاب تلقائيا دون أن ينتظروا قرار الحكومة، لمجرد فوز مرشح حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية.
تركيا تشهد حالة استقطاب غير مسبوق منذ فترة، تغذِّيه المعارضة وفلول تنظيم الكيان الموازي التابع لجماعة غولن. ولضمان استمرار تلك الحالة، يتم شحن الموالين للمعارضة بمشاعر العداء والكراهية تجاه الحكومة والأحزاب المؤيدة لها، من خلال بث الإشاعات والأنباء الكاذبة. ويجعل هذا الوضع الناخبين المؤيدين للمعارضة لا يعترفون أبدا بالخدمات التي تقدمها الحكومة، كما لا يرون الفساد المنتشر في البلديات التي يديرها رؤساء منتمون إلى حزب الشعب الجمهوري، بل ولا يبالون بارتكاب هؤلاء الرؤساء جرائم، مثل اختلاس أموال البلدية أو الابتزاز أو تلقي الرشاوى، ما داموا ينتمون إلى الحزب الذي يؤيدونه، ويعتبرون كافة الاتهامات الموجهة إليهم سياسية مهما كانت مبنية على أدلة دامغة، كما هو الحال في قضية رئيس بلدية إسطنبول المقال أكرم إمام أوغلو.
أوزغور أوزل، بعد انتخابه رئيسا لحزب الشعب الجمهوري، حاول أن يتبنى سياسة تخفيف التوتر بين الحكومة والمعارضة، إلا أن جهوده اصطدمت بجدار عقلية حزبه المترسخة، وسرعان ما عاد إلى لغة التصعيد التي بلغت ذروتها بعد اعتقال إمام أوغلو بتهمة الفساد ودعم الإرهاب. ويسعى حزب الشعب الجمهوري الآن إلى تحريض طلاب المدارس الثانوية ضد الحكومة من أجل تحويلهم إلى حطب يبقي نار الاستقطاب مشتعلة. ومن المؤكد أن هؤلاء الذين يتم شحنهم الآن بكمية كبيرة من مشاعر العداء والكراهية تجاه المواطنين المؤيدين للحكومة، بدعوى أنهم هم من أوصلوا البلاد بأصواتهم إلى الوضع الراهن، سيبحثون عن سبل الانتقام منهم في أول فرصة سيجدونها.
x.com/ismail_yasa