كتب الدرديري محمد أحمد، وزير الخارجية الأسبق، مقالاً بعنوان (عودة ترمب: ماذا تعني للسودان؟)، خَلُص فيه إلى أن إدارة ترامب الجديدة هي أهون الشرور الأمريكية، بل جاز للمتحمس منهم ان يقول عنها إنها أفضل هدية تتلقاها القيادة السودانية والجيش السوداني، وتمثل أفضل ترحيب بوزير الخارجية السوداني الجديد، علي يوسف، في بداية عهده.

فالتغييرات التي ستحدثها هذه الإدارة في الساحة الدولية تتيح فرصة نادرة للسودان لإيجاد علاقات خارجية تعين على كسب الحرب بسرعة، ولتكوين شراكات لإعادة الاعمار فور سكوت البنادق. وهي ولا شك أقوى صفعة تتلقاها “تقدم” ويتلقاها معها الدعم السريع.
هذا المقال يلقي الضؤ على جوانب أغفلها الدرديري في مقاله، وربما أصيب الوزير السابق بما يعرف بالإنحياز التأكيدي وهو الميل للبحث عن، وتفسير، وتذكُّر المعلومات بطريقة تتوافق مع معتقدات وافتراضات الفرد، بينما لا يولي انتباهًا مماثلًا للمعلومات المناقضة لها فأسرف في تفاؤله.

(١) عالم متعدد الأقطاب تحت إدارة ترمب

تشتري حكومة بورتسودان السلاح الروسي والإيراني منذ عام تقريباً، و لكن هل حصلت على أسلحة نوعية أتاحت لها النصر السريع. في الغالب أن روسيا لن تسمح بأسلحة نوعية إلا مقابل قاعدة بحرية روسية، وفي ظروف حربها الحالية وهي تقوم باستيراد الأسلحة من كوريا الشمالية وإيران يزيد من صعوبة الأمر. ولكن هل سيسمح ترمب أو غيره في البيت الأبيض بقاعدة روسية في البحر الأحمر!!. سياسة ترمب الخارجية السابقة في الواقع لم تساهم في تسريع عالم متعدد الأقطاب، كما يقول الدرديري، بل يمكن القول إنها عززت الانعزالية الأمريكية وقلصت التزامات الولايات المتحدة الدولية، مما قد يعطي الفرصة لقوى أخرى مثل الصين وروسيا لتعزيز نفوذها في مناطق محددة ليس من بينها السودان، فإدارة ترمب السابقة نفسها هي من عرقلت قيام القاعدة البحرية الروسية أواخر سنوات البشير، وحتى الآن لم يرد في الأخبار أن الصين تدعم بورتسودان عسكرياً، بل هي تتعامل كتاجر وتبيع السلاح لمن يريد. إنعزال إدارة ترمب لا يعني بالضرورة التحوّل إلى عالم متعدد الأقطاب بمعناه التقليدي مباشرة وربما يحتاج الأمر لسنوات طويلة. اتفق مع الدرديري أن سياسات ترمب تميل إلى الانعزال وعدم الاهتمام بتوسيع النفوذ الأمريكي في أفريقيا، ولا يُتوقع أن يغير نهجه هذا، وهكذا سيستمر السودان في كونه على هامش الأولويات الأمريكية، ما قد يمنح دولاً أخرى، كالإمارات وإسرائيل، لا تكترث لإنتهاكات الدعم السريع، فرصة أكبر لتعزيز نفوذها في المنطقة.

(٢) الانسحاب الأمريكي من أفريقيا

افتراض الدرديري بأن إدارة ترمب قد تسعى لمصالح اقتصادية في أفريقيا لمواجهة الصين صحيح جزئياً، ولكن حتى لو تحركت إدارة ترامب في هذا الاتجاه، فمن المستبعد أن تؤدي هذه الخطوات إلى تدخل فعلي أو اهتمام مستمر بالسودان، أو تعاون مع حكومة بورتسودان في وجود الكيزان (كما ذكر الدرديري)، فليس لأمريكا مصالح إقتصادية واضحة في السودان. في الواقع، تجاهل ملف السودان قد يكون أكبر خدمة تُقدَّم للإمارات، التي ستحظى حينها بحرية أكبر لتواصل وتزيد من دعمها للدعم السريع دون معارضة حقيقية من واشنطن، وربما نفقد حتى الإدانات التي تحصل حالياً في إدارة بايدن، مما يباعد من الحصول على إدانة في المنظمات الدولية كما تسعى بورتسودان.

(٣) الإمارات وعودة ترمب

يرى الدرديري أن ترحيب الإمارات بعودة ترمب يرتبط بالأساس بمصالح استراتيجية بعيدة عن موقفها تجاه السودان وهو محق. لكن هذه القراءة تتجاهل حقيقة أن الإمارات تدعم فعلياً مشروعاً استبدادياً سلطوياً في السودان عبر دعمها للدعم السريع أو التقسيم كما فعلت في ظروف مماثلة في ليبيا واليمن وانتهت تدخلاتها وتدخل دول أخرى إلى ليبيا واليمن مقسمين فعلياً مع شكل مشوه للدولة بتعدد جيوش ومليشيات وسلطات متعددة، هذه التدخلات في هذه الدول بدأت في عهد أوباما وزادت وتيرتها في فترة ترمب الأولى فأنتهت بليبيا لشكل الدولة المشوه الحالي. على الدرديري، كوزير خارجية سابق، أن يُدرك أن مشروع الإمارات في السودان ليس مشروعاً مدنياً ديمقراطياً، بل في أفضل الأحوال قد يحمل واجهة مدنية تخفي سلطوية شديدة، كما يحدث في تونس الآن أو حتى طابعاً ميليشياوياً كخليفة حفتر في ليبيا والمجلس الإنتقالي الجنوبي في اليمن، وهذه التدخلات الإماراتية ومعها دول أخرى حولت دول إلى مناطق سيطرة مقسمة بين مليشيات وأمراء حرب كل له ظهير خارجي، ويبدو أن أمريكا لا تعارض هذا السيناريو، الواقع أن إدارة ترمب عززت منه وسرعت وتيرة تنفيذه عبر إطلاقها العنان لشركائها ووكلائها الإقليميين وإنعزالها، كما حدث في ليبيا واليمن. على الدرديري ألا يقصر نظرته في إنتصار متوهم أو صفعة على غرمائه السياسيين في تقدم، الحقيقة أن المهزوم هو السودان ووحدته على المحك.

(٤) عزوف إدارة ترمب عن دعم الديمقراطية

يدعي الدرديري أن إدارة ترامب لن تدعم حركة مدنية ديمقراطية ويخص بالذكر حركة تقدم وهو استنتاج صحيح، لكنه يغفل حقيقة أن الإمارات تستثمر في مشروع دعم سريع يتميز بنزعة سلطوية استحواذية، فبالتالي إن تجاهل واشنطن للملف السوداني المتوقع من إدارة ترامب، سيفتح المجال أكثر للإمارات لدعم الدعم السريع والتغاضي عن انتهاكاته لحقوق الإنسان، كما تتجاهل الإدارات الجمهورية الأمريكية انتهاكات حلفائها كما ذكر الدرديري في مقاله. هل يرى الدرديري في رؤيته أن دعم إدارة أمريكية (يقصد حال فوز هاريس) لتقدم هو الأخطر، وليس تجاهل إدارة ترمب المتوقع لدعم الامارات للدعم السريع!!.

(٥) الاتفاقات الإبراهيمية وتأثيرات طوفان الأقصى

يفترض الدرديري أن تأثيرات طوفان الأقصى قد تُضعف الاتفاقات الإبراهيمية. ولكن الواقع هو أن الأنظمة العربية التي وقّعت على هذه الاتفاقات لا تعتمد على الرأي العام المحلي بقدر ما تعتمد على دعم الولايات المتحدة وإسرائيل. لذا من غير المتوقع أن يغير الغضب الشعبي مسار التعاون الاستراتيجي بين هذه الأنظمة وواشنطن أو إسرائيل، لأن هذا التعاون يشكّل ركيزة مهمة لبقاء هذه الأنظمة في السلطة، وهو ما يفسره مقابلة البرهان منفرداً لنتنياهو في يوغندا وزيارات الجيش والدعم السريع إلى إسرائيل وزيارات مسؤولين إسرائيليين لهما خلال الفترة الإنتقالية. كذلك يعبر الدرديري عن تفاؤل مفرط بقدرة الإرادة الدولية واتجاهها لحل القضية الفلسطينية عبر حل الدولتين، فالواقع يظهر أن المجتمع الدولي لم يتمكن حتى من إيقاف الإبادة الجماعية في غزة، فكيف له أن يُحقق حل الدولتين. أي حديث عن حل الدولتين يبقى بعيداً عن التطبيق الواقعي في ظل الفشل المتواصل في وقف الانتهاكات. الحقيقة هي أن إسرائيل إذا توقفت عن حربها في غزة ولبنان، فالسبب هو أنها وصلت لأهدافها فحماس وحزب الله قد تضررا بشدة، وإيران باتت تخشى على نفسها من شن إسرائيل وامريكا حرباً عليها بعد وصول ترمب للبيت الأبيض.

(٦) التراجع الإسرائيلي تجاه حماس وأثره على السودان

يشير الدرديري إلى تراجع إسرائيل عن القضاء على حماس ويفترض أن هذا التراجع سيفقد أجندة محاربة الإسلاميين جاذبيتها لإدارة ترمب. في الواقع، إسرائيل لم تتراجع عن القضاء على حماس بل ألحقت أضراراً جسيمة بالحركة وببيئة حماس في غزة، وكادت أن تدمر القطاع تماماً، فأين التراجع الذي يراه الدرديري، بل انتقلت إسرائيل الآن إلى تصفية إسلام سياسي آخر هو حزب الله في لبنان، بل أن تصريحات المرشد الإيراني الأخيرة ورئيس الحكومة بأنهم يجب أن يتحلوا بالحكمة لكي لا يقعوا في فخ الرد على إسرائيل حتى لا يتم ضربهم تشير بوضوح إلى أن إيران تخلت عن أذرعها في سبيل سلامتها. كذلك من المرجح أن تدعم إدارة ترمب ضمنياً أي توجه لتصفية الإسلاميين في أي منطقة إذا ما قام به أي من حلفائها أو أدواته كالدعم السريع، وربما تسهل إدارة ترمب المهمة خصوصاً إذا كانت دون أي تكلفة مالية على الإدارة الأمريكية.

في الختام، في ضؤ ما تم ذكره لا يمكن القول بأن وصول ترمب للبيت الأبيض هو أهون الشرين، فالخطر محدق بالسودان بحيث تواصل الامارات دعمها للدعم السريع. كذلك هل يتوقع الدرديري بعد وصول ترمب أن يحصل السودان على دعم كبير من روسيا أو إيران يمكن من القضاء التام على الدعم السريع وإعادة الإعمار، وإذا حدث هذا فما هو المقابل الذي ستقدمه بورتسودان؟، وزير الخارجية الجديد صرح في لقاء بأنهم سيسمحون لكل دولة تريد قاعدة بحرية على شاطئ السودان وضرب مثلاً بجيبوتي، فهل ستسمح إدارة ترمب بأن يصبح السودان بؤرة نفوذ جديدة لروسيا أو الصين ومدخل إلى أفريقيا التي يرى الدرديري أن إدارة ترمب ربما تتشارك معها؟، وهل الدرديري ورهطه لا يرون في وجود قواعد عسكرية أجنبية في السودان تهديداً للأمن القومي وسيادة البلاد!!.
السودان اليوم يواجه أزمة وجود تتطلب قراءة شاملة وواقعية بعيداً عن المصالح الحزبية والتحيزات الذاتية، فسواءاً جلس في البيت الأبيض ترمب أو هاريس فتظل المشكلة سودانية والمعاناة يدفع ثمنها السودانيون وأبناءهم ومستقبلهم ووطنهم وسيادته ووحدته، فالأفضل ترك هذه الأوهام أن هاريس ستدعم تقدم وترمب وجوده في صالح الإسلاميين. الراجح أن سياسة ترمب الإنعزالية ستسمح لأطراف بالتدخل في السودان ولكن هذا التدخل سيكون على غرار النموذج الليبي، والخشية أن يصبح الدرديري مواطناً في دولة دارفور في السودان المقسم.

mkaawadalla@yahoo.com

محمد خالد  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الدعم السریع للدعم السریع إدارة ترامب إدارة ترمب فی السودان أن إدارة

إقرأ أيضاً:

“بيرييلو” ومآلات الحرب السودانية

لعل من غير المستغرب أن يهرول المبعوث الأمريكي “توم بيرييلو” إلى “بورتسودان”، التي رفض من قبل أن يزورها، بحجة القلق على حياته جراء اضطراب الأمن.

ولم يَمضِ وقت طويل قبل أن يجد نفسه في مأزق؛ يائساً، محروماً من أي فرص ، بعد فشله في تقديم الإفادات الصحيحة غير المنحازة حول الأزمة السودانية ، بل ظهر كوسيط منحاز تماماً للطرف الآخر من الصراع ، هو الآن محروماً من الأموال بعد الاستثمار في قضية مشبوهة وإنفاق مبلغ ضخم في محاولة “جنيف ” الفاشلة.

في موازاة ذلك وسَّعت مليشيات “ال دقلو” حربها التدميرية، هدفُها واضح، تدفيع السودانيين ثمناً رهيباً رداً على مساندتهم للجيش الوطني ، تريد المليشيات إغراق السودان في الركام وقلق النزوح وتوتراته، حتى يتسنى لرعاتها الدوليين استصدار قرار أممي باحتلال بلادنا عبر ما يسمى ب “قوات حماية المدنيين” ، ولكن المفاجأة .. الحليف القوي “روسيا” أحبطت المحاولة باستخدام حق النقض “الفيتو” .

في الجانب الآخر ، لا يعلم “بيرييلو” ان السودان ينتظر انتقالَ المقاليد في البيت الأبيض إلى يد “دونالد ترمب” بعد شهرين، عندها مصير مهمة المبعوث الأميركي لن تنفصل عن الحديث الدائر عما سيكون عليه وضع ملف السودان في عهد ترمب الثاني، وغالب ظني سيدفع “ترمب” بملف السودان الى وكلائه في الخليج ، وستعود نغمة “منبر جدة ” من جديد .
بغض النظر عن تحالفات السودان الجديدة مع القطب الشرقي ، والتي بدأت باستئناف الشراكة الاقتصادية مع الصين ، إستعادة العلاقات مع “إيران” ،وتفاهمات ناجحة مع روسيا ظهرت جلياً في موقفها امس، فإن مماطلة الامريكان كثيراً في إدانة واتخاذ موقف حاسم يساهم في إنهاء معاناة السودانيين ، جعلت حكومة السودان غير آبهة بزيارة المبعوث الأمريكي ولم توليها الاهتمام الكافي .

في ذات السياق ، حتى وإن استئنف “منبر جدة” مرة أخرى، من يفاوض السودان؟ ، هل يملك “حميدتي” أي سيطرة على عصابات النهب التي تحارب المدنيين في الجزيرة ، سنار ، دارفور ؟ ، بالطبع (لا) ،خرجت تلك العصابات عن إمرة قادة الدعم السريع ، ولن تنتهي إلا بالقتال، إذا ما الذي يجبر “البرهان” على الخضوع لإملاءات الغرب؟ .

الرئيس “البرهان” رجل ذكي ، نجح في إنقاذ السودان من الاحتلال الأجنبي، سوى كان عبر حرب الوكالة التي يخوضها “حميدتي” أو عبر مؤامرات الغرب وامريكا التي فشلت أمس بواسطة الموقف الروسي .

أنتصر “البرهان” على الغرب ، ومن حسن الحظ أن جروحَ السنوات الماضية لم تقتلع من نفوس السودانيين بقايا مشاعر التضامن الوطني والإنساني، لذلك يجد شعبه يسانده في كل المواقف التي يتخذها.

الفترة التي تفصلنا عن تسلم “ترمب” مهامه شديدة الخطورة، وحشية المليشيات بلا حدود أو روادع.

إذا رغبت “أمريكا” في الحفاظ على قدر متوازن من مصالحها في السودان عليها اتخاذ قرارات حاسمة بشأن “ال دقلو” وحربهم ضد المدنيين ، اتخاذ القرارات الحاسمة اليوم أفضل من اتخاذها بعد الانهيار الكامل للعلاقة بين السودان والولايات المتحدة .

حسم المليشيات عبر قرارات ومواقف دولية واضحة يساهم في عودة الدولة السودانية ، الدولة وحدها التي تملك الحق في المنح والرفض ، وايضاً وحدها تستطيع تضميد جروح السودانيين وتبديد مخاوفهم وليست القوات الأممية.
محبتي واحترامي

رشان اوشي

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • وزير الخارجية بشيد بمواقف قطر
  • ???? البيحصل في السودان وفوز ترمب واعتناق روسيا للكيزانية (..)
  • مطلوبان في 120 دولة.. ماذا تعني مذكرة اعتقال نتنياهو وغالانت؟
  • وزير الاستثمار والتجارة الخارجية يبحث مع شركة Lazard Freres SAS العاملة في الاستشارات الاستثمارية فرص تعزيز التعاون
  • وزير الخارجية الأمريكي يبحث من نظيره الاماراتي الجهود المبذولة لإنهاء الحرب في السودان
  • وزير الخارجية يستقبل سفير دولة الكويت
  • وزير الخارجية يلتقي بالسفراء ورؤساء البعثات الدبلوماسية والقنصلية و ممثلي منظمات الامم المتحدة المعتمدة بالسودان
  • السودان.. قوات الدعم السريع تهاجم قرية وتقتل 40 مدنياً
  • وزير الخارجية يستقبل القائم بأعمال السفارة الألمانية
  • “بيرييلو” ومآلات الحرب السودانية