ترامب وأوروبا.. وتحولات مفهوم الغرب
تاريخ النشر: 11th, November 2024 GMT
بمناسبة فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، كتب عدد من الكتاب والباحثين والخبراء الفرنسيين مقالةً مشتركة في صحيفة «لوموند» (6 نوفمبر) دَعوا فيها الاتحادَ الأوروبي إلى الاستعداد للانفصام المؤلم مع الولايات المتحدة بعد عقود من الشراكة الخاصة.
لقد اعتبر الموقعون على المقال (العريضة) أن إعادة انتخاب ترامب من شأنها أن تزعزع المبادئ الثلاثة التي قامت عليها الرفاهية الأوروبية، وهي: الحركية الاقتصادية المستندة للتجارة الأطلسية بين القارة القديمة وأميركا، ونظام الأمن الذي أقامه حلف «الناتو»، والمنظومة الديمقراطية الليبرالية الجامعة.
وبخصوص الجانب الاقتصادي، أصبحت أوروبا منذ عقود في وضع منفصل عن القوتين العالميتين المتنافستين، أي الولايات المتحدة والصين، مما عرَّضها للتراجع والانكماش ولم تعد تجذب الاستثمار الخارجي. أما المنظومة الأمنية، فقد عانت من وضع مزدوج خطر هو تنامي الانعزالية الأميركية وتصاعد التهديد الروسي، بينما انهارت وحدة المرجعية القيمية الليبرالية بين جناحي الغرب الديمقراطي.
ما يتعين التنبّه إليه هنا هو أن انتخاب ترامب ذاته ليس هو سبب هذه القطيعة بين الولايات المتحدة وأوروبا، فلقد بدأ الاتجاه منذ سنوات طويلة، رغم الخطاب الرسمي الذي دأب على تكراره الرئيس بايدن في لهجته الاستقطابية للقادة الأوروبيين. لا يهمنا هنا الجانب الاقتصادي أو المعطيات الاستراتيجية الأمنية، بل العنصر الثالث المتعلق بوحدة المرجعية الليبرالية التي شكلت المفهومَ الحديث للغرب. كان الفيلسوف الألماني الشهير هيغل يقول إن أميركا تولّدت بشرياً وفكرياً من أوروبا، لكن الفرق الأساسي بينهما هو أن أوروبا هي موطن الحداثة وأميركا هي مسرح المستقبل.
والحداثة تحيل إلى ثلاثة مكونات أساسية هي: الثورة التقنية الأولى القائمة على الطبيعة الجامدة والصناعة المادية، والنظام الليبرالي المكرس للفصل الجذري بين دائرة القناعات الفردية الحرة والمجال العمومي الذي هو فضاء الحقوق والمشاركة المدنية، وفكرة الإنسانية الكونية باعتبارها إطاراً لضبط الروابط بين الأمم والشعوب وفق قيم الحرية والتضامن.
لقد استوعب التنوير الأميركي هذه المحددات وتبلورت بقوة في الثورة الأميركية ولدى الآباء المؤسسين، وكانت الأرضية التي قام عليها التحالف الغربي منذ بدايات القرن العشرين، وبصفة خاصة منذ الحرب العالمية الثانية. بيد أن النموذج الأميركي فرض خصوصياتِه منذ البداية في السياق الغربي الواسع، عبر سمات عديدة توقف عندها المؤرخون وعلماء الاجتماع، نشير من بينها إلى قوة القيم المحافظة التي تشكل نقطةَ ارتكاز «الديانة المدنية» التي تحدث عنها الكثيرون.
وما نعيشه راهناً هو تغلب القطب المحافظ على المكون الليبرالي في نموذج الحداثة الأميركية. كما أن التجربة السياسية الأميركية قامت منذ تشكلها الحديث على جدل استراتيجي معقد بين دعاة الانعزالية لصيانة الخصوصية الحضارية والمجتمعية المحلية والحفاظ على المصالح القومية العليا ودعاة الكونية الأممية الذين صاغوا النظم المؤسسية للشراكة مع أوروبا وبقية العالم من منظور كون أميركا هي «المدينة التي تشع على التلة»، حسب عبارة رونالد ريغان. وما نشهده مع ترامب هو انتصار النزعة الانعزالية ضمن رؤية تمنح الأولوية لمصالح الولايات المتحدة اقتصادياً واستراتيجياً.
أما ما سنراه مع ترامب، فقد عبّر عنه هو نفسه بنهاية «النظام الليبرالي العالمي» القائم على وحدة الرؤية الأيديولوجية لا المصالح الموضوعية، أي اعتبار المرجعيات الفكرية والأيديولوجية ليست أساساً للشراكات السياسية والاقتصادية التي يجب أن يحكمها منطق المصالح المحضة. عندما كانت الولايات المتحدة تواجه خطراً وجودياً خلال عهد الحرب الباردة، كانت بحاجة إلى العمق الأوروبي، بقدر ما كانت هي مظلةَ الحماية الفاعلة للقارة القديمة، لكنها اليوم لا تَعتبر روسيا خطراً مماثلاً للاتحاد السوفييتي، حتى وإن كانت تمثل «تهديداً حقيقياً» بالنسبة لأوروبا، في الوقت الذي تحرص فيه الدول الأوربية على حفظ مصالحها المشتركة مع الصين التي يرى ترامب أنها محور التهديد الأول للريادة الأميركية في العالم.
لقد حذّر الزعيمُ الفرنسي الراحل الجنرال شارل ديغول الأوروبيين من حتمية خروج الولايات المتحدة من القارة القديمة، مبيناً أن المشتركات الليبرالية ليست دعامة تحالف دائم. وما نشهده راهناً هو تحقق هذا التوقع الذي ستكون له آثار نوعية على تركيبة وتوازنات النظام الدولي. لقد قال ترامب من قبل في لغة صريحة إن أميركا لا يمكن أن تستمر في حماية الرفاهية الأوروبية متحمِّلةً تكاليفَها دون فائدة أو مصلحة بالنسبة لها. وما كشفت عنه الحرب الأوكرانية الحالية هو فشل دول الاتحاد الأوروبي في تحقيق الاستقلال الأمني والاستراتيجي، رغم تحذيرات ترامب ورغم ضغط الواقع الميداني على الأرض.
*أكاديمي موريتاني
*نشر أولاً في صحيفة الاتحاد الإماراتية
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
Δ
شاهد أيضاً إغلاق آراء ومواقفنور سبتمبر يطل علينا رغم العتمة، أَلقاً وضياءً، متفوقاً على...
تم مشاهدة طائر اللقلق مغرب يوم الاحد 8 سبتمبر 2024 في محافظة...
يا هلا و سهلا ب رئيسنا الشرعي ان شاء الله تعود هذه الزيارة ب...
نرحو ايصال هذا الخبر...... أمين عام اللجنة الوطنية للطاقة ال...
عندما كانت الدول العربية تصارع الإستعمار كان هذا الأخير يمرر...
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: الولایات المتحدة یقول إن
إقرأ أيضاً:
كندا تدعو لانتخابات مبكرة وسط تصاعد التوترات مع الولايات المتحدة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أعلن رئيس الوزراء الكندي، مارك كارني، اليوم الأحد، إجراء انتخابات مبكرة في 28 أبريل، بعد أسبوعين فقط من توليه المنصب.
وطلب كارني من الحاكم العام اليوم حل البرلمان بعد تسعة أيام فقط من أدائه اليمين الدستورية كرئيس وزراء جديد لكندا، في أعقاب حملته الناجحة للحلول محل جستن ترودو كزعيم للحزب الليبرالي.
يأتي هذا القرار في ظل تصاعد التوترات مع الولايات المتحدة، حيث هدد الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بفرض تعريفات جمركية صارمة على كندا واقترح ضمها كولاية أمريكية رقم 51.
ويسعى كارني للحصول على تفويض قوي من الكنديين لحماية استقلال البلاد واستقرارها الاقتصادي، واصفًا التهديدات التجارية بأنها من أخطر التحديات في هذا الوقت، ومتعهدًا بمنع هيمنة الولايات المتحدة على كندا.
ومن المتوقع أن تركز الانتخابات القادمة بشكل كبير على الحرب التجارية مع الولايات المتحدة.
في حين كان من المتوقع أن يفوز حزب المحافظين في البداية، شهدت الاستطلاعات تحولًا بسبب موجة من الوطنية أثارها تهديدات ترامب بالضم.
وفي مقابلة حديثة، أعرب ترامب عن دعمه لفوز الليبراليين، منتقدًا زعيم المحافظين، بيير بويليفر، ومشيرًا إلى أن الليبراليين كانوا أسهل في التفاوض معهم.
وبدأ كل من رئيس الوزراء الكندي، مارك كارني، وخصمه المحافظ، بيير بويليفر، حملاتهما الانتخابية في 23 مارس 2025.
ومن المقرر إجراء الانتخابات في 28 أبريل، مع التنافس على 343 مقعدًا في مجلس العموم. يؤكد كارني على الحاجة إلى تفويض قوي لتوجيه البلاد خلال الأزمة، بينما يصر بويليفر على تأكيد سيادة كندا ضد ترامب. شهد الحزب الليبرالي تغييرًا في القيادة بعد استقالة جستن ترودو في يناير.
على الرغم من قلة خبرته السياسية، يواجه كارني زعيم حزب المحافظين المخضرم، بيير بويليفر، الذي انتقد كارني بسبب نخبويته وشفافيته المالية.
ومع ذلك، مع التهديد الوشيك من الولايات المتحدة، يعتقد الخبراء أن قلة خبرة كارني قد يتم التغاضي عنها من قبل الناخبين. تظهر استطلاعات الرأي الأخيرة تقدمًا طفيفًا لليبراليين على المحافظين، مما يشير إلى سباق انتخابي تنافسي.