الدكتور سلطان القاسمي يكتب: حكاية قصيدة
تاريخ النشر: 11th, November 2024 GMT
في بداية شهر سبتمبر عام 1953م، وصلت البعثة التعليمية الكويتية، إلى الشارقة، وكانت من المدرسين: مصطفى طه ناظراً للمدرسة ومدرساً، وأحمد قاسم البيروني، مدرساً، كما وصلت إلى المدرسة القاسمية بالشارقة، وكانت شبه نظامية، شحنة من الكتب والأدوات الرياضية.
بدأت الدراسة للعام الدراسي 1953م-1954م، وكانت في صورة أربعة فصول، من الأول الابتدائي إلى الرابع الابتدائي، كان إلى جانب مدرسي البعثة، اثنان من مدرسي المدرسة القاسمية بالشارقة غير النظامية، هما عبد الله القيواني وجاسم بن سيف المدفع.
كانت حصة اللغة العربية، يدرسها أحمد قاسم البيروني، أما حصة علوم الدين فكان يدرسها عبد الله القيواني.
في حصة اللغة العربية، كان أحمد قاسم البيروني، إذا أخطأ الطالب، ينهره، بقوله: «يخرب بيتك».
وصل ذلك القول إلى عبد الله القيواني، مدرس علوم الدين، وفي حصته، قال لنا: لماذا لا تردون عليه؟ فوقفت وقلت: أنت مدرس مثله، وعندما علمت بذلك القول الواجب عليك أن تخبره أن ذلك القول لا يجوز في بلادنا، أما نحن فلا يصح أن نلاسن المدرس، رد عبد الله القيواني عليّ قائلاً: الذي لا يرغب في الرد على ذلك المدرس، دعوه يخربون بيته.
في اليوم التالي لم أذهب إلى المدرسة، ورافقت والدي بالذهاب معه إلى السوق، حيث لديه معاملات تجارية، وبينما نحن نمر بالسوق، وصل سعود بن سلطان القاسمي إلى هناك، وشدني من ثوبي إلى الخلف، ليقول لي، بأن الناظر يريدني، فطلبت منه أن يرجع إلى المدرسة وأني سأرجع إلى المدرسة على أثره. أول فريق لكرة القدم للمدرسة القاسمية للعام الدراسي 1953م-1954م.. وفي الصف الأول: الطالب سعود بن سلطان القاسمي، الأول من اليسار.. وفي الصف الثاني: المدرسون، من اليسار:
عبد الله القيواني، (مدرس)، مصطفى طه، (ناظر المدرسة)، وجاسم بن سيف المدفع، (مدرس)،
وأحمد قاسم البيروني، (مدرس).. وفي الصف الثالث: الطالب سلطان بن محمد القاسمي، الثاني من اليسار.
التفت والدي على ذلك الحديث وسأل سعوداً عن الموضوع، فأجاب سعود بأن الناظر يريد سلطاناً، فالتفت والدي إليّ، وسألني عن سبب تغيبي عن المدرسة.
قلت لوالدي: دع سعوداً يرجع إلى المدرسة وأنا سأخبرك عن الموضوع، شرحت لوالدي، ما قاله عبد الله القيواني عليّ، هنا غضب والدي من ذلك الكلام، وقال: لنذهب إلى المدرسة، وعند دخولنا المدرسة أرشدت والدي إلى غرفة الناظر، وهناك انفجر والدي في وجه ناظر المدرسة قائلاً: من عبد الله القيواني الذي يتلفظ على سلطان وعلى خراب بيته؟ ووقف والدي وهو يهزّ عصاه قائلاً:«أنا الذي بخرب بيته !!! بهذه العصا أمام طلاب المدرسة !!!، أنا أستطيع أن أبني مدرسة خاصة بسلطان، ولن يدخل ابني هذه المدرسة التي بها هذا المدرس»، هنا بكيت، من ذلك الموقف الذي تسببت في صنعه.
التفت والدي وشاهد الدموع التي تنهمر من عينيّ، وسألني: ما يبكيك؟طلبت من والدي أن يترك المسألة للناظر، وأي قرار يتخذه، فإني سأقبله.
قال والدي: إذا كان ذلك يرضيك، فإني راضٍ بذلك.
خرج والدي من المدرسة بعد أن ودّعه ناظر المدرسة مصطفى طه، والذي أخذني إلى غرفة الناظر، وطمأنني بأنه سيتولى الأمر بنفسه.
سألني الناظر مصطفى طه عن مكتبتي الخاصة، وعن الكتب التي بها، فأخبرته عن أهم الكتب التي بها قائلاً: بها كتاب نهج البلاغة، وكتاب جواهر الأدب والشوقيات لأحمد شوقي.
سألني الناظر قائلاً: هل تحب الشعر؟ فأجبته بأنني أحب الشعر، كثيراً، قال الناظر: «استمع إليّ».
وأخذ يعدّ من ذاكرته قصيدة شعرية بعنوان: عليا وعصام.
فتهللت فرحاً، وقلت: أين أجد تلك القصيدة.
قال الناظر: إذا أنا كتبت لك فهل ترضى بحكمي عن موضوع عبد الله القيواني؟ قلت: نعم، قال: غداً أحضرها معي صباحاً.
فشكرته على ذلك، لكنه قال: إنك لم تسمع بحكمي على عبد الله القيواني.
قلت: اُحكم وأنا أنفذ ما تقوله.
قال: سأطلب عبد الله القيواني إلى غرفة الناظر وأصلح بينكما.
فقلت: أنا طوع أمرك.
حضر عبد الله القيواني إلى غرفة الناظر، وتم الصلح بيننا، أما موضوع أحمد قاسم البيروني، فسيعالجه ناظر المدرسة.
في اليوم التالي حضر الناظر مصطفى طه، ومعه القصيدة فكانت أغلى هدية.
احتفظت بقصيدة «عليا وعصام» منذ شهر سبتمبر عام 1953م إلى يومنا هذا، وما القصيدة المنشورة مع المقالة إلّا تلك القصيدة.
الدكتور سلطان بن محمد القاسمي
الصورةالمصدر: صحيفة الخليج
كلمات دلالية: فيديوهات الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة إلى المدرسة مصطفى طه
إقرأ أيضاً:
د.حماد عبدالله يكتب: قرأت لك
مقال من جماله وروعته قرأته كذا مره وسأحتفظ به في مذكراتي لأعود له ليزيد ايماني بخالقي """
بقلم د.مصطفى محمود
هل سأل أحدكم نفسه عن كمية السباكة داخل جسمه.. مجموع المواسير داخل العمارة التي هي بدنه، بما فيه من آلاف الوصلات والمجاري التي يجري فيها الدم والبول والطعام والفضلات وعوادم التنفس والهضم.
هل يعلم أن طول مواسير الدم في جسمه تبلغ وحدها ثمانية آلاف ميل أي أطول بكثير من المسافة بين القاهرة والخرطوم.. مواسير أكثر ليونة من الكاوتشوك، وأكثر متانة من الحديد، وأطول عمرًا من الصلب الكروم، وفي بعضها صمامات لا تسمح بالسير إلا في اتجاه واحد.
ثم مواسير الهواء ابتداء من فتحة الأنف إلى الحلق إلى القصبة الهوائية إلى الشعب ثم الشعيبات التي تتفرع وتتفرع وتنقسم حتى تصل إلى أكثر من مليون غرفة هوائية في الرئتين.
ثم مواسير البول التي تجمع البول من الكليتين لتصب في الحوض ثم الحالب ثم المثانة ثم قناة الصرف النهائية.
ثم مواسير الطعام من الفم إلى البلعوم إلى المعدة إلى الاثنا عشر إلى الأمعاء الدقيقة.
ثم مواسير الفضلات من المصران الصاعد إلى المستعرض إلى الهابط إلى المستقيم إلى الشرج.
ثم ممرات الولادة وغرفها ودهاليزها وأنابيبها.
ثم مجاري المرارة وحوصلتها ومواسيرها.
ثم مجاري الليمف.. ومواقف الليمف ومحطاته في الغدد الليمفية.
و هي مواسير تمر إلى جوارها الفضلات وتحميها شبكة من الأوعية الدموية والأعصاب، وجيوش من خلايا المقاومة تلتهم أي ميكروب يمكن أن يتسرب من هذه المواسير في طريق خاطئ إلى الجسم.
و أنابيب العرق.. وبلايين منها تشق الجلد وتفتح على سطحه لترطبه وتبرده بالعرق
و أنابيب الدموع داخل حدقة العين تغسل العين وتجلوها.
و أنابيب التشحيم داخل جفن العين تفرز المواد الزيتية لتعطي العين تلك اللمعة الساحرة.
هذا الكم الهائل من السباكة الفنية الدقيقة المعجزة التي تعيش مائة سنة ولا تتلف..
و إذا أصابها التلف أصلحت نفسها بنفسها.
نموذج من الهندسة الإلهية العظيمة التي أهداها الله للإنسان منحة مجانية منذ ميلاده وتولى صيانتها برحمته وعنايته.
فهل أدركنا هذه النعمة وهل قدرناها حق قدرها...!
و كثير من الأمراض سببها أعطال وتلفيات في هذه السباكة.
الإسهال والإمساك والغازات وتطبل البطن، هي أعطال وتلفيات في أنابيب صرف الفضلات والزكام انسداد في منافذ الهواء داخل الأنف.
و الناسور هو ثقب في ماسورة الإخراج.
و احتباس البول والمغص الكلوي وآلام الكلى سببها أعطال في أنابيب صرف البول
إن تركيبات (( الصحي )) في جسمك هي التي تصنع لك صحتك بالفعل
بل هي صحتك ذاتها.. إن أي انقباض في ماسورة معوية يساوي صرخة مغص، وأي ضيق في شريان القلب التاجي يساوي ذبحة، وأي ضيق في ممرات الولادة يساوي إجهاضًا وأي انسداد في قنوات فالوب يساوي عقمًا وأي انسداد في مجاري المرارة يساوي صفراء.
هذا غير مجاري الليمف والدم والغدد، وهي تتنوع في الجسم بالآلاف، ولكل غدة توصيلاتها وقنواتها ونظامها ودورها في صناعة الصحة التي نتمتع بها دون أن ندري أنها عملية تركيبية معقدة تشترك فيها مئات الأجهزة.
إن الصحة التي نشعر أنها مجرد استطراد لأمر عادي واقع.. ليست بالمرة أمرًا عاديًا وليست مجرد واقع مألوف، وإنما هي نتيجة تدبير محكم وثمرة عمليات معقدة مرسومة بعناية وقصد. وإنما يحدث المرض حينما تتخلف هذه العناية وهي قلما تتخلف.. فإذا تخلفت فـلتشرح لنا أسرارها.. فما عرفنا معجزة الصحة إلا بدراسة المرض، وما عرفنا معجزة الحياة إلا بالموت.. وبأضدادها عُرِفـَت الأشياء.
وفي محاولاتنا البدائية في بيوتنا وعماراتنا التي نبنيها وهي مجرد ماكينات رمزية صغيرة لا تصل إلى واحد في المليون من العمارة البشرية..
غرقنا في " شبر ميه "..
طفحت مجاري القاهرة، وتلوث البحر بعوادم المصانع، واختنق النيل بالفضلات التي تُلقى فيه، ووقفنا أمام السيفون التالف ننادي على سباك، واختلط الساخن بالبارد والطاهر بالملوث، وفشلنا في صناعة أصغر ماكيت سباكة لا تزيد مواسيره على بضعة أمتار، وغرقنا في بانيو نصف متر..
وهذه صناعتنا وتلك صناعته..
وهذه سباكتنا وتلك سباكته..
وهذه عمارتنا وتلك عمارته..
وهذا خلقنا وذاك خلقه.
" فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ "المؤمنون ( 14 )
و كأنما يتحدانا الله بصنعته المبهرة وآياته الخالدة في عمارة الجسم البشري:
{ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }الإسراء 88
و هو تحد ينسحب على كل آية من آيات الله.. في الكتاب.. أو في الآفاق..
أو في أنفسكم.
و النفس كُبرى المعجزات.
مقال: الصانع العظيم للــ د. مصطفى محمود رحمه الله..
من كتاب: الإسلام.. ما هو ؟