جريدة الرؤية العمانية:
2024-09-18@10:35:02 GMT

هندسة التكوين المجتمعي الإنساني

تاريخ النشر: 15th, August 2023 GMT

هندسة التكوين المجتمعي الإنساني

 

 

إبراهيم بن عبد العزيز الزعبي

 

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (13: الحجرات).

في الحقيقة يدهشني البعض عندما يتجاوز المفهوم والمُراد الكلي من الآية السابقة فيجعل البشرية تنقسم إلى نوعين من حيث خلق الله لهم: الأول: مجهول النسب منفك عن الروابط الأسرية بعيدا في نمط وأسلوب حياته عن فلك الجماعة والقبيلة وهم الشعوب كما يزعمون.

والثاني: معروف ومحفوظ النسب وهم القبائل التي تهتم بأنسابها وروابطها وتوثيقها وتفعيلها مصورين بذلك أن روابط الدم والنسب خاصة بالقبيلة فقط.

ثم يحزنني التغييب المفتعل لدلالات "لتعارفوا" بالجملة وحصرها بمفاهيم ضيقة متعلقة بعوامل النسب وروابط الدم فقط دونما التطرق للوازم هذه المعرفة ومقتضياتها وضوابطها الشرعية والاجتماعية والعلمية والثقافية والاقتصادية والسياسية التي تخضع للبيئات المرتهنة أصلا لعوامل ومؤثرات يتعرض لها الكيان الاجتماعي القبلي وغير القبلي على حد سواء (بعيدا عن روابط الدم) وهذه العوامل والمؤثرات من شأنها أن تؤسس للنظام الأسري والعائلي والقبلي والشعوبي بالشكل الذي يأخذ صورته ضمن المدخلات والمخرجات التراكمية والتي يعتبر رابط الدم أحدها وليس كلها وليس أهمها.

وما نراه أمرًا أكبر وأعظم وتصوراً أشمل بكثير مما درجت عليه أفهام البعض من تصورات قاصرة واستشهادات خاطئة حيث إن فهم عوامل تكوين المجتمعات مفهوم دقيق ومبحث علمي كبير خاضت به البشرية كلها ضل به من ضل واهتدى به من اهتدى.

لذلك كانت الحاجة ضرورية وملحة لإخبار الإنسان عن أصل خلقته وبدايته وطريقة تعايشه مع بني جنسه ونظامه المُحدد له في الخطاب القرآني وذلك بأنه ولد من ذكر وأنثى للدلالة على التزاوج والتكاثر وذلك طبقاً لما ورد في كتاب الله وأيضًا طبقًا للموروثات الثقافية والتراثة الإنسانية وللوثائق والدلائل والآثار والحفريات والتنقيب وما شابه ذلك؛ فالأصل في البشر أنهم ولدوا من ذكر وأنثى ثم تعاقبت البشرية من نسلهم ومنه فإنَّ البشرية كلها بهذا الشكل تنتسب إلى آباء وأجداد معروفين ومحددين تكاثروا وتناسلوا وتعاقبوا وشكلوا مجتمعاتهم ضمن نظام التعايش الجماعي الذي يظهر ابتداءً في الأسرة.

ومع ازدياد أعداد الأفراد الذين ينتمون إلى الأسرة تشكلت العائلة التي بدورها تحولت إلى بطون وعشائر وأفخاذ ومن ثم مجموعها تحول إلى قبيلة ومع تكرار هذه الحالة جيلا بعد جيل ومع توالد وتزايد الأفراد ضمن هذا التقسيم الفطري الطبيعي أصبحت القبيلة الأم تضم عددا كبيرا من البطون والأفخاذ التي بدورها تحولت إلى قبائل لكثرة أفرادها وازدياد أعدادهم ولظهور عوامل أخرى تتعلق بالنواحي السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها.

وهذه القبيلة التي أصبحت بطونها قبائل مستقلة للعوامل السابق ذكرها وضمن هذه المُعطيات يُطلق عليها اسم شعب فالشعب اسم يدل على صلة النسب البعيد بين عدد كبير من الأفراد الذين ينتسبون وينتمون إلى قبائل تعود بنسبها وانتمائها إما إلى قبيلة واحدة كبرى أو إلى جد واحد جامع ومثال ذلك عندما يقول المؤرخون (شعب مضر) يُراد به كل القبائل المضرية من ولد عدنان.

وبهذا التصور وضمن هذه المعاني يتضح لنا أن بيان منظومة "هندسة التكوين المجتمعي الإنساني" قائم على التعايش الجماعي.

والباحث في علم الاجتماع وفي مجالات العلوم ذات الصلة والمتتبع لحركة التغيير الاجتماعي يلاحظ عملية التشويه والإفساد والعبث التي تمارسها اليد البشرية من خلال الحرب الضروس وبكافة الأسلحة التي قد مورست ضد مفهوم الشعب والقبيلة والعائلة والأسرة حتى تخلت معظم البشرية عن هذا الرابط الاجتماعي الفطري الطبيعي المقدس ثم خضعت أحياناً إلى حالة انحلال العقد وانفراطه ودمار المجتمع وضربه بالصميم وبدأت بذلك المشاكل وحلت الكوارث في كثير من المجتمعات بسبب العبثية تلك والتي أثرت مباشرة على الحالة السياسية والاقتصادية بالذات فضلاً عن غيرها.

وعندما تصدر أصحاب الفكر والنخب الثقافية لوضع حل لتلك الأزمة وترتيب المجتمعات البشرية من جديد قالوا عودا على بدء إنَّ الحل هو إنشاء كيانات جماعية وتجميع البشر فيها فطرحوا فكرة الأحزاب والتيارات والحركات والأسر (السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها) وبهذا هم حاربوا القبيلة بل حاربوا الأسرة التي هي نواة القبيلة والعيش الجماعي والمجتمع واتهموا أفرادها بالعصبية وأنشأوا عوضا عنها الأحزاب التي بنوها أصلاً على مبدأ التحزب و التعصب وتحقيق المصلحة.

وكان البعض وللأسف من أبناء جلدتنا يساهم في هذه الحرب ضد "هندسة التكوين المجتمعي الإنساني" من خلال القول بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أن لا قيمة للنظام الأسري أو العائلي أو القبلي أو حتى الاجتماعي عامة ومخرجاته من حيث التنظيم الهرمي والقيمي والمادي والعلمي والثقافي والذي يخضع فيه الكل لمعايير صارمة ودقيقة ومحددة ابتداءً من الأمير أو الزعيم أو الشيخ أو عميد الأسرة أو الكبير أو الوجيه إلى أصغر أفراد المجتمع في القبيلة مرورا بكل الشرائح المنضوية في هذا المجتمع ضاربين بعرض الحائط الإرث القيمي المهول والذي خضع لكل المقومات الحضارية عبر العصور ضمن الإمكانيات المتاحة آنذاك.

والقبيلة تخضع لعوامل النهوض والانحطاط حالهم كحال بقية المجتمعات الأخرى

لكن السؤال المهم هنا:

هل من العقلانية أن يلقى اللوم على "هندسة التكوين المجتمعي الإنساني" عندما يتقاعس أفرادها عن حركة النهوض ويتأخر ركبهم الحضاري؟

أم هل من العقلانية والموضوعية أن يربط فشل البيئات المجتمعة والممارسات الخاطئة المرتبطة بها بهندسة التكوين المجتمعي الإنساني؟

أليس من القصور في التصور والمحاكاة والمحاكمات العقلية أن نجعل البيئة الاجتماعية و"هندسة التكوين المجتمعي الإنساني" شيئًا واحدًا.

وبالوقت الذي نرى فيه أنَّ حالة البداوة التي تحياها قبيلة ما في بيئات خضعت لعوامل عدة والتي يرى فيها البعض مظاهر التخلف والجهل وحالة من الهمجية فإننا نرى أنه يقابلها حالة من التخلف والجهل المزري والهمجية اللامعقولة بطريقة أو بأخرى تحياها شريحة مدنية (متحضرة!!)

إنَّ عوامل النهوض والترقي والتراكم الفكري ترتبط بالنواحي العقلية والعلمية والمعرفية ولا تخضع لروابط الدم أو النسب وأمثلة ذلك جلية واضحة لاسيما في الدول التي تقوم على أساس التجمع والتحالف القبلي الذي أدى الى الاستقرار والازدهار والتحضر المدني وظهور قامات فكرية وعلمية وعقلية قدمت الكثير للحضارة الإنسانية وبكل بساطة ما يزال هؤلاء أبناء قبائل وعوائل وأسر وما يزالون يحافظون على روابط الدم النسب ولو أردنا الاستفاضة لقلنا إن أكثر الدول تحضرًا أو استقرارًا في العالم وأذكر مثال (بريطانيا- السويد- أسبانيا- بلجيكا- ودول الخليج العربي غيرها) تحكمها أسر تنتمي إلى قبائل لكن هذا الانتماء لم يكن أبدًا عائقًا أمام الحالة الفكرية والعقلية والعلمية.. فتأمل!

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

معضلة التوفيق بين التدخل الإنساني ومبدأ السيادة الوطنية

د. فيصل عبدالرحمن علي طه

ftaha39@gmail.com

(1)

في تقرير الألفية 2000 المعنون «نحن الشعوب»، طرح كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك المعضلة بالتساؤل الآتي: إذا كان التدخل الإنساني يمثل حقاً تعدياً على السيادة، فعلى أي نحو ينبغي علينا أن نستجيب لحالات شبيهة برواندا وسرِبرينتشا؟ وأضاف أن الدفاع عن الإنسانية والدفاع عن السيادة كليهما مبدآن ينبغي دعمهما، ولكن ذلك لا يرشدنا إلى أيهما تكون الغلبة عند حدوث تعارضٍ بينهما؟

(2)

تصدت الحكومة الكندية للاجابة على تساؤل عنان، فأنشأت في سبتمبر 2000 اللجنة العالمية حول التدخل وسيادة الدولة. أصدرت اللجنة في ديسمبر 2001 تقريرها المُعنْوَن «مسؤولية الحماية». تبنَّت اللجنةُ مفهوم السيادة كمسؤولية في الوظائف الداخلية أو في الواجبات الخارجية على حدٍ سواء. ورأت اللجنة أن المسؤولية الأولى عن حماية السكان تقع على عاتق دولتهم بينما تقع مسؤولية ثانوية على المجتمع الدولي عندما يتضح أن دولتهم غير راغبةٍ أو غير قادرةٍ على النهوض بمسؤولية الحماية، أو أنها هي المرتكبة للجرائم أو الفظائع.

(3)

في ديسمبر 2004 أيَّد تقرير الفريق الرفيع المستوى المَعنِي بالتهديدات والتحديات والتغيير الذي شكله كوفي عنان «المبدأ المستجد المتمثل في وجود مسؤولية دولية جماعية عن الحماية يمارسها مجلس الأمن بأن يأذن بالتدخل العسكري كملاذٍ أخيرٍ عند حدوث إبادةٍ جماعيةٍ أو عمليات قتل واسعة النطاق أو حدوث تطهير عِرقي أو انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي، ثبت أن الحكومات ذات السيادة عاجزةٌ عن منعها أو غير راغبةٍ في منعها».

(4)

اعتمد مؤتمر القمة العالمي لعام 2005 في الفقرتين 138 و139 من وثيقته الختامية التي صدرت بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 60/1 مفهوم مسؤولية حماية السكان من الابادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم المرتكبة ضد الانسانية. وهناك من يرى بأن مجلس الأمن على الرغم من تأكيده على أحكام الفقرتين 138 و 139 في القرار 1674 (2006)، وإشارته إليهما في القرار 1706 (2006) المتعلق بمسألة دارفور، إلا أنه لم يطبق مفهوم مسؤولية الحماية عليها رغم توفر مسوغات تطبيقه. ووفقاً لهذا الرأي الذي يستند إلى تقرير لجنة التحقيق الدولية بشأن دارفور للعام 2005، فإن مجلس الأمن قد تعمّد ذلك حتى لا يدخل في مواجهة مع حكومة السودان، وآثر الحصول على موافقة تلك الحكومة على استخدام البعثة الأممية في أراضيها. ولكن الأمين العام للأمم المتحدة "بان كي مون" يرى بأن ذلك المفهوم قد طُبِّق في دارفور بصورة غير قسرية -أي بدون استخدام القوة.

(5)

إن الحالة الوحيدة التي طُبق فيها مفهوم مسؤولية الحماية حتى الآن هي الحالة الليبية بمقتضى القرار 1970 (2011) والقرار 1973 (2011). فرضَ القرار 1973 حظراً جوياً على جميع الرحلات الجوية في المجال الجوي للجماهيرية. كما أذن للدول الأعضاء إتخاذ التدابير اللازمة لحماية المدنيين والمناطق الآهلة بالسكان المدنيين المعرضين للهجمات في الجماهيرية بما في ذلك بنغازي. من ثم بدأت عملية عسكرية بقيادة فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة ولاحقاً آلت القيادة إلى حلف شمال الاطلسي كجزء من عملية «الحماية الموحَّدة». تعرضت هذه العملية لانتقاد من كثير من الدول لأنها تعدَّت الحماية وتحولت إلى عمليةٍ لتغيير النظام. افتقدت هذه الدول عدم اقتران مفهوم مسؤولية الحماية بمفهوم آخر وهو المسؤولية اثناء توفير الحماية ودعت إلى تطويرهما معاً.

(6)

في الحالة السورية استخدم الاتحاد الروسي والصين حق النقض (الفيتو) لاحباط قرارين بشأن الوضع في سوريا بمنطق احترام السيادة الوطنية لسوريا واستقلالها ومبدأ عدم التدخل في شؤونها بما في ذلك التدخل العسكري. وأبدى المندوب الروسي خشيته من أن يتكرر نموذج عملية «الحماية الموحدة» بشأن ليبيا في سوريا. بمعنى أن يتحول التدخل إلى عملية لتغيير النظام.

(7)

إن مفهوم مسؤولية الحماية لا يزال مفهوماً سياسياً ولم يستقر بعد كعرفٍ قانونيٍ دولي لأنه لم يستوف شروط ذلك. كما أن حدود مسؤولية الحماية تحتاج إلى تدقيق وبيان. وسيظل تطبيق المفهوم رهناً باتفاق الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، هذا المجلس المشلول باستخدام الفيتو.

(8)

وحريّ بالذكر أن مفهوم مسؤولية الحماية مُضمَّنٌ في مبادئ القانون التأسيسي للاتحاد الافريقي المبرم في العام 2000، أي قبل خمسة أعوام من اعتماد مؤتمر القمة العالمي لعام 2005 لمفهوم المسؤولية عن الحماية. فقد كفلت الفقرة (ح) من المادة الرابعة حق الاتحاد في التدخل بقرارٍ من جمعية رؤساء الدول والحكومات في حالات جرائم الحرب، والإبادة الجماعية، والجرائم ضد الانسانية. ولكن المادة 53 (2) من ميثاق الأمم المتحدة تحظر على التنظيمات أو الوكالات الإقليمية القيام «بأي عمل من أعمال القمع بغير إذن مجلس الأمن». كما أن المادة 54 تنص على وجوب «أن يكون مجلس الأمن على علمٍ تامٍ بما يجري من الأعمال لحفظ السلم والأمن الدولي بمقتضى تنظيمات أو بواسطة وكالات إقليمية أو ما يُزمَع إجراؤه منها».

(9)

يبدو جلياً مما تقدم أن الاتحاد الإفريقي لا يستطيع التدخل بالقوة في الحالات المنصوص عليها في الفقرة (ح) من المادة الرابعة من القانون التأسيسي للاتحاد بدون إذنٍ من مجلس الأمن، وقد لا يصدر هذا الإذن إذا لم يكن هناك اتفاق بين دول المجلس الخمس الدائمة العضوية.

(10)

في جلسة للجمعية العام في سبتمبر 2015 بمناسبة الذكرى العاشرة لاعتماد مبدأ «مسؤولية الحماية»، أكدت الأمم المتحدة أن هذا المبدأ ينبغي أن يُترجَم إلى عمل. وقال الأمين العام "بان كي مون" إن الجرائم التي تلطِّخ ضمير الانسانية تُحتِّم على قادة الدول تحويل مفهوم «مسؤولية الحماية» من مبدأٍ حيويٍ إلى ممارسة واضحة.

   

مقالات مشابهة

  • وسام السيد: مسار تعزز دور البريد المجتمعي
  • أوتشا: التهجير القسري يفاقم الوضع الإنساني في قطاع غزة
  • أوامر الإخلاء الجماعية في غزة تُفاقم الوضع الإنساني
  • السودانيون في يوغندا يبتدرون السلام المجتمعي بالمحبة و الكمنجة
  • «خارجية النواب» تثمن دعوة «النواب» لفتح النقاش المجتمعي حول «الإجراءات الجنائية»
  • القبائل تصعد وتقطع خط دولي على خلفية قضية عشال
  • معضلة التوفيق بين التدخل الإنساني ومبدأ السيادة الوطنية
  • ”قبائل وصاب تتحدى الحوثيين: لن نصمت على تهريب قاتل النعماني”
  • إيمان المسكرية: الفنون الجميلة تسهم في إثراء العالم وتدفع التقدم المجتمعي وتعزز التجربة الإنسانية
  • تفاصيل مصرع فني هندسة لحام صعقا أثناء عمله في الدقهلية