أردوغان وسيناريوهات الولاية الثالثة (٨)
تاريخ النشر: 15th, August 2023 GMT
بقلم: ياوز أجار *
ردود الفعل المحتملة على خلافة أردوغان
لا شك في أن إعلان أردوغان عن الخلافة أو استمراره في خطاباته الإسلامية في ولايته الثالثة سوف يلقى ترحيبًا موسعًا من قبل قاعدته الشعبية؛ لأن إحياء الخلافة هو “التفاحة الحمراء” أو الهدف الأسمى منذ قرن كامل للجماعات الإسلامية ليس فقط في تركيا، بل في جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي، وإن كانت هناك جماعات إسلامية محدودة تعارض مثل هذه الخطوة لأسباب أيدلوجية مختلفة.
ومع أن تحقيق هذا السيناريو سيؤدي إلى تصعيد الصراع القائم بالفعل داخل الجماعات الإسلامية ذاتها في تركيا من جانب، وسيثير من جانب آخر غضب الفئات العلمانية التي تدعي منذ البداية أن حزب العدالة والتنمية لديه أجندة إسلامية سرية، لكن هذا المناخ بالذات هو ما يرغب أردوغان في خلقه؛ إذ يتغذى على الاستقطاب والإقصاء، ويشحن قاعدته بالكراهية والعداء لتسليطهم على المصنفين معارضين.
المتابعون للشأن التركي عن كثب يعلمون أن النظام التركي الحالي قائم على ثلاث ركائز أساسية؛ الأولى حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان، الذي يعد الممثل السياسي للإسلاميين (بالمعنى الأيديولوجي)، والثانية حزب الحركة القومية الذي يمثل القوميين المحافظين، ويضم تحت رايته مخلفات الأطلسيين بعد مبادرة الناتو إلى التخلي عنهم في الثمانينات، والثالثة تنظيم أرجنكون الذي يمثل الأوراسيين الموالين لروسيا والصين.
ويفضِّل بعض المحللين تسمية هذه الركائز الثلاث للنظام التركي بـ”الأجنحة الثلاثة للدولة العميقة”. نظرًا لأننا قد تطرقنا في مقالات سابقة إلى تفاصيل الفكر السياسي لكل من هذه المجموعات، نكتفي بالتذكير فقط بأن تحالف هذه المجموعات الثلاث قائم على مصالح مشتركة مؤقتة لا المبادئ المشتركة الثابتة، وبسبب هذا الطابع فإن هذا التحالف قابل للانتهاء في أي لحظة. بل إن هذه المجموعات الثلاث اضطرت إلى هذا التحالف من أجل القضاء على المناخ الديمقراطي في تركيا والحفاظ على النظام التقليدي في البلاد، رغم اختلاف أيديولوجياتهم.
وبعدما فرغ هذا الثالوث من إقصاء عدوهم المشترك، الديمقراطيين الحقيقيين، بذريعة محاولة الانقلاب الفاشلة في ٢٠١٦، اندلع صراع داخلي خفّ أو اشتدّ وطؤه من وقت لآخر. هذه المجموعات الثلاث قدمت صورة للرأي العام وكأنها متفقة على كل شيء، إلا أن كلا منها توجه للأخرى ركلات من تحت الطاولة منذ عام ٢٠١٧. بالرغم من أن كفة الميزان لم تترجح إلى أي طرف منها بالكامل إلى اليوم، إلا أن الجناح الأوراسي لتنظيم أرجنكون أطلق في الآونة الأخيرة حملة دعائية مدروسة جيدًا وضعت أردوغان في زاوية ضيقة من أجل الحصول على تنازلات منه. ففي تصريحات تعتبر تاريخية، اعترف سميح طوفان جولالتاي من أعضاء أرجنكون بالمساومة السياسية التي جرت بين التنظيم وأردوغان على تصفية حركة الخدمة وجميع المعارضين الآخرين، قائلًا: “أردوغان بعث وفدًا من البرلمانيين برئاسة محمد متينر إلى سجن سيليفري للمساومة معنا، وبموجبها خرج جميع المحكومين في إطار قضية أرجنكون (٢٠١٤). لكن لأنني رفضت لقاء هذا الوفد، بسبب عدم إيماني بصدق أردوغان، فقد أصبحتُ آخر من خرج من السجن”، التصريحات التي استهدفت الحطّ من قيمة أردوغان في عيون أنصاره، متهمًا إياه بالتحالف مع أرجنكون/الدولة العميقة لتصفية حركة الخدمة وأمثالها من المجموعات المؤيدة للديمقراطية.
وعلى نفس المنوال، خرج رئيس الاستخبارات العسكرية التركية السابق إسماعيل حقي بكين، من أبرز قادة أرجنكون، على قناة (كي آر تي)، وأدلى بتصريحات تكشف دور أردوغان في انقلاب ٢٠١٦، حيث قال: “أردوغان وكلُّ الوحدات الاستخباراتية للدولة كانوا على علم مسبق بمحاولة الانقلاب الفاشلة، لكن العقل الجمعي للدولة سمح بوقوع هذه المحاولة لتصفية جماعة فتح الله كولن والمعارضين الآخرين. أردوغان أخرجَنا (أعضاء أرجنكون) من السجن (٢٠١٤)، ثم قام باستغلالنا”، دون الإشارة إلى المجال الذي استغلهم فيه، لكن السياق يدل على أنه يشير إلى استغلالهم في تدبير مسرحية الانقلاب. من خلال هذه التصريحات هدد بكين أردوغان بالكشف عن أسرار انقلاب ٢٠١٦، حيث أكد علم أردوغان المسبق بهذه المحاولة، وسماحه لها بالوقوع لاستغلالها في تصفية خصومه السياسيين، من جهة، وبرّأ ساحة تنظيم أرجنكون من الجهة الأخرى قائلًا: “لقد قام أردوغان باستغلالنا”.
ومن جانب آخر، قال زعيم الحزب الوطني ذي التوجه الأوراسي دوغو برينجك إن نظام أردوغان آيل إلى الزوال، ومن الممكن أن تشهد تركيا بعض الأحداث خلال السنوات المقبلة، التصريحات التي اعتبرت تهديدا بانقلاب عسكري ضد أردوغان.
وبعدما عاين أردوغان العصا التي لوح بها أرجنكون من خلال هذه التصريحات وأمثالها، انتهى الاجتماع الأخير لمجلس الشورى العسكري (٤ أغسطس ٢٠٢٣) بقرارات صادمة صبت في مصلحة تنظيم أرجنكون، منها تعيين جنرالات معروفين بصلتهم بأرجنكون في مناصب قيادية خطيرة للغاية، وعلى رأسهم الجنرال متين جوراق، حيث عين في المنصب الأعلى بالمؤسسة العسكرية؛ رئاسة الأركان العامة.
ولا شك أن أردوغان سوف يحاول التخلص من سيف أرجنكون المسلط عليه دومًا، واستثمار هذا الصراع بشكل محترف يحقق أغراضه السياسية في ولايته الثالثة. ومن المنتظر أنه سوف يزيد من جرعة خطاباته الإسلامية لجمع شمل الشارع الإسلامي وإدارة صراعه مع أرجنكون من خلال تقديمه وكأنه المعركة الأخيرة بين الحق والباطل والإيمان والكفر.
لكن ينبغي عليه قبل كل شيء أن يعثر على كبش فداء لتقديمه مسؤولا عن الأوضاع الاقتصادية السيئة. وهناك أمارات تدل على نيته تعيين وزير المالية محمد شيمشك ليحمله مسؤولية المشاكل الاقتصادية مصحوبًا بخطابات دينية. فالمقال الذي نشره موقع “أودا تيفي” (oda tv) في يوليو الماضي (٢٠٢٣) يكشف أن أردوغان يمهد الطريق لذبح شيمشك ككبش فداء لتحميله مسؤولية الانهيار الاقتصادي من جانب، وتلميع صورة صهره برات ألبايراق ليعود إلى الساحة السياسية مجددًا كمنقذ للاقتصاد من جانب آخر. المقال انتقد من جهة السياسات الاقتصادية لشيمشك، ووصفه بـ”محمد الكردي” للحط من قيمته، ومن جهة أخرى مهد الطريق لعودة الصهر ألبايراق، زاعمًا أن الهجران بينه وبين أردوغان انتهى في عيد الأضحى المنصرم، وقدمه وكأنه شخص “مسؤول” استقال من منصبه سابقا بسبب أخطائه الاقتصادية، وأن الشخص المسؤول هو الذي يمكنه إصلاح الاقتصاد!
وهناك من يزعم من المحللين أن أردوغان عين شيمشك في هذا المنصب كجزء من خطته المستقبلية منذ البداية، ليقود دعاية مفادها أن شيمشك رجل الغرب وأمريكا، وهو من زعم أن الحل في رفع أسعار الفائدة، بخلاف رغبة أردوغان، لكن هذا الحل لم ينجح، ولا بد من العودة إلى الحل الإسلامي المتمثل في تحريم الربا بصورة تدريجية، لدغدغة مشاعر الإسلاميين، وإزعاج العلمانيين، وإضافة الزيت على نار الصراع بين الطرفين تمهيدا لتوجيه الضربة الأخيرة لجميع خصومه السياسيين.
لذلك ليس من المستبعد أن يدفع أردوغان شيمشك إلى الاستقالة من منصبه، بطريقة مماثلة لإقالته رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو عقب المؤامرة التي نصبها له من خلال “مجموعة بجع / بليكان” في ٢٠١٦، وهي تنظيم سري تابع له يستخدمه في تنفيذ عملياته السرية، ومن ثم استدعاء صهره لإسناد وزارة المالية إليه مجددا ليحاول إنقاذ الاقتصاد في إطار حلول إسلامية.
أردوغان أفضل من يعلم أن صهره ليس لديه قدرة على إصلاح الاقتصاد، لكنه سيطالبه بتنفيذ برنامج اقتصادي يركز على تحسين أوضاع قاعدته الشعبية فقط من ناحية، وسيشنّ من ناحية أخرى حربًا أخيرة على أرجنكون بأمل التخلص منه أبدا، وحملة قمع موسعة ضد طبقة النخبة من العلمانيين ومصادرة ممتلكاتهم بشتى الذرائع، ولن يكون هناك أي حساب للطبقات الفقيرة العريضة بطبيعة الحال في خضم هذه المعركة.
في ظل هذه الاحتمالات يبدو أن تركيا لن تصل إلى بر الأمان قبل حسم المعركة بين أردوغان وأرجنكون بشكل أو بآخر، حيث يتبنى كل من الطرفين أيديولوجية متناقضة، وبينهما عداوة متجذرة في الأعماق قابلة للانفجار في أي لحظة. ومن الصعوبة بمكان التكهن بصالح من تنتهي هذه المعركة، لكن من المؤكد أنها لن تكون سهلة للطرفين معًا، وسط معادلة غريبة فعلا؛ وهي أن أردوغان يبدو أقوى في الساحة بفضل إمساكه بزمام الجهاز البيروقراطي وأجهزة الدولة، في حين أن أرجنكون يبدو أقوى من حيث التخطيط والتدبير الإستراتيجي نظرًا لأن أغلبية أعضائه يتألفون من الجنرالات المتمتعين بالعقلية العسكرية!
أما بالنسبة للبعد الإقليمي للقضية، فإن الاعتقاد الشائع بأن الدولة العثمانية، مقر الخلافة، كانت “إمبريالية واستعمارية”، والذي رسخ في أذهان العرب من خلال المقررات الدراسية في المدارس والجامعات، كاد أن ينمحي من الأذهان، بفضل السياسة القائمة على العلاقات الدبلوماسية السلمية مع كل الجيران في العقد الأول من حكم أردوغان. لكن هذا الاعتقاد عاد إلى الذهن العربي مجددًا، وبشكل أقوى من السابق، بسبب النزعة التدخلية في الشؤون العربية الداخلية. وفي ظل هذا الواقع، فإنه سيكون من السذاجة بمكان التوقع أن تعطي أيٌّ من الدول العربية الضوء الأخضر لأحلام أردوغان بالخلافة أو قيادة العالم الإسلامي. وبما أن أردوغان ليس ساذجًا أيضًا، فإنه لن يوجه خطاباته حول الخلافة إلى الأنظمة العربية الحاكمة وإنما إلى الجماهير الإسلامية، من خلال الإعلام والسينما وعناصر القوة الناعمة الأخرى، من أجل الحفاظ على نفوذه واستخدامها كأداة ضغط على دول المنطقة. وغني عن البيان أن هذه الخطوة المحتملة ستؤدي إلى توسيع الصدع بين الجماعات الإسلامية، خاصة الإخوان، والحكومات العربية، وفرض عزلة دائمة على تركيا في المنطقة.
بالطبع، لن يقتصر تأثير الخلافة أو الخطابات الإسلامية الراديكالية على الأراضي العربية والإسلامية فقط، بل سينعكس على العالم كله، نظرا لأنها مصدر قوة سيمكن أردوغان من التواصل مع الأقليات المسلمة في جميع أنحاء العالم أيضًا. وخير دليل على ذلك هو جهود أردوغان لاستخدام المجموعات الإسلامية في الشتات على الأراضي غير الإسلامية، بدءا من الولايات المتحدة الأمريكية وانتهاءً إلى أوروبا، ومن الصين إلى الاتحاد الروسي الذي يتألف من ٢٢ جمهورية، ومن آسيا الوسطى إلى البلقان، ومن القوقاز إلى الشرق الأدنى… لذلك فإن هذه المبادرة المحتملة ستؤثر حتمًا على خطوط الصدع لجميع دول العالم التي تعيش على أراضيها مجموعات إسلامية كبيرة أو صغيرة، وستشكل مصدر نفوذ كبير لأردوغان، لكنها ستدمر علاقات تركيا مع العالم.
وفيما يخص البعد الدولي للقضية، فإنه ليس سرا أن بريطانيا وأمريكا تحاولان منذ عقود استخدام إمكانات العالم الإسلامي في إطار أهدافهما الخاصة. وكان أحد أهداف “الحزام الأخضر” وما يسمى بـ”مشروع الشرق الأوسط الكبير” وضع العالم الإسلامي كحاجز أمام الطموحات التوسعية للمعسكر الروسي الصيني، والقضاء على المخاطر التي قد تأتي من هذا الجانب قبل أن يصلوا إلى أراضيهما.
وعندما تطرق إلى هذه القضية في المؤتمر الذي نظمته جمعية الفكر الكمالي في عام ٢٠١٤، قال نائب حزب الشعب الجمهوري في إزمير بيرغول آيمان جولر: “إنهم (واشنطن) يريدون نقل تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي. وهذا النظام الرئاسي في تركيا خطوة تمهيدية للخلافة من جانب، وسنّ نظام فدرالي من الجانب الآخر. فالوفود الأمريكية التي جاءت إلى تركيا منذ الستينيات طرحت خلال اجتماعاتها مع المسؤولين الأتراك فكرة إنشاء نظام فيدرالي في تركيا. لا تنسوا أنهم كانوا خططوا تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق منذ زمن بعيد، ومن ثم عرضوا على تركيا لتصبح “الأخ الحامي” لهذه المناطق، لكن المسؤولين (الأتراك) في ذلك الوقت رفضوا تنفيذ هذا الاقتراح. كانت هذه المبادرة (الأمريكية) تهدف إلى تقسيم العراق وفتح ممر بحري للدولة الكردية المزمع إنشاؤها. بالطبع هناك العديد من الأهداف والحسابات لهذه المشاريع والإستراتيجيات الأمريكية، منها بناء سد منيع أمام الصين وروسيا. إذا ما تحقق التعاون مع كل من إيران وتركيا، فإن الولايات المتحدة ستقرر الانسحاب من المنطقة بالكلية. إن أمريكا تسعى إلى بناء دويلات صغيرة في المنطقة تتمتع بقوة محدودة.. هذه الخطط الأمريكية يجري تنفيذها بصورة تدريجية”.
انطلاقًا من مثل هذه المخططات الأمريكية (والغربية)، قد يكون هناك من يعتقد أن رغبة أردوغان في إحياء الخلافة أو قيادة العالم الإسلامي قد تحظى بدعم واشنطن وحلفائها الغربيين. والواقع أن أردوغان رضي في البداية أن يكون الرئيس المشارك في مشروع الشرق الأوسط الكبير، كما صرح نفسه بذلك أكثر من مرة في تسجيلات مصورة. وبحسب رأي آخر، فإن الولايات المتحدة عرضت على أردوغان اعتبارا من بدايات الألفية الثالثة تحويل تركيا إلى “كوريا الجنوبية في المنطقة” من خلال الدعم السياسي والاقتصادي الذي ستقدمه، وخلق “نموذج تركي جديد” يجمع في ذاته “الديمقراطية والإسلام” في آن واحد، وتقديم هذا النموذج لكل العالم الإسلامي للاقتداء به، وذلك مقابل تعاونه مع تلك المشاريع الأمريكية. ومع أن أردوغان تحرك خلال العقد الأول من حكمه في إطار هذه الأهداف والإستراتيجيات الأمريكية، إلا أنه بدأ يحرف مساره من المحور الأمريكي إلى المحور الروسي الصيني اعتبارا من عام ٢٠١٣، شرع من بعده في تسخير النفوذ السياسي الذي خلقه مع حلفائه خلال هذه الفترة لخدمة مشاريعه الشخصية في تركيا والعالم الإسلامي.
بغضّ النظر عن أي من هذين الرأيين هو الأقرب إلى الحقيقة، فإنه ظاهر أن المحور الأمريكي اضطر إلى مراجعة خططه وإعادة التفكير في إستراتيجياته بعد عام ٢٠١٣، حيث تبين تحايل أردوغان على العقوبات الأممية والأمريكية على إيران، وتبنى الطرفان مواقف متضاربة في سوريا والعديد من القضايا الإقليمية الأخرى. بناء على ذلك فإنه ليس من المعقول أن نتوقع إعطاء الولايات المتحدة الضوء الأخضر لخلافة أردوغان ما لم يبدأ التعاون معها مجددا في الإطار المرسوم له. لكن من المتوقع أنها سوف تستمر في الاحتفاظ بشعرة معاوية في علاقاته مع أردوغان لحاجتها ورغبتها في استخدام بعض المليشيات الإسلامية المتطرفة كقوة ضاربة في حرب النفوذ مع روسيا والصين، على غرار التعاون بين الطرفين مع حركة طالبان في أفغانستان وباكستان. ومن جانب أردوغان، فنظرا لأنه يعلم جيدا هذه الحاجة والرغبة الأمريكية سوف يواصل تسويق إمكاناته السياسية والعسكرية في مسعى لانتزاع موافقة أمريكية على سياساته المحلية والإقليمية.
يعلم الجميع أن علاقات أردوغان بالحكومات في العالمين العربي والإسلامي ليست جيدة عموما، لكن تركيزه ينصب على الجماعات الإسلامية المتطرفة لا الحكومات، للاستفادة من إمكاناتها البشرية والميليشياوية. وأفضل مثال على ذلك إرساله مرتزقته إلى الصراعات الدائرة في سوريا وليبيا وكاراباخ. ولا شك في أنه سوف يواصل تسويق علاقته الجيدة مع القوات شبه العسكرية الإسلامية المتطرفة في جميع أنحاء العالم إلى الولايات المتحدة. لكن إذا وضعنا في حسباننا أن تعاون واشنطن مع حركة طالبان والمنظمات المماثلة في الفترة الماضية كلفها غالياً لاحقًا، فإن المتوقع منها في الفترة الجديدة أن تلتزم أكبر قدر من الحيطة والحذر في تعاملها مع الزعماء والحركات من أمثال أردوغان وطالبان.
كما يظهر من خلال هذه الدراسة، فإن مغامرة أردوغان في السياسة الداخلية والخارجية تحت راية الخطابات الإسلامية (!) أدت إلى انهيار علاقات تركيا ليس مع دول المنطقة وحسب وإنما مع العالم بأسره. ويمكن أن يلاحظ الجميع نوع الكارثة الذي سيحل بكل العالم في حال انتقاله بالخطابات الإسلامية من الصعيد المحلي والإقليمي إلى الصعيد الدولي في ولايته الثالثة.
صحيح أن الخطابات الإسلامية حول الخلافة تدغدغ مشاعر جميع المسلمين في العالم، لكن الأخطاء، بل الجرائم التي ارتكبها وسيرتكبها أردوغان، مرتديًا عباءة الخلافة، ستجرد هذه المؤسسة من قيمتها التاريخية أيضًا. وذلك لسبب بسيط وهو أن غرض أردوغان ليس تأسيس خلافة بمضمونها الإسلامي الصحيح، بل تحويلها إلى وسيلة لتوسيع نفوذه السياسي من جانب، وتكميم أفواه المنتقدين لسياساته العوجاء. فضلًا عن ذلك، فإن محاولة أردوغان جمع المسلمين حول خلافته المزعومة ستؤدي إلى انقسامات جديدة بين صفوف المسلمين، نظرا لأن كل دولة أو جماعة إسلامية ستدعي الأحقية في الخلافة للزعيم الذي تؤيده. أما الطامة الكبرى فهي أن مثل هذه الخلافة الخالية من المضمون ستقوّض الجهود الفكرية الرامية إلى تطوير “حكم” أو “إدارة جديدة” للمسلمين في ضوء المبادئ الإسلامية الأساسية والقيم الديمقراطية العالمية.
لقد كانت تركيا حققت في العقد الأول من حكم حزب العدالة والتنمية نجاحًا بارزًا في مجالات السياسة الداخلية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والاقتصاد، والعلاقات الدولية، بفضل السياسات المتزنة المتوافقة مع القانون والأعراف الدولية. ولم تكن دولة تتسلم مهمات من أحد المعسكرين الغربي أو الشرقي، أو تنضم إلى مشاريعهما الجاهزة دون علم بأهدافها وغاياتها، بل كانت دولة تبدي رأيها في القضايا بالرفض أو الموافقة، وتطلق مبادرات دبلوماسية لحل المشاكل الإقليمية، مثل مساهماتها في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، والملف النووي الإيراني، وحوار الحضارات مع إسبانيا وغيرها.
وبعبارة مختصرة كانت تركيا حينها تتصرف مثل “فاعل واعٍ” أمام الأحداث، ويحسب لها ميزان على المسرح الدولي. لكنها فقدت كل هذه القابليات والمزايا، وأصبحت دولة “منفعلة” أمام الأحداث، وتفرض عليها إملاءات من قبل القوى الإقليمية والدولية، وتنتقل من محور إلى آخر مثل أوراق الشجر أمام الرياح العاصفة، وذلك بالتزامن مع خوض أردوغان في المغامرة الإسلامية الشكلية في العقد الثاني من حكمه.
على الرغم من قتامة الآفاق في وسط هذا الواقع المرير، إلا أننا ما زلنا نأمل أن تصل الكوادر المؤهلة النزيهة إلى السلطة في تركيا لإخراج البلاد من هذه الدوامة التي سقطت فيها، وإعادة الأمور إلى نصابها في الداخل والخارج على حد سواء في أسرع وقت ممكن.
*رئيس تحرير زمان عربي سابقا
Tags: أردوغانالولاية الثالثةسيناريوهاتالمصدر: جريدة زمان التركية
كلمات دلالية: أردوغان الولاية الثالثة سيناريوهات الولایات المتحدة العالم الإسلامی أردوغان فی أن أردوغان فی ترکیا خلال هذه من جانب من خلال فی إطار إلا أن
إقرأ أيضاً:
الولاية القضائية العالمية وعدم الافلات من العقاب
أعرب بعض الخبراء القانونيين عن شكوكهم بشأن فعالية الولاية القضائية الدولية في تحقيق العدالة، خصوصًا في ظل عدم تعاون بعض الدول في إفريقيا وأوروبا وآسيا، إلى جانب التنافس بين القوى الكبرى مثل روسيا والصين والولايات المتحدة. وأكدوا أهمية إدماج ميثاق روما في التشريعات الوطنية لتعزيز تنفيذ الاختصاص الجنائي الدولي.
كما أشار الخبراء إلى نجاحات سابقة للولاية القضائية الدولية، حيث تمت محاكمة رؤساء سابقين في إفريقيا وأوروبا بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وأعمال تعذيب وحشية، مما يدل على إمكانية تحقيق العدالة من خلال التنسيق الدولي.
مفهوم الولاية القضائية الدولية
المحامي والمدافع عن حقوق الإنسان بدر الدين حمزة يوضح أن مفهوم الولاية القضائية الدولية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمفهوم حقوق الإنسان كقضية دولية. نشأت حقوق الإنسان بعد نضال طويل لشعوب العالم، وهي مستمدة من فلسفة القانون الطبيعي التي تؤكد على الحقوق الأساسية مثل الحق في الحياة الكريمة، منع التعدي على الممتلكات، حرية الفكر، العقيدة، التنقل، والعمل، وغيرها. هذه الحقوق أصبحت، أو ينبغي أن تكون، محمية عالميًا.
ملاحقة ومحاكمة
يرى حمزة أن الولاية القضائية الدولية تُعد أداة أساسية لضمان منع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وقد تطور هذا المفهوم مع تطور الدول الحديثة التي يُفترض أن تعتمد على نظام عادل ومتوازن يضمن الفصل بين السلطات: التشريعية التي تسن القوانين، التنفيذية التي تخدم مصالح الشعوب، والقضائية التي تضمن تطبيق العدالة بفعالية.
ويشير حمزة إلى أن تطور العلاقات بين الدول ككيانات مستقلة، وما تتطلبه من تبادل المنافع وحماية الأمن والسلام، أدى إلى ضرورة التنسيق الدولي. وبعد الحروب الكبرى والفظائع التي شهدها العالم، برزت الحاجة إلى إطار قانوني دولي يُجرّم الانتهاكات ويُلزم الدول بملاحقة مرتكبيها. وقد تمثل هذا التنسيق في مواثيق الأمم المتحدة التي حددت حقوق الإنسان وفرضت حظرًا على الانتهاكات الجسيمة.
السودان والتطبيقات العالمية
يوضح حمزة أن السودان دخل نطاق تطبيقات الولاية القضائية الدولية بعد الانتهاكات الجسيمة التي شهدتها دارفور بين 2003 و2005. آنذاك، برز القصور في التشريع الجنائي الوطني، مع عجز النظام القضائي عن ملاحقة المشتبه بهم في ارتكاب جرائم مثل الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. أبرز هؤلاء كان عمر البشير، عبد الرحيم محمد حسين، وأحمد محمد هارون.
وأشار إلى أن عدم توقيع السودان على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية لم يمنع إحالة قضايا هؤلاء المتهمين إلى المحكمة عبر مجلس الأمن. وفي محاولة لتجنب المحاكمات الدولية، قام النظام السوداني في عام 2009 بتعديل القانون الجنائي الوطني لتقويض إمكانية ملاحقة المشتبه بهم بموجب الولاية القضائية الدولية.
لكن التعديلات تعارضت مع مبدأ "القانون الأصلح للمتهم"، إذ وقعت الجرائم قبل تعديل القانون، مما جعل محاكمتهم داخليًا غير عادلة وفقًا للمعايير القانونية الدولية، وفتح المجال لإفلاتهم من العقاب. وأكد حمزة أن محاكمتهم في الخارج باتت ضرورة إنسانية لتحقيق العدالة الدولية وإنصاف الضحايا.
القتل الممنهج
بحسب حمزة، فإن تعديل القانون الجنائي السوداني في 2009، مع المواثيق الدولية ذات الصلة، كان أساسًا لتحريك الإجراءات القانونية الدولية ضد البشير وأعوانه على خلفية انتهاكات دارفور (2003-2005). كما فتح المجال للتحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة خلال الحراك الثوري منذ 2018، والحرب الوحشية المستمرة حاليًا.
وذكر أن الجرائم الموثقة، مثل القتل الممنهج للمدنيين، الاغتصاب، التعدي على المناطق السكنية، واستخدام المدنيين كدروع بشرية، تخضع لنطاق القانون الجنائي السوداني (المواد 186-1992). ومع ذلك، فإن عجز الأجهزة القضائية الوطنية عن ملاحقة مرتكبي هذه الجرائم يجعل المسؤولية تقع على عاتق الولاية القضائية الدولية والشعب السوداني.
دعوة للعمل المشترك
حمزة شدد على أهمية دور المنظمات الحقوقية والقانونية، سواء داخل السودان أو خارجه، في توثيق الانتهاكات، رصد الضحايا والجناة، والضغط المستمر لضمان ملاحقة المتورطين وإنصاف الضحايا. وأكد أن تحقيق العدالة يتطلب تعاونًا دوليًا منسقًا وجهودًا متواصلة لمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم.
الاختصاص المكاني:
المحامي والمدافع عن حقوق الإنسان، سمير مكين، يوضح أن مفهوم الولاية القضائية يعني في بعض الحالات أن تمتلك دول معينة، وفق شروط محددة، الحق في النظر في قضايا تتعلق بجرائم ارتكبها متهمون خارج حدودها. هذا المفهوم يعد استثناءً من القاعدة العامة في القانون التي تنص على محاكمة الجاني في مكان وقوع الجريمة. وقد تبنى الفكر القانوني الجنائي الدولي هذا الاستثناء لأسباب تتعلق بتحقيق العدالة، وهو ما تجسد في اتفاقيات دولية مثل اتفاقية مناهضة التعذيب، التي تمنح الدول الموقعة عليها الحق في ملاحقة مرتكبي جرائم التعذيب بغض النظر عن مكان وقوع الجريمة.
فيما يخص الاختصاص الجنائي الدولي، يشير مكين إلى أن ميثاق روما يمنح الدول الموقعة عليه صلاحية ممارسة هذا الاختصاص على الجرائم التي تندرج ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. ومع ذلك، يتساءل مكين عن مدى تطبيق هذا المبدأ على الجرائم المرتكبة في السودان، سواء الحالية أو السابقة. ويرى أن ذلك يعتمد على إدراج ميثاق روما في القوانين الوطنية للدول الموقعة، وهو ما يواجه تحديات عدة، أبرزها عدم رغبة بعض الحكومات في تنفيذ التزاماتها، رغم توقيعها ومصادقتها على الميثاق. مثال على ذلك هو تهريب الرئيس السوداني السابق، عمر البشير، من جنوب إفريقيا، رغم التزاماتها الدولية.
كما يشير مكين إلى أهمية دور منظمات المجتمع المدني في بناء قضايا تستند إلى أدلة واضحة وتحقيقات مهنية تشمل الضحايا والجناة المباشرين والمسؤولين عن الانتهاكات، وذلك وفق مبدأ "مسؤولية القائد". وأكد أهمية التنسيق بين المنظمات الإقليمية والدولية لتحقيق العدالة.
وفيما يتعلق بالسوابق الناجحة، أشار مكين إلى محاكمة الرئيس التشادي الأسبق حسين حبري، ومحاكمة الجنرال أوغستو بينوشيه في إسبانيا، إضافة إلى محاكمات رموز النظام السوري السابق في ألمانيا، المتهمين بارتكاب جرائم تعذيب وقتل خارج إطار القانون.
تقرير: حسين سعد