الفقر عدو كريه، لكنه مُقيم معنا منذ أزمنة، حتى صار معلما من المعالم، معتادا، ومألوفا، وأمرا طبيعيا. فى يوم ما سأل رئيس باكستان، الكاتب المصرى محمد حسنين هيكل ـ حسبما روى ـ لماذا نحن فقراء؟ لماذا يقيم الفقر فى بلاد الشرق؟ ولماذا يتمركز أكثر فى بلاد المسلمين؟. حار الأستاذ هيكل قليلا، ثم أرجع الأمر لعوامل جغرافية، ومناخية، وتاريخية، لكن الإجابات لم تكن مقنعة.
دارت الأيام وتبدلت الأفكار ومنحت الأكاديمية السويدية جائزة نوبل فى الاقتصاد لعام 2024 لثلاثة علماء كان من بينهم اثنان عرفناهما من قبل لأنهما كتبا كتابا مهما عن الفقر عنوانه «لماذا تفشل الأمم؟». صدر الكتاب عام 2012 وترجم إلى العربية لاحقا، وكان محل اهتمام عدد قليل من أساتذة الاقتصاد والاجتماع العرب، لكن حجم الاهتمام تزايد واشتعل بعد حصول مؤلفيه على نوبل.
دارون اسيم أوغلو، وجيمس روبنسون لهما نظرية جديدة تقول إن الأمم الفقيرة ليست فقيرة بحكم الجغرافيا، والمناخ والطبيعة، وإنما بحكم المؤسسات المقامة على أسس متآكلة وبنيان ضعيف.
فيما مضى كان البعض يردد بأن الدول ذات المناخ الحار هى بالضرورة فقيرة، لكن سنغافورة وماليزيا وبتسوانا شطبوا بنموهم وازدهارهم الاقتصادى هذه الفرية. وفيما مضى أيضا تصور البعض أن الدول ذات الموقع الجغرافى المهمش يجب أن تبقى فقيرة، لكن اتضخ خلاف ذلك بأمثلة ازدهرت ازدهارا لافتا.
السر فى تخطى الفقر هو وجود مؤسسات صحيحة وقوية وفاعلة، وهو ما يتحقق فى ظل تعددية سياسية. يقول الكتاب: إن المؤسسات القوية تقام نتيجة منافسات سياسية واستعداد المجتمع لتقبل زعمماء سياسيين جدد. الأمثلة عديدة من التاريخ، لكن فيما يخص البلدان العربية يشير المؤلفان بوضوح فى الفصل التاسع إلى حركة الاستعمار الأوروبى للشرق وكيف أفقرت البلدان التى احتلتها بتعمد بناء مؤسسات وهنة. المؤسف أنه كانت هناك فرص عظيمة جدا بعد الاستقلال، لكن النظم الحاكمة أقامت مؤسسات طيعة للهيمنة على أى فرص منافسة سياسية محتملة.
ثمة حكاية كاشفة فى هذا الكتاب، تتحدث عن كوريا التى كانت مستعمرة لليابان حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. بعد انتصار الحلفاء قسمت كوريا بين أمريكا وروسيا، فصار النصف الجنوبى خاضعا لواشنطن، وصار الشمالى خاضعا لموسكو. كان هناك شقيقان، عاش الأول فى النصف الشمالي، والثانى فى الجنوبي، وظلا مفترقين طوال عقود المقاطعة حتى التقيا مؤخرا بعد اتفاق لم الشمل بين الدولتين. سأل الجنوبى شقيقه الشمالى عن رقم هاتفه، فأجاب بأنه ليس لديه هاتف. سأله عن سيارته فقال إنه ليس لديه سيارة. عرض عليه نقودا كمساعدة فقال له إننى سأضطر عند عودتى إلى تقديمها للحكومة. كان الفارق فى المعيشة بين نصفى البلد كبيرا لدرجة مثيرة، لكن التفسير كان سهلا، ففى كوريا الجنوبية كانت هناك مؤسسات قوية قائمة على احترام سيادة القانون، وتعددية سياسية بينما كانت الشمالية خاضعة لنظام ديكتاتورى عتيد.
مثال آخر فى نهايات القرن التاسع عشر ومطلع العشرين فى أمريكا والمكسيك. ففى ذلك الوقت كان أصحاب الأفكار والمبتكرين كثر. وبالفعل تبدلت حياة كثيرين ظهروا فى أمريكا مثل آديسون بسبب وجود نظام مصرفى قوى يمول شراء براءات الابتكار بيسر، ذلك لأن هذا النظام كان قائما على منافسة حقيقة وقوانين شاملة وقوية، لكن فى المكسيك كان النظام المصرفى نتيجة الفساد السياسى فى حوزة أقلية مسيطرة.
الخلاصة : التعددية هى سلم مفارقة الفقر، لأنها كفيلة ببناء مؤسسات راسخة. والله أعلم.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: مصطفى عبيد الكاتب المصري محمد حسنين هيكل بلاد المسلمين
إقرأ أيضاً:
مؤسسات الأسرى: الاحتلال يمعن في انتهاك حقوق أسرى غزة
رام الله - صفا
قالت هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطيني، إن المعتقلين من قطاع غزة يتعرضون لمعاملة قاسية من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، حيث يتم انتهاك حقوقهم بصورة متزايدة.
وجاء في بيان مشترك للهيئة ونادي الأسير، أن قوات الاحتلال ترتكب تلك الانتهاكات بشكل خاص خلال عملية الاعتقال والفترة الأولى من احتجازهم في المعسكرات.
وذكرت الهيئة والنادي أن فرقهما القانونية نجحت مؤخرًا في زيارة نحو 30 معتقلاً من قطاع غزة، في ظروف احتجاز صعبة في سجني النقب وعوفر، بما في ذلك عدد من الطواقم الطبية التي جرى اعتقالها من مستشفى الشفاء في غزة سواءً من داخل المستشفى أو عبر ما يُسمى "الممرات الآمنة".
وأشار البيان إلى أن الزيارة التي أُجريت يومي السادس والسابع من نوفمبر الجاري، أظهرت مستوى عاليًا من الانتهاكات الجسدية والنفسية التي يعانيها المعتقلون، مما يعكس فظاعة الأساليب التي تمارسها قوات الاحتلال.
وبحسب الإفادات التي حصلت عليها الطواقم القانونية، تفشّى مرض "الجرب" بين مئات المعتقلين، لاسيما في سجن النقب، وسط إهمال طبي مستمر وحرمان من العلاج، مما يفاقم الحالة الصحية للمحتجزين، في ظل تزايد انتشار المرض بين صفوفهم.
واشتكى الأسرى من نقص في مقومات النظافة الأساسية، واحتجازهم لفترات طويلة دون ملابس كافية، خاصة مع حلول فصل الشتاء.
وقال المعتقل (د.و)، الذي اُعتقل في مارس 2024 خلال العدوان على مستشفى الشفاء، إنه خضع للاحتجاز لأربعة أشهر في منطقة محاذية لغزة، حيث تعرّض للضرب المبرح والإهانات المستمرة، مشيرًا إلى استمرار معاناته اليوم جراء تفشي مرض الجرب بين المعتقلين.
وأوضح المعتقل (ل.ر) أن الأوضاع الصحية في سجن النقب أصبحت كارثية، إذ يعاني نحو مائة من أصل 145 معتقلًا في أحد الأقسام من الجرب، ويفتقرون للملابس والأغطية اللازمة في ظل البرد الشديد.
كما وجه المعتقلون نداءً للمساعدة في توفير احتياجاتهم الأساسية مع بداية الشتاء، وتوفير ملابس شتوية ووسائل للتدفئة، مشيرين إلى أن نقص الفرشات والأغطية وتكديسها بين الأقسام المصابة وغير المصابة يساهم في تفاقم انتشار المرض.
وشكّل معسكر "سديه تيمان" عنوانًا بارزًا لجرائم التّعذيب، والجرائم الطبيّة المروعة بحقّ معتقلي غزة، إضافة إلى ما حملته روايات وشهادات معتقلين آخرين مفرج عنهم عن عمليات اغتصابات واعتداءات جنسية فيه.