في الأسبوع الماضي، غضب العالم الغربي من الهجمات "المعادية للسامية" المزعومة التي وقعت في أمستردام واستهدفت مشجعي كرة القدم الإسرائيليين، مما أدى إلى إصابة عشرة منهم. وقال الملك فيليم ألكسندر، ملك هولندا، إن هذه "الهجمات" تذكرنا بـ"الأزمان المظلمة والقاتمة التي عانى فيها الشعب اليهودي". لا يبدو أن الملك يعتبر مساواته فيما بين مشجعي كرة القدم الإسرائيليين من مثيري الشغب والشعب اليهودي بأكمله، أو على الأقل بينهم وبين كل اليهود الهولنديين، ضربا من اللاسامية، ناهيك عن مقارنته لاشتباكات بين مشجعي كرة القدم من مثيري الشغب والمتظاهرين المناهضين للإبادة الجماعية بالمحرقة.
ولكن من غير الواضح ما إذا كان الملك يشير هنا إلى أعمال الشغب التي استهدف بها هولنديون معادون للسامية يهود أمستردام بعد الاحتلال النازي، لا سيما في أحداث شباط/ فبراير 1941، أو إلى تعاون الشرطة الهولندية مع النازيين في محاصرة اليهود الهولنديين وترحيلهم عن البلاد، حيث غالبا ما تتجاهل السلطات والثقافة العامة الهولندية منذ نهاية الحرب العالمية ذكر مدى تعاون الهولنديين مع النازيين أثناء احتلال بلادهم. أما هذا التعاون الهولندي مع النازيين، والذي نشط فيه ما لا يقل عن 300 ألف مواطن هولندي، بما في ذلك "صيادو اليهود"، فيختلف تماما عن إشارة الملك إلى ما أسماه فقط بـ"فشل" الهولنديين في حماية المجتمع اليهودي.
كما أصدر الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي يعاني من ضعف في القدرات العقلية ويفتقر إلى أي فكرة خلّاقة، بيانا يحاكي كلمات الملك الهولندي بأن الهجمات "تعكس لحظات مظلمة في التاريخ". بالفعل، لقد أصيب القادة الغربيون بالصدمة إزاء هذه "المذبحة" المزعومة. بل إن صحيفة جيروزالم بوست الإسرائيلية اليمينية قد ذهبت أبعد من ذلك، ووصفت الاشتباكات بأنها "مذبحة أمستردام" وقارنتها بالمذبحة النازية في عام 1938 المعروفة بـ"ليلة تحطيم الزجاج" أو "كريستالناخت". وفي حين انضم الصحافي الإسرائيلي اليساري جدعون ليفي إلى الجوقة بالإشارة إلى الاشتباكات باعتبارها "مذبحة"، فقد فعل ذلك في سياق مقارنتها بالمذابح اليومية والفعلية التي يرتكبها المستوطنون في الضفة الغربية، والتي تتجاهلها الصحافة الغربية.
المرء في حيرة من أمره، هل بالفعل استهدفت الهجمات المزعومة المجتمع اليهودي في أمستردام، بما في ذلك منازل اليهود، والمعابد والمقابر اليهودية، وشركات وأماكن عمل اليهود، أم أنها كانت اشتباكا بين مشجعي كرة القدم الإسرائيليين المثيرين للشغب الذين يؤيدون الإبادة الجماعية والعنصرية؛ والمعارضين الهولنديين للإبادة الجماعية؟
وقد أعلنت الشرطة الهولندية بدورها أن "الأمن سيُعزز في المؤسسات اليهودية في مختلف أنحاء المدينة، التي تضم مجتمعا يهوديا كبيرا". والواقع أن المرء في حيرة من أمره، هل بالفعل استهدفت الهجمات المزعومة المجتمع اليهودي في أمستردام، بما في ذلك منازل اليهود، والمعابد والمقابر اليهودية، وشركات وأماكن عمل اليهود، أم أنها كانت اشتباكا بين مشجعي كرة القدم الإسرائيليين المثيرين للشغب الذين يؤيدون الإبادة الجماعية والعنصرية؛ والمعارضين الهولنديين للإبادة الجماعية؟
وفقا لصحيفة نيويورك تايمز، لقد أظهرت مقاطع الفيديو قبل وقوع الاشتباكات مشجعين إسرائيليين (أتوا إلى أمستردام لحضور مباراة كرة قدم بين نادي إسرائيلي وآخر هولندي خسر فيها الفريق الإسرائيلي) وهم يهتفون "هتافات عنصرية معادية للعرب وهم في طريقهم إلى المباراة"، بما في ذلك أحد الهتافات الشعبية التي تحتفل بالإبادة الجماعية المستمرة للفلسطينيين وإبادة عشرات الآلاف من الأطفال الفلسطينيين في غزة: "لماذا لا توجد مدرسة في غزة؟ لأنه لا يوجد أطفال في غزة". وفي الليلة السابقة للمباراة، "حطم مشجعون إسرائيليون سيارة أجرة وأحرقوا العلم الفلسطيني، كما قالت الشرطة الهولندية"، كما أزالوا الأعلام الفلسطينية من أمام منازل السكان المحليين. وتعرض كذلك سائق سيارة أجرة هولندي من أصل عربي للهجوم. وفي الليلة السابقة للمباراة أيضا، صرخ المشاغبون الإسرائيليون أيضا بألفاظ نابية في وجه الهولنديين المحليين في ساحة دام بما في ذلك "اللعنة عليك يا فلسطين". ومن المفترض أنهم استهدفوا مواطنين هولنديين من أصول عربية ومسلمة في الساحة.
على ضوء ما حدث، ما الذي قد يدفع الملك الهولندي وجوقة من الساسة الهولنديين، بما في ذلك عمدة أمستردام، إلى إدانة مواطنيهم باعتبارهم "معاديين للسامية" عندما كان المشاغبون الإسرائيليون المؤيدون للإبادة الجماعية هم الذين استفزوهم وهاجموهم واشتبكوا معهم، مما أثار جنون الغرب وكأن مذبحة حقيقية استهدفت المجتمع اليهودي في أمستردام؟
ربما مراجعة السياق التاريخي للعلاقة بين هولندا وإسرائيل تلقي بعض الضوء على ما يجري:
في الثالث من أيلول/ سبتمبر 2024، وفي خضم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في غزة، احتفلت هولندا بمرور 75 عاما على إقامة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، في حفل استقبال كبير في لاهاي بحضور السفير الإسرائيلي ووزير الخارجية الهولندي الحالي كاسبر فيلدكامب. ولم تعترف هولندا، التي صوتت لصالح قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، بإسرائيل رسميا إلا في كانون الأول/ ديسمبر 1949 عندما أقامت علاقات معها، وقانونيا في كانون الثاني/ يناير 1950، أي بعد أكثر من عام وسبعة أشهر من إقامة المستعمرة الاستيطانية اليهودية الأوروبية.
ولم يكن هذا التأخير في الاعتراف راجعا إلى أي نفور من المستعمرات الاستيطانية البيضاء، التي كان الهولنديون روادا لها في الأمريكيتين وجنوب أفريقيا وجنوب شرق آسيا لمدة أربعة قرون (في الواقع، قام الهولنديون ببناء أول جدار فصل عنصري لإبعاد "الهنود الحمر"، أي الشعب الأصلي، عما يُعرف اليوم بجنوب جزيرة مانهاتن في نيويورك، الذي يُكرّم موقعه السابق شارع "وول ستريت" أي "شارع الجدار"، الذي سُمي على اسمه)، بل كان راجعا إلى المفاوضات التي فرضتها الأمم المتحدة في ذلك الوقت لتفكيك المستعمرة الاستيطانية الهولندية في إندونيسيا، والتي لم يرغب الهولنديون في تعريضها للخطر من خلال الإساءة إلى الإندونيسيين، الذين قتلوا منهم 100 ألف شخص منذ عام 1945 وحده، تم إعدام 40 ألفا منهم. وقد ارتكب الهولنديون هذه المذابح مباشرة بعد انتهاء المحرقة وبعد تحرير بلادهم من النازيين. وقد حصلت إندونيسيا على استقلالها في 27 كانون الأول/ ديسمبر 1949، وعندها شعر الهولنديون أنه بإمكانهم الاعتراف بإسرائيل.
في الواقع، وعلى النقيض من جميع الدول الأوروبية الأخرى التي كانت قد أقامت علاقات مع إسرائيل وأنشأت سفاراتها في تل أبيب، قامت هولندا بإنشاء سفارتها في القدس الغربية، التي كانت إسرائيل قد ضمَّتها بشكل غير قانوني في 5 كانون الأول/ ديسمبر 1949. وقد أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 كانون الأول/ ديسمبر 1949 القرار 303 الذي أدان هذا الضم باعتباره انتهاكا للقانون الدولي. ولم تقم هولندا بنقل سفارتها إلى تل أبيب إلا في عام 1980، استجابة لتوجيهات صارمة من المجموعة الأوروبية بعد ضم إسرائيل للقدس الشرقية. ومع ذلك، فإن هولندا تستعد اليوم لنقل سفارتها مجددا إلى القدس، في خطوة تعكس اعترافها بشرعية الضم.
منذ عام 1950، كانت هولندا على حد تعبير المؤرخ الهولندي بيتر مالكونتنت، "الدولة الأكثر تأييدا لإسرائيل في أوروبا". وبينما تعاون العديد من الهولنديين، شأنهم شأن غيرهم من الشعوب الأوروبية، مع النازيين أثناء الحرب العالمية الثانية لترحيل وقتل الغالبية العظمى من اليهود الهولنديين (أكثر من 105 آلاف شخص)، فقد أعربوا، أيضا كغيرهم من الأوروبيين، عن توبتهم عن جرائمهم عبر دعم الاستعمار الاستيطاني اليهودي في فلسطين بعد الحرب.
كان المسيحيون الهولنديون يُعتبرون عرقا شقيقا للألمان والآريين، وقد قام النازيون بتعبئتهم واعتبارهم مساوين للألمان. وقد كانت هولندا بحلول نهاية الحرب هي الدولة التي شهدت أكبر عدد من القتلى اليهود من بين الدول التي غزاها النازيون في أوروبا الغربية، سواء من حيث النسب المئوية (قُتِل أكثر من 75 في المئة من اليهود الهولنديين) أو من حيث الأعداد المطلقة، أكثر من بلجيكا أو فرنسا.
لقد كان رئيس الوزراء الهولندي الديمقراطي الاجتماعي ويليم دريس، الذي كان أسير حرب سابق محتجز في معسكر اعتقال بوخنفالد الألماني، أكثر تعاطفا مع المستعمرات الاستيطانية بشكل عام. ولم يكتف بتعزيز صداقة بلاده مع إسرائيل، بل سعى حتى إلى إقامة صداقة شخصية مع ديفيد بن غوريون. ولكن الحب والعشق اللذين تكنّهما هولندا الاستعمارية لإسرائيل يتجاوزان الأحزاب السياسية.
والواقع أن جوزيف لونز، وزير الخارجية الهولندي الذي خدم من عام 1952 إلى عام 1972، وكان عضوا في حزب الشعب الكاثوليكي، كان ملتزما بدعم إسرائيل تماما مثل دريس. وقد فسر دريس ولونس حبهما لإسرائيل على أنه نتيجة للمحرقة النازية، شأنهما في ذلك شأن أغلبية الشعب الهولندي، حيث كان دعم الأخير لإسرائيل أثناء غزوها لبقية فلسطين وثلاث دول عربية أخرى في حرب عام 1967؛ يفوق الدعم الشعبي لإسرائيل في الولايات المتحدة وجميع الدول الأوروبية الأخرى (67 في المئة من الهولنديين دعموا إسرائيل مقارنة بـ55 في المئة من الأمريكيين، و59 في المئة من البريطانيين، و58 في المئة من الفرنسيين).
أما خلال حرب 1973، فلم تكتف هولندا بدعم المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية بالكامل من خلال تزويدها بالأسلحة للدفاع عن الأراضي العربية التي احتلتها بشكل غير قانوني، بل ذهب وزير الدفاع الهولندي من حزب العمل، هينك فريدلينج، إلى حد الاستعانة بالمحرقة للدفاع عن دعم بلاده: "لقد رأيت اليهود يختفون ذات مرة ولم أستطع منع ذلك في حينه، واعتقدت أني لن أرى ذلك مرة أخرى".
وبخلاف الدول الأوروبية الأخرى التي اعترفت بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير في السبعينيات، فقد رفض الهولنديون ذلك بشدة وحاولوا منع الأوروبيين من الاعتراف بهذا الحق. والواقع أن الهولنديين كانوا قد صوتوا ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3237 لعام 1974 الذي اعترف بهذا الحق. وأكد وزير الخارجية الهولندي الجديد حينها، نوربرت شميلزر، لحلفائه الإسرائيليين أنه سيضاعف جهوده "لجعل" هذا الاعتراف الأوروبي "يتلاشى بطريقة مقبولة". وكان الهولنديون أيضا هم الذين أصروا على تخفيف لغة "إعلان مدينة البندقية" الصادر عن المجموعة الأوروبية عام 1980 لدعم الحقوق الفلسطينية.
بالإضافة إلى ما سبق، تتخصص هولندا كذلك في تصدير الكلاب العنصرية إلى وحدة "عوقتص" التابعة للجيش الإسرائيلي لمهاجمة الفلسطينيين ونهش أجسادهم. والواقع أن الدعم الهولندي لإسرائيل قد وصل درجة من التعصب إلى الحد الذي جعله محل انتقاد من جانب دول أوروبية أخرى مؤيدة لإسرائيل ومتعصبة لها على نحو مماثل، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. ففي عام 2012، رفض وزير الخارجية الهولندي أوري روزنثال، من الحزب الليبرالي المحافظ، بيانا أوروبيا مشتركا استشهد بتقرير للاتحاد الأوروبي حول الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، ومن ثم حرص روزنثال على "نسف" تقرير آخر للاتحاد الأوروبي ينتقد السياسات الإسرائيلية. وأصر روزنثال على الإشارة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة باعتبارها مجرد أراض "متنازع عليها"، مكررا موقف إسرائيل الرسمي بشأنها في ذلك الوقت.
هل من المستغرب أن يدافع المسؤولون الهولنديون عن المشاغبين الإسرائيليين المؤيدين للإبادة الجماعية ويدينون مواطنيهم الذين اشتبكوا معهم، ليس لأنهم يهود، بل بسبب هتافاتهم العنصرية وقيامهم بأعمال شغب عنيفة وتهجمهم عليهم؟
وبعد استسلام ياسر عرفات في أوسلو عام 1993، بدأ الهولنديون في تمويل البانتوستانات التي ترعاها إسرائيل. ولكن مع انهيار "عملية السلام"، ظل الإجماع الهولندي قائما على أن إسرائيل لها كل الحق في استخدام أي نوع من العنف تراه ضروريا "للدفاع" عن نفسها، وأن الفلسطينيين هم الذين يتعين عليهم أن يوقفوا "عنفهم". ولم يكن هذا الموقف جديدا، بل كما يوضح المؤرخ بيتر مالكونتنت، فقد عبّرت الصحف الهولندية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين عن مثل هذه الآراء، ووصفت الفلسطينيين بأنهم "مزارعون شرقيون يتمتعون بنفسية قاسية وظالمة، وروح عاطفية، وقادرون على ارتكاب أقسى الفظائغ".
لا يقتصر عشق إسرائيل وكره الفلسطينيين على الطبقة السياسية الهولندية ووسائل الإعلام الهولندية وحدها، بل إن الشعب الهولندي عموما يراوده نفس الشعور. ففي عام 2003، وجدت دراسة استقصائية أجراها صندوق مارشال الألماني أن "المجتمع الهولندي في أوروبا لم يستمر في إظهار أحر المشاعر تجاه إسرائيل فحسب، بل وأيضا أبرد المشاعر تجاه الفلسطينيين".
إضافة إلى إسرائيل، فإن هولندا هي بلا شك الدولة الأكثر معاداة للعرب والمسلمين والفلسطينيين في العالم، على المستوى الرسمي، وعلى المستوى الإعلامي، وعلى المستوى الشعبي. ونظرا لتاريخها الاستعماري الاستيطاني المروع، وكونها كانت واحدة من أكبر تجار العبيد الأفارقة في أوروبا تاريخيا، ناهيك عن تاريخها المؤيد لإسرائيل والمناهض للفلسطينيين، فهل من المستغرب أن يدافع المسؤولون الهولنديون عن المشاغبين الإسرائيليين المؤيدين للإبادة الجماعية ويدينون مواطنيهم الذين اشتبكوا معهم، ليس لأنهم يهود، بل بسبب هتافاتهم العنصرية وقيامهم بأعمال شغب عنيفة وتهجمهم عليهم؟
إن عنصرية المسؤولين الهولنديين تجاه مواطنيهم من ذوي الأصول العربية والمسلمة تتناغم مع تاريخهم الاستعماري الاستيطاني في الأمريكتين، وفي جنوب أفريقيا، وفي إندونيسيا (التي أطلقوا عليها ذات يوم اسم "باتيفيا")، والتزامهم المستمر والمتواصل بإسرائيل ونظام التفوق العرقي اليهودي فيها. إن دفاعهم عن مثيري الشغب الإسرائيليين المؤيدين للإبادة الجماعية باعتبارهم ضحايا وقمعهم للمتظاهرين المناهضين للإبادة الجماعية باعتبارهم مرتكبي مذبحة؛ ما هو إلا أحدث مظهر من مظاهر العنصرية الهولندية المتفشية.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الإسرائيليين هولندا اليهودي الفلسطينيين إسرائيل فلسطين هولندا اليهود مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة مقالات رياضة صحافة تفاعلي رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة وزیر الخارجیة الهولندی للإبادة الجماعیة مع النازیین کانون الأول فی أمستردام فی المئة من بما فی ذلک فی أوروبا أکثر من فی عام فی غزة
إقرأ أيضاً:
مؤتمر العدالة لضحايا الإبادة الجماعية في غزة: محطة مفصلية في مسار المساءلة الدولية
لم يكن مؤتمر "العدالة لضحايا الإبادة الجماعية في غزة" الذي عقد في إسطنبول، في 8-9 شباط/ فبراير 2025، تحت رعاية اتحاد المحامين العرب ونقابة المحامين الأردنيين والتحالف القانوني الدولي من أجل فلسطين، مجرد لقاء حقوقي أو ندوة أكاديمية، بل كان حدثا نابضا بالحيوية والطاقة، حيث التقى خبراء قانونيون وأكاديميون وناشطون ميدانيون من 23 دولة تحت سقف واحد، في مشهد يعكس حجم الالتزام العالمي بمكافحة الإفلات من العقاب وتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني.
ولم يكن المشاركون في هذا المؤتمر مجرد متحدثين عابرين، بل كانوا شخصيات بارزة في مجالات القانون الدولي وحقوق الإنسان، يتمتعون بسجل أكاديمي وحقوقي وميداني غني. فقد ضمّ المؤتمر قضاة ومحامين دوليين، وأكاديميين متخصصين في القانون الجنائي الدولي، ومدافعين حقوقيين، ونشطاء ميدانيين ممن كرسوا حياتهم لمكافحة الإفلات من العقاب وتحقيق العدالة للضحايا.
من بين الدول البارزة التي شهدت حضورا فاعلا؛ البرازيل، وتشيلي، وجنوب إفريقيا، وكندا، وبريطانيا، وفرنسا، وسويسرا، والنمسا، وبلجيكا، وبولندا، وإيطاليا، والأردن، والجزائر، ومصر، وتونس، والمغرب، وفلسطين، وهولندا، ولبنان، وإندونيسيا، وتركيا، والهند.
ومن بين الشخصيات البارزة التي شاركت في المؤتمر، كان لوزيرة خارجية جنوب أفريقيا السابق، د. غريس ناليدي باندور، حضور لافت، حيث أكدت في مداخلتها على التزام بلادها بملاحقة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، مشددة على أن هذه الخطوة ليست مجرد موقف سياسي، بل استجابة قانونية تستند إلى الأدلة والمواثيق الدولية التي تثبت ارتكاب جرائم إبادة ضد الشعب الفلسطيني. كما دعت إلى توسيع نطاق الدعم القانوني لهذه القضية على مستوى الدول والمنظمات الحقوقية الدولية.
إحساسٌ قوي بأن هذه القضية لا تزال تحمل زخما كبيرا، وأن الجهود الحقوقية يجب أن تتواصل بلا توقف. كانت الأجواء مفعمة بالتفاؤل، رغم إدراك الجميع للصعوبات والتحديات التي تواجه العمل القانوني الدولي
كما قدّمت فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة للأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، مداخلة محورية حول دور المحكمة الجنائية الدولية في محاسبة مرتكبي الجرائم في فلسطين، حيث شددت على أهمية المضي قدما في التحقيقات رغم الضغوط السياسية التي تحاول عرقلة العدالة. وأكدت أن ما يحدث في غزة يشكّل انتهاكا خطيرا للقانون الدولي الإنساني، ويجب أن يُقابل بإجراءات قانونية صارمة تضمن محاسبة المسؤولين.
روح الحماس والإصرار على تحقيق العدالة
منذ اللحظة الأولى للمؤتمر، كان واضحا أن المشاركين لم يأتوا لمجرد تبادل الأفكار، بل حملوا معهم اندفاعا حقيقيا، وإصرارا صادقا على تقديم كل ما بوسعهم لدعم القضية الفلسطينية قانونيا وحقوقيا. لم تكن نقاشاتهم مجرد تحليلات نظرية، بل كانت مدفوعة بوعي عملي وتجارب ميدانية، تعكس خبرتهم العميقة وإيمانهم بضرورة التحرك القانوني الفعّال لمحاكمة مرتكبي الجرائم بحق الفلسطينيين.
ما لفت انتباهي أيضا حجم الإقبال والتفاعل من قبل المشاركين، حيث شهدت الجلسات حضورا مكثفا، ولم يكن هناك أي لحظة فتور أو تراجع في مستوى النقاش. كل مداخلة كانت تلقى اهتماما كبيرا، وكل قضية طُرحت للنقاش كانت تتبعها مداولات جادة، مما يعكس مستوى الاحترافية والالتزام لدى الحضور.
تنظيم متميز وإدارة احترافية
لا يمكن الحديث عن نجاح هذا المؤتمر دون الإشادة بحسن التنظيم الذي تميزت به الجهة المنظمة. فقد كان التنظيم مهنيا للغاية، بدءا من الاستقبال والتنسيق اللوجستي، مرورا بجداول الجلسات المحكمة زمنيا، وانتهاء بإدارة النقاشات بشكل يضمن استيعاب جميع وجهات النظر وإعطاء الفرصة لكل المشاركين للتعبير عن رؤاهم.
كان هناك اهتمام كبير براحة الضيوف وتوفير بيئة تفاعلية، حيث أُتيحت للمشاركين فرصة التواصل المباشر والتنسيق المستقبلي ضمن أجواء مريحة، مما جعل المؤتمر لا يقتصر فقط على كونه حدثا أكاديميا، بل منصة حقيقية لتوحيد الجهود الحقوقية الدولية.
برنامج متكامل وجلسات نقاش حيوية
افتُتح المؤتمر بكلمات ترحيبية قدمها كل من بروفيسور أحمد الخالدي، رئيس التحالف القانوني الدولي من أجل فلسطين، وياسين شاملي، رئيس نقابة المحامين الثانية في إسطنبول، وأ. ناصر كمال ناصر، الأمين العام المساعد لاتحاد المحامين العرب، وأ. يحيى أبو عبود، نقيب المحامين الأردنيين. وقد أكدوا جميعا على أهمية الجهد القانوني في دعم القضية الفلسطينية، مشددين على ضرورة تسخير كافة الآليات القانونية لضمان عدم إفلات الجناة من العقاب.
شهد المؤتمر نقاشات معمقة حول مختلف الجوانب القانونية، بدءا من المحكمة الجنائية الدولية، ودور محكمة العدل الدولية، والولاية القضائية العالمية، وحتى سبل العمل الحقوقي على المستوى الوطني والدولي لضمان تحقيق العدالة.
تكريم المشاركين وتقديم هدايا تذكارية
في لفتة تعكس التقدير للجهود المبذولة، تم تقديم دروع تكريمية للمشاركين الرئيسيين، عرفانا بمساهماتهم في إنجاح هذا الحدث الحقوقي، مما أضفى لمسة إنسانية جميلة عززت روح التضامن بين المشاركين، وأكدت على أن هذا المؤتمر ليس نهاية الجهد، بل بداية لمزيد من العمل المشترك.
البيان الختامي وتعهد بمواصلة الجهود
اختُتم المؤتمر ببيان ختامي تمت تلاوته باللغتين العربية والإنجليزية، أكد فيه المشاركون على حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وضرورة مكافحة الإفلات من العقاب، ومواصلة التحركات القانونية لمحاسبة مرتكبي الجرائم في فلسطين.
كما أشاد البيان بجهود جنوب إفريقيا في مقاضاة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، ودعا الدول الأخرى إلى اتخاذ خطوات مماثلة لتعزيز الالتزام بالقانون الدولي. وشدد على أهمية تعزيز الولاية القضائية العالمية، بحيث تتمكن المحاكم الوطنية من محاكمة المتورطين في الجرائم ضد الإنسانية بغض النظر عن أماكن ارتكابها.
كما رحّب المشاركون بجهود مجموعة لاهاي، واعتبروها مبادرة واعدة لتعزيز التعاون القانوني الدولي في مواجهة الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني. وأكد البيان على أهمية تطوير آليات الدعم لهذه المجموعة، وتوسيع نطاق عملها، بما يضمن تكامل الجهود القانونية من مختلف الدول في ملاحقة مرتكبي الجرائم وتعزيز العدالة الدولية.
الرسالة الأهم: هذا الجهد لا يمكن أن يتوقف
ما خرجتُ به من هذا المؤتمر لم يكن مجرد معطيات قانونية جديدة، بل هو إحساسٌ قوي بأن هذه القضية لا تزال تحمل زخما كبيرا، وأن الجهود الحقوقية يجب أن تتواصل بلا توقف. كانت الأجواء مفعمة بالتفاؤل، رغم إدراك الجميع للصعوبات والتحديات التي تواجه العمل القانوني الدولي.
لكن ما يبعث على الأمل هو أن هذا المؤتمر أثبت أن هناك تحركا حقوقيا دوليا جادا لا يمكن تجاهله، وأن الإرادة القانونية موجودة، وتحتاج فقط إلى التنسيق والتكاتف لضمان تحقيق العدالة لضحايا غزة. لقد عكست النقاشات عمق الالتزام القانوني لدى المشاركين، وأظهرت أن هناك وعيا متزايدا بضرورة تحويل الجهود الحقوقية إلى خطوات عملية تؤثر في منظومة العدالة الدولية.
مكاسب قانونية متراكمة تُعزز الأمل في تحقيق العدالة
رغم التحديات التي تواجه العمل الحقوقي، إلا أن الجهود القانونية الدولية بدأت تؤتي ثمارها، مما يبعث الأمل في أن العدالة ليست بعيدة المنال. لقد شهدت الأشهر الأخيرة تطورات قانونية غير مسبوقة، أبرزها تحرك المحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، وهو تطور تاريخي يُعزز مبدأ عدم الإفلات من العقاب ويضع المسؤولين الإسرائيليين تحت طائلة المساءلة الدولية.
كما أن قرار محكمة العدل الدولية الذي اعترف بوجود أدلة معقولة على ارتكاب إسرائيل جرائم إبادة، وألزمها بوقف الانتهاكات في غزة، واتخاذ تدابير لحماية المدنيين، يمثل نقطة تحول مهمة في المسار القانوني للقضية الفلسطينية. هذا القرار، وإن لم يكن يحمل طابعا جنائيا، فإنه يرسّخ الأساس القانوني لمحاسبة إسرائيل على جرائمها أمام المؤسسات الدولية، ويفتح المجال أمام مزيد من التحركات القضائية لملاحقتها.
إلى جانب ذلك، فإن السردية الإسرائيلية التي طالما فرضت نفسها في الخطاب الدولي باتت في حالة انهيار، حيث أدى التوثيق المستمر للجرائم، والشهادات الحقوقية، والتغطية الإعلامية إلى كشف الوجه الحقيقي لإسرائيل أمام العالم، مما جعلها في موقع دفاعي غير مسبوق. لم تعد دولة الاحتلال قادرة على تسويق نفسها كضحية، بل باتت عبئا على المجتمع الدولي بسبب ارتكابها جرائم إبادة، وانتهاكها للقانون الدولي، وتعطيلها عمل مؤسسات دولية حيوية مثل وكالة الأونروا.
التفاعل القانوني وحده ليس كافيا ما لم يقترن بدعم دبلوماسي، وقرارات سياسية شجاعة، والتزام رسمي بإنفاذ القوانين الدولية. وهذا ما يجعل دور الحكومات والبرلمانات والأحزاب السياسية الداعمة لحقوق الإنسان محوريا في تحويل المساءلة القانونية من هدف إلى واقع ملموس
ولا شك أن هذه الإنجازات القانونية لم تأتِ من فراغ، بل كانت ثمرة جهود حقوقيين وخبراء قانونيين مثل الذين شاركوا في هذا المؤتمر، والذين كرّسوا خبراتهم وإمكاناتهم للدفاع عن حقوق الضحايا، والعمل على توثيق الجرائم، ورفع القضايا أمام المحاكم الدولية، وتقديم الاستشارات القانونية للدول والمنظمات التي تدعم العدالة. إن مثل هذه المؤتمرات لا تمثل مجرد لقاءات للنقاش، بل هي جزء من حراك حقوقي عالمي يهدف إلى ترجمة القانون الدولي إلى واقع ملموس، يضمن عدم إفلات مرتكبي الجرائم من العقاب.
كل هذه التطورات تؤكد أن العمل الحقوقي ليس جهدا عبثيا، بل هو مسار تراكمي يحقق اختراقات جوهرية في جدار الحصانة السياسية والقانونية التي تمتعت بها إسرائيل لعقود. وما تحقق حتى الآن، رغم كل الضغوط والعراقيل، يثبت أن الإصرار على المساءلة القانونية قادر على إحداث تغيير حقيقي في ميزان العدالة الدولية.
أهمية الرعاية الدولية لتعظيم الزخم القانوني
ومع ذلك، فإن نجاح هذه التحركات الحقوقية، على أهميتها، لا يمكن أن يعتمد فقط على جهود النشطاء والخبراء القانونيين، بل يحتاج إلى دعم ورعاية من الدول التي تلتزم بالقانون الدولي وتسعى لحماية مبادئ العدالة. فتعظيم الزخم القانوني لا يتحقق فقط عبر الاجتماعات والمؤتمرات، بل من خلال تبني الدول لهذه المبادرات الحقوقية في سياساتها الخارجية، ودعمها في المؤسسات الدولية، وخلق تحالفات قانونية تعزز من فرص محاسبة مرتكبي الجرائم.
إن التفاعل القانوني وحده ليس كافيا ما لم يقترن بدعم دبلوماسي، وقرارات سياسية شجاعة، والتزام رسمي بإنفاذ القوانين الدولية. وهذا ما يجعل دور الحكومات والبرلمانات والأحزاب السياسية الداعمة لحقوق الإنسان محوريا في تحويل المساءلة القانونية من هدف إلى واقع ملموس.