بقلم: عمر العمر
تماماً كما توقعنا انزلقنا إلى درك جب الحرب القذرة. فالتقتيل الجماعيُ صار أبشعْ، التهجيرُ الجماعي صار أقسى كما التدمير العشوائي والممنهج صار أعمى واشتد إيقاعُ التشظيِ القبلي رأسيا وأفقياً.إنها إحدى نسخِ الحرب الأهلية القذرة. على نقيض الرجاءات المعلّقة في فضاء التشرد البئيس خرجنا من هامش العصر إلى ماقبل التاريخ.
*****
مثل كل الحروب الأهلية في أفريقيا تختلط في حربنا الصراعات على الموارد والتنافس على السلطة مع فساد الطواغيت وهدرهم الطاقات والكفاءات وفشل الحكومات في توفير الخدمات و اخفاق النهوض بمهام البناء والانماء. فذلك ماخلّفه رماد الحروب الأهلية في الكونغو ، زائير سيراليون ، نيجيريا، بورندي ، الصومال واثيوبيا. لكنا تفرّدنا ليس فقط بتجاهلنا المتعمّد لاشتعالها بل بالتفاني في إلقاء الحطب وصب الزيت عليها كما فعلنا من قبل في الجنوب .بل أكثر من ذلك هندسنا اشعالها في دارفور. فجمر حربنا الحمقاء الراهنة انتاج صرف لأجنحة نظام الإنقاذ و أزرعه في تلك البقعة .ذلك اخفاق فاضح لنخبة تتباهى زيفاً بمشروع لبناء أمة! نحن كما أولئك الأفارقة ننعم بخيرات الأرض وكنوزها لكنا نرسف في الفقر ، الجهل ،المرض ونغرق في الدم.
*****
بالضبط كما شرحت الإعلامية الأميركية انفجرت حربنا بينما الوطن في مرحلة سيولة سياسية في منطقة ليست وسطى بين حائط دكتاتورية الانقاذ وسراب أعمدة البناء الديمقراطي. فالحرب الاهلية لا تقع بينما سطلة قمعية تقبض على الدولة .كما لا تنفجر في نظام ديمقراطي متكامل البنى. باربارا والترز لم تأت بأكثر مما يقول التاريخ والواقع.فلم تكن ثورة ديسمبر اقتلعلت (النظام البائد) من جذوره كما لم تكن دولة المرحلة الانتقالية استوت على سوقها إذ اتسم أداؤها بالبطء ،بالتردد، التشقق والتسكع على أرصفة الإنجاز . تلك السيولة عرّت وهن قياداة السلطة التنفيذية وإعشاء الزعامات السياسية .ذلك واقع أغرى المتربصين بحركة التقدم وأصحاب الطموحات غير المشروعة على احتواء المد الجماهيري ثم الإنقضاض على السلطة .
*****
مع تعدد بؤر الحروب الأهلية على خارطة العالم عبر التاريخ، ربما تكون الحرب الإسبانية أقرب تشابها إلى بؤس دمنا المسفوح وأرواحنا المزهقة بأيدينا المستنفرة وتلك المستجلبة. فمكا حربنا الخاسرة ، انفجرت حرب الاسبان على وقع تمرد عسكري انقلابي على دولة مدنية في ثلاثينات القرن الفائت. تحالف شبيه بما لدينا قوامه يمينيون فاشيون ،أثرياء ورجال دين و أنصار الملكية (النظام البائد) تزعّم فيه الجنرال فرانكو حرباً شرسةً على حكومة سندُها جمهوريون يساريون، فلاحون، فقراء ومهمشون ، نقابيون وضباط منحازون. تماماً كما في حربنا الرعناء شهدت اسبانيا عمليات تطهير ،تدمير للمدائن والبنى التحتية والهياكل الثقافية . كما شن الانقلابيون عمليات إعدام جماعي وأفرغوا خزائن البنك المركزي من أرصدة الذهب. كذلك خاضت غمار الحرب الاسبانية عناصر من وراء الحدود كما غمست دول خارجية أياديها في مستنقع الدم .
*****
في المقابل دفع الشعب الاسباني -كحالنا ومصيرنا - فاتورة باهظة الكلفة وتحمّل صدوعا وشروخا لا تزال تداعياتها ماثلة! حصيلة ضحاياحرب السنوات الثلاثة نحواً من مليون ونصف المليون بين قتيل ،جريح ،سجين ومشرّد. لا سقفًا زمانياً لجحيم دانتي السوداني .لا أحد يحصي أعداد القتلى ، الجرحى والمشردين . ربما بجمعنا مع اسبانيا متشابهات أُخر. فالأمة الاسبانية خليط من قوميات وهويات متعددة تشمل الكتلان والباسك. كذلك تعرضها لموجات هجرات خارجية.كما تعيش حالة توتر بين هيمنة المركز وثقافات الاقليات. مثل حالنا تعرضت إلى تأثير رياح الإسلام الهابة من الخارج حيث نهضت دولة الأندلس قبل تصدعها على أيدي ملوك الطوائف. قد لايبدو هذا التصدع بعيدا عن مصيرنا في أتون الحرب القبلية الآخذة في الاستعار.
*****
لكن الاسبان أفضل منا -كما يوضح التاريخ- إذ خرجوا من تحت الأنقاض أكثر وعيًا، وحدةً،تصميماً على الاهتداء بموروثهم الثقافي والاجتماعي واكثر اصطفافاً وراء قياداتهم القابضة على قبس المواطنة وروح العصر.ذلك التراث البديع لم تكن نار الحرب حطّمت عماده الفقري أو أحرقت فروعه.أما نحن فقد أضعنا قِيَمَنا النبيلة، مزّقنا ماتبقى من مُثُلنا الشعبية، قبرنا مرجعياتنا الحكيمة ؛ رجال إطفاء الخلافات القبلية في مهدها بالموعظة الحسنة والقول العدل الفصل.ذلك ما تُعرّفه أدبياتنا السياسيةب(الأجاويد).مع رحيل أولئك الافذاذ من زعماء القبائل ،العشائر و رجال السياسة والطرق الصوفية تزداد اخاديا التشظي داخل القبائل افخاذا وبطونا وقيادات مأجورة.فتواصل حجارة الدومينو الوطني في الإنهيار والنسيج الاجتماعي في التهتك على نحو يجعل إعادة الرص والرتق عسيرة إن لم تصبح مستحيلة. السؤل الملح ؛هل من إطار وطني شخصي أو تنظيم قادر على انجاز هذه المهمة الأكثر إلحاحا ؟أم يواصل الإصطراع اللاعقلاني جرف الوطن إلى التخثر والفناء؟
aloomar@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الحروب الأهلیة
إقرأ أيضاً:
أفلام عربية قصيرة في مهرجان القاهرة السينمائي تنافس «الأجنبية»
قالت يوليانة سعدان، مراسلة قناة القاهرة الإخبارية، إن هناك مجموعة مميزة من الأفلام القصيرة من عدة دول تعرض في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وأغلبها يسلط الضوء على القضايا الإٍنسانية والاجتماعية في المنطقة العربية.
أبرز الأفلام المنافسة في مهرجان القاهرةوأضافت أن هناك أفلام عربية وأجنبية تتنافس ضمن مسابقة الأفلام القصيرة في مهرجان القاهرة السينمائي، منها «أمنية أخيرة» و«من المسافة صفر» و«عقبالك يا قلبي».
الأفلام القصيرة.. بوابة للتعبير الحروتابعت: «تعتبر الأفلام القصيرة بوابة مهمة للتعبير الحر، فيما تلقى دعما مستمرا من مهرجانات سينمائية عالمية مثل مهرجان كان ومهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ما يجعل المسابقة شبيهة بسباق فني يعكس التنوع الثقافي وجميعها تتناول موضوعات لا تشبه بعضها البعض».