كتب: حسين سعد
واصلت منظمة كونفليكت داينامكس انترناشونال يوم الأربعاءالموافق 16 أكتوبر الحالي تقليدها المتمثل في سلسلة حواراتها التي درجت على عقدها مع نخبة من الصحفيين والمراقبين والسياسيين وأساتذة الجامعات والشباب، فاستضافت في جلسة حوارية جديدة انعقدت بفندق كلارنس هاوس بالعاصمة الكينية نيروبي، الدكتور النور حمد.

وقد ابتدرت الجلسة مديرة المنظمة الدكتوره عزه مصطفي الحديث مرحبةً بالحضور وبضيف الجلسة الحوارية مشيرةً الي أن المنظمة سبق أن نظمت جلستها الحوارية الأولي مع الدكتور الشفيع خضر في وقت سابق. بعد ذلك طرحت د. عزة محاور السلسلة الحوارية الجديدة التي تشمل تاريخ الإسلام السياسي على المستوى الإقليمي وتاريخ الحركة الإسلامية السودانية ومشروعها وتطبيقاته ومخرجاته وما جرى من الحركة الإسلامية من محاولات لوأد ثورة ديسمبر. ثم طرحت سؤالاً عريضًا قائلة: (هل عدنا يا ترى للمربع الأول من جديد؟) ومن ثم قدمت د. عزة مصطفى الدكتور النور حمد للحديث في المحور الأول قام بسرد تاريخ الإسلام السياسي الذي يعود إلى حراك النهضة العربية في القرن التاسع عشر، ثم إلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا وما أعقب ذلك من نشوء حركة الإخوان المسلمين في شبه القارة الهندية وفي مصر وكذلك نشأة حزب التحرير. وقال إن ما يجمع بين هذه الحركات هي نزعة إقامة دولة إسلامية عابرة للأقطار.

سرد د. النور الخلفيات التاريخية للحركة الإسلامية منذ نشأتها الأولي بتسلسل زمني لمشروعها ولنتائجه وقال إن دولتنا جرى اختطافها لصالح هذا المشروع العابر للأقطار، وأصبحت من ثم منصة انطلاق نحو تحقيقه. وقال إن هذا المسعى يجد تفسيره في محاولات تصدير نموذج ثورة الإنقاذ إلى أقطار الجوار كإريتريا وإثيوبيا. الأمر الذي خلق إشكالات مع الدولتين الجارتين. إضافة إلى الهجوم الشديد في بداية التسعينات على الدول الخليجية. كما تمثل هذا المنحى الأممي في إعجاب الحركة الإسلامية السودانية بثورة الخميني ودعمها لحركة حماس ودعوتها للمتطرفين كأسامة بن لادن للقدوم إلى السودان وانخراطها في تفجيرات سفارات الولايات المتحدة في شرق إفريقيا وفي محاولاتها اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك. وقد جلب كل ذلك العقوبات الدولية على السودان وفرض عليه العزلة الدولية وانتهت طموحات الحركة الإسلامية إلى صراع داخلي مرير مع شعب السودان.

تعرض د. النور لشخصية الدكتور حسن الترابي عراب الحركة وأشار إلى تطلعه ليكون زعامة سودانية وعالمية وأشار إلى مصاهرته لأل المهدي وأنه قد جعل منها رافعة للصعود إلى ما يصبو إليه من زعامة. ومضي حمد في سرد أسلوب الحركة الإسلامية في افتعال الأزمات لتحقيق المكاسب السياسية وأشار إلى حادثة حل الحزب الشيوعي وابتزاز القوى السياسية الكبرى بمشروع الدستور الإسلامي وتحكيم الشريعة واستمر هذا النهج عقب المصالحة الوطنية التي أجراها الرئيس جعفر نميري مع القوة السياسية في عام 1977. حينها تغلغل الدكتور الترابي في أجهزة نظام مايو وتسلم منصب النائب العام وبدأ الدفع نحو تحكيم الشريعة الذي انتهى بتطبيق قوانين سبتمبر إلي أثارت جدلا كثيفا ووجدت رفضا شعبيا واسعا، بل قادت لسقوط نظام نميري بثورة أبريل 1985.

ذكر د. النور أن تغلغل الحركة الاسلامية في نظام نميري عقب المصالحة الوطنية قاد إلى اختراقها للجيش وجهاز الأمن كما قاد إلى تمكينها اقتصاديا خاصة بعد إنشاء بنك فيصل الاسلامي وتقديم القروض المالية لكواردهم ولضباط الجيش وابتعاثهم للمركز الإسلامي الإفريقي (جامعة إفريقيا العالمية حاليا) لجرهم نحو فكر الإخوان المسلمين. وأيضا ابتعاث كوادرهم للتحضير في الدراسات العليا بالجامعات الأجنبية استعدادا للحكم منفردين.

عقب سقوط نظام نميري استطاعت الحركة الإسلامية أن تسيطر على الفترة الانتقالية عبر وجود عضوها الخفي، الفريق سوار الدهب على رأس المؤسسة العسكرية، وكذلك بتسريب عضو الحركة غير المعروف حينها، الدكتور الجزولي دفع الله، إلى منصب رئيس وزراء الفترة الانتقالية. ومن ثم استطاعت أن تحرز في الانتخابات التي تلت الفترة الانتقالية أكثر من 50 مقعدا. ومن هناك بدأ الهجوم على الأحزاب الكبرى وهلهلة الديمقراطية الثالثة عبر آلتهم الإعلامية الكبيرة. كما انخرطت الحركة الإسلامية في خلق الأزمات الاقتصادية وندرة السلع لإضعاف النظام القائم ومن ثم الانقضاض عليه. وانتهى ذلك بانقلاب الحركة الإسلامية على النظام الديمقراطي في عام 1989. عقب ذلك جرى فتح الباب أمام الحضور لطرح اسئلة والتعليقات وقد تباري الحضور في تقديم تعليقات عديدة شملت اشعال الحرب الجهادية في جنوب السودان والنيل الازرق وجنوب كردفان وتجيش الشباب في الدفاع الشعبي الذي أصبح قوة عسكرية موازية. وردا علي سؤال تجربة الحركة الاسلامية في مصر وفشلها في الإمساك بخناق الدولة المصرية مثلما حدث في السودان، قال النور إن مصر دولة راسخة وقديمة عكس السودان الدولة الهشة التي أصبحت اليوم أكثر هشاشة. فمصر تملك نواة صلبة تمنع الدولة من الانزلاق نحو الفوضى بعكس السودان الذي لم يعرف الدولة الحديثة إلا في القرن التاسع عشر وعلى يد القوى الأجنبية. وحين رحلت القوى الأجنبية ارتد على عقبيه في الخشاشة.

المحور الثاني: التيارات المعتدلة داخل الاسلاميين

قال حمد أن التجربة العملية أكدت له أنه لايوجد اعتدال وسط الاسلاميين وقال إن إدعاء الاعتدال وسطهم ليس سوى (شعار للمناورة). وعضض وجهة نظره هذه بالعديد من الأدلة والشواهد. ومن بين تلك الأمثلة محاورته الشخصية مع عدد من الإسلاميين في نهايات فترة حكم الإنقاذ. لكن عقب ثورة ديسمبر وخاصة بعد إشعالهم الحرب للقضاء نهائيا على الثورة عاد كل الذين تمظهروا بالاعتدال إلى تماهي كامل بلا شروط مع نظامهم القمعي القديم. ولا يستثنى من ذلك سوى بضع أفراد آثروا الصمت وهو تماهي من نوع آخر أخف جدة. في هذا الباب أشار حمد إلي عمل الإسلاميين المتصل على تخريب ثورة ديسمبر واجهاضها بخلق الضوائق المعيشية وبشيطنة الخصوم وبخلق الصراعات الأهلية الدامية وخلق السيولة الأمنية، وفي النهاية بإشعال الحرب.

عقب ذلك فتح الباب امام الحضور لطرح أسئلة أو اضافات وقدم الحاضرون تعليقات عديدة شملت عضدت أن التمظهر بالاعتدال وسطهم كان زائفا، وأنه مجرد ذر للرماد في العيون مثل خديعة إذهب للقصر رئيسا وأذهب إلى السجن حبيسا. وكذلك خطاب الوثبة وانخراطهم في الحرب الحالية بكل تياراتهم. وكذلك جهودهم في الاستنفار وإظهارهم الكتائب المتطرفة مثل كتيبة البراء بن مالك والعمل الخاص وكل تلك التشكيلات الأمنية الموازية للقوات المسلحة.

المحور الثالث الدولة الموازية

قدم النور في هذا المحور مقاربة لتجربة الإخوان المسلمين في مصر واستقطابهم للبسطاء عبر تقديم الخدمات. وهذا نهج بدأ مع وصول الرئيس السادات إلى السلطة وتفكيكه للطبيعة اليساروية لنظام عبد الناصر ومن ثم الشروع في التوجه غربا. أتاح السادات للإسلاميين التغلغل في المجتمع المصري عبر جمعيات الشباب المسلمين والفتيات المسلمات وتقديم الخدمات لفقراء المصريين. وللأسف انقلبوا على السادات واغتالوه. نهج خلق دولة موازية تقدم الخدمات للجمهور في مصر لإظهار ضعف الدولة القائمة نهجٌ مورس في السودان ولكن بصورة مختلفة أكثر فداحة. فعبر التمكين أصبح للإسلاميين في السودان دولتهم الخاصة بهم. وهي دولة جرى إخفاءها عن عين الرأي العام لأنها غير خاضعة للرقابة وللمراجعة. وأصبح في الناحية الأخرى للشعب دولته الفقيرة. وقد فتح هذا النهج الباب على مصراعيه للفساد المؤسسي.

أشار د. النور إلى دور مصر ومحاولاتها إجهاض الثورة. وتحدث عن مقايضة الفريق البرهان السيادة السودانية، بكل ما تعني، نظير دعم مصر له للبقاء في السلطة. فقد اعتمد الفريق البرهان علي مصر منذ الأيام الأولى للثورة. ولفت د. النور النظر إلي الزيارات المتتابعة للبرهان الي القاهرة وزيارة القيادات الأمنية المصرية الرفيعة المستوي إلي السودان. وقال ان الشركات الاقتصادية للجيش ليس عليها أي رقابة من وزارة المالية أو المراجع العام. لذلك تحول السودان إلي مجرد مزرعة يحصد منتجاتها الأجانب. فكل ثروات السودان الزراعية والحيوانية والغابية والمعدنية يجري تصديرها وتهريبها إلى الخارج دون عوائد تذكر للدولة، ولاسيما مصر. وأوضح د. النور أن الدولة الموازية انتهت إلي مباراة بين الاسلاميين للنهب والفساد. فقد تركت الدولة واجبها في تنمية القطر وتطويره وتقديم الخدمات الي مواطنيها، مشيرا إلي عائدات البترول والذهب والمنتجات الزراعية والغالبية والحيوانية الضخمة لم تنعكس بأي قدر يذكر علي حياة المواطنين. وقال: (هذا نموذج للدولة مزعج للغاية).

عقب ذلك فتح الباب أمام الحضور الذي أشاروا الي نماذج عديدة من ممارسات الدولة الموازية في كافة مفاصل الدولة الخدمية والصحية والتعليمية وفي الأراضي والإسكان وغيرها.

المحور الرابع الإسلاميين وثورة ديسمبر

ذكر د. النور أن الإسلاميين كانوا يرديون إزاحة البشير الذي اختطف منهم مقود الدولة وأصبح عبئا عليهم. ولفت النظر إلى ما أدلى به أمين حسن عمر من رفضهم ترشح البشير لولاية جديدة في انتخابات 2020. غير أن الثورة فاجأت الجميع واندلعت لأول مرة من خارج العاصمة. فقد اشتعلت في نيالا والدمازين وعطبرة ثم انخرطت فيها العاصمة بكل قواها الحية. وبعد فيضان الشارع بالمتظاهرين لأربعة أشهر وفشل الإجراءات القمعية قامت اللجنة الأمنية بالاطاحة برأس النظام والتحفظ عليه. واوضح النور أن هدف الاسلاميين كان الإطاحة بالبشير فقط، ثم العودة إلى السلطة عبر التحكم في فترة انتقالية قصيرة وإجراء انتخابات متحكم فيها وتقديم وجوه جديدة. غير أن اعتصام القيادة قاد الأمور إلى وجهة جديدة فكانت مذبحة القيادة التي أوحت بها مصر على نسق مجزرة ميدان رابعة العدوية. وفشل ذلك الإجراء بعد تظاهرات 30 يونيو التي قلبت الطاولة على قيادات الجيش فانخرطوا في مفاوضات مع قوى الحرية والتغيير وكان اتفاق الوثيقة الدستورية. غير أن أساليب المكر القديمة من افتعال للسيولة الأمنية وخلق حاضنة شعبية ضرار قاد إلى تكوين الحرية والتغيير الكتلة واعتصام الموز ثم انقلاب 25 لأكتوبر 2021 الذي أطاح بحكومة حمدوك منهيا الفترة الانتقالية. وحين فشلت خطة الانقلاب ولم يستطع الفريق البرهان تشكيل حكومة وظهر في الساحة مقترح الاتفاق الإطاري الذي نال قبول قوات الدعم السريع أصبح خيار إشعال الحرب وإغراق كل شيء فيها هو المخرج الأخير. وهكذا قام الإسلاميون بإشعال الحرب.

وحول التحالفات السياسية القادمة قال النور إن الحركة الاسلامية والأحزاب التقليدية الأمة والاتحادي الأصل سيكونون في حلف واحد عقب الفترة الانتقالية المقبلة وستكون قوى الثورة يسارية الطابع التي لا ترتكز على الخطاب الديني في حلف آخر، سيكون هو الأضعف انتخابيا. وأشار إلى ضرورة الإصلاح الديني لتحرير عامة الناس من قبضة الخطاب الديني الزائف والمضلل الذي يسوقهم للوقوف ضد مصالحهم.

عقب ذلك جرى فتح الباب أمام الحضور حيث أشاروا إلى فشل حكومة الثورة في خلق إعلام يخفف حدة الانقسامات ويدحض خطاب الكراهية. كما أشاروا إلى فشل قوي الحرية والتغيير في المحافظة علي تحالفها الذي يعتبر اكبر تحالف سياسي في السودان، وتكالب العديد من أفرادها على السلطة، فضلا عن التدخل الاقليمي لبعض دول الجوار في إجهاض الثورة. لقد كانت هذه الجلسة بالغة الحيوية. وقد حافظت على حيويتها على مدى أربعة ساعات وقد كانت مداخلات المشاركين فيها غنية. وما ورد في هذا التقرير ليس سوى شذرات متفرقة عما جرى فيها.  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الفترة الانتقالیة الحرکة الاسلامیة الحرکة الإسلامیة ثورة دیسمبر فی السودان وأشار إلى فتح الباب النور أن عقب ذلک وقال إن فی مصر ومن ثم

إقرأ أيضاً:

ميثاق نيروبي: ليكن لبنة في بناء الوحدة، لا بوابة للانفصال

يُعد الميثاق التأسيسي، الذي تم التوافق عليه في 22 فبراير 2025 بين مجموعة من القوى السياسية، حركات مسلحة من دارفور، قوات الدعم السريع، والحركة الشعبية - شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، محطة فارقة في منهجية حل المعضلة السودانية التاريخية. كما يمثل خطوة حاسمة في مسار الحرب المأساوية واسعة النطاق، التي أوشكت على إكمال عامها الثاني. ومع ذلك، قوبل الاتفاق برفض واسع، لم يقتصر على اسلامي النظام المخلوع والداعمين للجيش، بل امتد أيضًا إلى بعض القوى السياسية والمدنية المناهضة للحرب. وتتمثل أبرز المخاوف لدى هؤلاء في أن الاتفاق مع قوات الدعم السريع قد يُفسَّر كتحيز لها، مما يعزز احتمالية استمرار الحرب. إلى جانب مخاوف من أن يؤدي هذا التكتل إلى تفتيت السودان. لذا، من الضروري إجراء تقييم دقيق للاتفاق لفهم مدى قدرته على المساهمة في حل المعضلة السودانية المزمنة ومعالجة المظالم التاريخية، أو ما إذا كان يحمل في طياته مخاطر تفتيت البلاد. فيما يلي محاولة لالقاء الضوء علي بعض الجوانب المتعلقة بالاتفاق.
ميثاق نيروبي ومبادئ التغيير الجذري في بنية الدولة
• ان هذه الوثيقة التأسيسية التي وضعت أسسًا جديدة لدولة السودان في مرحلة ما بعد الحرب تمثل تحولًا جذريًا في المنهجية التقليدية لمعالجة المعضلة السودانية. فقد اعتمدت المناهج السابقة لحل الخلافات السياسية على الانقلابات العسكرية وقمع المعارضة أو التسويات السياسية التي تركز على اقتسام السلطة والثروة دون إحداث تغيير جوهري في بنية الدولة وهياكلها المؤسسية. من المعروف أن السودان، بحدوده الحديثة، تم توحيده خلال الحكم التركي-المصري، بينما أُنشئت هياكل الدولة الحديثة في ظل الاستعمار البريطاني-المصري. وبعد الاستقلال، ورثت الأنظمة الوطنية هذه الهياكل دون تعديل جوهري، ما أدى إلى استمرار الأزمة السياسية وعدم الاستقرار لما يقارب قرنين (1821-2023)، حتى انهارت الدولة عمليًا مع اندلاع حرب 15 أبريل 2023. لقد تشكلت الدولة السودانية الحديثة بوصفها كيانًا مركزيًا مفروضًا بالقوة، حيث تم توحيد مناطق السودان المختلفة دون استفتاء سكانها، الذين يتميزون بتنوع إثني وثقافي وديني واسع، فضلًا عن اختلاف أساليب ووسائل العيش فيما بينهم. وقد نص اول بنود هذا الاتفاق علي ان الدولة السودانية تقوم علي مبدأ الوحدة الطوعية لشعوبها و اقاليمها بما يضمن التعايسش السلمي العادل و الاختيار الحر.
• تم التوقيع على هذه الوثيقة من قبل أكبر تجمع للقوى المسلحة والمدنية، والذي يمثل طيفًا واسعًا يمتد من غرب السودان إلى شرقه، وهي المناطق الأكثر كثافة سكانية والأعلى إنتاجًا، لا سيما في مجالات الزراعة، والثروة الحيوانية، والموارد الغابية. كما أن هذه المناطق شهدت تاريخيًا صراعات ممتدة، سواء في مواجهة الدولة المركزية أو بين مكوناتها المختلفة، خاصة بين المجتمعات الرعوية، التي تُنسب إلى القبائل ذات الأصول العربية، والمجتمعات الزراعية المنتمية إلى القبائل المصنفة ضمن المجموعات الإفريقية أو "الزرقة". وقد عمدت الأنظمة التي أعقبت الاستعمار، لا سيما نظام الإسلاميين، إلى استغلال التنافس الاقتصادي والمصالح المتباينة بين هذه المجموعات، خاصة في ظل تفاقم تأثيرات الجفاف والتصحر. كما أن هذه المناطق كانت الأكثر تضررًا من ممارسات قوات الدعم السريع، التي استخدمها النظام السابق في البداية لقمع الحركات المسلحة في دارفور، قبل أن تتوسع عملياتها لاحقًا إلى كردفان والنيل الأزرق. وعليه، فإن هذا الاتفاق، الذي جمع بين قوات الدعم السريع وقواعدها القبلية الرعوية العربية، إلى جانب الحركات المسلحة وحواضنها الاجتماعية من القبائل الزراعية الإفريقية، يُشكل خطوة محورية نحو تحقيق التعايش السلمي في هذه المناطق. إضافة إلى ذلك، فقد نص الاتفاق على الالتزام بالعدالة والمساءلة التاريخية، وإنهاء سياسة الإفلات من العقاب من خلال محاكمة جميع المسؤولين عن الانتهاكات ضد الوطن والمواطن. ويؤكد هذا النهج على أن تحقيق العدالة يُعدّ حجر الأساس لإرساء سلام مستدام في السودان.
• ثالثًا: أقر الميثاق مبدأ تأسيس دولة ديمقراطية علمانية تقوم على فصل الدولة عن الهويات الدينية والإثنية والثقافية، مع حظر إنشاء الأحزاب السياسية على أساس ديني. ويهدف هذا النهج إلى تعزيز الاعتراف بالتنوع وضمان المساواة بين جميع المكونات والشعوب التي تعيش في السودان، مما يسهم في منع أي شكل من أشكال الاستعلاء أو الهيمنة.وتعدّ العلمانية إحدى القضايا الخلافية في السياسة السودانية، خاصة بعد إقرار قوانين الشريعة الإسلامية عام 1983، والتي كانت أحد الأسباب الرئيسية في اندلاع الحرب في جنوب السودان.
ما يميز هذا الاتفاق هو أن مبدأ فصل الدين عن الدولة لم يُقر فقط من قبل القيادات السياسية وقيادات الحركات المسلحة، بل حظي أيضًا بموافقة ممثلي الإدارات الأهلية في المناطق الأكثر تمسكًا بالتقاليد، والتي كانت تمثل تاريخيًا قاعدة دعم رئيسية للأحزاب الطائفية، لا سيما حزب الأمة، الذي عارض إلغاء قوانين سبتمبر خلال الديمقراطية الثانية. ويعكس هذا التوافق تحولًا في وعي هذه المجتمعات التي عانت من سياسات الدولة الدينية وترفض أن تُوظَّف لصالح أي جماعة تحت غطاء الدين. كما أن هذا الاتفاق يُعدّ ضمانة لترسيخ مبدأ العلمانية في الدستور الدائم للسودان.
• رابعًا: تبنى الاتفاق مبدأ الحكم اللامركزي، مما يمنح المجتمعات المحلية الحق في إدارة شؤونها الداخلية والسيطرة على مواردها دون تدخل مركزي، وهو ما يُعدّ خطوة أساسية نحو تحقيق توزيع عادل لفرص التنمية بين أقاليم السودان المختلفة. لطالما شكّلت التنمية غير المتوازنة، إلى جانب احتكار المركز للسلطة والثروة، أحد الدوافع الرئيسية وراء لجوء بعض المجموعات في المناطق المهمشة إلى الصراع المسلح ضد الدولة المركزية. ويعود أصل هذا الخلل إلى الحقبة الاستعمارية، حيث قامت الإدارة الاستعمارية بنزع ملكية المجتمعات المحلية للأراضي من خلال تسجيلها كأملاك تابعة للدولة المركزية، إلى جانب إلغاء نظام الإدارة الأهلية التقليدية. ورغم أن الاستعمار أعاد العمل بالإدارة الأهلية لاحقًا، إلا أنه جرّدها من سلطتها الفعلية على الأراضي. واصلت الأنظمة التي أعقبت الاستعمار اعتماد نموذج الحوكمة نفسه، مما جعلها امتدادًا فعليًا للهيمنة المركزية التي أسسها المستعمر. ومن خلال هذا التغيير الجوهري، سيتيح الاتفاق تحرير هذه المناطق من سيطرة المركز، مما يضع أسسًا للعدالة والسلام المستدام. وبهذا، يُترجم الاتفاق فعليًا شعار ثورة ديسمبر 2018: "حرية، سلام، وعدالة."
• خامسًا: نصّ الاتفاق على تمكين المرأة وضمان مساواتها بالرجل، بما يكفل مشاركتها الفاعلة والعادلة في جميع مستويات وأجهزة الحكم (البند 23). ورغم الغياب الملحوظ للنساء عن مراسم التوقيع، وهو مؤشر سلبي يعكس التحديات القائمة، فإن هذا الطابع الذكوري للفعالية لا يعكس بالضرورة إقصاءً ممنهجًا، بقدر ما يُجسد طبيعة الجهات المشاركة في الاتفاق، والتي تضم في معظمها الحركات المسلحة والإدارات الأهلية التقليدية، حيث لا تزال الهيمنة الذكورية سائدة. ومع ذلك، فإن إقرار هذا البند من قبل قيادات تقليدية يُمثل تطورًا إيجابيًا يعكس تنامي الوعي بقضايا المرأة، كما أنه قد يُسهم في تقليل مقاومة هذه الفئات مستقبلاً لأي تشريعات تدعم حقوق النساء، مما يُشكل خطوة جوهرية نحو تحقيق المساواة وتعزيز مشاركة المرأة في الحياة العامة.
و رغم ان الميثاق تضمن حوالي 32 مبدأ رئيسي و كلها تحتاج للتحليل و التقييم الا ان ما سبق ذكره يعتبر ركائز اساسية لتحقيق سودان الحرية و السلام و العدالة الذي بشرت به ثورة ديسمبر 2018 و التي كانت هذه الحرب اخر محاولة من اسلامي النظام المخلوع للقضاء عليها.
دعوة لجعل ميثاق نيروبي لبنة في بناء الوحدة، لا بوابة للانفصال
الحرب الحالية، التي تمثل ذروة الصراعات السودانية، أفضت إلى كارثة غير مسبوقة، خلّفت دمارًا شاملًا طال الدولة والمجتمع. وكان المدنيون—وخاصة النساء والأطفال وكبار السن—الأكثر تضررًا، حيث تعرضوا للقتل والتشريد والعنف الجنسي. ورغم أن إسلاميي النظام المخلوع هم من أسسوا قوات الدعم السريع لحماية حكمهم، ودعموها لسنوات رغم انتهاكاتها الوحشية ضد المدنيين، فإنهم اليوم يصفونها بالمتمردين والمرتزقة، متهمين إياها بإشعال الحرب للاستيلاء على السلطة. وقد وجدت هذه السردية قبولًا في الخرطوم ووسط السودان، حيث لم يعايش سكان هذه المناطق ويلات الحروب السابقة، مما عمّق الانقسام مع مجتمعات غرب السودان، خاصة القبائل العربية التي ينحدر منها قادة الدعم السريع.
تصاعد الانقسام في السودان بفعل انتشار خطاب الكراهية في وسائل التواصل الاجتماعي، الذي يعمّق الشرخ في الوجدان السوداني ويمهّد للانفصال، وهو الخيار الذي بات مفضلًا لإسلاميي النظام المخلوع بعد فشلهم في هزيمة قوات الدعم السريع. في هذا السياق، نشأت ميليشيات قبلية وجهادية جديدة في شرق ووسط وشمال السودان، رغم التجربة المريرة لقوات الدعم السريع. وارتكبت هذه الميلشيات انتهاكات جسيمة ضد أبناء غرب السودان وجنوبه، خصوصًا في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش وتلك التي استعادها في ولايات الجزيرة والخرطوم وسنار، حيث وقعت جرائم قتل واعتداءات وحشية على النساء، مما يعيد إنتاج الفظائع السابقة. حتى لو تحقق انفصال غرب السودان، تلوح مؤشرات على احتمال تمرد ميليشيات قبلية ومناطقية جديدة ضد قيادة الجيش، كما يحدث في شرق السودان، ما ينذر بمزيد من التفكك وانعدام الاستقرار، حتى بعد الانفصال.
لا سيما ان السودان، بفضل موقعه الجيوسياسي المتميز وموارده الوفيرة—من أراضٍ شاسعة ومياه ومعادن وغيرها—أصبح محط أطماع القوى الخارجية، التي لا يعنيها مصير شعبه بقدر ما تسعى إلى تحقيق مصالحها. سواء عبر القتل المباشر بآلة الحرب، أو بوسائل غير مباشرة كالتشريد، المرض، الجوع، والحزن، فإن معاناة السودانيين لا تشكل عائقًا أمام هذا النهم الاستعماري الجديد، الذي لا يرى في السودان سوى ساحة لتحقيق المكاسب. لبذا فإن استمرار الحرب يشكل التهديد الأكبر لوحدة السودان، ويعرضه للتقسيم من أي وقت مضى. وفي ظل تعثر المفاوضات بسبب تدخل إسلاميي النظام المخلوع، تصاعدت تهديدات قوات الدعم السريع باجتياح مناطق نهر النيل والشمالية، باعتبارها معاقل لقادة الجيش. وهو ما ينذر بمزيد من التصعيد، خاصة مع حصول الطرفين على أسلحة نوعية، مما يجعل البلاد ساحة لصراعات إقليمية ودولية.
هناك مسؤولية تاريخية تقع على عاتق القوى السياسية والمدنية، لا سيما المؤمنين بالتحول الديمقراطي، لتقديم رؤية موحدة تساهم في انتشال السودان من أزمته الراهنة، وحماية شعبه وموارده، والمحافظة على وحدته. ومع ذلك، لا تزال هذه القوى تعاني من الانقسامات، وكان آخرها انقسام تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية "تقدّم" إلى مجموعتين، عقب نقاشات حول إمكانية تشكيل حكومة موازية في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع. والتي تم حرمان سكانها من الخدمات الحكومية، بدعوى موالاتهم لهذه القوات، بل وأصبحوا هدفًا للقصف بالبراميل المتفجرة بدلًا من تلقي المساعدات. رفضت مجموعة "صمود" فكرة تشكيل حكومة موازية، خشية أن يؤدي ذلك إلى تقسيم السودان إلى دولتين، وسعيًا لتجنب الظهور في موقف منحاز لقوات الدعم السريع. في المقابل، اتخذت مجموعة "تأسيس" قرارًا جريئًا بالوقوف إلى جانب المدنيين في مناطق سيطرة الدعم السريع، لكنها تجاوزت ذلك بخطوة متقدمة وضرورية عبر تقديم ميثاق لتأسيس سودان ما بعد الحرب.
لذا ينبغي اغتنام هذه الفرصة الثمينة والانضمام إلى هذا الميثاق، الذي قد يكون الفرصة الأخيرة لإنقاذ الوطن من التمزق، لا سيما أنه يحظى بدعم كتلة تاريخية من المناطق التي عانت من التهميش وويلات الحروب لعقود. من المعروف أن قوى التغيير الجذري، التي لم تكن جزءا من "تقدّم"، كانت قد قدمت قبل الحرب ميثاقًا يحمل معظم مبادئ الميثاق التأسيسي. لكنه كان مشروعًا فوقيًا روّجت له نخب سياسية يسارية متمركزة في المدن الكبرى، غير قادرة علي حشد القواعد الشعبية، خاصة في الريف ومناطق الإنتاج التقليدي وهو ما نجح فيه هذا الاتفاق. لذلك، وبدلًا من رفض هذا الميثاق وإطلاق الأحكام المسبقة عليه، بدعوى أنه قد يؤدي إلى تقسيم البلاد، يجب النظر إليه بموضوعية وتقدير الاختراقات التي حققها، لا سيما في القضايا الخلافية مثل الدولة العلمانية التي كان التوافق حولها شبه مستحيل، خاصة بين القوى التقليدية. المهدد الحقيقي لتقسيم البلاد ليس الميثاق التأسيسي ولا الحكومة الموازية، بل الانقسام المناطقي داخل "تقدّم"، باستثناء قلة من السياسيين من الوسط والشمال والشرق، الذين قد يسهمون في وحدة السودان وحمايته من التفكك.
رفض الانضمام إلى الميثاق خشية الاتهام بدعم قوات الدعم السريع غير مبرر، فبرغم جرائمها، تظل جزءًا من الوطن وتمثل كتلة اجتماعية واسعة لا يمكن تجاهلها إذا كان الهدف هو إحلال السلام والحفاظ على وحدة البلاد. شهد السودان حروبًا دامية ارتُكبت خلالها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في الجنوب ودارفور، لكنها انتهت باتفاقات سلام بين القادة المتحاربين. لذا، لا ينبغي الانجرار وراء حملات التشويه الإعلامي ضد الموقعين على الميثاق، فهو يمثل تهديدًا مباشرًا لطموحات الإسلاميين الساعين لإعادة ترسيخ نظامهم الشمولي. في المقابل، لعبت قيادة الدعم السريع دورًا محوريًا في التوافق على الميثاق، وستؤكد الايام التزامهم به. و تعهد قائدها لعبد العزيز الحلو بتبني رؤية "الحركة الشعبية" للسودان الجديد، التي تشكل أساس هذا الميثاق. كما نجحت في إقناع القيادات الأهلية التقليدية بالتوقيع عليه، رغم تضمنه بنودًا جوهرية مثل فصل الدين عن الدولة، مما يعكس تحولًا جذريًا في بنية الدولة السودانية.
لا ينبغي لخطاب الكراهية المتفشي في وسائل الإعلام، ولا لمشاعر الغضب الناجمة عن الخسائر، ولا للمصالح الضيقة، أن تعمي بصيرة قادة القوى السياسية والمدنية، لا سيما المنحدرين من الشمال والوسط، عن أهمية هذا الميثاق التاريخي. المطلوب اليوم هو التحلي بالشجاعة، وتجاوز النزعات الأنانية والتفكير الحزبي الضيق، اللذين ساهما في تفاقم الأزمة وأعاقا الوصول إلى حلول مستدامة. فالتغيير المنصف و المستدام ينطلق من رؤية وطنية شاملة، تعالج جذور الأزمة السودانية من مختلف الأبعاد—التاريخية، والجغرافية، والمظالم المتراكمة—بهدف الحفاظ على وحدة السودان، وحماية شعبه من انتهاكات الحرب.
هذا الميثاق يوفر فرصة ذهبية لخلق إجماع وطني حول رؤية موحدة لسودان جديد، تتضمن دستورًا انتقاليًا، وخطة شاملة، وآليات فعالة لإيقاف الحرب وبناء السلام. و يمكن أن يكون هذا الإجماع نفسه أداةً للضغط على قادة الجيش لفك ارتباطهم بالإسلاميين، الذين يستغلون استمرار الحرب للعبث بمصير البلاد، أملاً في استعادة السلطة. وقد نجحوا بالفعل في إفشال جميع محاولات التفاوض، بما في ذلك تلك التي سعى إليها قادة الجيش سرًا، مثل مفاوضات المنامة. وقد صرّح القائد عبد العزيز الحلو بأن الباب مفتوح أمام قادة الجيش للانضمام إلى الميثاق، إذا تمكنوا من فك ارتباطهم بقادة النظام المخلوع.
يمثل هذا الميثاق طوق نجاة للسودان، ليس فقط لإنهاء الحرب المأساوية، بل أيضًا لإنقاذ البلاد من خطر التفتت والانقسام، ولبناء سودان الحرية والسلام والعدالة، الذي بشرت به ثورة ديسمبر 2018 المجيدة.

marfa_1998@hotmail.com

////////////////////////  

مقالات مشابهة

  • مجلس عُمان يشارك في الجلسة العامة واجتماعات اللجان الدائمة للبرلمان العربي
  • وصول الطلمبات الجديدة لمحطة مياه مدني الرئيسية لتنفيذ المرحلة الثانية
  • حماس: لا توجد حاليا أي مفاوضات مع الحركة بشأن المرحلة الثانية
  • الكويت تعرب عن رفضها لأي إجراءات تتم خارج إطار مؤسسات الدولة الرسمية في السودان
  • الكويت تعرب عن رفضها لأية إجراءات غير شرعية تتم خارج إطار مؤسسات الدولة الرسمية في السودان
  • منصور بن زايد يهنئ شعب الإمارات والشعوب الإسلامية بحلول رمضان
  • ميثاق نيروبي: ليكن لبنة في بناء الوحدة، لا بوابة للانفصال
  • رئيس جامعة حلوان يهنئ الرئيس السيسي والأمة الإسلامية بحلول شهر رمضان المبارك
  • رئيس الدولة: التعليم أساس التحول التنموي الذي نعمل عليه للحاضر والمستقبل
  • الأمين العام لـ التعاون الإسلامي يستقبل المندوب الفلسطيني الجديد