عبدالرحمن مراد
عاد ترامب إلى البيت الأبيض بعد جولة انتخابات وفق المتعارف عليه في النظم الأمريكية، وعودة ترامب ليس اعتباطاً ولن يكون اعتباطاً؛ فقد كانت عودته كضرورة أملتها الأبعاد الاستراتيجية للنظام العالمي العميق الذي يسير وفق خطط واستراتيجيات بالغة الدقة ووفق قيم معرفية حديثة سياسية واجتماعية واقتصادية، فعودة ترامب للبيت الأبيض الهدف منها إحياء مشروع أبراهام وهو المشروع الذي بدأ المهاد له عام 2020م بمصفوفة من الاتّفاقات وكان من نتائجه ما شهدته المنطقة العربية من تبدل وتغير في المواقف والقناعات السياسية، حَيثُ تحولت القناعات السياسة لصالح “إسرائيل” بدليل ما حدث في غزة وفي جنوب لبنان مؤخّرًا كنتيجة منطقية لمقدمات منطقية.
مشروع أبراهام يقوم على فكرة الوحدة المشتركة بين الديانات السماوية الثلاث الإسلام والمسيحية واليهودية؛ باعتبَار الحد المشترك بين الديانات الثلاث هو نبي الله إبراهيم -عليه السلام- وهو مشروع خطير جاء ليحقّق الوجود الإسرائيلي في المنطقة العربية وقد نجح المشروع في تفكيك المنظومة الثقافية العربية والمنظومة السياسية مما ترك ظلالاً على مستوى العلاقات بين البلدان العربية و”إسرائيل” بل تسرب ذلك الضلال إلى أفراد المجتمع العربي فأصبح الناس بين راض بالتطبيع وبين رافض، وقد ساهمت حركة تطبيقات التواصل الاجتماعي في بيان ذلك بكل وضوح، خَاصَّة مع حرب الإبادة التي تقودها “إسرائيل” ضد حركة المقاومة الإسلامية لمشروع التطبيع مع “إسرائيل” التي تسعى من خلالها إلى الوصول إلى فكرة الشرق الجديد.
فكرة الشرق الجديد مرّ بعدة مراحل إلى أن وصل إلى الفكرة الأخطر وهي اتّفاقات أبراهام، التي ظاهرها الوحدة المشتركة بين الديانات الثلاث وباطنها الوصول إلى دولة “إسرائيل الكبرى” التي تمتد من النيل إلى الفرات، وهي فكرة معلنة بدأت كمشروع إسرائيلي تحدث عنه شمعون بريز في كتاب أصدره مطلع الألفية ثم تحولت إلى خطاب سياسي وإعلامي على لسان وزراء خارجية أمريكا، وتعذر هذا المشروع عام 2006م بعد حرب تموز على لبنان، واستمر منذ عام 2007م بفكرة بديلة وهي فكرة الخلافة الإسلامية التي تبناها تنظيم الإخوان الدولي، وقد اجتمع التنظيم في تركيا، وقد نجحت تلك الثورات نجاحاً جزئيًّا لكنها واجهت ثورات مضادة؛ مما عكس النتائج المتوخاة من حركة الاضطرابات في المنطقة العربية، ولكنها أحدثت شرخاً وتمايزاً طائفيًّا في المجتمعات العربية وتمايزاً عرقيًّا وثقافيًّ؛ مما مهد الطريق للتعامل مع الواقع العربي الجديد بفكرة أبراهام، التي دلت حركة الواقع على نجاحها في التطبيع مع الكيان الصهيوني وفي انقسام الشارع العربي بين مؤيد ومقاوم للوجود الصهيوني، ولعل نجاح مشروع أبراهام بعد الأحداث الأخيرة في فلسطين وفي لبنان قد عزز القناعات بعودة ترامب إلى البيت الأبيض حتى تتمكّن “إسرائيل” من تحقيق حلمها في الشرق الجديد وهو في باطنه وفق معتقداتهم تحقيق دولة “إسرائيل الكبرى” التي تمتد من النيل إلى الفرات.
ومن اللافت للنظر أن اتّفاقات أبراهام التي تبنتها الإدارة الأمريكية في الولاية الأولى لترامب قد حقّقت لـ “إسرائيل” أهدافًا على مستويات عدة، خُصُوصًا في قضية تعزيز وجودها دون أن تتراجع عن حلمها الاستيطاني الاستعماري، هذا الأمر قد يجعلها تتمسك أكثر في رؤيتها للتعامل مع المنطقة العربية، أضف إلى ذلك اختيار التوقيت المناسب لإبراز هذه العلاقات وإخراجها للعلن، وقد تجلى ذلك في الموقف العربي من حرب الإبادة في غزة وفي لبنان.
نحن اليوم أمام مرحلة جديدة من الصراع العربي الإسرائيلي، والتعامل مع هذه المرحلة يفترض أن يعيد الحسابات والرؤى وبحيث تتبدل استراتيجيات المقاومة وتتعدد أبعادها؛ فالمعركة لم تعد معركة عسكرية فقط، ولم تكن كذلك في سالف أيامها، ولكننا كعرب تعاملنا معها كمعركة عسكرية، واشتغلنا على البُعد العسكري، وأهملنا بقية المستويات وهي مستويات نفذ منها العدوّ فأصبح يتحَرّك في المنطقة قتلاً وتدميراً برضى ومباركة المجتمع المسلم في غالبه معتمداً حالة الفرز الطائفي وحالة الانقسام وتنمية العدوات البينية، وقد تحَرّك في الفنون والآداب وفي فرض التطبيقات والمحتوى الثقافي الرقمي حتى يهيمن على الوعي الجمعي، واحتل العقول العربية المقاومة بالغياب والتغييب المتعمد، وبالتقليل من أثرها من خلال فرض نظام التفاهة الذي يحظى بدعم الشركات التجارية من خلال الإعلانات وتعزيز الموقف المالي للناشطين في تقديم المحتويات الرقمية الهابطة والمبتذلة، وظل المثقف الحر والمثقف النوعي يغرد خارج سرب الواقع بعد أن وجد نفسه في عزلة وفي ضياع، وقد تركته الأنظمة والواقع على رصيف الحاجة والجوع.
الواقع اليوم لا يتحَرّك وفق أحلامنا ولا وفق تطلعاتنا ومعتقداتنا، وهو يسعى إلى فرض وجوده بكل قوة واقتدار والتعامل مع هذا الواقع لا يتم بدون حركة وتعاط واستراتيجيات واضحة المعاني والأبعاد وقادرة على التفاعل مع مقدراته والتأثير فيها؛ لأَنَّنا بدون قوة ثقافية وقوة سياسية تؤازرها القوة العسكرية والاقتصادية ندور في فراغ قاتل، كما أن التعامل مع المستويات الحضارية الحديثة وخوض غمارها والاهتمام بالمثقف المتنوع والمتعدد وتوفير أسباب العيش الكريم له ومن ثم تفعيل دوره في الحياة وترميزه سيجعل مقاليد المستقبل في يدنا إن أحسنا الصناعة والتدبير والتفاعل الإيجابي والفاعل دون تحيزات وتمترس.
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: المنطقة العربیة
إقرأ أيضاً:
14 شهرا من الاعتداء الهمجي على غزة.. لماذا تبدو فكرة إيقاف الحرب مستحيلة؟!
ثمّة حروب أخذت وقتا طويلا ومرهقا للمتحاربِين استنزفت قدراتهم البشرية والعسكرية وأكلت مواردهم الطبيعية وأحالت حياة شعوبهم إلى عذاب، وقد صُنف البعض من تلك الحروب على أنها الأطول في التاريخ، مثل تلك التي جرت بين المسلمين في الأندلس من جهة والأسبان والبرتغاليين من جهة أخرى والتي استمرت أكثر من 700 عام كاملة!
لكن الحرب التي تشنها دولة الاحتلال، أو بتعبير أدق الاعتداء الوحشي الذي يشنه الصهاينة منذ ما يزيد على 14 شهرا مدعوما من كل جيوش الغرب بالأسلحة والذخائر والمعلومات السخية من أجهزتهم الاستخباراتية، ليست حربا متكافئة بين قوتين متناظرتين، بل هو اعتداء همجي مفتول العضلات مدجج بأحدث الأسلحة الفتاكة للإجهاز على شعب أعزل، معبرا بلسان الحال والمقال عن إرادته في الهدم والتدمير والتخريب لكافة صور العمران لديهم.
الحرب التي تشنها دولة الاحتلال، أو بتعبير أدق الاعتداء الوحشي الذي يشنه الصهاينة منذ ما يزيد على 14 شهرا مدعوما من كل جيوش الغرب بالأسلحة والذخائر والمعلومات السخية من أجهزتهم الاستخباراتية، ليست حربا متكافئة بين قوتين متناظرتين، بل هو اعتداء همجي
ولا يتوانى هؤلاء الصهاينة بعقيدتهم التلمودية المنحرفة عن قتل الحياة في غزة المحاصرة منذ ما يزيد على 17 عاما في ظل تواطؤ غربي وعربي، بل وفلسطيني من أشاوس السلطة التابعة لعباس! لسحق هؤلاء المقاومين ممن شذوا عن القاعدة العريضة المنبطحة لأمريكا -إمبراطوار العالم- وللغرب الأوروبي، ليس ذلك فحسب بل الوقوف خلف الاحتلال من أجل الفت في عزيمة الشعب الفلسطيني وإنهاء وحدته وتماسكه..
لقد تخلت البشرية عن إنسانيتها واصطفت خلف البرابرة في اعتداءاتهم على شعب أعزل عقابا له على رفضه للقهر والذل الذي ارتضاه السيد الأمريكي بارا بعقيدته الصهيونية، وباتت دولة الاحتلال في ظل الحماية الدولية والعجز العربي في حالة من الفُجر والعربدة لا مثيل لها في التاريخ، لا تتوقف عن جرائمها وسيكوباتيتها وتلذذها بإحراق كل كائن حي في غزة، وتدمير كل وسائل الحياة من محطات طاقة ووقود وسيارات إسعاف، ولا تهدأ طائراتهم ومسيّراتهم حتى تُركت الجثث في الشوارع تنهشها الكلاب الضالة في مشهد مؤلم ومروّع تخطى في ضراوته ما كنا نقرأه عن مأسي الحروب في العصور الوسطى!
وثمة أسباب جوهرية فرضت تساؤلات هامة عن قوة الدفع التي تحرك حكومة "بنيامين نتنياهو" والتي تحملها على الاستمرار في تلك الحرب رغم خسائرها البشرية والاقتصادية المهولة، ولماذا يبدو إيقاف الحرب أمرا مستحيلا على الأقل في الأفق القريب؟!
1- وقوف الولايات المتحدة الأمريكية بكل طاقتها خلف الاحتلال ودعمه بكافة وسائل الدعم المادي والعسكري والسياسي والإعلامي، وسيُخيّل للمتابع للتحركات المكوكية للإدارة بدءا برئيسها مرورا بوزير خارجيتها مع باقي المتنفذين داخلها بأن المعركة بين أمريكا وبين الفلسطينيين! حتى وُجهت الاتهامات من قِبل الأمريكان أنفسهم لحكومتهم بسبب التراخي في معالجة كارثة الإعصار الذي ضرب ولاية فلوريدا، وقالوا إن الإدارة لم تقم بالمجهود والدعم للإعصار مثلما تفعل في دعمها لإسرائيل!
ثمة أسباب جوهرية فرضت تساؤلات هامة عن قوة الدفع التي تحرك حكومة "بنيامين نتنياهو" والتي تحملها على الاستمرار في تلك الحرب رغم خسائرها البشرية والاقتصادية المهولة، ولماذا يبدو إيقاف الحرب أمرا مستحيلا على الأقل في الأفق القريب؟!
2- سيطرة اليمين من غلاة المتطرفين أعضاء الحكومة الإسرائيلية على الأغلبية في الكنيست الإسرائيلي، مما يعطي الحماية والحصانة ضد أي محاولات سحب للثقة من حكومة نتنياهو، وابتزازهم لرئيس الحكومة بذلك لحمله على المضي قدما في الحرب رغم رفض الشارع الإسرائيلي واحتجاجاته المستمرة لانهاء الحرب وعقد صفقة تبادل الأسرى مع المقاومة الفلسطينية..
3- انتقال العرب من خانة العجز إلى خانة التواطؤ والتحريض على إنهاء المقاومة، وهو ما فضحه "دينيس روس"، الدبلوماسي الأمريكي السابق والمستشار في معهد واشنطن حاليا، قائلا: إن الرغبة في القضاء على حماس والمقاومة ليست رغبة أمريكية أو إسرائيلية فقط ولكنها رغبة عدد من الزعماء العرب!
4- الدور الشيطاني للإعلام العربي في تحميل المقاومة مآلات ما يحدث في القطاع، متجاهلا كافة الأسباب المتعلقة بالاحتلال والخطط التي كشفت رغبته في مهاجمة القطاع قبل انطلاق الطوفان، ونظرته للضفة الغربية التي يسكن فيها حليفه "محمود عباس" بأنها الجائزة الكبرى! وهذه الميديا من محطات فضائية ومواقع وصحف ومراكز للدراسات؛ لا تكف عن النواح مثل البوم! ولا تكف عن الغمز واللمز في رموز المقاومة وفي النيل من ذمتهم وكرامتهم واتهامهم بأبشع الأوصاف التي يعرفون براءتهم منها، كما حدث مع قائد المقاومة الشهيد "إسماعيل هنية" وأسرته التي ارتقى أغلبها بالقصف والقتل داخل قطاع غزة..
5- ضعف المنظمات العربية والإسلامية وعدم قدرتها عن الخروج من حظيرة الحكام، بخلاف اعتلاء سدة تلك المنظمات من بعض الشخصيات المعروفة بكراهيتها وعداوتها للمقاومة الفلسطينية، والكيل بمكالين الذي يحسنه المتحدثون باسم تلك المنظمات ممن لا يقدمون حلولا ولا تسمع لهم قولا يشفي الصدور ولو على مستوى بيانات وتصريحات الأمين العام للأمم المتحدة السيد "أنطونيو جوتيريش"!
ختاما.. هل ستمضي الحرب إلى ما لا نهاية وهل أصبح أمر إيقافها مستحيلا؟!
الأمر بيد الله وحده يُقلّب الموازين، ويفضح المتآمرين، ويقوّي ساعد المقاومين للذل والهوان نيابة عن أمتهم وعن العاجزين من شعوبنا العربية والإسلامية، ولربما اختل توازن المحتل وانفرط عقد اللُحمة بين شركاء الغدر والخيانة كما انفرط عقد الأحزاب ممن تجمعوا لاستئصال شأفة المسلمين والقضاء على دولتهم في المدينة..
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.