لن يكون التعاطي مع الإدارة الأمريكية بعد فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئيسية سهلا، كما لن يكون بالأساليب التقليدية التي تراعي الدبلوماسية بشكل دقيق. فهو رجل أعمال متمرّس، ينظر للأمور من زاوية الصفقات بشكل أساسي، ولا مكان فيها للسلوك الدبلوماسي، فقد عرف عنه عدم اكتراثه بقواعد تلك اللعبة، كما لم يكن دبلوماسيا في تعامله مع الآخرين، بل كان فظّا وبعيدا عن أساليب اللباقة والأخلاق.
فقد عرف بعلاقاته غير المشروعة مع الجنس الآخر، بالإضافة لرعونته واستعلائه وتنمّره. وحتى إلى ما قبل بضعة شهور لم يكن هناك توقع كبير بفوزه خصوصا أنه لم يحقّق الكثير للشعب الأمريكي في دورته الرئاسية الأولى التي امتدت ما بين 2016 و 2020. بل انطلق في سياساته بدوافع شخصية أحيانا كثيرة، فعمد لما حقّقه سلفه، باراك أوباما، وألغاه. وكان في مقدمة ذلك أمران: الاتفاق النووي مع إيران الذي تحقق في العام 2015 بعد جهود مريرة ومفاوضات عبر وسطاء.
وكان ذلك الاتفاق من أهم إنجازات أوباما واعتبر مدخلا لعهد جديد في العالم يغيب عنه شبح الحرب، ويمنع انتشار التكنولوجيا النووية خصوصا في جانبها العسكري. كما مارس سياسة الضغط السياسي والتهديد لفرض التطبيع مع «إسرائيل» من قبل حكومات الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، تحت مسمى «اتفاقات أبراهام» في العام 2020. ولم يكن ملفه الاقتصادي أحسن حظا، فقد ورث اقتصادا مزدهرا نسبيا من سلفه، أوباما، ولكنه خلّف وراءه مشاكل كبرى. فقد خفض الضرائب بهدف تحفيز الاستثمارات التجارية ولكن ذلك لم يحدث، ونجم عن ذلك عجز مقداره تريليون دولار تقريبا.
ثمة من يقول إن إعادة انتخاب ترامب يؤكد منحى الولايات المتحدة للانكفاء على الذات وتقليص دورها العالمي. مع ذلك فإن ترامب ينتهج سياسة للتفاهم مع زعماء الدول الكبرى مثل روسيا والصين، ويتباهى أتباعه بتواصله مع الرئيسين: الروسي فلاديمير بوتين، والصيني شي جين بينغ.
ويشيرون إلى تأكيده مقولة «أمريكا أولا» بأنها تؤكد هذه السياسة. كما أنه يرفض الاتحاد الأوروبي ويدعو إلى تفكيكه. فهو إنسان «عملي» بدليل توسع امبراطوريته التجارية التي تؤكد أنه «رجل صفقات» وأن ذلك يعني أن شخصيته تتسم بقدر كبير من العناد والنرجسية واللامبالاة. ويرى هذا الفريق أن هذه السمات مفيدة لأمريكا التي تسعى لتوسيع نفوذها في العالم بالاعتماد على قوتها الاقتصادية والعسكرية، وأن وجود رئيس كهذا سيعزز هذه السياسة. بينما يرى آخرون أن هذه العقلية خطيرة على أمريكا كبلد قائم على الائتلاف بين مكوناته العرقية والثقافية.
وكان من الظواهر المثيرة في الانتخابات تصويت قطاع كبير من ذوي الأصول اللاتينية، أي المنحدرين من أمريكا الجنوبية ومنحوه أصواتهم، بعد أن اقتنعوا بعدم التعويل على الحزب الديمقراطي الذي لم يكن أداؤه تحت رئاسة جو بايدن منسجما مع تطلعاتهم. وقد لعبت أصوات الناخبين اللاتينيين والسود وكذلك العرب دوراً مهماً في فوزه. حيث أظهرت نتائج الاقتراع حصوله على نسب من أصوات هذه الفئات أكبر مما حصل عليه في السابق.
فقد حصد نحو 13 في المائة من الناخبين السود على الصعيد الوطني و45 في المائة من الناخبين اللاتينيين، بالمقارنة مع انتخابات عام 2020 فاز ترامب بنسبة 8 في المائة فقط من الناخبين السود، و32 في المائة من الناخبين اللاتينيين.
من أهم ما يهم العالم العربي في الانتخابات الأمريكية موقف واشنطن وسياستها إزاء الصراع العربي ـ الإسرائيلي. هذا مع عمق قناعتهم بأن السياسة الأمريكية تجاه «إسرائيل» تصنعها الدولة العميقة التي لا تخفي التزامها الكامل بضمان التفوق العسكري الإسرائيلي وحماية الكيان بأي ثمن.
وبدلا من أن ينطلق الضغط على واشنطن لتغيير تلك السياسة، يحدث العكس تماما، فالإدارات الأمريكية المتعاقبة تمارس ضغوطا كثيفة على الحكومات العربية للاستسلام للأمر الواقع والتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي. هذه ليست سياسة جديدة بل تمثل جوهر التوجه الأمريكي منذ قرابة الستين عاما، أي منذ حرب 1967.
وعلى أساس ذلك تنظر واشنطن لمنطقة الشرق الأوسط من زوايا عديدة: أولها النفط الذي يعتبر عصب الحياة في العالم، وثانيها: الكيان الإسرائيلي وحمايته حتى عندما يظهر زعماؤه شيئا من التمرد على سياسات البيت الأبيض، وثالثها: الحكومات العربية التي تعتبرها الإدارة الامريكية حليفة لها سياسيا واقتصاديا خصوصا إزاء ما تعتبره «حربا على الإرهاب».
والإرهاب هنا عنوان مطاط يشمل أي عمل مضاد للسياسات الأمريكية. وينضوي تحت ذلك العنوان أغلب الحركات الإسلامية بالإضافة لإيران التي تعتبر العدو الأول الذي تستهدفه أمريكا. ولا تتردد الولايات المتحدة في استخدام القوة ضد إيران بأشكالها المتعددة: الصواريخ والمسيّرات والطائرات خصوصا اف 16 واف35.
لا تختلف سياسات الجمهوريين الذين ينتمي لهم ترامب عن الديمقراطيين الذين كان بايدن رمزهم الرئاسي الأخير
ولا تختلف سياسات الجمهوريين الذين ينتمي لهم ترامب عن الديمقراطيين الذين كان بايدن رمزهم الرئاسي الأخير. ويصعب التكهن بمدى ما سيذهب له ترامب في فترة رئاسته الثانية، خصوصا أنه متقلب الأطوار والأمزجة.
ولكن أداءه في فترته الأولى مثير للقلق. فقد أمر بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وكان ذلك تطورا خطيرا لا يخدم إلا المشروع الصهيوني. وقام بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، ووقّع على قرار اغتيال عنصرين عسكريين هما الإيراني الجنرال قاسم سليماني والعراقي أبو مهدي المهندس.
كان ذلك رسالة واضحة بأنه لن يتساهل مع من ينافس النفوذ الأمريكي في المنطقة ولو تطلّب ذلك ممارسة أعمال خارج القانون. هذه السياسة قد تتضارب مع التوجه العام بأن على الرئيس المنتخب أن يسعى لخفض المصاريف الأمريكية على القضايا الخارجية التي تثقل كاهل الميزانية. فهو يواجه خيارات تتعارض أحيانا لجذب الأموال.
فعقد الصفقات العسكرية مع الحلفاء في الشرق الأوسط سيحقق دخلا كبيرا، ولكن ذلك يتعارض مع التزامه دعم «إسرائيل» وهو التزام تفرضه مجموعات الضغط اليهودية، ولا يمثل محورا ثابتا في سياسته الخارجية. ويتوقع أن يفرض على حلفاء أمريكا رسوما جمركية أعلى لإجبارهم على إنفاق المزيد على الدفاع لكي يحدث توازن في علاقاتهم التجارية مع الولايات المتحدة، مع وضع الصين تحت الضغط. فهو ينطلق من شعار «أمريكا أولا» لضمان تحقيق فائض في ميزان التبادل التجاري مع الأصدقاء والأعداء. ومعياره هنا بسيط جدا، فهو يقيس مدى رجحان فائضهم التجاري الثنائي مع الولايات المتحدة.
وثمة قلق واسع من إعادة تكرار مصطلح «صفقة القرن» التي أطلقه في المرة الأولى، وهو عنوان فضفاض لم يفهم الكثيرون فحواه. ولكن ما رشح عن ذلك أثار قلق الكثيرين. ولعل من أهم مضامينها إلغاء ما يسمى «مشروع الدولتين» في الشرق الأوسط، أي رفض إقامة دولة فلسطينية. وبرغم أن هذا الطرح في أساسه مجحف بالحقوق الفلسطينية ومنها حق العودة، فإنه يختصر توجهاته التي تهدف لتصفية القضية الفلسطينية وفق المنظور الإسرائيلي.
وسيعمل ترامب بكل جهده لتمرير سياسات الحكومة الإسرائيلية المتطرفة برئاسة بنيامين نتنياهو، وتسهيل ضم مناطق في الضفة الغربية للكيان، ومحاولة إملاء بعض الحلول الجزئية على الأرض. هذا ما تخطط له الإدارة الإسرائيلية على أمل أن تكون رئاسة ترامب فرصة لتفعيله. ولكن، كما في السابق، فإن وعي الشعب الفلسطيني وثباته ونضاله المتواصل سيحول دون تحقق ذلك. ولا يستبعد، بسبب ذلك، تكثيف سياسات القمع والقتل والإقصاء التي تستهدف الفلسطينيين.
وستكون الشهور القليلة المقبلة مؤشرا لمدى اهتمام إدارة ترامب بمآلات سياساتها في الشرق الأوسط في ظل التوترات السياسية والأمنية التي لا تفتر.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه ترامب بايدن بايدن الإنتخابات الأمريكية ترامب مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة مقالات رياضة صحافة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة الشرق الأوسط من الناخبین فی المائة لم یکن
إقرأ أيضاً:
العالم بين إدارتين
"فاز ترامب.. خسرت هاريس".. تحت هذه العبارة يقف العالم في المنطقة الرمادية أمام إدارتين أمريكيتين، إحداهما تحولت إلى إدارة انتقالية، والأخرى ستتسلم مهامها في 20 يناير(كانون الثاني) المقبل، وسط كم هائل من التحليلات والتوقعات، حول كيفية اختتام إدارة بايدن الراحلة ولايتها الدستورية، والأولويات التي تقف على رأس جدول أعمال إدارة ترامب الجديدة.
بعيداً عن السياسات الداخلية التي ستنتهجها إدارة ترامب، فإن العالم يترقب كيفية تعامل الإدارة الجديدة مع السياسات الخارجية والصراعات والبؤر الساخنة والمتفجرة في الساحة الدولية. في المقام الأول، لا بد من التأكيد على حقيقة أن العالم تغير عما كانت عليه الحال في فترة ولاية ترامب الأولى بين عامي 2016 - 2020، فلا الأزمة الأوكرانية كانت موجودة، ولا الحروب الدائرة في الشرق الأوسط، وإن كانت بعض السياسات التي انتهجها ترامب في ولايته السابقة قد أسهمت ولو بشكل غير مباشر في إشعالها لاحقاً، كما أن حالة الاستقطاب القائمة في الساحة الدولية لم تكن قد وصلت إلى هذا الحد الذي بات ينذر بانهيار النظام الدولي المعمول به حالياً. وبالتالي فإن الإدارة الجديدة ستجد نفسها أمام سلسلة لا متناهية من الأزمات والصراعات التي ينبغي إيجاد الحلول والتسويات الملائمة لها، إن كانت هذه الإدارة تريد تحقيق الاستقرار العالمي، وإنهاء الحروب لا إشعالها أو المشاركة فيها، كما يقول ترامب.نظرياً يمكن لترامب الذي دأب على القول إنه يستطيع حل الأزمات الدولية، وإنه لو كان في السلطة لما اندلعت أساساً هذه الأزمات، مثل الأزمة الأوكرانية أو هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول أو الحرب التجارية مع الصين وغيرها، حل الأزمات. لكن الواقع العملي قد يكون أعقد من ذلك بكثير، فالولايات المتحدة لا يمكنها أن تعود «عظيمة» كما هي حال شعار ترامب بمعزل عن العالم الخارجي، كما أن شعار «أمريكا أولاً» لا يمكن تجسيده بالاستغناء عن العالم، وبالتالي فإن تحقيق المصالح الأمريكية يرتبط بقدرتها على التأثير في القضايا العالمية وإيجاد الحلول للأزمات المرتبطة بها. وهو ما يعني أيضاً أن هناك تنازلات وأثماناً ينبغي دفعها لقاء الحلول والتسويات المنتظرة.
ففي الشرق الأوسط، مثلاً، لا توجد أوهام حول الدعم الأمريكي لإسرائيل، سواء كان ديمقراطياً أو جمهورياً، لكن الدعم الأحادي والأعمى هو ما أوصل المنطقة إلى ما هي عليه. ففي ولايته الأولى، حقق ترامب كل ما تريده إسرائيل، فنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وأسقط «حل الدولتين»، وقدم الجولان السوري المحتل هدية لإسرائيل على طبق من ذهب، لكن ذلك كله لم يمنع هجوم السابع من أكتوبر، ولا الحرب المشتعلة في لبنان، ونذر اندلاع حرب شاملة في المنطقة. فهل نضج ترامب وإدارته الجديدة بما يكفي للتعامل مع قضايا المنطقة والعالم بنوع من التوازن الذي يعيد الاستقرار والأمن للمنطقة والعالم؟ لننتظر!