الموجة الثانية من الثورة السودانية: بين الأصالة والحداثة

في السودان، تجددت الثورة بحيوية مفاجئة رغم محاولات القوى الإقليمية والدولية لفرض أجندات عبر "القوة اللطيفة" التي سعت للتأثير على المجتمع المدني بطرق غير مباشرة، إلا أن هذه الخطة لم تؤت ثمارها. فعوضًا عن نجاح التدخلات الأجنبية في زراعة جذور تؤثر على المشهد الوطني بعمق، أعادت الثورة السودانية تجديد ذاتها عبر موجة جديدة وقوية.

ورغم التحديات والانقلابات، تؤكد الموجة الثانية أن القيم الشعبية الساعية إلى الحرية، والديمقراطية، والكرامة باتت تتلاقى بشكل غير مسبوق مع قيم الأصالة، في توليفة فرضتها "الظرفية التاريخية"، وتزداد نضجاً بالتزامن مع المعركة ضد القوى التي تحاول فرض التبعية.

التوقيت والفرصة التاريخية
لقد جاء هذا التوقيت ليشكل محطة فارقة؛ فمع اقتراب نهاية الصراع الحالي، تتسارع وتيرة الحركة الثورية نحو التحرر الكامل من سيطرة النخبة التي خدمت الأجندات الخارجية، والتي لم تحقق سوى إعادة السودان إلى دائرة الصراع والاعتماد. الموجة الثانية من الثورة السودانية جاءت لتعبر عن استكمال المشروع الوطني السوداني، الذي انطلق من إرادة شعبية خالصة أفرزت شباباً صامداً، كوادر "لجان المقاومة"، وقيادات جديدة تحمل راية التحرر الوطني.

التلاحم بين الأصالة والحداثة
يأتي التحدي الأكبر لهذه الموجة في تحقيق التوازن بين قيم الأصالة من ناحية، وبين قيم الحداثة مثل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية من ناحية أخرى. الإسلاميون هنا، كما تظهر الوقائع، يجدون أنفسهم في وضع غير مألوف؛ فقد تحولوا ليصبحوا المدافعين عن الحريات والديمقراطية في ظل التخبط الذي أصاب النخب الليبرالية المتحالفة مع القوى الانقلابية. وبرغم المفارقة التاريخية، فإن هذا الموقف يدعم شرعية مطالبهم لدى الكثيرين ممن يرفضون الانقلابات كوسيلة للتغيير السياسي، ويؤمنون بأن الحريات يجب أن تتحقق عبر إرادة الشعب وأصواته لا عبر القوة العسكرية.

الدماء والتضحيات كوقود للمسيرة
على مدى سنوات، قدمت الثورة السودانية تضحيات كبيرة، خاصة من شباب لجان المقاومة الذين سقطوا شهداءً، وملأوا شوارع المدن بصمودهم، وأكدوا بمواقفهم وإرادتهم الصلبة أن السودان ليس مجرد ساحة للمصالح الإقليمية والدولية. ومع اقتراب اللحظة الحاسمة، يتعاظم الأمل بأن تخرج جحافل الثوار ليعيدوا تعريف الحرية ويثأروا للشهداء الذين سقطوا خلال فترة الانقلاب وما بعدها. هذه التضحيات لا تُنسى؛ فهي شاهد حي على أن قيم الأمة الأصيلة - الكرامة والعدالة - والقيم الحديثة - الديمقراطية والحرية - ليست متعارضة، بل متكاملة.

قراءة جديدة للديمقراطية والإرادة الشعبية
إن هذه الموجة تؤكد أن الديمقراطية ليست مجرد نسخ للنماذج الغربية، بل هي تمثيل حقيقي للإرادة الشعبية وقيم الأمة. السودان، كجزء من العالم الافريقي ، يواجه ظروفاً فريدة تتطلب حلولاً محلية تتماشى مع قيمه الثقافية والتاريخية. ويبدو أن الديمقراطية الحقيقية التي تدافع عنها الثورة السودانية هي تلك التي تعبر عن الكرامة والمناعة الوطنية، وتسعى لإنهاء التبعية الخارجية، على عكس الديمقراطية المستوردة التي روجت لها بعض القوى الخارجية عبر وسائل ناعمة لضمان مصالحها.

آفاق الثورة وأمل المستقبل
الموجة الثانية من الثورة السودانية توحي بأن ثورات السودان لم تنتهِ، بل تعيد تعريف ذاتها وتثبت جذورها بعمق في واقع الشعوب. الشعب السوداني، بوعيه العميق وإرادته التي تعززت من خلال تجربته مع محاولات التدخل، اختار قيادة تعبر عن طموحاته الوطنية وتسعى إلى استقلاله الكامل. هذه القيادة الشعبية لا تستسلم للتأثيرات الخارجية، بل تؤمن بأن التحديث وتحقيق مطالب الحرية والكرامة لا يمكن تحقيقهما إلا من خلال إرادة الشعب ذاته، بعيداً عن أي محاولات لفرض حلول جاهزة من الخارج.
في النهاية، يظل الطريق أمام الثورة السودانية صعبًا، لكن التاريخ يظهر أن الإرادة الشعبية قادرة على تحقيق المستحيل.

zuhair.osman@aol.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الثورة السودانیة الموجة الثانیة

إقرأ أيضاً:

الموانئ السودانية بين مطامع الاستثمار الأجنبي ومحاولات تشويه صورة البجا لإفشال الإدارة المحلية

erkyamon@gmail.com

مقدمة:

في ظل التنافس الدولي المتصاعد للسيطرة على سواحل البحر الأحمر، تبرز الموانئ السودانية كإحدى أهم الأهداف الاستراتيجية لمختلف الدول، بما في ذلك الصين عبر مشروع "طريق الحرير" ومطامع أخرى من دول إقليمية وعالمية تسعى لتعزيز نفوذها التجاري والعسكري. وسط هذه الأجواء، تتعالى الأصوات التي تهاجم إدارة الموانئ المحلية، متهمة إياها بالفشل والفساد، بالإضافة إلى حملات منظمة تهدف لتشويه صورة شعب البجا الأصيل الذي كانت ولا تزال الموانئ السودانية في أرضه منذ نشأتها. هذه الاتهامات، التي تفتقر لأدلة موثوقة، تثير الشكوك حول وجود دوافع سياسية واقتصادية خفية تسعى لتهيئة الأجواء أمام الاستثمارات الأجنبية. فهل هذه الانتقادات تعكس واقعًا بائسًا، أم أنها جزء من مخطط خبيث يستهدف إفشال الإدارة المحلية وتسليم الموانئ لمستثمرين أجانب؟

1. الطريق البري والميناء الجنوبي بين تعنت حكومة قحت ورفض البجا:

خلال فترة حكومة قحت، شهدت الموانئ السودانية والطريق البري احتجاجات واسعة قادها شعب البجا بسبب تعنت الحكومة في محاولة فرض المسار الإريتري في اتفاقية محاصصة جوبا، وكذلك استمرارها في نهج نظام الإنقاذ بمحاولات خصخصة الموانئ وتسليمها لشركات أجنبية، مثل الشركة الفلبينية الإماراتية. هذه المحاولات لم تقتصر فقط على خصخصة الموانئ، بل امتدت إلى مساعٍ لبيع مرسى أبو عمامة لأسامة داؤود، صديق حمدوك، وتحويله إلى ميناء إماراتي، مما أثار غضب البجا الذين أدركوا بوضوح خطورة هذه المخططات على سيادة السودان.

ما يُثير الاستغراب هو الربط المتعمد بين احتجاجات البجا وإغلاقهم للطريق القومي والموانئ باعتصام القصر والانقلاب، وهو ما روج له إعلام قحت، إلى جانب الإعلام الإريتري وهيئة موانئ أبو ظبي. والحقيقة التي تم تجاهلها عمدًا أن البجا لم يشاركوا في اعتصام القصر، بل كان المشاركون فيه هم بعض الإريتريين عن طريق الأمين داويد وجماعته، مما يكشف حجم التضليل الذي تمارسه هذه الجهات لتشويه موقف البجا الرافض لخصخصة الموانئ.

---

2. خبث التشويه الممنهج ضد البجا:

إن الاتهامات التي تروج لها بعض الجهات بسرقة أمتعة المسافرين وتهديدهم، مع التركيز على أن معظم العمال ينتمون لمكونات شعب البجا، تعكس نية مبيتة لتشويه صورة هذا الشعب الأصيل المعروف عبر التاريخ بأمانته ونزاهته. الموانئ السودانية، التي أنشئت على أرض البجا منذ القدم، لم يسجل التاريخ أي حوادث تقدح في أمانتهم أو نزاهتهم، مما يجعل هذه الاتهامات تبدو كحملة مدروسة تستهدف إضعاف موقفهم الرافض لبيع الموانئ أو تأجيرها لجهات أجنبية.

إن محاولة تحييد أهلنا البجا عبر هذه الحملات الخبيثة لا تهدف فقط إلى إضعاف موقفهم، بل إلى تهيئة الأجواء لتسليم الموانئ لمستثمرين أجانب تحت ذريعة الفشل المحلي. هذه السياسة تحمل في طياتها أبعادًا خطيرة تسعى إلى إقصاء المكونات الأصيلة للشعب السوداني لصالح أجندات خارجية.

3. الأبعاد السياسية والاستراتيجية: مطامع الاستثمار الأجنبي:

البحر الأحمر يمثل شريانًا استراتيجيًا للتجارة العالمية، والموانئ السودانية تُعد بوابة رئيسية للتجارة الأفريقية. مع دخول الصين بمشروع "طريق الحرير" ومشاركة دول أخرى مثل الإمارات والسعودية، يتزايد التنافس على هذه الموانئ. في هذا السياق، تبرز عدة دوافع سياسية تقف خلف محاولات إفشال الإدارة المحلية، منها:

1. تحجيم الدور الصيني: تسعى بعض الدول الغربية إلى عرقلة النفوذ الصيني المتزايد على الموانئ السودانية، وذلك عبر دعم مشروعات استثمارية بديلة أو تشويه الإدارة المحلية لإجبار الحكومة على اللجوء لمستثمرين أوروبيين أو أمريكيين.

2. تعزيز النفوذ الإقليمي: دول إقليمية، مثل الإمارات والسعودية، ترى في الموانئ السودانية وسيلة لتعزيز نفوذها على البحر الأحمر. لذلك، فإن أي فشل للإدارة المحلية يمثل فرصة سانحة للاستحواذ على هذه الموانئ بعقود طويلة الأجل.

4. ضرورة الرد القانوني الحاسم:

لا يمكن الاكتفاء بالنفي الإعلامي أو الدفاع الضعيف أمام هذه الحملات، بل يجب تبني استراتيجية قانونية حازمة تشمل:

1. فتح بلاغات إشانه سمعة: ينبغي على السلطات السودانية فتح بلاغات إشانه سمعة ضد كل من يروج لمحتويات تسيء لشعب البجا أو تشوه سمعة الموانئ السودانية، وفقًا لقوانين المعلوماتية التي لا ترحم من يتعمد نشر الشائعات أو الأخبار الكاذبة.

2. تطبيق قوانين المعلوماتية بحزم: يتوجب على السلطات المعنية ملاحقة ومحاسبة كل من يصنع محتوى مسيء لأي من مكونات السودان، وتفعيل العقوبات المنصوص عليها في قوانين الجرائم الإلكترونية والمعلوماتية دون تردد.

3. بيانات رسمية لرد الاتهامات: إصدار بيانات رسمية من إدارة الموانئ والجهات السيادية في السودان للرد على هذه الاتهامات بنزاهة وشفافية، مع تقديم الأدلة التي تدحض هذه الشائعات.

خاتمة:

الموانئ السودانية تمثل ركيزة أساسية للاقتصاد الوطني والسيادة، وتسليمها لمستثمرين أجانب تحت ضغط الانتقادات الداخلية وحملات التشويه ليس حلاً مستدامًا. على الحكومة السودانية أن تدرك أن الحفاظ على هذه الموانئ يتطلب خطة استراتيجية توازن بين حاجتها للاستثمارات وبين حماية سيادتها الوطنية.

إن محاولة تشويه صورة شعب البجا، الذين لطالما عرفوا بأمانتهم ورفضهم القاطع لبيع الموانئ، تكشف حجم التآمر والخبث السياسي الذي يسعى لتحييد الأصوات الوطنية المخلصة. الرد الأمثل يتمثل في التماسك الوطني والتمسك بسيادة السودان على موانئه، مع اتخاذ إجراءات قانونية صارمة ضد كل من يسعى لتشويه صورة المكونات الأصيلة للشعب السوداني.

#لا_لبيع_موانئ_السودان #ضد_التشويه_الممنهج #سيادة_سودانية_لااستثمار أجنبي
#لا_لإقصاء_البجا #ضد_المؤامرات_الخارجية  

مقالات مشابهة

  • قصة الطفلة وسام – رمز لأمل يتحدى النزوح ويعيد الحياة إلى مدارس السودان
  • بطاريات الجاذبية.. ثورة في تخزين الطاقة المتجددة
  • الحكومة السودانية تسمى ملحقين إعلاميين بمصر وإثيوبيا
  • تايمز: ما قصة الثورة التي يريد ستارمر إطلاق شرارتها في بريطانيا؟
  • الاعيسر يبحث مع اليونسكو التعاون في استعادة وترميم الآثار السودانية
  • على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (11 – 20)
  • صحيفة الثورة الجمعة 14 رمضان 1446 – الموافق 14 مارس 2025
  • ???? درع السودان اربك الجميع وخلط الاوراق واختصر علي الدولة السودانية ثلاثين عاما قادمة من الابتزاز بالسلاح
  • الموانئ السودانية بين مطامع الاستثمار الأجنبي ومحاولات تشويه صورة البجا لإفشال الإدارة المحلية
  • صحيفة الثورة الخميس 13 رمضان 1446 – 13 مارس 2025