في الأسبوع الماضي، غضب العالم الغربي من الهجمات "المعادية للسامية" المزعومة التي وقعت في أمستردام واستهدفت مشجعي كرة القدم الإسرائيليين، مما أدى إلى إصابة عشرة منهم. وقال الملك فيليم ألكسندر، ملك هولندا، إن هذه "الهجمات" تذكرنا بـ"الأزمان المظلمة والقاتمة التي عانى فيها الشعب اليهودي". لا يبدو أن الملك يعتبر مساواته فيما بين مشجعي كرة القدم الإسرائيليين من مثيري الشغب والشعب اليهودي بأكمله، أو على الأقل بينهم وبين كل اليهود الهولنديين، ضربا من اللاسامية، ناهيك عن مقارنته لاشتباكات بين مشجعي كرة القدم من مثيري الشغب والمتظاهرين المناهضين للإبادة الجماعية بالمحرقة.
ولكن من غير الواضح ما إذا كان الملك يشير هنا إلى أعمال الشغب التي استهدف بها هولنديون معادون للسامية يهود أمستردام بعد الاحتلال النازي، لا سيما في أحداث شباط/ فبراير 1941، أو إلى تعاون الشرطة الهولندية مع النازيين في محاصرة اليهود الهولنديين وترحيلهم عن البلاد، حيث غالبا ما تتجاهل السلطات والثقافة العامة الهولندية منذ نهاية الحرب العالمية ذكر مدى تعاون الهولنديين مع النازيين أثناء احتلال بلادهم. أما هذا التعاون الهولندي مع النازيين، والذي نشط فيه ما لا يقل عن 300 ألف مواطن هولندي، بما في ذلك "صيادو اليهود"، فيختلف تماما عن إشارة الملك إلى ما أسماه فقط بـ"فشل" الهولنديين في حماية المجتمع اليهودي.
كما أصدر الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي يعاني من ضعف في القدرات العقلية ويفتقر إلى أي فكرة خلّاقة، بيانا يحاكي كلمات الملك الهولندي بأن الهجمات "تعكس لحظات مظلمة في التاريخ". بالفعل، لقد أصيب القادة الغربيون بالصدمة إزاء هذه "المذبحة" المزعومة. بل إن صحيفة جيروزالم بوست الإسرائيلية اليمينية قد ذهبت أبعد من ذلك، ووصفت الاشتباكات بأنها "مذبحة أمستردام" وقارنتها بالمذبحة النازية في عام 1938 المعروفة بـ"ليلة تحطيم الزجاج" أو "كريستالناخت". وفي حين انضم الصحافي الإسرائيلي اليساري جدعون ليفي إلى الجوقة بالإشارة إلى الاشتباكات باعتبارها "مذبحة"، فقد فعل ذلك في سياق مقارنتها بالمذابح اليومية والفعلية التي يرتكبها المستوطنون في الضفة الغربية، والتي تتجاهلها الصحافة الغربية.
المرء في حيرة من أمره، هل بالفعل استهدفت الهجمات المزعومة المجتمع اليهودي في أمستردام، بما في ذلك منازل اليهود، والمعابد والمقابر اليهودية، وشركات وأماكن عمل اليهود، أم أنها كانت اشتباكا بين مشجعي كرة القدم الإسرائيليين المثيرين للشغب الذين يؤيدون الإبادة الجماعية والعنصرية؛ والمعارضين الهولنديين للإبادة الجماعية؟
وقد أعلنت الشرطة الهولندية بدورها أن "الأمن سيُعزز في المؤسسات اليهودية في مختلف أنحاء المدينة، التي تضم مجتمعا يهوديا كبيرا". والواقع أن المرء في حيرة من أمره، هل بالفعل استهدفت الهجمات المزعومة المجتمع اليهودي في أمستردام، بما في ذلك منازل اليهود، والمعابد والمقابر اليهودية، وشركات وأماكن عمل اليهود، أم أنها كانت اشتباكا بين مشجعي كرة القدم الإسرائيليين المثيرين للشغب الذين يؤيدون الإبادة الجماعية والعنصرية؛ والمعارضين الهولنديين للإبادة الجماعية؟
وفقا لصحيفة نيويورك تايمز، لقد أظهرت مقاطع الفيديو قبل وقوع الاشتباكات مشجعين إسرائيليين (أتوا إلى أمستردام لحضور مباراة كرة قدم بين نادي إسرائيلي وآخر هولندي خسر فيها الفريق الإسرائيلي) وهم يهتفون "هتافات عنصرية معادية للعرب وهم في طريقهم إلى المباراة"، بما في ذلك أحد الهتافات الشعبية التي تحتفل بالإبادة الجماعية المستمرة للفلسطينيين وإبادة عشرات الآلاف من الأطفال الفلسطينيين في غزة: "لماذا لا توجد مدرسة في غزة؟ لأنه لا يوجد أطفال في غزة". وفي الليلة السابقة للمباراة، "حطم مشجعون إسرائيليون سيارة أجرة وأحرقوا العلم الفلسطيني، كما قالت الشرطة الهولندية"، كما أزالوا الأعلام الفلسطينية من أمام منازل السكان المحليين. وتعرض كذلك سائق سيارة أجرة هولندي من أصل عربي للهجوم. وفي الليلة السابقة للمباراة أيضا، صرخ المشاغبون الإسرائيليون أيضا بألفاظ نابية في وجه الهولنديين المحليين في ساحة دام بما في ذلك "اللعنة عليك يا فلسطين". ومن المفترض أنهم استهدفوا مواطنين هولنديين من أصول عربية ومسلمة في الساحة.
على ضوء ما حدث، ما الذي قد يدفع الملك الهولندي وجوقة من الساسة الهولنديين، بما في ذلك عمدة أمستردام، إلى إدانة مواطنيهم باعتبارهم "معاديين للسامية" عندما كان المشاغبون الإسرائيليون المؤيدون للإبادة الجماعية هم الذين استفزوهم وهاجموهم واشتبكوا معهم، مما أثار جنون الغرب وكأن مذبحة حقيقية استهدفت المجتمع اليهودي في أمستردام؟
ربما مراجعة السياق التاريخي للعلاقة بين هولندا وإسرائيل تلقي بعض الضوء على ما يجري:
في الثالث من أيلول/ سبتمبر 2024، وفي خضم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في غزة، احتفلت هولندا بمرور 75 عاما على إقامة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، في حفل استقبال كبير في لاهاي بحضور السفير الإسرائيلي ووزير الخارجية الهولندي الحالي كاسبر فيلدكامب. ولم تعترف هولندا، التي صوتت لصالح قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، بإسرائيل رسميا إلا في كانون الأول/ ديسمبر 1949 عندما أقامت علاقات معها، وقانونيا في كانون الثاني/ يناير 1950، أي بعد أكثر من عام وسبعة أشهر من إقامة المستعمرة الاستيطانية اليهودية الأوروبية.
ولم يكن هذا التأخير في الاعتراف راجعا إلى أي نفور من المستعمرات الاستيطانية البيضاء، التي كان الهولنديون روادا لها في الأمريكيتين وجنوب أفريقيا وجنوب شرق آسيا لمدة أربعة قرون (في الواقع، قام الهولنديون ببناء أول جدار فصل عنصري لإبعاد "الهنود الحمر"، أي الشعب الأصلي، عما يُعرف اليوم بجنوب جزيرة مانهاتن في نيويورك، الذي يُكرّم موقعه السابق شارع "وول ستريت" أي "شارع الجدار"، الذي سُمي على اسمه)، بل كان راجعا إلى المفاوضات التي فرضتها الأمم المتحدة في ذلك الوقت لتفكيك المستعمرة الاستيطانية الهولندية في إندونيسيا، والتي لم يرغب الهولنديون في تعريضها للخطر من خلال الإساءة إلى الإندونيسيين، الذين قتلوا منهم 100 ألف شخص منذ عام 1945 وحده، تم إعدام 40 ألفا منهم. وقد ارتكب الهولنديون هذه المذابح مباشرة بعد انتهاء المحرقة وبعد تحرير بلادهم من النازيين. وقد حصلت إندونيسيا على استقلالها في 27 كانون الأول/ ديسمبر 1949، وعندها شعر الهولنديون أنه بإمكانهم الاعتراف بإسرائيل.
في الواقع، وعلى النقيض من جميع الدول الأوروبية الأخرى التي كانت قد أقامت علاقات مع إسرائيل وأنشأت سفاراتها في تل أبيب، قامت هولندا بإنشاء سفارتها في القدس الغربية، التي كانت إسرائيل قد ضمَّتها بشكل غير قانوني في 5 كانون الأول/ ديسمبر 1949. وقد أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 كانون الأول/ ديسمبر 1949 القرار 303 الذي أدان هذا الضم باعتباره انتهاكا للقانون الدولي. ولم تقم هولندا بنقل سفارتها إلى تل أبيب إلا في عام 1980، استجابة لتوجيهات صارمة من المجموعة الأوروبية بعد ضم إسرائيل للقدس الشرقية. ومع ذلك، فإن هولندا تستعد اليوم لنقل سفارتها مجددا إلى القدس، في خطوة تعكس اعترافها بشرعية الضم.
منذ عام 1950، كانت هولندا على حد تعبير المؤرخ الهولندي بيتر مالكونتنت، "الدولة الأكثر تأييدا لإسرائيل في أوروبا". وبينما تعاون العديد من الهولنديين، شأنهم شأن غيرهم من الشعوب الأوروبية، مع النازيين أثناء الحرب العالمية الثانية لترحيل وقتل الغالبية العظمى من اليهود الهولنديين (أكثر من 105 آلاف شخص)، فقد أعربوا، أيضا كغيرهم من الأوروبيين، عن توبتهم عن جرائمهم عبر دعم الاستعمار الاستيطاني اليهودي في فلسطين بعد الحرب.
كان المسيحيون الهولنديون يُعتبرون عرقا شقيقا للألمان والآريين، وقد قام النازيون بتعبئتهم واعتبارهم مساوين للألمان. وقد كانت هولندا بحلول نهاية الحرب هي الدولة التي شهدت أكبر عدد من القتلى اليهود من بين الدول التي غزاها النازيون في أوروبا الغربية، سواء من حيث النسب المئوية (قُتِل أكثر من 75 في المئة من اليهود الهولنديين) أو من حيث الأعداد المطلقة، أكثر من بلجيكا أو فرنسا.
لقد كان رئيس الوزراء الهولندي الديمقراطي الاجتماعي ويليم دريس، الذي كان أسير حرب سابق محتجز في معسكر اعتقال بوخنفالد الألماني، أكثر تعاطفا مع المستعمرات الاستيطانية بشكل عام. ولم يكتف بتعزيز صداقة بلاده مع إسرائيل، بل سعى حتى إلى إقامة صداقة شخصية مع ديفيد بن غوريون. ولكن الحب والعشق اللذين تكنّهما هولندا الاستعمارية لإسرائيل يتجاوزان الأحزاب السياسية.
والواقع أن جوزيف لونز، وزير الخارجية الهولندي الذي خدم من عام 1952 إلى عام 1972، وكان عضوا في حزب الشعب الكاثوليكي، كان ملتزما بدعم إسرائيل تماما مثل دريس. وقد فسر دريس ولونس حبهما لإسرائيل على أنه نتيجة للمحرقة النازية، شأنهما في ذلك شأن أغلبية الشعب الهولندي، حيث كان دعم الأخير لإسرائيل أثناء غزوها لبقية فلسطين وثلاث دول عربية أخرى في حرب عام 1967؛ يفوق الدعم الشعبي لإسرائيل في الولايات المتحدة وجميع الدول الأوروبية الأخرى (67 في المئة من الهولنديين دعموا إسرائيل مقارنة بـ55 في المئة من الأمريكيين، و59 في المئة من البريطانيين، و58 في المئة من الفرنسيين).
أما خلال حرب 1973، فلم تكتف هولندا بدعم المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية بالكامل من خلال تزويدها بالأسلحة للدفاع عن الأراضي العربية التي احتلتها بشكل غير قانوني، بل ذهب وزير الدفاع الهولندي من حزب العمل، هينك فريدلينج، إلى حد الاستعانة بالمحرقة للدفاع عن دعم بلاده: "لقد رأيت اليهود يختفون ذات مرة ولم أستطع منع ذلك في حينه، واعتقدت أني لن أرى ذلك مرة أخرى".
وبخلاف الدول الأوروبية الأخرى التي اعترفت بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير في السبعينيات، فقد رفض الهولنديون ذلك بشدة وحاولوا منع الأوروبيين من الاعتراف بهذا الحق. والواقع أن الهولنديين كانوا قد صوتوا ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3237 لعام 1974 الذي اعترف بهذا الحق. وأكد وزير الخارجية الهولندي الجديد حينها، نوربرت شميلزر، لحلفائه الإسرائيليين أنه سيضاعف جهوده "لجعل" هذا الاعتراف الأوروبي "يتلاشى بطريقة مقبولة". وكان الهولنديون أيضا هم الذين أصروا على تخفيف لغة "إعلان مدينة البندقية" الصادر عن المجموعة الأوروبية عام 1980 لدعم الحقوق الفلسطينية.
بالإضافة إلى ما سبق، تتخصص هولندا كذلك في تصدير الكلاب العنصرية إلى وحدة "عوقتص" التابعة للجيش الإسرائيلي لمهاجمة الفلسطينيين ونهش أجسادهم. والواقع أن الدعم الهولندي لإسرائيل قد وصل درجة من التعصب إلى الحد الذي جعله محل انتقاد من جانب دول أوروبية أخرى مؤيدة لإسرائيل ومتعصبة لها على نحو مماثل، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. ففي عام 2012، رفض وزير الخارجية الهولندي أوري روزنثال، من الحزب الليبرالي المحافظ، بيانا أوروبيا مشتركا استشهد بتقرير للاتحاد الأوروبي حول الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، ومن ثم حرص روزنثال على "نسف" تقرير آخر للاتحاد الأوروبي ينتقد السياسات الإسرائيلية. وأصر روزنثال على الإشارة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة باعتبارها مجرد أراض "متنازع عليها"، مكررا موقف إسرائيل الرسمي بشأنها في ذلك الوقت.
هل من المستغرب أن يدافع المسؤولون الهولنديون عن المشاغبين الإسرائيليين المؤيدين للإبادة الجماعية ويدينون مواطنيهم الذين اشتبكوا معهم، ليس لأنهم يهود، بل بسبب هتافاتهم العنصرية وقيامهم بأعمال شغب عنيفة وتهجمهم عليهم؟
وبعد استسلام ياسر عرفات في أوسلو عام 1993، بدأ الهولنديون في تمويل البانتوستانات التي ترعاها إسرائيل. ولكن مع انهيار "عملية السلام"، ظل الإجماع الهولندي قائما على أن إسرائيل لها كل الحق في استخدام أي نوع من العنف تراه ضروريا "للدفاع" عن نفسها، وأن الفلسطينيين هم الذين يتعين عليهم أن يوقفوا "عنفهم". ولم يكن هذا الموقف جديدا، بل كما يوضح المؤرخ بيتر مالكونتنت، فقد عبّرت الصحف الهولندية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين عن مثل هذه الآراء، ووصفت الفلسطينيين بأنهم "مزارعون شرقيون يتمتعون بنفسية قاسية وظالمة، وروح عاطفية، وقادرون على ارتكاب أقسى الفظائغ".
لا يقتصر عشق إسرائيل وكره الفلسطينيين على الطبقة السياسية الهولندية ووسائل الإعلام الهولندية وحدها، بل إن الشعب الهولندي عموما يراوده نفس الشعور. ففي عام 2003، وجدت دراسة استقصائية أجراها صندوق مارشال الألماني أن "المجتمع الهولندي في أوروبا لم يستمر في إظهار أحر المشاعر تجاه إسرائيل فحسب، بل وأيضا أبرد المشاعر تجاه الفلسطينيين".
إضافة إلى إسرائيل، فإن هولندا هي بلا شك الدولة الأكثر معاداة للعرب والمسلمين والفلسطينيين في العالم، على المستوى الرسمي، وعلى المستوى الإعلامي، وعلى المستوى الشعبي. ونظرا لتاريخها الاستعماري الاستيطاني المروع، وكونها كانت واحدة من أكبر تجار العبيد الأفارقة في أوروبا تاريخيا، ناهيك عن تاريخها المؤيد لإسرائيل والمناهض للفلسطينيين، فهل من المستغرب أن يدافع المسؤولون الهولنديون عن المشاغبين الإسرائيليين المؤيدين للإبادة الجماعية ويدينون مواطنيهم الذين اشتبكوا معهم، ليس لأنهم يهود، بل بسبب هتافاتهم العنصرية وقيامهم بأعمال شغب عنيفة وتهجمهم عليهم؟
إن عنصرية المسؤولين الهولنديين تجاه مواطنيهم من ذوي الأصول العربية والمسلمة تتناغم مع تاريخهم الاستعماري الاستيطاني في الأمريكتين، وفي جنوب أفريقيا، وفي إندونيسيا (التي أطلقوا عليها ذات يوم اسم "باتيفيا")، والتزامهم المستمر والمتواصل بإسرائيل ونظام التفوق العرقي اليهودي فيها. إن دفاعهم عن مثيري الشغب الإسرائيليين المؤيدين للإبادة الجماعية باعتبارهم ضحايا وقمعهم للمتظاهرين المناهضين للإبادة الجماعية باعتبارهم مرتكبي مذبحة؛ ما هو إلا أحدث مظهر من مظاهر العنصرية الهولندية المتفشية.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الإسرائيليين هولندا اليهودي الفلسطينيين إسرائيل فلسطين هولندا اليهود مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة مقالات رياضة صحافة تفاعلي رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة وزیر الخارجیة الهولندی للإبادة الجماعیة مع النازیین کانون الأول فی أمستردام فی المئة من بما فی ذلک فی أوروبا أکثر من فی عام فی غزة
إقرأ أيضاً:
فلسطين بين الاحتلال والاستيطان والإبادة الجماعية
في مقال نشرته مؤخرا مجلة فورين أفيرز (Foreign Affairs) الأمريكية لمجموعة من الكتاب والباحثين الغربيين، تناولوا فيه تحليل أهداف بنيامين نتنياهو من الحرب على غزة. والمقال بعنوان "هل يمكن الفوز بالحرب في غزة؟"، وشارك في تحريره كل من نورا عريقات وجوش بول وتشارلز بلاها ولويجي دانييل وجون سبنسر، ضمن مجموعة مقالات نشرت عن الحرب على غزة. والعجيب أن عنوانا فرعيا للمقال كان أكثر وضوحا، "لا يوجد انتصار في غزة"، وربما فضلت إدارة المجلة تصدير العنوان الأول خشية ردة الفعل من العنوان الثاني.. في هذا المقال تحدث الكتّاب عن هدف آخر للحرب يسعى بنيامين نتنياهو ورفاقه في الحكومة إلى تحقيقه، وهو الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة.
استعرض الكتّاب الأهداف التي أعلنها نتنياهو مع بداية الحرب وكلها أهداف لم تتحقق، وعلى رأسها إطلاق سراح الأسرى وهزيمة حماس، وبيّنوا أن كل ما تحقق هو أهداف تكتيكية لن تحقق السلام أو الاستقرار لدولة الكيان، لكنهم وبخبرة الباحثين المهرة أدركوا أن ما يدور لا علاقة له بتلك الأهداف المعلنة، لأنه وببساطة لو ركزت دولة الكيان على أي من تلك الأهداف لقامت بتركيز الجهد العسكري من أجل ذلك، عوضا عن استهداف المدنيين من الأطفال والشيوخ والنساء، ناهيك عن التدمير الشامل للمنشآت المدنية والحيوية الضرورية لحياة المدنيين.
والحقيقة أن المقال كاشف لحقيقة ما يجري في غزة والضفة منذ الاجتياح البري لغزة في نهاية العام الماضي، فتصريحات وزير المالية الصهيوني بتسلئيل سموتيريتش ووزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير وتصرفاتهما تسير في اتجاه التخلص من كل فلسطيني في الضفة، فالأول على سبيل المثال طالب بتطهير الأرض الفلسطينية من الفلسطينيين وإعادة توطين اليهود في تلك الأماكن، كما قام بن غفير بتسليح قطاع المستوطنين من أجل إرهاب الفلسطينين وإخراجهم من الضفة، وطالب بإعادة استيطان غزة واحتلالها. في نفس الوقت فإن نتنياهو نفسه أعلن أنه لا مكان لدولة فلسطينية في الأراضي المحتلة، كما أقر الكنيست في عام 2018 تشريعا ينص على أن اليهود فقط هم من يحق لهم تقرير المصير وليس أي شعب آخر، وهو تشريع يناقض قرارات الأمم المتحدة التي تنص على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وقد أعادت الجمعية العامة للأمم المتحدة مرارا التأكيد على ذلك في قرارها الصادر في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024.
في خطوة أخرى قام الكنيست في 28 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي بحظر وإغلاق مكاتب وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، بمعنى أن نتنياهو وحكومته وبرلمانه قرروا نسف حق اللاجئين في الرعاية والتشغيل لحين عودتهم؛ لأن نتنياهو لم يعد يعتبرهم لاجئين، وهذا هو أخطر ما في الموضوع ويعيد إلينا ذكريات التفاوض حول حق اللاجئين في العودة وتعويضهم، وهو حق منصوص عليه في قرارات الأمم المتحدة (القرار 194)، وينص القرار على أنه "يجب أن يسمح للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش في سلام مع جيرانهم بأن يفعلوا ذلك في أقرب وقت ممكن عمليا، وأن يدفع تعويض عن ممتلكات من يختارون عدم العودة وعن الخسائر أو الأضرار التي تلحق بالممتكلات بموجب مبادئ القانون الدولي أو الإنصاف الدولي، ينبغي أن تنفذها الحكومات أو السلطات المسؤولة".
المسألة لم تتوقف عند القتل والدمار الشامل، بل رافقت هذه الحرب عدة خطوات تشريعية كما ذكرنا لتحويل الموضوع من حرب على شعب احتُلت أرضه إلى حرب على تنظيمات مقاومة يسمونها تخريبية، وبذلك ترغب دولة الاحتلال في تصفية نهائية للقضية، وإذا لم يكن بمقدورها تهجير جميع الفلسطينيين فإنها تسعى إلى قتل وإبادة أكبر عدد منهم بالآلة العسكرية الهمجية والتجويع والحصار، كما ذكرت اللجنة الخاصة للأمم المتحدة للتحقيق في الممارسات الإسرائيلية في تقرير نشر يوم 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 وجاء فيه أن "حرب إسرائيل في غزة تتوافق مع خصائص الإبادة الجماعية مع سقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحة والظروف المهددة للحياة المفروضة عمدا على الفلسطينيين هناك". وقال التقرير في فقرة أخرى: "منذ بداية الحرب دعم مسؤلون إسرائيليون علنا سياسات لسلب الفلسطينيين من الضرورات الأساسية لاستمرار الحياة من الغذاء والماء والوقود، هذه التصريحات مع التدخل المنهجي وغير القانوني في المساعدات الإنسانية تجعل نية إسرائيل واضحة في استغلال الإمدادات المنقذة للحياة لتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية".
لم تتغير سياسة الكيان الصهيوني منذ إنشائه وحتى اليوم رغم الحروب المتعددة التي شنها على الفلسطينين ورغم الدمار الشامل التي تحدثه تلك الحروب، فدولة الكيان لا تزال تسعى من أجل تحقيق هدف بعيد وهو إخضاع الإرادة الفلسطينية بكافة الطرق والسبل غير المشروعة، وهذا هدف مستحيل في ظل الصمود الفلسطيني التاريخي
ورغم إدانة الأمم المتحدة لسياسات التجويع والحصار ووصفها بأنها إبادة جماعية، فإن الولايات المتحدة وعبر وزير خارجيتها الصهيوني أنتوني بلينكن تزعم أنها لم تر ما يثبت أن هناك إبادة جماعية، إذ يبدو أنها تريد القول بأنه كيف تكون هناك إبادة جماعية ونحن نشاهد المئات من الفلسطينيين يوميا على الشاشات وهم أحياء، صحيح أنهم يعانون ولكنهم لا زالوا أحياء يمشون على الأرض! فالإبادة في عرف الصهاينة أمريكيين كانوا أو إسرائيليين أو حتى عربا؛ هي التخلص من آخر فلسطيني يعيش على أرض فلسطين.
لقد أسقط الاحتلال على غزة 25 ألف طن من المتفجرات بما يعادل قنبلتين نوويتين، فهل كانت هذه القنابل من أجل تدمير قوة المقاومة أم من أجل محو أحياء بكاملها من فوق الخريطة، وقتل عشرات الألوف من الأبرياء ودفعهم لترك بيوتهم وممتلكاتهم حتى يأتي صهيوني أو يهودي من أقصى بلاد أوروبا وأمريكا ليسكن فيها، بحجة أن هذا هو الحق الإلهي الذي جاء ذكره في التوراة وفي العهود القديمة؟
لقد تم تدمير المستشفيات والمدارس والجامعات والمدارس والمساجد والكنائس وحتى الأثار التاريخية تم تدمير ما يقارب 206 مواقع أثرية وتراثية من بين 325 موقعا وأثرا تاريخيا في غزة، فهل هذه حرب احتلال أم إبادة جماعية وتهجير وإعادة رسم الخريطة البشرية في فلسطين من جديد؟
لم تتغير سياسة الكيان الصهيوني منذ إنشائه وحتى اليوم رغم الحروب المتعددة التي شنها على الفلسطينين ورغم الدمار الشامل التي تحدثه تلك الحروب، فدولة الكيان لا تزال تسعى من أجل تحقيق هدف بعيد وهو إخضاع الإرادة الفلسطينية بكافة الطرق والسبل غير المشروعة، وهذا هدف مستحيل في ظل الصمود الفلسطيني التاريخي وعبر العصور. وإذا كان زعماء هذه الدولة يؤمنون بأنه لا وجود لدولة فلسطينية بجوار دولة اليهود فإن الارادة الفلسطينية الصلبة تقف حجر عثرة في طريق تحقيق ذلك الأمر، لا بل إن الفلسطينيين يؤمنون بعكس ما يحلم به الصهاينة وهو أنه لا حق لدولة يهودية على أرض فلسطين.