في عالم الفكر الإسلامي المعاصر، يعد المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي (1905-1973) من المفكرين القلائل الذين تناولوا قضايا النهضة بمنهجية شمولية، وبأسلوبٍ تحليلي عميق.  حيث كان مالك يرى أن النهضة ليست مجرد حالة اقتصادية أو سياسية، بل هي “إعادة إحياء للمجتمع بأسره، تبدأ من الإنسان وتنتشر نحو المجتمع” ويعتبر الثقافة هي القاعدة التي يستند عليها المجتمع في نهوضه ونجاته من السقوط في الهاية، في قوله: “الثقافة هي الجسر الذي يعتبره المجتمع إلى الرقي والتمدن” (شروط الحضارة، مالك بن نبي ص 86)، كما يقول في هذا السياق: “إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته”.

وهذا الاقتباس يعبر عن الفهم العميق لمالك حول أهمية بناء الإنسان أولاً، ثم تمكين المجتمع من خلاله، ليكون المجتمع قادرًا على تحقيق نهضة فكرية واجتماعية واقتصادية شاملة.

ولقد كان فكر مالك بن نبي محوريًا في تسليط الضوء على مفهوم “القابلية للاستعمار”، إذ رأى أن مشكلة المجتمعات الإسلامية ليست في قوة الاستعمار بحد ذاته، بل في استعداد المجتمع للتبعية من خلال القابلية الداخلية لقبولها. وقد عدّ هذا المفهوم نقطة مركزية في تشخيصه لأزمة الحضارة الإسلامية المعاصرة، مشيرًا إلى أن تحرير الشعوب يبدأ بتحرير الأفكار، وتهذيب السلوكيات، قبل التطلع إلى التحرر المادي والسياسي. وفي هذا السياق، يُقدم مالك مشروعه الفكري كمحاولة لتوجيه أنظار الشعوب الإسلامية إلى الداخل، وإلى مواطن الضعف التي تستدعي الإصلاح.

ومن بين أبرز أعماله، يأتي كتابه “شروط النهضة”، وفيه يضع معالم واضحة لتجاوز حالة الانحطاط. إذ طرح في هذا الكتاب فكرة أن النهضة لا تتحقق من خلال استيراد التكنولوجيا أو تقليد النماذج الغربية، بل عبر إعادة تشكيل الوعي الجماعي للمجتمع الإسلامي. ونراه يركز على أهمية بناء “الإنسان الفاعل”، الذي يتحمل مسؤولية التطور والعصرنة، ويكون قادرًا على توجيه طاقاته في سبيل إحياء القيم الحضارية الإسلامية. كما شدد على ضرورة التخلص من “العقلية الاستهلاكية” التي تجعل الأفراد تابعين للغرب، والدعوة إلى الاعتماد على الذات، وابتكار حلول تتناسب مع خصوصيات المجتمع الإسلامي.

وفي كتاباته الأخرى، مثل “الفكرة الإفريقية الآسيوية عام 1956م” و”وجهة العالم الإسلامي عام 1954م”، وقد تناول مالك بن نبي كيف يمكن للمجتمع الإسلامي أن يواجه تحدياته الداخلية والخارجية من خلال بناء هوية حضارية مستقلة، معتمدة على الإبداع والتفكير النقدي. ولم تكن مشكلة المجتمعات الإسلامية في نظره مشكلة اقتصادية أو سياسية فحسب، بل هي أساسًا مشكلة “أفكار” تحتاج إلى مراجعة، وتطوير شامل؛ بيّن أن الأفكار تمثل الأساس الذي يبنى عليه تقدم الشعوب، وبدونها تبقى المجتمعات تدور في حلقة مفرغة من التخلف. وفي ذلك يقول: “لا يقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من (أشياء)، بل بمقدار ما فيه من أفكار” (ميلاد مجتمع، مالك بن نبي، ص 35). وكما يقول: “فنهضة العالم الإسلامي إذن ليست في الفصل بين القيم، وإنما هي في أن يجمع بين العلم والضمير، بين الخلق والفن، بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، حتى يتسنى له أن يشيد عالمه طبقاً لقانون أسبابه ووسائله، وطبقاً لمقتضيات غاياته” (وجهة العالم الإسلامي، ص 169).

وفي كتابه “ميلاد مجتمع”، الذي يعتبر من الكتب الأساسية التي حملت أفكار  مالك، من حيث التأسيس للمفاهيم الخاصة ببناء المجتمعات، ويتحدث عن كل ما يخص المجتمع، وفرّق فيه بين المجتمعات البدائية والتاريخية، فهو يقدم رؤية واضحة حول كيفية بناء مجتمع حضاري؛ ينطلق من الفرد، ويتجه نحو خلق مجتمع متكامل، يحمل هوية ثقافية واضحة، ويعتمد على قيم مشتركة وقوية. ويرى مالك بأن هذا المجتمع لا يمكن أن يُبنى دون الفرد “الفاعل”، وذلك الفرد هو من يدرك مسؤوليته تجاه محيطه، ويسهم في تطويره، بعيدًا عن الأنانية الفردية. فالمجتمع المثالي، في نظره، ليس مجرد تجمع بشري، بل هو كيان يحمل طموحات مشتركة، وقادر على مواجهة الصعاب والتحديات.

شكل فكر مالك بن نبي مصدر إلهام وتنوير فكري، وخلق هاجساً ملحاً حول سؤال النهضة والإصلاح، وشروط الحضارة، ويمكن للشعوب العربية والإسلامية الاستفادة من فكره عبر تبني عدد من القيم والمبادئ. فلا بد من التركيز على تحرير الفكر، وتشجيع الابتكار في الأجيال الشابة. فضلاً عن تخليص العقل الإسلامي من قيود التقليد الأعمى للغرب، والسعي لإيجاد حلول محلية تتوافق مع ثقافة المجتمع الإسلامي واحتياجاته “أهلنة المعرفة”. كما يجب إعادة بناء الفرد، بحيث يصبح عنصرًا فاعلًا، وقادرًا على إحداث التغيير، ومن هنا يمكن للمجتمع أن يَبني نهضة تستند إلى الكفاءة والتحصين الذاتي، والمسؤولية الفردية والجماعية، وبالثقافة والتعليم هما ركيزتان أساسيتان في النهوض، فالتعليم هو السبيل لبناء جيل واعٍ يسهم في تطوير مجتمعه. كما أن استقلال القرار السياسي والاقتصادي سيقود إلى تحرر حقيقي، شرط أن يكون هذا التحرر مدعومًا بوعي ثقافي وحضاري. ويرى أن خطوات النهوض التي يبدأها الجيل المعاصر هي التي تمهد الطريق للأجيال القادمة في عملية التحرير والتغيير، فيقول: “لن نستطيع إنقاذ ذريتنا من الأجيال القادمة إلا بالعمل الشاق الذي يقوم به جيلنا الحاضر، وعندما تحقق تلك المعجزة التي تكون بانتصارنا على أنفسنا، وعلى أهوال الطبيعة، فإننا سوف نرى أن أية رسالة في التاريخ نحن منتدبون إليها، لأننا نكون قد شرعنا في بناء حياة جديدة، ابتدأت بالجهود الجماعية بدل الجهود الفردية…” (شروط النهضة، مالك بن نبي، ص 136).

إن فكر مالك بن نبي يمثل دعوة صريحة للنهوض بالمجتمع العربي والإسلامي من خلال القيم والأفكار، وإعادة بناء الفرد، وترسيخ قيم الإبداع، والاستقلالية عن الأَسر الغربي. وتعتبر أفكاره إطارًا يمكن للعرب والمسلمين تبنيها؛ لاستعادة دورهم الحضاري، في عالم يشهد تحولات متسارعة ومستمرة.

المراجع:

مالك  مالك بن الحاج عمر بن الخضر بن نبي (ت ١٣٩٣هـ)، ميلاد مجتمع، ترجمة: عبد الصبور شاهين، (دمشق: دار الفكر، ط3، 1406ه/ 1986م).

مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة: عبد الصبور شاهين، (دمشق: دار الفكر، 1986م).

مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة عبد الصبور شاهين، (دمشق: دار الفكر، 2002م).

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

المصدر: عين ليبيا

كلمات دلالية: العالم الإسلامی من خلال

إقرأ أيضاً:

عكرمة صبري: اليمين المتطرف يلهو ويعربد كيفما شاء في رحاب المسجد الأقصى

#سواليف

حذر #خطيب_المسجد_الأقصى #الشيخ_عكرمة_صبري، من أن #المسجد_الأقصى المبارك بات مستباحا وتحت تصرف #اليهود_المتطرفين الذين يعربدون ويستفزون #المسلمين، وقال إن مدينة #القدس تحولت إلى ثكنة عسكرية.

وأكد الشيخ عكرمة أن قوات الأمن الإسرائيلية تشدد الحصار على أبواب المسجد الأقصى الخارجية، وتمنع المسلمين من دخوله لتفسح المجال لمئات #المستوطنين من أجل اقتحام واستباحة الأقصى المبارك.

وأضاف -في مقابلة مع قناة الجزيرة- أن اليمين المتطرف يلهو ويعربد كيفما شاء في رحاب الأقصى المبارك، وتجاوز الخطوط الحمراء في هذا اليوم بإقامة الشعائر الدينية التي تخصهم، ليوهموا العالم بأن الأقصى تحت سيطرتهم.

مقالات ذات صلة تحذيرات من عاصفة شمسية قد تدمر العالم الرقمي وتعيدنا إلى القرن الـ19 ..هذا ما سيحدث 2025/04/16

واقتحم أكثر من 3 آلاف مستوطن إسرائيلي المسجد الأقصى خلال 3 أيام، وأفادت مصادر للجزيرة صباح اليوم الأربعاء بأن مستوطنين إسرائيليين بدؤوا اقتحاماتهم للمسجد الأقصى في رابع أيام عيد الفصح اليهودي وسط حراسة أمنية مشددة.

وعلق الشيخ عكرمة على هذا الاقتحام بالقول: “هذا اليوم يعتبر من الأيام الحرجة والأيام الحزينة بالنسبة للمسلمين، لأن الأقصى يستباح.. وهو الآن تحت تصرف اليهود المتطرفين الذين يعربدون ويستفزون المسلمين”.

وكشف أن سلطت الاحتلال الإسرائيلي ومنذ اليوم الأول للحرب على قطاع غزة تشدد على المسلمين بالمسجد الأقصى، وتلاحق الشباب في مدينة القدس، كما أنها شددت قبضتها على الأقصى وعلى مدينة القدس بالذات، حيث عزلتها عن سائر المناطق.

وقد استغل الاحتلال -وفقا لما قاله الشيخ عكرمة- الحرب التي يشنها على قطاع غزة للتوغل والتغول في موضوع القدس والأقصى، مشيرا إلى أن الاحتلال خفف بعض القيود عن المسجد الأقصى في شهر رمضان المبارك، لكنه عاد للتضييق الشديد ومنع الشباب المسلمين من الدخول مع قرب الأعياد اليهودية.

وفي السياق نفسه، دعا الشيخ عكرمة الفلسطينيين في الداخل إلى مواصلة قدومهم إلى المسجد الأقصى مثلما فعلوا في شهر رمضان، وقال إن قدومهم أيام السبت والجمعة لا يكفي، لأن اقتحامات المتطرفين اليهود تأتي في الأيام الأخرى من الأسبوع.

وقال: “إخواننا في أراضي 48 لا يقصرون، بمعنى أنهم قادرون على القدوم، ولا بد وأن يوجه لهم نداء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بشد الرحال إلى الأقصى المبارك”.

وشدد خطيب المسجد الأقصى على أن الإجراءات العدوانية للاحتلال لن تكسبه الحق في موضوع الأقصى، وندد بتجاوزاته واعتداءاته على الأقصى وعلى الأوقاف الإسلامية، وقال إن سحب صلاحيات من الوقف الإسلامي ومن حراس الأقصى الذين يرتبطون بالوقف الإسلامي تشل حركتهم في أيام أعياد اليهود، “وهذا اعتداء سافر على مؤسسة الوقف الإسلامي واعتداء سافر على الأردن”.

مقالات مشابهة

  • الشيخة جواهر: الشارقة تقدم نموذجاً عالمياً في بناء الإنسان
  • مسؤولون: «كيف تبني مسكنك؟» يعزز الوعي المالي لدى الشباب المواطنين
  • أكاديمية الشرطة تنظم مؤتمرًا علميًا حول مفردات بناء الشخصية المصرية ومردودها على الأمن
  • إطلاق برنامج «كيف تبني مسكنك؟» لتمكين المواطنين المقبلين على الزواج (فيديو)
  • إطلاق برنامج «كيف تبني مسكنك؟» لتمكين المواطنين المقبلين على الزواج
  • عكرمة صبري: اليمين المتطرف يلهو ويعربد كيفما شاء في رحاب المسجد الأقصى
  • الصحة والبنك الدولي يبحثان سبل التعاون للنهوض بالقطاع الصحي
  • ملتقى الأزهر: بناء الأسرة على أُسسٍ صحيحةٍ الركيزة الأولى لتماسك المجتمعٍ
  • خلال زيارته للقاهرة.. وزير العمل التركي يزور دار القرآن الكريم بمركز مصر الثقافي الإسلامي
  • علي جمعة: الفهم الصحيح لآليات التعامل مع الموروث الإسلامي من أسباب النهضة الحضارية