في ظل المتغيرات المتسارعة التي تعصف بالمجتمعات البشرية، وتراجع منظومة القيم الأخلاقية، يأتي الاحتفاء بـ«اليوم العالمي للتسامح»، في السادس عشر من نوفمبر، كمحاولة بائسة لإرساء وتعزيز وترسيخ تلك الثقافة «الضائعة» في متاهات العنصرية والتمييز والكراهية والجرائم الوحشية وحروب الإبادة!
ورغم واقعنا المرير، واعتقاد الأغبياء بأن «التسامح» قد يكون عجزًا، إلا أنها تظل فضيلة للكرماء واﻷقوياء، أصحاب القلوب الكبيرة والرحيمة والخُلُق الرفيع، لأنها قيمة نبيلة يتصف بها الكبار، شريطة أن تكون من مركز قوة لا ضعف، ليشعر «اﻵخر» بقيمة التنازل الذي يحصل عليه، من دون مَنٍّ ولا أذى.
إذن، يظل «التسامح» بمعناه السامي، هو العفو عند المقدرة، والتجاوز عن أخطاء الآخرين، وربما التماس الأعذار لهم، والنظر إلى إيجابياتهم، بدلًا من التركيز على عيوبهم وأخطائهم والتشهير بهم، خصوصًا أن الحياة رحلة قصيرة، لا تحتمل الكراهية أو الحقد.
أعتقد أننا الآن أحوج ما نكون إلى ترسيخ وتعزيز تلك القيمة الأخلاقية والإنسانية، من خلال التمسك بفضيلة «التسامح» وما يستتبعها من تعامل إنساني نبيل، مع الخصوم والمناوئين، أو حتى المختلفين معنا عقائديًا وفكريًا وعرقيًا، أو أولئك الذين أساؤوا إلينا.. بالعفو والصفح والغفران، لأن المتسامحين يظلون أسعد الناس، بحرصهم على التحلِّي بالرحمة والرأفة واللِّين في الطبع والسلوك.
نتصور أن القيم الإنسانية تتقارب في مضمونها مع فضيلة «التسامح»، الذي هو حق الآخر بالاختلاف والتعايش معه، ولا يعني ذلك التنازل عن المعتقدات أو القناعات الفكرية أو المساومة حولها، وإنما التعامل بإنسانية وعدالة وإنصاف، بغضِّ النظر عن صحة الأفكار أو خطئها.
لذلك، يظل «التسامح» أسلوبًا راقيًا للحياة، وحلًا عقلانيًا لإيجاد صيغة توافقية للتعايش بين الجميع، من خلال الاحترام المتبادَل، بعيدًا عن التعصب والإقصاء أو التهميش، حتى لا تسود «أفكار الجاهلية الأولى» التي تؤدي إلى التكفير والتخوين والبغضاء.
لقد أثبت علماء النفس أن «التسامح» يزيل سرطان الكراهية من النفوس، لأن مَن اعتاد «التسامح» يكتسب مناعة ووقاية مع مرور الزمن، فهو غاية سامية، تجعلنا نعيش في سلام داخلي مع ذواتنا، ومعنىً راقيًا للاختلاف والإرادة وحرية الاختيار، كما أنه قيمة حقيقية للتوافق الاجتماعي والإنساني.
يمكننا القول، إنه إذا كان «التسامح» بمثابة «تاج المكارم»، وفكرته تنبع في الأساس من مفهوم الرجاء الإيماني، الذي يعتمد على قِيم العفو والمقدرة والرحمة، فإنه بالتأكيد نهج القوة المسؤولة والرحيمة، القادرة على إصابة العفو، حيث القدرة على النَّيْل من الآخرين.
أخيرًا.. نعتقد أن مفاهيم «التسامح» و«العفو» و«الصفح» قد تنطبق على الأشخاص أو حتى الدول، لكنها بالضرورة لا تنطبق على مَن يغتصب أرضنا، ويشرِّد أهلنا، ويحاصر أشقاءنا، ويتآمر على ديننا، فمجرد الحديث عن استخدام تلك الفضيلة مع هؤلاء المسوخ البشرية، الذين يحاربوننا ويعتدون علينا وعلى مقدساتنا، يعتبر ذلة ومهانة ودهسًا للكرامة الإنسانية!
فصل الخطاب:
يقول شاعر العروبة الأكبر «محمد مهدي الجواهري»: «إن التسامح في الإسلام ما حصدت ** منه العروبة إلا الشوكَ والألما».
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: مراجعات المتغيرات المتسارعة اليوم العالمي للتسامح العفو عند المقدرة تاج المكارم محمود زاهر خطاب الكراهية العنصرية والتمييز العفو والصفح
إقرأ أيضاً:
مؤتمر "تمكين المجتمع من رفض العنف" يستعرض نموذج الإمارات في التسامح
أوصى المشاركون في فعاليات المؤتمر الدولي الثاني "تمكين المجتمع من رفض العنف ومواجهة التطرف الذي يؤدي إلى الإرهاب"، الذي نظمته جمعية "واجب" التطوعية بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة، واختتمت فعالياته، اليوم الأربعاء، في أبوظبي، بإشراك المجتمع المدني في تقديم الدعم لإعادة تأهيل المتطرفين، وبالاعتراف بالتهديدات المتزايدة في شبه الجزيرة العربية، خاصةً المرتبطة بـ"داعش" و"القاعدة".
وأكدوا ضرورة منع العنف ومواجهته مجتمعياً وألّا يقتصر ذلك على مؤسسات إنفاذ القانون، ورفع الوعي المجتمعي بشكل دوري ومحوري بمسببات العنف، وباحترام حقوق الإنسان في سياق التطرف العنيف للإرهاب، وكذلك زيادة الأبحاث العلمية والدراسات الأكاديمية المتعلقة بمضامين العنف بما يسهم في احتوائها. تجربة إماراتية وأجمع المؤتمرون على أهمية تجربة الإمارات المعنية بتوحيد الخطاب الديني المعتدل، وعلى تعزيز التسامح بين أطياف المجتمع، وتأهيل النزلاء المتطرفين، مؤكدين أهمية وضع برامج مجتمعية متكاملة لحماية الأطفال من العنف، وتمكين المجتمعات من مكافحته.وأشادوا بالأمم المتحدة وآلياتها التشريعية والفنية المتنوعة في التنسيقات المجتمعية، وأثنوا على مبادرات وزارة الداخلية في دولة الإمارات، ودورها المهم في مواجهة العنف.
كما أشادوا بالجهود المجتمعية البارزة لدولة الإمارات في دعم الملفات الدولية للتصدّي للجريمة بشكلٍ عام، والتطرّف والإرهاب بشكلٍ خاص، وفق تشريعاتها واستراتيجياتها وسياساتها ومبادراتها الهادفة التي تلقى حضوراً دولياً مستداماً.
وأكدوا أهمية انعقاد هذا الحدث الدولي المهم للمرة الثانية في الإمارات، في إطار تفعيل المسؤولية المجتمعية التي تحرص جمعية واجب التطوعية على ترسيخها، ما يسهم في توحيد الجهود الدولية للتوعية بمخاطر هذا النوع من الجرائم، والدعوة إلى قيمتي التعايش والسلام اللتين تنتهجهما الإمارات وقيادتها الرشيدة. شهادة شكر وفي ختام المؤتمر تسلّم الشيخ خليفة بن محمد بن خالد آل نهيان، رئيس مجلس إدارة جمعية "واجب" التطوعية، شهادة شكر، تقديراً وامتناناً لشراكة الجمعية الرئيسية مع الأمم المتحدة، في مجال المشاركة الاجتماعية في نبذ العنف والتطرف.
وفي هذا الإطار، أعلن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة لدول مجلس التعاون الخليجي، رسمياً، أن جمعية واجب التطوعية، تعدّ ذراعاً مجتمعياً لأنشطتها وفعالياتها ومبادراتها المجتمعية.
وأكد الشيخ خليفة بن محمد بن خالد آل نهيان، أن هذه الشراكة تعدّ خطوة تحول استراتيجية لأهداف الجمعية، وتعكس الطموحات والآمال الريادية في توسيع نِطاق العمل المؤسسي، والاستثمار بروّاد التطوع في مراحل متقدمة، ما يضمن استدامة مخرجات العمل التطوعي الذي يُسهم في بناء المسيرة الوطنية، وإحداث الأثر الإيجابي المنشود لدى المجتمع.
وأشاد خلال منحه شهادة التكريم من قِبل القاضي الدكتور حاتم علي، ممثل مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة لدول مجلس التعاون الخليجي، بجهود الأمم المتحدة الساعية في تمكين مؤسسات المجتمع المدني عبر تعزيز الشراكات الحقيقية والمؤثرة، لمواجهة تحديات الغد، الإسهام في تحقيق مستهدفات التنمية المستدامة 2030.