جو ستورك.. رائد حقوق الإنسان والتقدُم
تاريخ النشر: 10th, November 2024 GMT
عبد النبي العكري
في يوم الثلاثاء 22 أكتوبر 2024 توفي المناضل الإنسان جو ستورك في منزله في واشنطن، وكان جو قد فقد زوجته الحقوقية برسلا قبل ستة أشهر تقريباً، وكان لذلك تأثير نفسي عميق عليه. وقد أنجب منها 3 بنات؛ هن: نورا وظافرة وليلى، وهي أسماء عربية تعكس ارتباط وعاطفة ستورك تجاه العرب.
تأتي وفاة جو ستورك بعد حياة حافلة بالنضال السياسي والحقوقي وتراث غني من المعرفة من خلال صحيفة ميريب (تقرير الشرق الأوسط) ودراسات وتقارير حقوقية موثقة صادرة عن منظمة مراقبة حقوق الإنسان وغيرها من الهيئات والمنظمات وكتب معرفية عميقة حول الشرق الأوسط والسياسة الأمريكية؛ حيث ترك جو ستورك آثارًا لا تُمحى في المجالات والمنظمات التي ناضل وعمل فيها.
وخلال أكثر من نصف قرن من النضال الإنساني والحقوقي، فقد ارتبط جو ستورك بشكل خاص مع نضالات الشعوب العربية وحقوقها السياسية والحقوقية والإنسانية بشكل استثنائي وله مكانة خاصة لدى الشعوب العربية وفي مُقدمتها شعب فلسطين ولذا فإنَّ فقده خسارة كبيرة لشعوبنا العربية.
وُلِدَ جو ستورك في مدينة نيويورك في 1943، وتخرج في جامعة سانت فنسنت في بنسلفانيا تخصص اللغة الإنجليزية في 1963. وتطوع في فرق السلام في تركيا خلال الفترة 1964-1967 وزار كلا من الأردن ولبنان؛ حيث تفقد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وحاور شخصيات خبيرة فيها، حيث تعرف للمرة الأولى على القضية الفلسطينية مباشرة.
حاصل على الماجستير في العلاقات الدولية من قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة كولومبيا في نيويورك ونشط خلالها في الحركة المناهضة لحرب أمريكا في فيتنام. وينتمي جو ستورك لتيار اليسار الجديد في أمريكا والغرب ومن المهتمين بقضايا الشرق الأوسط ونضالات شعوبة. ومن هذا المنطلق أسس مع رفاق له مركز الشرق الأوسط للبحث والمعلومات "ميريب" في 1971، وكان مسؤولا عن مجلة تقرير الشرق الأوسط "ميريب" الصادرة كل شهرين من 1971 حتى 1995، والمتخصصة في قضايا الشرق الأوسط من وجهة نظر يسارية تقدمية وموضوعية. وظل ستورك ينهض بهذه المهمة الصعبة رغم قسوة الظروف وتراجع اليسار الجديد. وميريب من المجلات اليسارية القليلة المستمرة في الصدور وتصدر حاليًا إلكترونيا بدعم من جامعة اكستر ببريطانيا. وقد كرست المجلة عددا خاصا بجو ستورك بعد وفاته تضمن عدة مقالات له ومقالات عنه وحوارات تقييمية تضمه مع كبار المحررين ومقابلات معه.
ويُؤكد جو ستورك أنه عند تأسيس المجلة محدودية الاهتمام بالقضايا العربية بما في ذلك القضية الفلسطينية في الأوساط الإعلامية والبحثية والأكاديمية بما في ذلك الأوساط اليسارية، ويجري تناولها بصورة نمطية تعكس السردية الأميركية والصهيونية والأنظمة الموالية للغرب. من هنا أهمية إصدار واستمرار مجلة ميريب. ومن أجل أن تكون المجلة ذات مصداقية وموضوعية وتعكس رؤية التيار التقدمي للقضايا العربية، فقد كانت قاعدة التحرير واسعة من المحررين الأساسيين والردفاء والمساهمين، وكلهم متطوعون فيما ينهض رئيس التحرير ولجنة التحرير بمهمة التحرير النهائي. ولتأكيد الطابع العلمي للمجلة فقد شارك أكاديميون تقدميون في المجلة. وعمدت المجلة لاستكتاب باحثين تقدميين من المنطقة العربية وجوارها. وهنا فقد كان جو ستورك فاعلا في مسيرة ميريب كرئيس للتحرير طوال ربع قرن وكاتباً فيها لربع قرن آخر.
النضال الحقوقي
وكما هو حال عدد من اليساريين الغربيين، انتقل ستورك إلى مجال نضال رحب وهو المجال الحقوقي، حيث انضم إلى منظمة هيومن رايتس ووتش (مراقبة حقوق الإنسان )، ومقرها نيويورك في 1996 وظل يعمل فيها حتى 2020. ولكن واستجابة لإلحاح مجلس الأمناء والعاملين في المنظمة، فقد اضطر للعودة للمنظمة كمستشار لشؤون الشرق الأوسط حتى وفاته في 22 أكتوبر 2024.
والمعروف أنَّ قيام مراقبة حقوق الإنسان أتى بعد مؤتمر هلسنكي للأمن والتعاون في أوروبا في 1975، والذي ضم دول أوربا وأمريكا وكندا بهدف تخفيف آثار الحرب الباردة مع ما يرافقها من مواجهات في مجال حقوق الإنسان. ومن مخرجات المؤتمر الحق في قيام منظمات أهلية لرصد ومتابعة الالتزام بميثاق هلسنكي ومن أهمها حقوق الإنسان. ومن هنا قيام منظمة مراقبة حقوق الإنسان من قبل حقوقيين أميركيين لتراقب وترصد وتقيم حقوق الإنسان في بلدان ميثاق هلسنكي، لكنها تطورت إلى منظمة حقوقية دولية احترافية ذات معايير صارمة ومصداقية. من هنا التحاق جو ستورك بها.
انضم جوستورك إلى المنظمة، ونظرا لخبرته في المنطقة والتي استمرت ربع قرن في مجلة ميريب ومعرفته الميدانية بأوضاعها ومنها أوضاع حقوق الإنسان فقد أوكلت له مهمة نائب مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وهنا أيضًا فإن جو ستورك اعتبرها مهمة نضالية وليس وظيفة، وهذا ما يشهد به كل من عمل معه بأنه كان حريصا على تقديم كل ما لديه من خبرة ومعارف ودعم للعاملين معه أو من يسعون لمعرفة ما يتعلق بحقوق الإنسان في المنطقة.
في النهوض بمهمته الإنسانية فإن جوستورك لم يركن إلى العمل المكتبي وتلقي التقارير بل حرص على أن يكون على اطلاع مباشر بالأوضاع الحقوقية وواقع هذه البلدان من خلال التواجد فيها ومعايشة أحداثها. وقد عمد إلى زيارة البلدان المسؤول عنها في الشرق الأوسط دون دعوة أو ترتيبات رسمية مسبقة مما يعرضه لمخاطر عدة. ففي السنة الأولى من عمله، زار البحرين في يونيو 1996 والذي صادف حراكاً شعبيًا واسعًا لدعم العريضة الدستورية وتكررت زياراته حتى 2011.
وإثر الغزو الأمريكي للعراق في 2003، فقد قام جو ستورك برئاسة وفد تحقيق في جرائم أمريكا في العراق وجمع آلاف الوثائق التي توثق جرائم الاحتلال الأميركي للعراق. كما زار الضفة الغربية المحتلة، ونشرت المنظمة بعدها تقريرا مفصلا حول نظام الفصل العنصري الصهيوني. وخلال ثورات الربيع العربي، زار جو ستورك مصر في ربيع 2011 وأصدرت المنظمة تقريرا موسعا عن قمع نظام مبارك وانتهاكاته.
هذه أمثلة فقط للعديد من الزيارات التي قام بها ستورك أو العاملون معه في المنظمة إلى مختلف هذه البلدان.
لقد نسج ستورك صداقات وعلاقات وثيقة مع الحقوقيين ومنظماتهم والضحايا وأهاليهم ومحاميهم من المدافعين عن حقوق الإنسان وحقوق شعوبهم والقضايا الإنسانية في هذه البلدان مما مكنه ومكن المنظمة من متابعة تطور أوضاع حقوق الإنسان عن معرفة جيدة وموضوعية ودعم هؤلاء النشطاء ومنظماتهم بفاعلية.
الاستمرار في ظروف صعبة
وبعد أحداث الربيع العربي 2011 وما ترتب عليه من حروب أهلية في بعض الدول العربية وتوسع القمع وتراجع الحريات العامة في جميع الدول العربية، جرى حل الجمعيات والمنظمات الحقوقية الوطنية وتراجع نشاطها والتشدد الرسمي مع المنظمات الحقوقية الدولية ومنع زيارات وفودها أو مهماتها. وقد شمل ذلك المنع جو ستورك ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان. لكن جو ستورك والمنظمة ظلت تتابع تطورات أوضاع حقوق الإنسان في البلدان العربية والشرق أوسطية والتعاطي معها بمسؤولية ونزاهة بالاتصال بالمنظمات والنشطاء الحقوقيين والضحايا ومحاموهم وأقاربهم داخل هذه البلدان وخارجها. كما عمد لمخاطبة المسؤولين حول قضايا حقوق الإنسان. وكان جوستورك في قلب هذه الاتصالات مباشرة مع أهاليهم ومحاموهم ويتحرك من أجل الحد من معاناتهم.
وكان لجو ستورك والمنظمة دور مهم في المحافل الدولية لطرح قضايا حقوق الإنسان في المنطقة العربية والشرق الأوسط لمعالجة أوضاع حقوق الإنسان ومحاسبة المنتهكين حكومات وأجهزة وتنظيمات وأفراداً بطرح تقارير ومذكرات موثقة وموضوعية. وقد كان ستورك حاضرا في اجتماعات هيئات الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان، كما قدَّم شهادات في الكونجرس الأمريكي، حيث أثبت بوضوح دور الولايات المتحدة في المساهمة في انتهاكات حقوق الإنسان في البلدان العربية بدعمها الأنظمة التسلطية وتواطئها في المحافل الدولية.
دور ريادي بمختلف الصعد
أسهم جو ستورك في الحقل الأكاديمي الحقوقي حيث درس في جامعات واشنطن مواد تتعلق بحقوق الإنسان وحاضر في محافل جامعية وحقوقية في أمريكا وعدد من بلدان العالم. كما كان مرجعاً موثوقاً لوسائط الإعلام حول أوضاع حقوق الإنسان في الشرق الأوسط ومسؤولية الغرب وخصوصا أمريكا فيها ونشرت مقالاته في صحف بارزة مثل "لوموند دبلوماتيك". وقدَّم ستورك شهادات عدة مرات أمام لجان الكونجرس الأمريكي حول الشرق الأوسط وحقوق الإنسان. كما ألف جو ستورك عددا من الكتب المتخصصة ومنها كتاب نفط الشرق الأوسط والمحو في لحظة وريجن والشرق الأوسط والجزيرة العربية المخفية والإسلام السياسي والثورة العربية وانتهاكات روتينية ونفي روتيني.
من الصعب علينا إعطاء جو ستورك حقه ببضع كلمات ولكن الوفاء له وما سعى إليه في حياته هو الوفاء للقيم الإنسانية التي ناضل من أجلها وللنهج الذي تبعه بتوخي الحقيقة والتمسك بالقيم الإنسانية والثبات على المبدأ وعدم الخضوع للتهديدات والسعي وراء المغريات.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
بين “الشرق الأوسط الجديد” و “إسرائيل الكبرى”
يمانيون – متابعات
غيرَ مَــــرَّةٍ، ظهر مجرمو الحرب الصهاينة يحملون خرائطَ جديدةً للمنطقة تُعبِّرُ بشكل أَو بآخر عن حلم صهيون بما يُسمى “إسرائيل الكُبرى”، وَبالمثل كَثيرًا ما تكرّرت التصريحات الأمريكية عن “الشرق الأوسط الجديد” وَبين الأمرَينِ صلةٌ وثيقة، بل إن مصطلح أَو تعبير “الشرق الأوسط الجديد” هو المرادفُ الأمريكي لمشروع “إسرائيل الكُبرى” لماذا نذهب لذلك؟ ما وجه العلاقة ما الدلائل والشواهد على الذهاب إلى هذا الاستنتاج؟
من حلف “الدائرة“ إلى شد الأطراف ثم بترُها:
مع عودة للجذور الأولى لنشأة الكيان الصهيوني نجد أن “إسرائيل الكبرى” تمتد “من نهر النيل إلى نهر الفرات” كما زعم ذلك المجرم ثيودور هرتزل وهو معتقد يحمله المجرمون الصهاينة، وعملوا بكل وسيلة على التأصيل له كموروث ديني يدَّعي أن الأرض الموعودة تمتَدُّ من نهر النيل في مصر إلى نهر الفرات بالعراق، وإن كان الوصول إلى تحقيقه على أرض الواقع يحتاجُ لتدرُّجِ بدأ بمخطّط عُرِفَ في ما بعدُ بـ “حلف الدائرة”، وَهذا قضى بتطوير علاقات الكيان مع الدول الأجنبية المحيطة بالدول العربية كإيران الشاه وتركيا وإثيوبيا وغيرها لتهديد الدول العربية والضغط عليها وإبقاء بؤر الصراع قائمةً بينها وبين الدول العربية لإضعافها.
هذه الاستراتيجيةُ عُرِفَت أَيْـضًا بـ “تطويق الطوق” في إشارة للطوق العربي الذي يلُفُّ فلسطينَ المحتلّة.
وقد عبَّرت عن نجاح هذا المخطّط وهذه الاستراتيجية غولدا مائير في مؤتمر حزبِ العمل 1960 بقولها: “لقد نجحنا في إقناع الدول المحيطة بالدول العربية لإقامة (حلف الدائرة) ليشكِّلَ سورًا حول تلك الدول، يدرأ الخطر”.
في الأثناء كان الصهاينة يسيرون في مخطّط التطبيع مع الطوق العربي، ومن المعروف ما أنجزه الصهاينة في هذا المضمار، وقد امتد إلى منطقة الخليج العربي التي لم تكن بعيدةً عن مشروع “إسرائيل الكُبرى”؛ إذ سبق وعمد الصهاينة لرسم خارطة لفلسطين المحتلّة تدخل فيها أجزاء من منطقة الخليج العربي، عبّر عنها في وقت مبكر جِـدًّا نورمان بنتويش في كتابه (فلسطين اليهود الماضي والحاضر والمستقبل) الصادر عام 1919م، وقد نقل هذه الجزئية وأشَارَ إليها الكثيرُ ممن بحثوا الصراع العربي مع العدوّ الإسرائيلي.
ونجاح كيان العدوّ في عقد تحالفات مزعومة مع الأنظمة الخائنة في البحرين والإمارات والسعوديّة لا يعني أن الخليج العربي سيكون بمعزل عن خرائط التقسيم، هذا المشروع قائم على استغلال التعدد الطائفي والمذهبي وتحويله لمخلب ومخرز للتفكيك.
ونحن نعرف إلى أي مدى يضرب هذا التنوع بلدان الخليج، خَاصَّة العربية السعوديّة، مع مشاعر عميقة ومتراكمة بالتهميش والإقصاء، بل ومظالم تاريخية لم تعد تقتصر راهنًا على الشيعة، بل امتدت لتيارٍ سُني واسع وعريض يبتعدُ عن قصور الأمراء من بني سعود.
بالعودة إلى دول التطويق من المهم أن نشيرَ إلى أن مسار التطبيع مع الدول المطبِّعة لم يكن معزولًا عن مخطّط التقسيم والتفتيت، وكَثيرًا ما عبَّر الصهاينة عن ذلك؛ فتحدَّثوا عن إنشاء دولة مسيحية في لبنان بعد ضم الجنوب اللبناني حتى نهر الليطاني إلى “إسرائيل”.
وَعن تقسيم الأردن يقول بن غوريون عام 1956م: “لا حقَّ للأردن في الوجود ويجبُ تقسيمُه بضم شرق الأردن إلى العراق الذي عليه الالتزام باستيعاب اللاجئين الفلسطينيين وَتوطينهم في أراضيه وضم ما تبقى من الأردن غرب النهر إلى إسرائيل”.
وَفي سياق التمهيد لعملية توسع “إسرائيل” والوصول إلى خارطتها الكبرى، كان التقسيم والتفتيت لمنطقتنا هدفًا رئيسيًّا لكيان العدوّ، وقد اتبع لذلك استراتيجية “شد الأطراف ثم بترها”؛ أي مد الجسور وإقامة العلاقات مع الحركات والكيانات بعد تخليقها ودعمها، ثم جذبها للانفصال، وَهذا هو المقصود بالبتر، وقد دعا بن غوريون للانتقال بعد دعمِ المعسكر المسيحي في لبنانَ لإقامة تحالف وتعاون مع الأكراد في العراق والدروز في سوريا وفي جنوب السودان، وَلم يكن ما سبق من خطط حاصِلَ أوهام أَو خيال يدغدغ المشاعر، بل كان فلسفةً تُترجَمُ وبرنامج عمل ينفَّذُ مع الحلفاء في الغرب الكافر.
ومن مرحلة لأُخرى، حرص الصهاينة أَيْـضًا في التعبير عنها كاستراتيجية، وفي ثمانينيات القرن الماضي عبّرت عنها وثيقةُ عوديد ينون -الدبلوماسي الصهيوني ومستشار مجرم الحرب أرييل شارون- التي نُشرت مع توضيح أنها تتعلق بمشروع “إسرائيل الكُبرى” القائم على إضعاف الدول العربية وتقسيمها لاحقًا في إطار المشروع التوسُّعي الصهيوني، وعلى الاستيطان بالضفة الغربية وطرد الفلسطينيين من فلسطينَ وضم الضفة وقطاع غزة لـ “إسرائيل” مع أجزاء من لبنانَ وسوريا والأردن والعراق ومصر والسعوديّة؛ انطلاقًا من تفتيت الدول العربية القائمة حَـاليًّا لدويلات صغيرة، تصبح كُـلٌّ منها معتمدةً على “إسرائيل” في بقائها.
وتشدّد وثيقة بينون على تفتيت مصر إلى الكانتونات الآتية:- دويلة قبطية مسيحية عاصمتها الإسكندرية في أعالي مصر، ودويلة النوبة عاصمتها أسوان، ودويلة إسلامية عاصمتها القاهرة، وما دون ذلك يكون تحتَ النفوذ الإسرائيلي، أَو بعبارة أدقَّ ضمن “إسرائيل الكُبرى”.
ونصت الوثيقة على تقسيم العراق إلى كانتونات ثلاثة للأكراد والشيعة والسُّنة، وتقسيم لبنان وسوريا وَإيران وَباكستان وَالسودان وليبيا وبقية دول المنطقة على أُسُسٍ عِرقية أَو طائفية، وَفْـقًا لحالة كُـلّ دولة، وسبق وكُتب أن أخطرَ من عبّر عن رؤية “إسرائيل الكُبرى” من نهر النيل إلى الفرات أَو مُعتقد “الأرض الموعودة” هو عوديد ينون، وَسيتولى من بعده رسم الخرائط مفكِّرو المحافظين الجدد ومنظِّروهم في أمريكا.
من برنارد لويس إلى رالف بيترز:
بعد وثيقة عوديد ينون بعقدٍ، نشرت مجلة صادرةٌ عن البنتاغون مشروعًا لبرنارد لويس، وهو أُستاذ ما يُعرَف بالمحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية، خطط فيه لتقسيم الشرق إلى أكثرَ من ثلاثين دويلة إثنية ومذهبية؛ لحماية المصالح الأمريكية و”إسرائيل” حسب مخطَّط يقيم دولةً للبلوش من إيران وباكستان وأُخرى للبوشتونستان من باكستان وأفغانستان ودولة للكرد من إيران والعراق وتركيا، مع تجزئة إيران لعدة كانتونات حسب قومياتها المختلفة.
وينص مخطّط برنارد لويس على تفتيت العراق لكيانات ثلاثة في الشمال والوسط والجنوب، ومثلها سوريا بين الدروز والعلوية والسُّنة، والأردن تنقسم بين البدو وكيان آخر يضم لفلسطين المحتلّة، أما السعوديّة فأعاد خارطتَها إلى ما قبل 1933م، وجَزَّأَ لبنان لكيانات حسب قومياته.
وقسّم مصرَ بين إسلامية وقِبطية، والسودان بين زنجية وعربية، ومثلها موريتانيا، ولم يمر عقدٌ على مشروع لويس حتى بدأت أمريكا مع الألفية الثالثة برسم خارطة شرق أوسط جديد بحدود جديدة وتقسيم مختلف، هذه الخطة بشّرت بها علنًا ورسميًّا وزيرةُ الخارجية السابقة كوندوليزا رايس عام 2006م من تل أبيب -يافا المحتلّة- قالت رايس: “الشرق الأوسط الجديد سيولدُ من رحم هذه الحرب” في إشارة إلى العدوان على لبنانَ حينها، ثم كرّرت ذلك بنبرةٍ لا تخلو من الابتهاج والدموية، وتعليقًا على تكثيف العدوان على لبنان والضاحية الجنوبية بالتحديد منها بقولها: “هذه آلامُ المخاض.. الآن يولد شرق أوسط جديد”.
ودونَ أن تأتيَ رايس على الكثير من التفاصيل، لكن كان واضحًا أن الأمريكان والصهاينة يسعون لإسقاط جنوبِ الليطاني كخطوة أولى على طريق “إسرائيل الكُبرى” وَأَيْـضًا تحييد حزب الله من دائرة التأثير في لبنان، لكن النتائج كانت مُغايرة.
لاحقًا نشرت مجلةُ الجيش الأمريكي بعضَ تفاصيل خطة (الشرق الأوسط الجديد) ومنها تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات على أَسَاس عِرقي وطائفي، وتفتيت المملكة السعوديّة إلى دولة في الشرق وأُخرى في مكة والمدينة، فيما يلحق شمالُ السعوديّة بالأردن وَيلحق جزءٌ من الجنوب باليمن، فيما تبقى باقي دول الخليج الكويت وَقطر وعُمان بشكلها الحالي، أما الإمارات وإيران فتشهدان بعضَ التغييرات، فيما تقسَّمُ اليمنُ إلى دولتين وفق خُطة الشرق الأوسط الجديد، وهذه هي ما تُعرَفُ بخريطة (حدود الدم) لرالف بيترز وهو ضابطٌ أمريكي عمل في الاستخبارات العسكرية، انطلق في تقديم المخطَّط الأمريكي الصهيوني مَمَّا يصف بالحقوق الضائعة للأقليات؛ نتيجة التقسيم الأول -في إشارة لسايكس بيكو-، ومن منظوره يجب أن يعاد التقسيم، وَفْـقًا للتركيبة السكانية غير المتجانسة القائمة على المذاهب والقوميات والأقليات، وهكذا نجد أن التصوُّرَ للشرق الأوسط الجديد لصيقٌ للغاية بمشروع “إسرائيل الكُبرى” وهو مدخلٌ واسعٌ لتحقيقِ حلم صهيون.
—————————————
المسيرة| عبدُالحميد الغُرباني