لجريدة عمان:
2025-04-17@11:39:24 GMT

لُغة لا تموت.. المعلم سما عيسى

تاريخ النشر: 12th, November 2024 GMT

تحتاج الحضارات القوية دوما إلى الاعتراف بجذور تنتسب إليها وتعود، إلى الرجوع إلى ثوابت فكرية وأخلاقية هي محل إجماع واجتماع، هي أصول وإن اختُلف معها، فإنها تظل أرض وفاق للأجيال اللاحقة وصُورا نموذجية تُقْتدى ويُهتدى بها، وهذا دأْبُ أغلب الثقافات التي يتناحرُ مثقفوها ويختلفون فـي التوجهات والأفكار والرؤى، ولكنهم يُؤمنون بمرجع ينتسبون إليه، ولم أجد فـي تجربتي الحياتية والثقافـية والعلمية شخصا متفقا على سعة صدره وقدرة إبداعه وحسن أخلاقه، شبيها بالشاعر الكاتب والمثقف سما عيسى الذي يؤم المختلف ويجمع المتفرق ولا تصدر عنه كلمة السوء، وأحسستُ باحترام أجيال المثقفـين له، وبتنزيله المنزلة التي يستحق وبتقدير كبير له، وبأخْذ فاعل برأيه، وهو الشخص البشوش، المحبوب، على ما يمنحه الشعر من علو ونرجسية هو فـي غنى عنهما.

سما عيسى يحتل منزلة الأب بالنسبة إلى أجيال من الكُتاب العمانيين، وقسطا من كتاب الخليج، وهو أب جامع، لا يُفرقُ، ويُوزع شعورا بالطمأنينة والألفة أينما حل. التقيتُه أول مرة -إن لم تخني الذاكرة- فـي النادي الثقافـي، وكنت أقدم محاضرة هناك، فوجدت شخصا خلوقا أثنى بأُلفة على جهودي، وغمرني بعناية فائقة تحادثا عن الأدب العُماني، ثم التقيته فـي أكثر من مناسبة فـي محافل علمية متعددة، وهو الذي لا يكبر ولا يتكبر ولا يتعالى مثلما يفعل عامة المثقفـين فـي عالم العرب، وإنما تجده أمامك فـي أغلب المناسبات سائلا، مناقشا فـي سكون وهدوء، ومن نكد الدهر أن نظمنا ندوة صغرى حول أدب الرجل، وهو فاتح، مرجع، مؤسس لقصيدة النثر فـي عمان، ومن مؤسسي قصيدة النثر فـي الخليج، وله القصائد الحسان، وله الأثر المرجع فـي تدوين ثقافة كاد النسيان يأكلها، فغابت الندوة، ولم نتمكن من إخراجها فـي كتاب، كما فعلنا مع أغلب الكتاب الذين عقدنا ندوات اهتمت بتجاربهم الأدبية والفكرية، ولم تسع الجامعة من بعد ذلك فـي تأسيس هذا الحدث الهام لارتباطه بشخصية أدبية مؤسسة، ولها وجود فاعل فـي الحياة الأدبية فـي الخليج. عود. تمثل تجربة سما عيسى الأدبية نهجا واقتداء، وعمقُ تجربته الأدبية لا يُرد فحسب إلى أنه من مؤسسي قصيدة النثر، وأنه ممن قاد تجارب الحداثة فـي خليج العرب، بل إلى ما يكتسبه الرجل من علم دقيق بتاريخ المنطقة، وبعادات عُمان وبأساطيرها ومختلف التقاليد الثقافـية السائدة على اختلاف المناطق وتبدل أوجه المعتقدات والعادات والأساطير، وهي الأرضية الأساس التي ميزت طبْعه الأدبي ووسمت تجربته فـي الشعر والنثر. ما زلتُ على يقين، أن فـي عُمان آبارا من الحكايات، ومن الأساطير التي يتقصاها الشعراء، ما زالت هناك وفْرة من المعاني البكْر، التي تحتاج من يمتصها ويُحولها أدبا، هذه البئر من موروث العادات والتقاليد، ومن الأساطير المتراكمة، هي التي نهل منها سما عيسى، وعانق بها عوالم من التجريب ومن ابتكار المعاني. داخل الشعر فلامس جوْهره وأدرك منه تيهه وعالمه العصي، كما لو أنك تُروض حصانا جامحا، كما لو أنك تسترق من الرضيع بسمة، كما لو أنك تبحث عن عشق يائس، تلك هبةُ الشعر أن تُصارعه أبد الدهر ولا تقدر على جموحه أبدا، فهل لشاعر حق ألا يكون وجوديا وألا يعيش الاغتراب والموت والحب فـي شعره؟ وهل لشاعر ألا تكون تجربته مع اللغة صوفـية؟ يبحث عن المعنى فلا يجده إلا فـي عمق الإشارة بديلا عن صراحة العبارة؟ تلك كانت تجربة سما عيسى، وهو الشاعرُ الحق.

لم أرد أن أخصص هذا المقال للحديث عن القيمة الأدبية لنصوص سما عيسى، ذلك أنها قيمة ثابتة وقد كتبت فـيها سابقا، كما لم تكن فـي نيتي أن أتعمق فـي الوقوف على خصائص هذه التجربة وعمقها وأثرها فـي الأدب العماني، بل كانت غايتي الأساس أن أتحدث عن ظاهرة لا نثيرها كثيرا فـيما نكتب، وهي قيمة الرجل ومنزلته فـي نفوس الكُتاب والأدباء، وسلوكه هو مع أجيال لاحقة ومع أشباهه وأمثاله من جيله. كتب سما عيسى من الشعر والنثر والمقالة والسينما ما يركزه منزلة المؤسس، وسلك فـي الحياة أبوة ورعاية تجعله المثال والقدوة والمعلم، وهو الذي أعطى الشعر وهجا وعانق عوالم جامعة بين عمق القدم وألق الحداثة، أعمال فـي الأدب امتدت من سبعينيات القرن الماضي إلى اليوم، راجت وأحبها مريدوه وعشاق نظمه ونثره، منها: «للنساء اللواتي انتظرن طويلا(1974)» - «ماء لجسد الخرافة (1985)»- «نذير بفجيعة ما (1987)»- «مناحة على أرواح عابدات (1990)»- «منفى سلالات الليل (1999)»- «درب التبانة (2001)»- «ولقد نظرتك هالة من نور (2006)»- «أبواب أغلقتها الريح (2008)»- « دم العاشق (2011)»- «أغنية حب إلى ليلى فخرو (2012)»- «استيقظي أيتها الحديقة (2018)»- «كيف نضحك أمام القتلة؟ (2024)». هذا بعض من وفـير ما أنتجه سما عيسى، وكل كتاب حامل لمشروع فـي الكتابة ولرؤية يختص بها، ولا أحب أن تُختصر تجربةُ سما فـي التفاعل الصوفـي، ذلك أن الصوفـية عمق وليست سمة، بل هي رفض للمعنى وبعث لعميق الإدراك والإحساس والشعور بالوجد الذي يعسر أن يحمله المعنى، ودوما كان الشعر أعمق من ظاهر المعنى وأقدر على بعث الوعي بالمعاني قبل أن تحملها الألفاظ، وقد قيل إن تجربة التوحد بين الذاتين ظهرت فـي شعر المجنون قبل أن ينطق بها الحلاج، إذ قال «أنا ليلى».

يأخذ سما عيسى من التصوف جوهر علاقته بالمعنى، ومن الثقافة الشعبية عمق وجود البشر، ولم أحب بحثا كما أحببتُ مداخلته (وإن لم أكن حاضرا) عن «أمهات الأرض» تأريخا لنساء عابدات، متصوفات، زاهدات، حاكمات، أهملهن التاريخ ووثق أحوالهن صاحب الأدب، ورصد أثرهن فـي الذاكرة الشعبية.

نصوصُ سما عيسى لامست السينما أيضا، فكتب سيناريوات عديدة تحولت بفعل قُدرة عدد من المخرجين أفلاما لها وقْع وأثر: «الوردةُ الأخيرة» (1995) - «شجرة الحداد الخضراء» (فـيلم روائي طويل من إخراج حاتم الطائي) - «بنت غربي» (2006) - «الكارثة» (2006) - «الزهرة «(2008) - «ملائكة الصحراء» (2010) - «البهلاني شاعر بحجم الأرض والسماء». ليس لي أن أقف على هذه التجارب المتنوعة أجناسا وأشكالا وأنواعا، من الشعر إلى القصص إلى المقالة إلى السينما، وليس لي أن أفتت أعمال سما وأن أتدبر أثرها فـي الواقع الفني فـي عُمان وفـي الخليج، وإنما لي أن أقف على دور جلل لرجل له فعلُ البعْث والتأسيس، ووضع اللبنات الأولى، ولقد صدقت بدرية الوهيبية عندما وسمته بغوغول الشعر العماني الذي خرجت من معطفه أجيال من الأدباء، ما زال يقف فـي كل محفل ثقافـي ينصت إليهم باهتمام وعناية، هو الأب الحقيقي الذي يأسرُك بخُلقه وعميق ثقافته قبل أن تأخذك عوالمه الشعرية.

لُغةُ سما عيسى هي لغة كبار لا يُمكن أن تموت، وهي المتجلية، المُعبأة بممكن المعاني، الماتحة من عمق التراث معتقداته وأساطيره وأوهامه التي يعيش بها الناس أزمنة مديدة، العابداتُ الفاعلاتُ القويات الزاهداتُ، عوالمُ من الشعر، الأمهاتُ الواجداتُ الباعثاتُ من عميق المعاني ما به شكلن مرجعيات مغروسة فـي النفوس الباقيات، الموتُ وعوالمه الساكنة والمتحركة، العشق على مختلف أوجهه، هي عناصر الحياة، وعناصر الشعر التي فطن سما إلى اللغة التي لا تموتُ إذ تعبر عن جوهر الوجود، جوهر الإنسان.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: سما عیسى

إقرأ أيضاً:

سامح قاسم يكتب | زين العابدين فؤاد.. أبجدية الغضب والحنان

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

في زاوية من التاريخ، تتقاطع فيها القصيدة مع السجن، والأغنية مع الحلم، والوطن مع الوجع، وُلد زين العابدين فؤاد. لم يكن شاعرًا فحسب، بل كان لسانًا للناس، صوتًا للهامش، وضميرًا شعريًا ظلّ يقاوم النسيان والخذلان والظلم، بالكلمات وحدها، كأنها شفرات ضوء تخترق عتمة طويلة اسمها الوطن.

 

ولد زين العابدين فؤاد في أبريل 1942، وما زال – بعد أكثر من ثمانين عامًا – يكتب كما لو أنه يتنفس، أو كما لو أن الشعر هو ما يبقيه حيًا. إننا لا نتحدث هنا عن شاعر "عامية" فقط، بل عن شاعر صنع من البساطة قنابل مضادة للذل، ومن الجملة اليومية نشيدًا عابرًا للسجون. في زمن الخوف، كتب "اتجمعوا العشاق في سجن القلعة"، وفي زمن الصمت، غنّى للعمال، وللفلاحين، وللأطفال، وللشهداء الذين لم تحفل بهم نشرات الأخبار.

 

ما يُميّز تجربة زين العابدين فؤاد أنه لم يسعَ إلى الشعر كفنٍ للنخبة، بل سلك طريقًا معاكسًا. كان يؤمن أن الشعر يجب أن يُقال في الشارع، في المصنع، في المدرسة، لا في صالونات الأدب المعقّدة. لذا جاءت لغته مجبولة بالتراب، بالرغيف، بالحارة. لم يكتب من برجٍ عاجي، بل من بين الناس، ومن أجلهم.

 

في قصيدته، يتقاطع الغضب مع الحنان. يثور على الجلاد، لكنه في الوقت ذاته يمسح بيده على رأس الطفل الجائع، يكتب عن الخيانة، ثم يستدير ليكتب عن أمٍ تفتح نافذة الصباح بحثًا عن ابنها المفقود. هذا التوتر الإنساني، هذا التداخل بين الثورة والعاطفة، هو ما يجعل شعره نابضًا حتى اللحظة.

 

لم يكن زين العابدين فؤاد شاعرًا منفردًا، بل كان جزءًا من جوقة الغضب التي ضمت الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وغيرهم. لكن ما يميزه هو صوته الخاص، صوته الهامس أحيانًا، العاصف حينًا آخر. بينما كان الشيخ إمام يغني "الفلاحين" على لحنٍ لا يُنسى، كانت كلماته تحفر في الذاكرة حفرًا يصعب طمسه.

 

في عيد ميلاده الثالث والثمانين، لا يبدو زين العابدين فؤاد شيخًا. هو ابنٌ دائمٌ للشعر، شابٌ في لغةٍ لا تشيخ، فتية في نبرتها، عنيدة في موضوعها. يحتفل به محبوه لا بوصفه شاعرًا مخضرمًا وحسب، بل بوصفه ذاكرة حيّة، وضميرًا صادقًا، وحكايةً لا تنتهي.

 

لم يحصل زين العابدين على جوائز رسمية ضخمة، ولم يكن نجمًا في قاعات الأضواء، لكنه ظل نجمًا حقيقيًا في قلوب من يعرفون معنى الكلمة، ومعنى الصمود، ومعنى أن تكون شاعرًا لا مهنة لك سوى أن تقول "لا" حينما يقول الجميع "نعم".

 

في هذا الزمن الذي يُعاد فيه تدوير الأكاذيب، ويُحتفى فيه بالسطحيين، يظل زين العابدين فؤاد شاعرًا لا يشبه أحدًا. شاعرًا كتب للناس، عن الناس، وبالناس. وكأن الشعر عنده ليس طقسًا جماليًا فقط، بل موقفًا أخلاقيًا، والتزامًا لا يشيخ.

 

تحية لك يا عم زين… لأنك جعلتنا نؤمن أن القصيدة يمكن أن تكون خريطة وطن، أو راية مقاومة، أو حضنًا مفتوحًا لكل مَن ضيّعته البلاد. زين العابدين فؤاد

مقالات مشابهة

  • بدء التقييم المبدئي للصفين الأول والثاني الابتدائي 11 مايو .. والنتيجة بالألوان
  • المعلم : صانع الحضارة
  • كشف الستار عن حالة ظَفَارِ للشيخ عيسى الطائي قاضي قضاة مسقط (44)
  • تنتوش: الاجتماع مع ناجي عيسى سيحدد مصير الإصلاحات النقدية والمالية
  • عيسى الخوري جال في معهد البحوث الصناعية: لضرورة تطوير البنى التحتيّة للجودة
  • سامح قاسم يكتب | زين العابدين فؤاد.. أبجدية الغضب والحنان
  • ابن حزم الأندلسي.. العالم والفقيه والشاعر الذي أُحرقت كتبه
  • كيفية العناية بالشعر المصبوغ والمجعد
  • قصة شاعر أقسم ألا يتزوج حتى تموت أمه! .. فيديو
  • عيسى والبرعصي يستعرضان أداء الاقتصاد الوطني مع صندوق النقد الدولي