أربق.. واجهة مطرح البحرية
تاريخ النشر: 12th, November 2024 GMT
أنور الخنجري
alkhanjarianwar@gmail.com
الأديم المُترامي الواقع بين جبلين في أقصى شمال مدينة مطرح العتيقة ما زالت آثاره غارقة في مكنون أحلامنا ورذاذ ذكرياتنا القليلة المتبقية عن هذه القرية الوادعة المطلة على بحر عُمان والتي كانت تعرف قديمًا باسم "أربق".
هذا المكان وما يحويه في ذلك الزمان، أشار إليه عدد قليل جدا من الكتاب الذين حاولوا كشف الغمة في معرفة سر الأقوام التي استوطنت هذا الجزء من مطرح، وخير من أشار إلى ذلك هو المؤرخ البريطاني "جي جي لومير" في عام 1908 حين أشار في معجمه الجغرافي عن بلدان الخليج "أن (أربق) قرية صغيرة تقع على الشاطئ يقطنها أبناء قبيلة بني زراف وجلهم من البحارة والتجار الذين يبحرون للهند .
ونظرًا لندرة المعلومات المتوفرة عن "أربق" وتعطش الكثير من المهتمين بمعرفة سر خفوت صيتها وهجرة أهلها؟، نحاول في هذا السياق استرجاع ما تختزنه ذاكرة كبار السن من رجال جارتها "حارة الشمال" عن مشاهد كانت قائمة خلال أربعينيات وستينيات القرن الماضي، وهي أن "أربق"، كانت مأهولة بأطياف متعددة من العائلات البارزة وإن كان "بني زراف" هم الأكثر شهرة بحكم ما فتح الله لهم من خير وفير وعيش رغيد، الأمر الذي أدى إلى ارتباط اسم عائلة الزرافي بالمكان وحمل من كان يقيم منهم هناك لقب "الأربقي".
ومن المشاهد التي كانت حاضرة في تلك الفترة أن لـ"أربق" مسجدين أحدهما في الجهة الشرقية المواجهة للبحر والآخر في الجهة الغربية على الطريق المؤدية إلى قرية "شطيفي"، كما كان هناك بئرين للمياه العذبة يستقي منهما الأهالي أحدهما بالقرب من المسجد الواقع في الجهة الغربية من القرية والقريب من "عين زجاجوه" وهي عين ماء دافقة كانت تقع على المنفذ المؤدي إلى قرية "عينت" القريبة. كما توجد في "أربق" مقبرة قديمة للأهالي تحتضن تُربة العديد من أهل المنطقة، أما في أقصى الطرف الشمالي من الساحل تقع محرقة (البانيان) الذين كانوا يحرقون فيها موتاهم حسب الطقوس الهندوسية المعروفة، وفي المقابل تقف قلعة "أربق" شامخة على قمة الجبل متسيدة المكان ومشكلة مع قلعة مطرح طوقًا أمنيًا لحماية البندر.
لقد كانت "أربق" في سالف الزمان تحوي الدور الباهية بشرفاتها وإطلالاتها البحرية الشبيهة ببيوت جاراتها من حارات مطرح القديمة، وتشير بعض المصادر أنه بعد اندثار أغلب مباني "أربق" وتحولها إلى أطلال، بقيت فيها داران قاومتا غدر الزمن وجوره إحداهما لعائلة الزرافي في حين كانت الأخرى لأحد العائلات من القواسم، وكانت دار الزرافي مبنية من الحجارة والجص العُماني وأفخر أنواع الخشب الذي كانت قد جلبته العائلة من الهند. وبعد أن جار الزمن على "أربق" واندثارها اضطر الأربقي في النهاية إلى بيع داره لأحد العائلات التجارية الميسورة في مطرح لإستخدام ما يصلح من حجارتها و جصها وخشبها لبناء دار جديدة في إحدى حارات مطرح القديمة، وهكذا كان الزرافي والقاسمي آخر من غادرا "أربق" للأبد وبالتالي اندثرت "أربق" وولت أثرا بعد عين.
على إثر ذلك، تحول المكان إلى قفار واطلال واستخدمت ساحاته من قبل الصيادين لتجفيف أسماك (السردين)، كما أستخدم في أيام المحن كملجأ لأهالي مطرح من الحرائق، إضافة إلى أنه كان حجرا صحيا في أزمنة وباء الجدري والطاعون، وفي وقت لاحق، اهتم به شباب حارة الشمال وكانت لهم و للعديد من الأسر المطرحية الملجأ والمنتجع الذي يقضون على رماله الذهبية أجمل أوقاتهم في الترفيه والاستجمام وممارسة هواية السباحة وصيد الأسماك، كما أنشئت فيها ملاعب ترابية لممارسة لعبتي كرة القدم والهوكي اللتين أخذتا في الانتشار في تلك الفترة.
بعد اكتشاف النفط في عُمان والبدء في تصديره في عام 1967، أعلن السلطان سعيد بن تيمور في خطابه المشهور في عام 1968 عن مجموعة من المشاريع الإصلاحية، وبذلك تم تكليف شركة استشارية بريطانية لدراسة أفضل السبل لتطوير مرافق الموانئ في مدينتي مسقط ومطرح، ووقع الاختيار على بناء ميناء تجاري حديث في هذه البقعة المندثرة من أرض "أربق"، إلّا أن ذلك المشروع تأخر قليلا حتى بداية عصر النهضة المباركة في عام 1970، حين بدأت الآلات الضخمة ومتفجرات الديناميت في دك الجبال دكًا والقضاء على ما تبقى من الأطلال، وهكذا طُويت صفحة أربق للأبد، بعد أن كانت في آخر عهودها متنفسًا لأبناء مدينة مطرح وما جاورها، وحل مكان أطلالها ميناء السلطان قابوس الذي اكتمل بناؤه في عام 1974، وفي عام 2011 جاءت الأوامر السامية بتحويله إلى ميناء سياحي، ثم في عام 2016 أُعلن رسميًا عن إنشاء واجهة بحرية مكتملة المرافق والبنيان في هذا الموقع الحيوي، إلّا أن هذا الحلم بقي يراوح مكانه رغم تعاقب العديد من الإدارات والشركات والكثير من الخطط والإستراتيجيات الورقية التي كلها لم تفلح حتى الآن في استغلال هذا المرفق كواجهة بحرية سياحية كما تم الترويج له في العديد من المناسبات ولم تر أي منها النور حتى كتابة هذه السطور وبالتالي لم تحقق طموحات المطرحيين في مشاهدة حلم الواجهة البحرية السياحية على أرض الواقع.
ونحن نتساءل كما يتساءل العديد من المواطنين ونبحث عن إجابات شافية عن الإخفاقات المتكررة لهذا المشروع الحيوي الذي كان يعوَّل عليه الكثير لرفد ميزانية الدولة وتوجهها لتنويع مصادر الدخل حسب رؤية "عُمان 2040"، فهل يا ترى سيتحقق مشروع واجهة مطرح البحرية في يوم ما؟!
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
نهاية الديمقراطية في الولايات المتحدة كانت متوقعة تماما
مثلي كمثل آخرين، منذ أواخر ليلة الثلاثاء، كان هاتفي يعج بالرسائل النصية التي تتساءل كيف من الممكن أن يحدث هذا (كما يعلم بعض أصدقائي وزملائي ومعارفي، كنت مقتنعا تماما بأن دونالد ترامب سيفوز في هذه الانتخابات بسهولة). وبدلا من الرد بالتفصيل على كل رسالة، أقدم لكم تفسيري هنا. على مدى 2300 عام، منذ جمهورية أفلاطون على الأقل، عرف الفلاسفة كيف يفوز زعماء الدهماء والطغاة الطامحون بالانتخابات الديمقراطية. العملية واضحة ومباشرة، وقد شاهدنا فصولها تتوالى أمام أعيننا للتو. في نظام ديمقراطي، يتمتع أي شخص بحرية الترشح لأي منصب عام، بما في ذلك الأشخاص غير اللائقين على الإطلاق لقيادة أو رئاسة مؤسسات الحكومة. إحدى العلامات الواضحة على عدم اللياقة الاستعداد للكذب بكل حماسة وجموح، وتحديدا من خلال تقديم الذات كمدافع ضد أعداء الشعب المتصورين، سواء الخارجيين أو الداخليين. رأى أفلاطون أن الناس العاديين يسهل التحكم فيهم باللعب على عواطفهم، وهُـم بالتالي عُـرضة لمثل هذا النوع من مخاطبة المشاعر ــ وهي الحجة التي تشكل الأساس الحقيقي للفلسفة السياسية الديمقراطية (كما زعمت في عمل سابق). أدرك الفلاسفة دوما أيضا أن هذا النوع من السياسات ليس بالضرورة مقدرا له أن ينجح. فكما زعم جان جاك روسو، تُـصـبِـح الديمقراطية في أشد حالاتها ضعفا عندما يصبح التفاوت في المجتمع راسخا وسافرا بدرجة مفرطة. تعمل الفوارق الاجتماعية والاقتصادية العميقة على خلق الظروف التي تسمح لزعماء الدهماء باستغلال استياء الناس وسخطهم، فتسقط الديمقراطية في نهاية المطاف على النحو الذي وصفه أفلاطون. وعلى هذا فقد خلص روسو إلى أن الديمقراطية تستلزم المساواة الواسعة الانتشار؛ فآنذاك فقط يصبح من غير الممكن استغلال استياء الناس بهذه السهولة. في عملي، حاولت أن أصف بالتفصيل الدقيق لماذا وكيف يتقبل الناس الذين يشعرون بأنهم مُـسـتَـخَف بهم أو مهانون (ماديا أو اجتماعيا) الأمراض ــ مثل العنصرية، ورهاب المثلية الجنسية، وكراهية النساء، والقومية العرقية، والتعصب الديني ــ التي يرفضونها في ظل ظروف يغلب عليها قدر أعظم من المساواة. هذه على وجه التحديد الظروف المادية اللازمة لديمقراطية موفورة الصحة ومستقرة والتي تفتقر إليها الولايات المتحدة اليوم. في الأغلب الأعم، أصبحت أميركا تُعرَّف على نحو فريد من خلال التفاوت الهائل في الثروة، وهي الظاهرة التي لا بد وأن تقوض التماسك الاجتماعي وتعمل على توليد الاستياء والسخط. استنادا إلى 2300 عام من الفلسفة السياسية الديمقراطية التي تشير إلى أن الديمقراطية من غير الممكن أن تدوم في ظل مثل هذه الظروف، فلا ينبغي لأحد أن يفاجأ بنتيجة انتخابات عام 2024. قد يتساءل المرء، ولكن لماذا لم يحدث هذا بالفعل في الولايات المتحدة؟ يتلخص السبب الرئيسي في وجود اتفاق ضمني بين الساسة على عدم الانخراط في مثل هذا الشكل غير العادي من أشكال السياسة العنيفة الـمُـحـدِثة للـفُرقة والانقسام. هل تذكرون انتخابات عام 2008. كان بوسع جون ماكين، المرشح الجمهوري، أن يلجأ إلى الصور النمطية العنصرية أو نظريات المؤامرة حول مولد باراك أوباما، لكنه رفض سلوك هذا المسار، وصحح في مناسبة شهيرة واحدة من أنصاره عندما اقترحت أن المرشح الديمقراطي كان «عربيا» مولودا في الخارج. خسر ماكين، لكنه يُذكَر باعتباره رجل دولة أمريكيا يتمتع بنزاهة لا تشوبها شائبة. بطبيعة الحال، يلجأ الساسة الأمريكيون على نحو منتظم ولكن بقدر أعظم من الدهاء إلى مخاطبة مشاعر العنصرية ورهاب المثلية الجنسية للفوز بالانتخابات؛ فهي في نهاية المطاف استراتيجية ناجحة. لكن الاتفاق الضمني على الامتناع عن ممارسة مثل هذه السياسة صراحة ــ ما تسميه الـمُـنَـظِّـرة السياسية تالي مندلبرج معيار المساواة ــ استبعد اللجوء إلى مخاطبة الميول العنصرية بشكل أكثر صراحة مما ينبغي. بدلا من هذا، كان من اللازم أن يحدث ذلك من خلال رسائل مستترة، والاستدعاء بالإشارة، والصور النمطية (مثل الحديث عن «الكسل والجريمة في المناطق الداخلية من المدينة»). ولكن في ظل ظروف من التفاوت العميق، يصبح هذا الضرب المشفر من السياسة في نهاية المطاف أقل فعالية من النوع الصريح. ما فعله ترامب منذ عام 2016 هو أنه نَـبَـذَ ذلك الاتفاق الضمني القديم، ووصف المهاجرين بأنهم حشرات طفيلية ومعارضيه السياسيين بأنهم «الأعداء في الداخل». وكما عرف الفلاسفة دائما، فإن مثل هذه السياسة الصريحة التي ترفع شعار «نحن ضدهم»، قد تكون شديدة الفعالية. وعلى هذا فإن الفلسفة السياسية الديمقراطية كانت محقة في تحليلها لظاهرة ترامب. ومن المؤسف أنها تقدم أيضا نبوءة واضحة بما سيأتي لاحقا. وفقا لأفلاطون، فإن الشخص الذي يخوض حملته على هذا النحو سيحكم كطاغية. من كل ما قاله ترامب وفعله أثناء هذه الحملة وفي ولايته الأولى، بوسعنا أن نتوقع صِـدق نبوءة أفلاطون مرة أخرى. إن هيمنة الحزب الجمهوري على جميع سلطات الحكومة من شأنها أن تجعل الولايات المتحدة دولة الحزب الواحد. ربما يقدم المستقبل فرصا عَـرَضية لآخرين للتنافس على السلطة، ولكن أيا كانت المنافسات السياسية التي تنتظرنا، فمن غير المرجح في الأغلب الأعم أن تكون مؤهلة كانتخابات حرة نزيهة. ـ جيسون ستانلي أستاذ الفلسفة في جامعة ييل، ومؤلف كتاب «محو التاريخ: كيف يعيد الفاشيون كتابة الماضي للسيطرة على المستقبل». ـ ـ خدمة بروجيكت سنديكيت |