الاختلاف في التكتيكات السياسية لا يمنع التنسيق لعمل موحد ( 5 – 15)
تاريخ النشر: 10th, November 2024 GMT
صديق الزيلعي
التحالفات بند أصيل وضروري في العمل السياسي. وتتميز القوى السياسية باختلاف رؤاها وبرامجها، لأنها لو كانت متفقة، في كل شيء، لأصبحت حزبا واحدا. تتميز بلادنا بالتعددية والتنوع والاختلاف، وعانت من الصراعات الحادة بسبب هذا التعدد، لذلك البحث عن مشروع قومي، يوحد الجميع، يفرض علينا دراسة التحالفات الماضية، والتعلم منها لتجويدها مستقبلا.
تعرضت المقالات السابقة للعداء الذي شب بين الحركة السودانية للتحرر الوطني وحزب الأمة، ولكن، في النهاية، شاركت الحركة في الجبهة الاستقلالية التي يقودها حزب الأمة. وكذلك تجربة الهجوم القوي والحملة العنيفة التي شنها الحزب الشيوعي ( الجبهة المعادية للاستعمار آنذاك) ضد اتفاقية الحكم الذاتي، ومطالبته الجماهير برفضها ومقاومتها كمؤامرة استعمارية. ثم المشاركة في الانتخابات التي أجريت بموجبها. وتعرض المقال الأخير لفترة الحكم الوطني الأول والصراعات الحادة التي تمت خلالها، وعداء الحكومة الوطنية الحاد للحزب الشيوعي واتحاد العمال. ثم عرضنا مقتطفات من بيانات صادرة عن الجبهة المعادية للاستعمار والحزب الشيوعي تدعو لوحدة الصف الوطني، وقيام حكومة قومية وفق برنامج وطني تنموي.
مقال اليوم يقدم نموذجا آخرا يعكس النضج السياسي، واعلاء الوطني العام على الحزبي الخاص.
أدي استمرار الضغوط الداخلية والخارجية على سلطة الانقلاب العسكري الأول ،لتراجعها واعلانها عن قيام جسم تشريعي اسمته المجلس المركزي. وحدث خلاف بين القوى السياسية المعارضة: هل ندخل الانتخابات أم نقاطعها؟
قرر الحزب الشيوعي ان يشارك في انتخابات المجلس المركزي، بينما قررت الأحزاب الأخرى مقاطعة الانتخابات. وحدث خلاف حول ايهما اصح المشاركة أم المقاطعة؟
سأنقل من بيان الحزب حول المجلس المركزي لمقارنته بوضعنا الحالي. اشير هنا، لضرورة تفهمنا للروح والمنهج الذي تميز به البيان الذي أصدره الحزب الشيوعي السوداني، حول انتخابات المجلس المركزي، خلال الدكتاتورية العسكرية الأولي (1958 -1964). جاء في البيان بتاريخ 9/3/1963، ما يلي:
" في هذه الأيام يدور الجدل عاليا حول دخول او مقاطعة الانتخابات للمجالس المحلية، فان الحزب الشيوعي السوداني يرى من واجبه ان يؤكد بصورة قاطعة ان الاضراب السياسي العام ما زال السلاح القوي الذي يمكن ان تشهره الجماهير لإسقاط النظام الراهن، وانه لا مقاطعة الانتخابات او دخولها يمكن ان يكون بديلا لهذا الاضراب. ان الاضراب السياسي سيظل دائما هو المحك لاختبار صحة الطريق الذي تسلكه الجماهير في هذه القضية او تلك بما في ذلك المقاطعة او عدمها. وفي حالة الانتخابات للمجالس المحلية، بينما يرى الحزب الشيوعي أهمية خوض هذه المعركة وتحويلها الى مظاهرة كبرى، والارتفاع بمستوى المعركة سياسيا وتنظيميا من اجل التحضير للإضراب السياسي، يرى البعض الآخر ضرورة مقاطعتها كأسلوب من أساليب المعارضة للحكم العسكري. ومن الواضح ان كلا الشعارين يهدفان في ظاهرهما الى غرض واحد هو معارضة النظام الراهن والرغبة في انهائه. ان الحزب الشيوعي يهمه ان يكون موقفه واضحا امام الجماهير العمالية وكل الشعب في هذه النقطة بالذات. ذلك ان النظام الراهن برمته وليس مشتقاته فحسب، هو نظام رجعي غير ديمقراطي ودكتاتوري، وليس هناك سوى السذج من يعتقدون في ان تولد الدكتاتورية نظاما ديمقراطيا في نفس الوقت. وعليه فان جميع ما يسمى بمؤسسات التطور الدستوري التي تنشأ في ظل هذا النظام لا يمكن ان تلبي آمال الشعب في الديمقراطية الحقيقية.
إن الذين يدعون إلى مقاطعة المجالس المحلية رغم حسن نواياهم ومقاصدهم هم في رأينا يتخذون موقف غير سليم لا يفيد قضية النضال ضد النظام الراهن. انهم ينادون بالمقاطعة، ولكنهم لا يشيرون الى أي عمل ثوري بديل في مقابل ذلك. ان الجماهير حين تهرع للتسجيل والترشيح ليس استجابة لنداء الحكومة او تأييدا لها كما تزعم أجهزة الاعلام الرسمية، ولكنها مدفوعة بغريزتها الثورية لممارسة حق من حقوقها.
ومع ذلك فان الحزب الشيوعي يحترم بكل اخلاص رأي الذين يدعون لمقاطعة الانتخابات رغم اختلافه معهم من حيث انهم يكشفون عن موقفهم من النظام الراهن وهذا هو الجوهر الذي نلتقي معهم فيه التقاءا تاما. وعلى هذا فان الحزب الشيوعي على أتم استعداد أن يعمل عملا مشتركا خارج نطاق الانتخابات. انه على استعداد للتوقيع معهم فورا على وثيقة تطالب بإلغاء المجلس المركزي والمطالبة بتأسيس برلمان منتخب انتخابا مباشرا تكفل معه جل الحقوق والحريات الديمقراطية. وهو على أتم استعداد لوضع كل قواه في عمل إيجابي وجماهيري حقا لتحقيق هذا المطلب الشعبي السليم".
نلاحظ منهج البيان الذي لم يلجأ للحلول التبسيطية، ومنظار ان هناك رأيا وحيدا واحدا هو الحقيقة المطلقة. وان مختلف وجهات النظر تحلل الظاهرة الواحدة برؤى مختلفة، ولكنها ليست خاطئة كلها. فمقاطعة الانتخابات أو دخولها اسلوبان للصراع ضد الحكم العسكري. والأهم ان الحزب لم يخون الآخرين، بل أبدي استعداده ودعاهم، رغم خلافه معهم، للعمل المشترك.
هذا درس عميق ما احوجنا له اليوم في ظل هذه الازمة المصيرية.
siddigelzailaee@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: مقاطعة الانتخابات المجلس المرکزی النظام الراهن
إقرأ أيضاً:
تجارب تاريخية حول تحالف القضية الواحدة (6 – 15)
هذه المقالات تستهدف تنوير الرأي العام ببعض مواقف الحزب الشيوعي في العمل الجبهوي. قصدت ان اختار التحالفات أو الاتفاقات التي تمت لتنسيق العمل وسط أجواء الاختلاف. ولن أعرض التحالفات التي تتم في جو خلى من الخصومة. الهدف من ذلك ان نعيد التفكير في ضرورة العمل المشترك، رغم الاختلاف في الوقت الحاضر، الذي تواجه فيه بلادنا ازمة مصيرية.
تعرضت المقالات السابقة للعداء الذي شب بين الحركة السودانية للتحرر الوطني وحزب الأمة، ولكن، في النهاية، شاركت الحركة في الجبهة الاستقلالية التي يقودها حزب الأمة. وكذلك تجربة الهجوم القوي والحملة العنيفة التي شنها الحزب الشيوعي (الجبهة المعادية للاستعمار آنذاك) ضد اتفاقية الحكم الذاتي، ومطالبته الجماهير برفضها ومقاومتها كمؤامرة استعمارية. ثم المشاركة في الانتخابات التي أجريت بموجبها. وتعرضنا لفترة الحكم الوطني الأول والصراعات الحادة التي تمت خلالها، وعداء الحكومة الوطنية الحاد للحزب الشيوعي واتحاد العمال. ثم عرضنا مقتطفات من بيانات صادرة عن الجبهة المعادية للاستعمار والحزب الشيوعي تدعو لوحدة الصف الوطني، وقيام حكومة قومية وفق برنامج وطني تنموي. وناقش المقال الأخير تجربة مهمة تمت خلال الحكم العسكري الأول، حيث تراجع النظام واعلن عن قيام المجلس المركزي. اختلفت المعارضة حول الموقف منه. قرر الحزب الشيوعي خوض الانتخابات، بينما قررت الأحزاب الأخرى مقاطعة الانتخابات. أصدر الحزب الشيوعي بيانا تاريخيا عدد فيه أسباب دخوله الانتخابات، ولم يخون الأحزاب الأخرى، بل دعاها للتنسيق للقيام بعمل مشترك ضد النظام العسكري. وكانت قيمة تلك التجربة في تأكيدها ان الاختلاف في التكتيك لا يمنع التنسيق لعمل مشترك، لإنجاز الهدف الذي يجمعنا معا.
أدت تجربة الفترة الانتقالية التي أعقبت ثورة ديسمبر لخلافات كثيرة. انقسم الصف الثوري، وصارت اطرافه تعادي بعضها البعض في حملات للتخوين، والاتهام بتخريب الانتقال، والتآمر مع العسكر. وزاد الشرخ بمرور الأيام، وتطور الاحداث. وتشعبت الطرق بالجماهير ومنظماتها.
الآن تواجه بلادنا قضية أساسية هي إيقاف الحرب، بكل ما تحمله من مآسي وتدمير وخطاب كراهية. الواقع المرير يفرض على كل القوى المدنية تنسيق جهودها لإيقاف هذا الدمار الجنوني. نؤمن انه مهما كانت الاختلافات ومرارات الماضي وحملات التخوين ندعو لتخطي ذلك. وان تعمل كل القوى الرافضة للحرب، إذا كانت تصر على عدم التحالف المدني الواسع، ولها رؤى مختلفة حول العملية السياسية، ان تعمل معا وتنسق جهودها فقط لإيقاف الحرب. وبعد ذلك المجال مفتوح لكل جهة ان تبشر ببرامجها وتصورها لمستقبل السودان.
حدثت في بلادنا تجارب عديدة فيما يسمي بتحالف البند الواحد، وكان الحزب الشيوعي طرف في كل تلك التحالفات. ومن الأمثلة:
• دعوة الأحزاب الوطنية للتنسيق لإسقاط حكومة عبد الله خليل في جلسة البرلمان التي من المقرر ان تنعقد في 17 نوفمبر 1958.
• الحملة القوية التي تمت، خلال فترة الديمقراطية الأولي، داخل البرلمان وخارجه، لرفض المعونة الامريكية.
• تنسيق الحزب الشيوعي مع حزب الشعب الديمقراطي لرفض ومقاومة اجراء الانتخابات الجزئية في 1965 بعد ثورة أكتوبر والجنوب لا يزال مشتعلا بنيران الحرب الأهلية.
• جبهة الدفاع عن الديمقراطية خلال الديمقراطية الثانية التي ضمت قوي سياسية ونقابية منظمات المثقفين لرفض التعدي على الديمقراطية بحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من الجمعية التأسيسية..
• مؤتمر الدفاع عن الوطن العربي.
• التحرك المدني والسياسي الساعي لمقاومة محاولة فرض الدستور الإسلامي في عام 1968.
• المشاركة في حملة نقابة المحامين لمواجهة قانون الترابي 1988
• توقيع الأحزاب على ميثاق الدفاع عن الديمقراطية خلال الفترة الديمقراطية الثالثة.
• قبول دعوة الحزب الاتحادي الديمقراطي للتحرك لدعم اتفاقية السلام بين قرنق والميرغني
• الحملة الجماهيرية لإيقاف اعدام الأستاذ محمود محمد طه.
هذه الأمثلة توضح بجلاء ان لنا في تاريخنا المعاصر تجارب التحالف من اجل قضية واحدة. الآن لا توجد قضية أكبر وأهم من قضية إيقاف الحرب. وهي قضية أجمعت كل القوى السياسية والمدنية عليها، ما الفلول الذين أشعلوا الحرب ويحلمون بالعودة للسلطة.
صديق الزيلعي
siddigelzailaee@gmail.com