ناجون من مجزرة وطى الخيام يروون مأساة فقد ذويهم ومنع انتشال جثثهم
تاريخ النشر: 12th, November 2024 GMT
البقاع- "قتلوا أهلي وإخوتي وأقاربي، يا حسرتي عليهم" بهذه العبارات تتحدث الشابة كاملة علي المحمد عن مجزرة "وطى الخيام" الجنوبية، وإلى جانبها بقيّة من سَلِم من عائلتها النازحة إلى مركز إيواء في البقاع الغربي، هربا من الغارات الإسرائيلية المستمرة على البلاد منذ ما يزيد على عام ونيف.
ووقعت المجزرة عندما استهدفت الغارات الإسرائيلية عدة منازل لعائلة المحمد في 28 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مما أدى لاستشهاد 21 مواطنا جُلهم من المُسنين والنساء والأطفال، بينما حال رصاص القناصة الإسرائيليين بين الناجين وبين سحب جثث ذويهم من تحت الأنقاض لمدة 11 يوما.
تستذكر كاملة (25 سنة) اللحظات الأخيرة في وداع أهلها قبيل مغادرتهم مركز نزوح في البقاع إلى "وطى الخيام" لتفقّد منازلهم وأماكن عملهم، وتقول "ودعتهم فرداً فردا، عانقتهم بشدة، كنت خائفة جداً، ربت أبي على كتفي قائلا: لا تخافي يا ابنتي نتفقد منازلنا ونرجع، وكانت هذه آخر عبارة سمعتها منه، كلماته لم تُدخل الاطمئنان إلى قلبي، بل ازداد خوفي، وانتابني إحساس غريب بأن رحلتهم طويلة".
وتضيف في حديثها للجزيرة نت أن المجزرة وقعت بعد يوم من وصول ذويها للمنطقة، وأن جثثهم أصبحت حبيسة تحت ركام المنازل التي تم قصفها.
وتصف شعورها آنذاك قائلة "اجتاحتني صور كثيرة لأبي وأمي وإخوتي تحت الركام، وارتسم مشهد قاسٍ في مخيلتي، طردته ثم عاد مجدداً، فنفضته عني لأستعيد وجوههم الباسمة زمن التئام العائلة في الدار أو في سهراتنا".
وتقول كاملة "بكيت كثيراً، بكيت دماً، سألت نفسي هل حقاً قتلوا؟ أأنا في واقع أم في حلم قاسٍ؟ وبماذا يشعرون الآن؟ آخ يا وجعي".
وعند سؤالها إن كانت تستطيع بلوغ "وطى الخيام" مع أقاربها لانتشال الجثث، أجابت كاملة بحسرة أنها لم تستطع الوصول إلى المنطقة بحكم تمركز الدبابات الإسرائيلية فيها لمدة 10 أيام، وتقول إنها ذاقت فيها المر، وتضيف "كانت المصيبة تكبر كل يوم، حتى أن انتشال جثثهم لم يخفف من هول الكارثة، فراقهم صعب وقاس".
تُعد مجزرة "وطى الخيام" واحدة من عشرات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في لبنان حاصدا عائلات بأكملها، لكن ما جعلها مختلفة هو احتجاز قوات الاحتلال جثث مدنيين وأطفال تحت الركام، دون السماح بانتشالها إلا بعد مفاوضات مع الصليب الأحمر الدولي وقوات "يونيفيل" والصليب الأحمر اللبناني.
ويقول هشام المحمد (31 عاما) الوحيد الناجي من عائلة علي دياب المحمد، متسائلا "لا أصدق ما حصل معنا، هل صحيح أنهم رحلوا إلى غير رجعة؟ ما ذنبهم؟ ما ذنبنا؟ كيف كانت حالهم تحت ذلك الركام؟ بماذا شعروا؟ وماذا قالوا قبل لقاء ربهم؟ هكذا غادرونا كنسمة عابرة، يا الله".
وأضاف في حديثه للجزيرة نت "قُتل أبي وأمي و7 من إخوتي الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 19 و35 عاما، وقتل عمي خالد وزوجته وأولاده الخمسة وزوجة ابنه و3 من أحفاده تتراوح أعمارهم بين 6 أشهر و3 سنوات، إضافة لشاب سوري يعمل معنا يدعى باسم التاجر، ولم يتبقّ من عائلة عمي خالد سوى ابنه حمزة".
ولم تقتصر خسارة عائلة المحمد على فقد ذويهم، بل تسببت الغارات بخسائر مادية كبيرة، ويشرح هشام "كل شيء تهدم في الوطى، منازلنا ومصادر المياه والبنى التحتية المتواضعة ومزارعنا التي كنا نربي فيها الأغنام والماعز، لم يتبقّ منها شيء" مؤكدا أن كل تلك الخسائر البشرية والمادية لن تمنعه من العودة فور استتباب الوضع ليعيد بناء ما تهدم. وقال "لن ننكسر، سنعيد وطى الخيام إلى سابق عهدها".
وسبق أن تعرضت "وطى الخيام" لاعتداء إسرائيلي مشابهة في حرب 2006، تعرض خلالها التجمع السكاني لعائلة المحمد تحديدا لدمار في الممتلكات لكنه كان أقل قسوة.
وتقول عليا المولى الناجية من عدوان 2006، والتي استشهد زوجها آنذاك، إن "ما حصل في العدوان الحالي لا يتصوره عقل، لقد أبلغونا ليلة 28 من أكتوبر/تشرين الأول أن ذوينا محاصرون، وفيما بعد قالوا لنا إنهم استشهدوا، لقد دفنوا مرتين مرة تحت الردم وأخرى تحت التراب، عشت أياما سوداء لم أعرفها في حياتي" مؤكدة أنها لم تستطع النوم طوال فترة احتجاز هذه الجثث.
كان عبدو عبد العال الذي يقع منزله على مسافة 500 متر من البلدة شاهدا على لحظات قصف منازل وطى الخيام قبيل ساعات من تقدم الدبابات الإسرائيلية نحوها.
ويستعيد عبد العال تلك اللحظات قائلاً "كانت الساعة 7 مساء عندما سمعنا أصوات طائرات حربية في سماء المنطقة، وفي موازاتها كنا نسمع من بعيد أصوات تبادل إطلاق المدفعية والصواريخ بين المقاومة والعدو الإسرائيلي، فجأة دوى انفجار قوي جداً أعقبه انفجارات متتالية، صبت جميعها فوق منازل الوطى".
وأضاف -في حديثه للجزيرة نت- أن القصف اشتد واستحال على أي من الأفراد أو سيارات الإسعاف الوصول إلى المنطقة، وبقي الوضع على حاله لساعات طويلة، لكنهم نجحوا اليوم التالي بالدخول وانتشال جثث 5 شهداء قبل أن يعاود الطيران الإسرائيلي القصف، فاضطروا للمغادرة وبقيت جثث بقية الشهداء محتجزة حتى الجمعة الماضية.
ويؤكد عبد العال أن "مجزرة وطى الخيام تعد واحدة من عشرات المجازر التي ارتكبها العدو الإسرائيلي، وستبقى في سجله الأسود كغيرها من المجازر التي يرتكبها اليوم في لبنان".
وقد أسفر العدوان الإسرائيلي على لبنان منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 عن ما يزيد على 3 آلاف و136 شهيدا ونحو 14 ألف جريح، بينهم عدد كبير من الأطفال والنساء، فضلا عن نحو 1.4 مليون نازح.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات وطى الخیام عبد العال
إقرأ أيضاً:
سيدات الخيام.. كيف تخفي الخيمة مآسي الأمومة المتعبة بغزة؟
غزة- في خيمتها فوق ركام بيتها المدمر في بيت حانون، كانت أم جود الحويحي تمسك طبقا من حساء العدس، تدسُّ لقمة في فم ولدها، ثم بذات الملعقة تطعم الآخر، تدندن لهما في سباق "فم الأسد" لمن سيفتح فمه على اتساعه لملعقة الطعام التي عبّأتها بعناية.
تنهمك بالغناء غير آبهة بمناشير الإخلاء التي كان قد أسقطها الاحتلال على رؤوسهم صباح ذلك اليوم، فهي لم تلبث وقد شعرت بشيء من الاستقرار فوق بيتها -بعد النزوح لعام كامل في خيام المواصي جنوب القطاع- حتى عاجلها بأمر نزوح جديد.
وبينما هي كذلك إذ بدأ الرصاص ينهمر فوق رؤوسهم ورؤوس من في الخيام حولهم، فاخترقت رصاصة من طائرة مسيرة ذراع ولدها جود، لتضطر للخروج قسرا تحت تهديد النار الإسرائيلية.
قابلت الجزيرة نت أم جود بعد نزوحها من بيت حانون إلى غرب غزة، وهي ترتب حاجياتها القليلة التي تمكّن زوجها من حملها لحظة هروبهم من المكان، تحمل الرصاصة التي انتزعها الأطباء من ذراع طفلها بيدها، وتقول "كانت هذه الرصاصة كفيلة بأخذ قرارنا بالخروج".
حمل أبو جود خيمته من الشمال ونصبها على الرصيف، فلا بديل آخر في ظل اكتظاظ المدارس ومراكز الإيواء، تقول أم جود "أضحت الخيمة وشادر النايلون الذي يقينا الشتاء ثروتنا اليوم وكل ما نملك، وهما يعادلان الروح في أي نزوح لنا".
على الناحية المقابلة، تجلس رباب أمام خيمتها وتضع حفيدها في حجرها، وبعينين كالجمر وذهن شارد تنظر إلى بيت لاهيا حيث رفض أبناؤها الخروج، وتقول للجزيرة نت وهي تشير لأحفادها "هؤلاء أولادهم ونساؤهم، ونحن هنا بلا رجال، فآراؤنا انقسمت بين مؤيد للنزوح ومعارض، إلى أن قرر زوجي البقاء، وخرجنا نحن النساء بأطفالنا الذين لم يتوقفوا عن البكاء خوفا".
إعلانتبكي رباب وهي تقف أمام طوفان من العجز، وتقول "رضينا بالهم والهم ما رضي فينا، لقد رضينا العيش على أكوام من القمامة على ركام بيوتنا، ولكن حتى هذا الوضع لم نستقر عليه، لعن الله الحرب كم أذلتنا وشتّتتنا وأهانتنا".
لا يستجيب الغزيون لمناشير الاحتلال التي تسقطها طائراته المسيرة، ولا يتعاطون معها في غالب الأحيان، وهو الأمر الذي تعرفه إسرائيل، فتضطر لإخراجهم عنوة وبالقوة من خلال قصفها المدفعي أو إطلاقها الرصاص المباشر من الآليات أو المسيرات، أو من خلال رمي قنابل الإنارة عليهم بشكل مباشر.
وهذا ما حدث مع أم أحمد الحويحي، حيث انهالت على خيمتها قنابل الإنارة فاشتعل خوفهم من اندلاع الحرائق فيها، الأمر الذي دفعهم للخروج.
تتعدى تكاليف النزوح البعد المعنوي في نفوس الغزيين إلى حمل هم تكاليفه المادية، تقول أم أحمد "رغم خشيتي من اشتعال الخيمة إلا أنني ترددت في قرار نزوحنا الذي سيكلفنا أكثر من 250 دولارا أميركيا، مقابل استئجار سيارة لنقل الخيام والحاجيات، وهو مبلغ لم نكن نمتلكه حرفيا".
تقاطعها شقيقتها "لقد استخدمتُ المال الذي كنتُ قد ادخرته لشراء ملابس العيد لأطفالي، ودفعته أجرة لنقل مقتنيات النزوح".
في الأروقة بين الخيام ثمة رائحة عطرة تنبعث من إحداها، وهو أمر لافت في هذا الواقع البائس، دخلت الجزيرة نت إليها، كانت أرضيتها مفروشة بالحصير المزركش، ومن الفراش رتبت قعدة أرضية عربية، أغطية مرتبة وملابس مطوية بعناية، وأخرى معلقة على حديد الخيمة، كل زاوية فيها مخصصة لغرض معين، تعلق سيدة المكان "النظيف نظيف أينما حل".
تحدثت أم يوسف للجزيرة نت عن روتين الأمهات في الخيام خلال رمضان، الذي يعد الأقسى عليهن، لتزامنه مع استئناف الحرب بعد شهرين هدأت فيهما قلوبهن من الشعور بالرعب، حيث تكالبت عليهن فيه المجاعة والنزوح والحصار والموت، في وقت يشعرن فيه باستنزاف الروح وإنهاك الجسد كما يقلن.
إعلانتقول أم أحمد "لا شيء نفعله في نهارنا سوى السعي وراء فتات حياة كريمة"، تكمل وهي تفتح كفيها مباعدة بين أصابعها "اهترأت أيدينا من الخَبْز والعجن والطهو على الحطب وغسل الملابس".
وبينما يُعرف رمضان حول العالم بتنوع الأطعمة والأشربة على سُفَره الممتدة، تعتمد عائلات الخيام ومنذ اليوم الأول من رمضان على طعام التكايا، وهو في غالب الأوقات أطباق من الأرز الخالي من اللحوم أو الدجاج، تقول أم أحمد "عافت أنفسنا تناول نفس الطبق ونحن صائمون، صرنا نجد صعوبة في بلعه، حتى إن أبنائي صاروا يرفضون تناوله، فصرت أعد لهم الحمص أو الحساء إن توفر".
لا مقومات للحياةفي الخيام لا تغفل عيون الأمهات ولا تهدأ قلوبهن، وعند سؤال الجزيرة نت عددا منهن عن أكثر ما يخيفهن في حياة الخيمة، توحدت إجاباتهن "الليل، نكره الليل!".
وعددن أسباب ذلك؛ فهن يكرهن فيه صوت الطائرات المرعب، والبرد الذي يلفحهن وأطفالهن، ونبح الكلاب الذي يؤرقهن، ومشاهد اشتعال الخيام التي لا تخبو في ذاكرتهن، وأسئلة تقض مضاجعهن عن طبق السحور، ماذا سيهيّئن له وكيف سيشعلن الحطب فجرا لتحضيره؟
تبدو الرفاهيات في هذا الوسط معدومة، حتى أدنى المقومات الأساسية للحياة الكريمة مفقودة، فالناس يبحثون هنا عما يعينهم على البقاء فقط، ويرضون بالفتات، "لا نعيش كآدميين، لا نحصّل حقّا واحدا من الحقوق المكفولة للبشر، يبدو أن العالم يتعامل معنا كقطيع من البهائم"، تقول أم أنس حمد بكل حرقة.
وتتابع وهي تشير إلى طفلها "عمر أنس (8 أعوام)، بدأت الحرب وهو في الصف الأول، ومن المفترض أن يكون في الصف الثالث، لكنه اليوم لا يفقه شيئا سوى الوقوف على طوابير التكايا وتعبئة الماء وجمع الحطب"، تقاطعها ابنتها ديالا (13عاما) باندفاع "يوم نزوحنا كان من المفترض أن أقوم بتقديم امتحاناتي إلكترونيا، لكن النزوح حرمني فرصة تقديمها، وخسرت الفصل الدراسي كله، فلا كهرباء هنا ولا إنترنت".
إعلانتتساءل ديالا والدموع تملأ عينيها "هل من المنطقي أن أطالب أنا الطفلة باستقرار؟! أريد أن أستقر ولا أريد العيش في الشارع، فمنذ عامين نزحنا أكثر من 18 مرة متنقلين في شمال القطاع وجنوبه"، ثم تنهمر بالبكاء.
اقتربت منها والدتها محاولة مواساتها وهي تحتضنها قائلة "قولي لهم كيف تمكنت من حفظ القرآن كاملا خلال حصار الشمال، قولي لهم كيف صرت ست بيت معدلة"، تتمتم الأم والدموع تنحبس من عينيها "ستفرج يا أمي ستفرج، فدوام الحال من المحال".