ناجي بن جمعة البلوشي
كم هو الوقت حالك الظلام والأصوات لا تسمع منها إلا همسًا، فقط همس صوت رجلي المتخاذلتين من المشي أسمع، وأسمع بها همسًا ثقيلًا أكاد أخفيه من ضجيجه في تلك الساعة التي لا يُسمع فيها إلا تعبي الذي لا أخفيه عن نفسي، لأنها نفسي التي تعلم ما بها من تعب، تعب السير كان أم تعب النهوض في تلك الساعة التي نادى فيها المنادي "حي على الصلاة.
في تلك الظلمة هو نادى نعم، هو نادى بمكبرات الصوت التي رجَّت المنطقة برمتها وأيقظتني من شدة ضخامة صوته، لكن كيف كان يمشي إلى ذلك الجامع وحده دون غيره كيف وصل هو إلى ذلك الجامع؟ دون خوف ولا تعب وصل هو إلى ذلك الجامع لكن كيف؟ هكذا أسمح لنفسي أن تتساءل عن حال ذلك المؤذن الذي أدى ما عليه وأستراح في دفء الجامع المحاط بالجدران الخرسانية وفرشته بلونها الأحمر إنها من السجاد الأحمر القاني الذي نسج داخل الجامع بأيدي النساجين الماهرين الذين استجلبهم وكيل المسجد من إيران وقد كلفته نصف قيمة تكلفة مبنى الجامع، لكنه استحب تلك السجادة على غيرها من أساسيات بناء الجوامع فهي وتلك الديكورات التي وضعها فيه، فنانون هم من قاموا بتلك النقوشات والديكورات في ذلك الجامع استجلبوا من بلاد المغرب العربي مهنتهم صنع الديكور الغالي والمميز والمنفرد استجلبوهم هنا فقط لغاية النقش على سقفه وجوانبه وفي محراب الإمام.
فمن تلك السجاد والديكورات ستعرف قيمة الجامع كما يقول كُل وكلاء المساجد ومرتادوه، أما الذين تصدقوا لبنائه فهم في عجب مما يرونه؛ لانه في كل مرة ينتهي كل جامع قد تصدقوا له من التشييد ثم الافتتاح إذا بوكلاء المساجد يقومون بنشر الرسائل من جديد لإكمال دفع ما تبقى من مبالغ المقاولين ودفع أقساط المكيفات وأدوات الكهرباء والأدوات الصحية التي لم تسدد بعد.
يداي تكاد تتجمدان بعد أن توضأت بماء بارد تجانس مع برودة الجو، نعم إنه الطقس البارد في الشتاء. أسير متجمعًا في كومة رجل لا يعرف مقدمة رأسه من مؤخرتها، ولأنه يمشي فهو نائم يمشي! على رأسي غترة تمتاز بلونيها الأحمر والأبيض هي هدية من أحد زائري البيت الحرام، لكنها الآن لا تبدي نفعها من وجودها على رأسي، لأنها لا تقيني برودة الطقس ولا تغطي كل جسدي المرتجف من برودة الطقس. إيه.. كم هي المسافة بعيدة بيني وبين الجامع الذي أنوي الصلاة فيه، فأنا سوف أمر على جدران لا تنطق ولا تسمع ما أقوله لها لو أردت التحدث معها، لذا تطول المسافة بيني وبين ذلك الجامع الذي أنوي الصلاة فيه. هذا بيت جاري الأول، الفيلا ذات الطابقين، وهي المبنى الضخم لا بل الضخم جدا، وقد بناه على حساب البنك الذي أقرضه فوق ما يتوقع أن يحصل عليه من أي بنك آخر بعد أن وضع كل أبنائه من ضمن المقترضين. هذا البيت سيعيقني ويعيق مسيري الذي يكلفني الوقت لإنهاء الالتفاف حوله؛ فالالتفاف حوله يأخذ مني الكثير من الوقت، كما فعل مالكه حين التف حول قوانين البنك المقرض، إنه يفعل في كل من يمر بجانبه نفس فعلة مالكه، فيلفوا حوله لفة طويلة لا تنتهي من مجرد السير ببطء.
المؤكد أن هذا الجار سيدفع مبالغ طائلة تسمى بفوائد للبنك، لكن كل هذا لا يهم، فهو بين الجيران رجل ذو هيبة اجتماعية وشأن عظيم من مجرد بناء هذا البيت، فلولا بنيانه لهذا البيت لما عرف اسمه، ولما زاره الكثيرون من الناس ليباركوا له هذا المبنى الضخم، هو ضخم جدا لكنه مرهون للبنك حسب ما يتبع من قوانين، فلا يمكنه التصرف فيه دون دفع كل أموال البنك أولًا.
وضعت يدي الباردتين على تلك الغترة الحمراء بعد أن لففتها حول رأسي وعنقي وربطتها من أعلاها برباط غليظ، وضعتهما مغطيًا أذني اللتين تغطيتا أصلًا من تلك الغترة الحمراء وما زلت لم أخرج من بيتي لألتف حول تلك الفيلا، فأنا الآن في حوش بيتي مقابل لها من اليسار. يتبع،،،
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الدُّب … الذي بكته السماء !
مناظير الخميس 1 مايو، 2025
زهير السراج
manazzeer@yahoo.com
* في مساء حزين غابت فيه شمس العام الماضي، صعدت روح صديقي العزيز (عزالدين علي عبدالله)، المعروف بين أصدقائه بـ"عزالدين الدب"، إلى بارئها، وعلى وجهه نفس الابتسامة التي رافقته في الحياة، كأنما كانت تعانق الموت وترحب به، فبكته السماء قبل أن يبكيه البشر، وسالت دموعها فوق مقابر عين شمس في القاهرة، حيث وُري جثمانه الثرى بعد رحلة صمود طويلة، لا يملك من يعرفها إلا أن ينحني احتراماً أمام عظمة هذا الإنسان الفريد.
* لم يكن "الدب" مجرد لقب طريف أطلقه عليه الأصدقاء في صباه بسبب امتلاء جسمه، بل صار مع الأيام رمزاً لقلب كبير يسع الدنيا، وروح مرحة، وجَنان صلب لا تهزه العواصف. ورغم إصابته بالفشل الكلوي لأكثر من عشر سنوات واعتماده على الغسيل المنتظم، لم يكن أحد يصدق أنه مريض، فقد كان صحيح البدن، قوي النفس، عالي الضحكة، حاضر النكتة، سيّال الفكرة، متوقد الذهن.
* عرفته كما عرفه غيري إنسانا مثقفا ومحدثا لبقاً، مجلسه لا يُمل، وحديثه لا يُنسى، وتحليله السياسي والاجتماعي لا يشق له غبار. كان موسوعة متحركة، لا تسأله عن شأن في السودان أو في العالم إلا وتنهال عليك منه الدهشة والإفادة. ولم يكن هذا لشغفه بالسياسة فقط، بل كان عاشقاً للفن والشعر والغناء، يحفظ القصائد والأبيات والأغاني ومَن قالها ولحّنها وغنّاها وتاريخها، وكأنما خُلق ليكون ذاكرة حية لكل شيء جميل.
* عشق الفروسية ونادي الفروسية وسبق الخيل، وكان يحفظ عن ظهر قلب اسماء الفرسان والخيل وصفاتهم وحركاتهم وسكناتهم، وظل طيلة الخمسين عاما الاخيرة من حياته التي لم يغب فيها يوما واحدا عن ميدان السبق مع رفيقه وصديقه (ماجد حجوج) من أعمدة النادي والمؤثرين والمستشارين الذين يؤخذ برأيهم، ومحبوبا من الجميع.
* كان بيت أسرته في حي بانت شرق بأم درمان ندوة يومية يقصدها الناس من كل فج، ينهلون من علمه ويضحكون من قلبهم لطرائفه التي لا تنتهي، وحكاياته التي تتفجر دفئاً وإنسانية، كما لو أنه خُلق من طينة خاصة لا تعرف غير البهجة، رغم معاناته الطويلة مع المرض.
* ثم جاء يوم 15 أبريل، يوم الفجيعة الكبرى، وانفجر جحيم الحرب اللعينة في السودان، وسقطت القذائف على المدن والناس، وأظلمت الحياة، وانعدم الأمان وانهارت المستشفيات، وانقطع الدواء، وتوقفت جلسات الغسيل، فصار عزالدين يخاطر بحياته بحثاً عن مركز يعمل، ينتقل على عربات الكارو بين الدانات والقذائق وزخات الرصاص، ورغم كل ذلك لم تغب ابتسامته، ولم يفقد شجاعته.
* نزح إلى كسلا، ثم بورتسودان، الى ان قادته الأقدار إلى القاهرة، حيث احتضنه أصدقاؤه الأوفياء الدكتور مجدي المرضي، وشقيقه ناصر المرضي، والدكتور صالح خلف الله، وفتحوا له قلوبهم وبيوتهم ووقفوا بجانبه حتى آخر لحظة من حياته، جزاهم الله خير الجزاء، وجعل ما فعلوه في ميزان حسناتهم.
* لكن القلب الذي صمد كثيراً، أنهكته أيام السودان، وضربات الحرب، وعدم انتظام الغسيل وصعوبة الحياة تحت نيران المدافع، فلم يحتمل، واختار الرحيل في صمت هادئ، بابتسامته البهية التي كانت عنواناً له في الحياة، كأنه يقول لنا وداعاً دون نحيب.
* نعزي أنفسنا وأسرته المكلومة، وشقيقاته العزيزات د. سامية، د. سلوى، وسميرة، وأصدقاءه الذين كانوا له عوناً وسنداً، ونبكيه بقدر ما أحببناه، ونترحم عليه بقدر ما أدهشنا بعظمة صبره وروعته وبهاء روحه. إنّا لله وإنّا إليه راجعون.