ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس، بحضور حشد من المؤمنين.

بعد الإنجيل قال في عظة: "سمعنا في رسالة اليوم الرسول بولس يقول: «أعلمكم أن الإنجيل الذي بشرت به ليس بحسب الإنسان، لأني لم أتسلمه وأتعلمه من إنسان بل بإعلان يسوع المسيح..

. فلما ارتضى الله، الذي أفرزني من جوف أمي ودعاني بنعمته، أن يعلن ابنه في لأبشر بين الأمم، لساعتي لم أصغ إلى لحم ودم، ولا صعدت إلى أورشليم إلى الرسل الذين قبلي، بل انطلقت إلى ديار العرب وبعد ذلك رجعت إلى دمشق...». يختصر هذا الكلام معنى الرسولية بحسب فهم الرسول بولس أو شاول الذي كان يضطهد المسيحيين بضراوة قبل أن يدعوه الرب للبشارة، فقبل الدعوة وأصبح رسول الأمم. فمن يختاره الرب لحمل كلمته إلى العالم لا يكون مرسلا من بشر، بل من الرب الذي ينتقيه من قبل أن يولد، كما نقرأ في سفر النبي إرميا: «قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك. جعلتك نبيا للشعوب» (1: 5). فإما يقبل كبولس أو يرفض بالحرية المعطاة له".

أضاف: "يقول الرسول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية: «مع المسيح صلبت فأحيا، لا أنا، بل المسيح يحيا في. وما لي من الحياة في الجسد أنا أحياه في إيمان ابن الله الذي أحبني وبذل نفسه من أجلي» (2: 20). كما يخبرنا نص إنجيل اليوم عن رجل يهودي وقع بين أيدي اللصوص، فمر كاهن ولاوي (شماس) من بني جنسه ولم يساعداه، فيما ساعده سامري عدو لليهود. هكذا يعلمنا نصا الرسالة والإنجيل كيف يصبح الإنسان المحب رسولا، حتى ولو كان قبلا شريرا (كبولس) أو عدوا (كالسامري)، لأن محبة الرب تستر كل الخطايا وتلد رسلا حقيقيين".

وتابع: "تعيد كنيستنا اليوم للقديس الرسول كوارتس مؤسس كنيسة بيروت في القرن الأول، وأول أساقفتها. هذا الرسول جاء ليبشر في بيروت، المدينة الوثنية التي ما زالت آثارها القديمة موجودة حتى يومنا.  ما الذي يجعل إنسانا يأتي من بعيد ليبشر أناسا لا يؤمنون؟ ما الذي يدفعه إلى الموت الطوعي وهو يدرك أنه يتجه صوبه، خصوصا أن الذين يتوجه إليهم بكلمة الله لا يعرفون الله، بل يؤمنون بآلهة من صنع أيديهم، ولا شيء يردعهم عن قتل من يخالفهم الرأي أو الموقف؟ الدافع الأساسي للرسول هو محبته الحقيقية وإيمانه القوي بإله خالق ضابط الكل. لقد نظر السامري إلى اليهودي المجرح على أنه إنسان مثله، ولم يفضل على مساعدته شيئا، ولا حتى طقوس العبادة كما فعل الكاهن واللاوي. كما دفع من جيبه الخاص ثمن شفاء من كان يعتبره عدوا له. هذا ما يفعله كل رسول، أينما وجد، بمحبة نحو كل مجرح بالخطيئة والوثنية والآفات العالمية، وكله إيمان بأنه سيستطيع اصطياده نحو سفينة المسيح. من أجل تحقيق ذلك لا يتردد في صرف ما في جيبه، حتى ولو احتاج إلى العمل من أجل تأمين مصروفه، كما فعل الرسول بولس في عمله بصناعة الخيم مثلا لتأمين مستلزمات بشارته. الرسول ليس فقط من الإثني عشر، أو من السبعين، بل هو كل إنسان آمن حقا بالمسيح الكلمة، وحمله إلى محيطه. كان المسيح يطلب ممن يشفيهم ألا يخبروا أحدا بذلك، لكنهم لم يستطيعوا إخفاء النعمة الإلهية التي حصلوا عليها عندما لمسهم المسيح – كلمة الله فكانوا خير رسل له. كل رسول تواجهه عقبات لكن إيمانه الكبير يساعده على تخطيها. الرسل الأولون لم يعبأوا بالمصاعب والعقبات. حتى الموت الذي واجه معظمهم لم يجدوا فيه عقبة، لأنهم ساروا على خطى «الذي أحبهم وبذل نفسه من أجلهم».

وقال: "السؤال المطروح اليوم: هل نحن مستعدون للشهادة لكلمة الله في عصر سيطرة المال والمصالح والحروب والغرائز والأنانيات، وفي عصر التكنولوجيا والتطور، ووسائل التواصل التي أصبحت منابر للشتم والتهديد والتخوين واختلاق الإشاعات والأكاذيب؟ أم إننا سنضع الحجج الواهية عقبات أمامنا حتى لا «نعمل ونعلم وندعى عظماء في ملكوت السماوات»؟ بلدنا يمر في أوقات صعبة. إنه يحترق. سيادته منتهكة، سماؤه مستباحة، آثاره مهددة، أبناؤه يقتلون أو يهجرون من بيوتهم والعالم يتفرج. أزمات كثيرة تواجهه وقد تكون من أصعب ما مر عليه، وهو يحتاج إلى جهد كل لبناني من أجل تخطي محنته. هو بحاجة إلى رسل سلام ومحبة وتواضع وتضحية. إنه محتاج إلى تكاتف أبنائه عوض تشرذمهم وتشاتمهم وصب الأحقاد. وطننا جريح وهو محتاج لأن يكون جميع أبنائه كذاك السامري الصالح الشفوق الذي لم يبخل بشيء من أجل إنقاذ الجريح. لذا على اللبنانيين جميعا، مسؤولين ونوابا وقادة ومواطنين، أن يعودوا إلى لبنانيتهم، إلى أصالتهم، إلى إيمانهم، وأن يناضلوا من أجل لبنان ويعملوا على إعادة بناء دولة قوية، عادلة، مستقلة، شامخة بدستورها وقوانينها، تفرض هيبتها على الجميع، وتعمل من أجل مصلحة أبنائها وكرامتهم، فلا تكون ورقة مساومة أو ساحة تصفية حسابات، بل دولة مرفوعة الرأس، مسموعة الصوت، تعرف ما يناسبها، وتعمل من أجل بقائها وديمومتها وازدهارها وسلامة أبنائها. هذا يستوجب انتخاب رئيس وتشكيل حكومة وإعادة بناء مؤسسات الدولة لإعادة الحياة إليها".

وختم: "لذا علينا أن نحدد أولوياتنا، ومهما طالت لائحتها يجب ألا يترأسها سوى واحد، هو الرب، نعمل بهدي تعاليمه، ونكون رسلا في هذا الزمن المتردي، أمناء لبلدنا، مناضلين من أجل حريته وسيادته، صناع سلام، وناشري محبة، لا نخجل من إيماننا ومن الإعلان عما يصنعه الله من إحسانات في حياتنا، فنمجده على الدوام".

المصدر: لبنان ٢٤

كلمات دلالية: الرسول بولس من أجل

إقرأ أيضاً:

???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه

???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
( عميد التَنوير ، نِحرِير النبوءاتِ العَتيقة )

في أعمق لحظاتي مع نفسي صدقاً ، لا أراني أعظَمُ مَيلاً للحديث عن الشخصيات، إن تكرَّمَت وأسعفَتني الذاكرة ، فقد كتبتُ قبل عن فيلسوفِ الغناء مصطفى سيد أحمد ، والموسيقار الكابلي ، والمشير البشير ، وشاعر افريقيا الثائر ؛ الفيتوري .

لا أجدُني مضطراً لمدح الرّجال ، ولكنها إحدى لحظات الإنصاف ، ومن حسن أخلاق الرجال أن ينصفوا أعداءهم، دعك من أبناء جلدتهم ونبلائها ، والرجلُ ليس من قومنا فحسب، بل هو شريف قوم وخادمهم ، خطابه الجَسور يهبط حاملاً “خطاب” ابن يعمر الإيادي لقومه ، وخطبة درويش “الهندي الأحمر” ، و”بائية” أبي تمّام ، وتراجيديا الفيتوري في “التراب المقدّس” ..
عبد الرحمن ، لم يكن حالة مثقفٍ عادي ، “عمسيب” مثالٌ للمثقف العضوي قويّ الشَّكِيمَة ، العاملِ علَى المقاومة والتغيير والتحذير ، المحاربِ في ميادين التفاهة والتغييب والتخدير ، المتمرّد على طبقته ، رائد التنوير في قومه ، ظلّ يؤسس معرفياً وبأفقٍ عَالمٍ لنظرية اجتماعية ، نظرية ربما لم تُطرح في السوح الثقافية والاجتماعية من قبل ، أو لربما نوقشت على استحياء في همهمات أحاديث المدينة أو طُرحَت في ظلام الخرطوم عَهداً ثم غابت . هذا الرجل امتلك من الجسارة والثقافة العميقة بتفاصيل الأشياء وخباياها ، ما جعله يُقدم على تحطيم الأصنام السياسية والثوابت الاجتماعية وينفض الغبارَ عن المسكوت عنه في الثقافة والاجتماع والسياسة.

عمسيب قدم نظريةً للتحليل الاجتماعي والسياسي ، يمكن تسميتها بنظرية ( عوامل الاجتماع السياسي) أو نظرية ( النهر والبحر) في الحالة السودانية ، فحواها أن الاجتماع البشري يقوم على أسس راسخة وليس على أحداث عابرة . فالاجتماع البشري ظلّ منذ القدم حول ( القبيلة Tribe ) ثم ( القوم Nation ) ثم ( الوطن Home) ثم ( الدولة country) . هذا التسلسل ليس اجتماعيٌ فحسب، بل تاريخيٌ أيضاً ، أي أن مراحل التحَولات العظيمة في بِنية المجتمعات لا يصح أن تقفز فوق الحقب الاجتماعية ( حرق المراحل).. فالمجتمعات القَبَلية لا يمكنها انتاج (دولة) ما لم تتحول إلى (قومية) ، ثم تُنتج (وطن) الذي يسع عدد من القوميات ، ثم (دولة) التي تخضع لها هذه القوميات على الوطن ، مع تعاقد هذه القوميات اجتماعيا على مبادئَ مشتركة، وقيمٍ مضافة ، كالأمن والتبادل الاقتصادي وادارة الموارد ، والحريات الثقافية ونظام الحكم .

هذه النظرية تشير إلى أن الاجتماع السياسي في السودان ظل في مساره الطبيعي لمراحل التسلسل التاريخي للمجتمعات والكيانات ، إلى أن جاءت لحظة ( الاستعمار) Colonization . ما فعله الاستعمار حقيقة ، أنه وبدون وعي كامل منه ، حرق هذه المراحل – قسراً – وحوّل مجتمعات ما قبل الدولة ( مجتمعات ما قبل رأسمالية) إلى مجتمعات تخضع للدولة.

فالمجتمعات التي كانت في مرحلة ( القبيلة) او تلكَ في مرحلة( القومية) قام بتحطيم بنيتها وتمحوراتها الطبيعيه وتحويلها إلى النموذج الرأسمالي الغربي ، خضوع قسري لمؤسسات الدولة الحديثة، مجتمع ما بعد استعماري ، تفتيت لمفاهيم الولاءات القديمة الراسخة ، بل وتغييرها إلى نظم شبه ديموقراطية، وهذا بالطبع لم يفلح، فبعد أن حطّم المستعمر ممالك الشايقية ودولة سنار ومشيخات العرب بكردفان ومملكة الفور ، وضم كل ذلك النسق الاجتماعي ( القبلي / القومي) إلى نسق الوطن/ الدولة.. أنتج ذلك نخب وجماعات سياسية ( ما بعد كولونيالية ) تعيش داخل الدولة ، لكنها تدير الدولة باللاوعي الجمعي المتشبّع بالأنساق التقليدية ( القبيلة / الطائفة / القومية) ، أي مراحل ماقبل الوطن والدولة.

ما نتج عن كل هذه العواصف السياسية والاجتماعية ، والاضطرابات الثقافية، أن هذه المجتمعات والقوميات التي وجدت نفسها فجأة مع بعضها في نسق جديد غير معتاد يسمى ( الدولة) ، وأقصدة بعبارة ( وجدت نفسها فجأة) أي أن هذا الاجتماعي البشري في الاطار السياسي لم يتأتَ عبر التمرحلات الطبيعيه الانسانية المتدرجة للمجتمعات، لذا برزت العوامل النفسية والتباينات الثقافية الحادة ، الشيئ الذي جعل الحرب تبدأ في السودان بتمرد 1955 حتى قبل اعلان استقلاله . ذات الحرب وعواملها الموضوعيه ومآلاتها هي ذات الحرب التي انطلقت في 2002 ثم الحرب الأعظم في تاريخنا 2023 .

أمر آخر شديد الأهمية، أن دكتور عبد الرحمن ألقى حجرا في بركة ساكنة، وطرق أمراً من المسكوت عنه ، وهو ظاهرة الهجرات الواسعة لقوميات وسط وغرب افريقيا عبر السبعين عاما الماضية ( على الأقل) , فظاهرة اللجوء والهجرات الكبيرة لقبائل كاملة من مواطنها لأسباب التصحر وموجات الجفاف التي ضربت السهل الافريقي، ألقت بملايين البشر داخل جغرافيا السودان، مما يعني بالضرورة المزيد من المنافسة العنيفة على الأرض والموارد وبالتالي اشتداد الحروب والصراعات بالغة العنف، وانتقال هذا التهديد الاستراتيجي إلى مناطق ومجتمعات وسط وشمال السودان ( السودان النّهري)

اذن ، سادتي ، فنظرية (الاجتماع السياسي ، جدلية الهوية والتاريخ ) هذه تؤسس لطرائق موضوعيه ( غير منحازة) لتفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية وجدليات الحرب والسلام ، وتوضّح أسباب ظاهرة تعدد الجيوش والميليشيات القبلية والمناطقية والخطابات المؤسسة ديموغرافياً ، وما ينسجم معها من تراكمات تاريخيه وتصدّعات اجتماعية عميقة في وجدان تلك الجماعات العازية .. التوصيات البديهية لهذا الخطاب ، أن الحلّ الجذري لإشكاليات الصراع في السودان هو بحلّ جذور أزمة الهوية، والهوية نفسها لم تكن ( أزمة) قبل لحظة الاستعمار الأولى ، بالتالي تأسيس كيانات جديدة حقيقية تعبّر عن هويات أصحابها والعقد الاجتماعي المنعقد بين مجتمعاتها وقومياتها .

النظرية التي أطلق تأسيسها دكتور عبد الرحمن، لم تطرح فقط الأسئلة الحرجة ، بل قدمت الإجابات الجسورة وطرقت بجراءة الأبواب المرعبة في سوح الثقافة والاجتماع والسياسة في السودان.

Mujtabā Lāzim

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • متى وقت السحور في رمضان 2025؟.. الرسول حدد موعده بهذه الساعة
  • الرئيس السيسي: نعمل على تطوير مؤسسات الدولة بشكل تدريجي وبخطوات ملموسة
  • ???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
  • فضل الصلاة على النبي وكيفية محبة الرسول.. تعرف عليها
  • رئيس القابضة للصناعات الغذائية: نسعى لتعزيز الإنتاج والجودة وإعادة الريادة للقطاع
  • محسن عبد المسيح: الإسماعيلي يحتاج بناء من جديد.. وجماهير الدراويش قدمت درسًا في الوفاء
  • علي جمعة يكشف كيفية شفاعة الرسول لنا يوم القيامة
  • حكومة غزة تعرض ارقاما صادمة حول مظاهر عودة المجاعة
  • ثلاثية بناء الدولة: التعليم، العمل، والثقافة
  • رئيس المركز الأوكراني للحوار: كييف أبدت مرونة تجاه المبادرة الأمريكية للهدنة