في رحيل الشاعر الكبير محمد خير الخولاني
تاريخ النشر: 10th, November 2024 GMT
بدايات تسعينيات القرن المنصرم كنت حضور لمسامرة شعرية، نجمها الشاعر المرهف – حبيب أروى – محمد خير الخولاني، بمركز الشباب – نيالا، كانت المرة الأولى والأخيرة للقائي بشخصه الودود، يمتاز الخولاني بحسه الشاعري الدفّاق، وهدوئه الأدبي الوقور، لقد امتلك موهبة فريدة ولونية مختلفة في فن الالقاء الشعري، حينما ألقى على مسامعنا قصيدة مطلعها (أرخي السمع يا زول)، التي شدا بها العملاق عمر إحساس لاحقاً، استطاع الخولاني تطويع المفردة البدوية وصهرها في قالب الشعر الغنائي الحديث، وتمكّن من شق طريق محفوف بالمخاطر من أجل ولوج العمق السوداني، فأدت قصائده لحناً غنائياً باذخاً المطربة نانسي عجاج، ونال شعره رضا واستحسان صاحب المدرسة الغنائية التي ألهمت "الحوت" – الهادي الجبل، وشعر محمد خير يمكن وصفه بالسهل الممتنع، لبساطة المفردة وسلاسة التعبير وشمول التناول، هذا مع عبقريته الفذّة في تطويع الملمح الشعري البدوي، ليواكب النزعة الشبابية المتمردة على التقليدي من الشعر العامي السوداني، في خواتيم القرن الأخير بالألفية الثانية، فحجز لنفسه مقعداً متقدماً مع العظماء والجهابذة من أساطين شعراء الأغنية السودانية، وهو في ذلك الوقت ما يزال يافعاً صغيراً مقارنة بمن لمع نجمهم آنذاك، فمحمد خير الخولاني ولد ليكون شاعراً ولو لم يكن شاعراً لكان شاعراً، فهو يجبرك على الاذعان لشاعريته متى ما القيت السمع وأنت شهيد أمام منبره ومحرابه، ومن أبرز سماته الشخصية وجهه الحيي الذي يكاد الناظر إليه يعتقد في أنه لا يقوى على مواجهة الجمهور من شدة الخجل، لكنه يبهرك بروحه الآسرة وهو يتلو آيات من شعره بابتسامة خفيضة، أصبحت بصمته الفريدة ووسمه الرشيق.
محمد خير من المبدعين غير القابلين للعيش خارج أرض الوطن – وخاصة الوطن الصغير (نيالا)، فلولا كارثة الحرب الملعونة لما غادر وطنه ولما ترك مدينته الوارفة، التي أحال نضرتها وجمالها المهووسون إلى يباس ودمار، وهو من المعادن الثمينة والنادرة للأشخاص الخادمين لمجتمعاتهم بحب وإخلاص وتفاني، فقد بذل طاقة جبارة لرفد الأجيال المعاصرة بعصارة ما انتجه عقله الوقاد من فكر، وضميره المتقد دوماً بحرارة من وفاء لمجتمعه ومدينته الجميلة، فهو كحيتان البحر لا تحيا إلّا في أعماق أعالي البحار، ولاستشعاري لرهافة حسه منذ الوهلة الأولى، أكاد أجزم أن الموت قد دق باب داره منذ اليوم الأول الذي غادر فيه الدار، فأمثال الخولاني لا تقوى أرواحهم على مغالبة أشجان الغربة، لذا كان لقاءً حتمياً مع القدر أن ترتقي روحه الشفيفة إلى السماوات العلى من أرض ليست بأرضه – الزنتان بليبيا، إنّه قدر المبدعين من الشعراء والأدباء والمطربين والمسرحيين والعازفين، فكم من عدد كبير من هذه الشريحة قد فارق الحياة انفطاراً للقلب وفشلاً للكلي وارتفاعاً لضغط الدم ومستويات السكر والكلسترول، فالقتلة في الحروب لا يقتلون بالرصاص وحده، فهنالك قتلة صامتون أيضاً، يستهدفون ضعيف القلب وشفيف النفس والحالم بدنيا سعيدة ووطن فسيح، فضعاف القلوب هؤلاء كثيرون التقيناهم في الشتات بعد الحرب اللعينة، آخرهم طبيب بيطري لعبت الصدفة دوراً في معرفتي به، بينما كان واقفاً بجنب صف السيارات في إحدى المراكز التجارية، كان يتصبب عرقاً في مساء بارد، يبحث عن فضل ظهر يطوي به المسافة بين المركز التجاري ومنزله الذي يبعد بضعة عشرات من الأمتار، سألته ما بك تتعرق والفصل شتاء؟، فكان الرد الحزين: إنّي مصاب بداء القلب، ما السبب؟ رد قائلاً: إنّها الحرب، قبلها كنت كالحصان، لقد منعني الطبيب مشاهدة الفيديوهات القادمة من ميادين الموت.
رحم الله محمد خير، فهو حقاً كان خيراً لأسرته الصغيرة ومجتمعه العريض ولمحبيه وتلامذته، كان نسمة في هجير شمس السودان الحارقة، ومتنفساً لشعب كابد حياة الظلم والاضطهاد والبطش المهووس، ناضل من أجل الطيبين مثل طيبته، فلم يلن عوده ولم ينكسر قلمه، رغم بؤس الحال وقلة المال وحسرة المآل، لا أدري من سيجد جيل السلام – بعد الحرب – من شعراء جميلين أمثال الخولاني، اذا كنا نفقد هرم من أهرامات الفكر والأدب صباح وظهيرة ومساء كل يوم جديد، لقد قضت هذه الكارثة الكونية على عدد مقدر من الجميلين الذين صبغوا وجدان الشعب الكريم بلون الابتهاجات والمسرات، ولا نعلم من سيكون القادم من المودّعين الراحلين من أهل الفن والإبداع، التاركين شعبهم يعاني الحياة والموت معاً؟، إنّ الرحيل المتتالي والمتلاحق للمبدعين يدل على أن الحرب ما تزال على أشدها مع الأسف، وأن مغادرة المرهفين يعني أن مشوار السلام وإيقاف الحرب ما يزال طويلاً وشاقاً، فحمائم السلام من أمثال الخولاني لن تموت لو كان هنالك بصيص من أمل، ولن تعلن عن الخروج النهائي بلا عودة من الحياة، لو أن هنالك ضوءاً في آخر نفق الطريق المؤدي لرفع رايات السلام البيضاء، ليس تشاؤماً، لكن أرضاً غادرها محمد خير لابد أن ينعق فيها البوم ويعلن فيها الحداد إلى أجل غير مسمى، رحمك الله أخي الخولاني وأسكنك فسيح جناته.
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: محمد خیر
إقرأ أيضاً:
وفاة الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة بعد صراع مع المرض
كتب- محمد شاكر:
رحل صباح اليوم الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة عن عمر يناهز 87 عامًا بعد معاناة طويلة مع المرض.
تُقام صلاة الجنازة عقب صلاة الظهر في مسجد السيدة نفيسة، على أن يتم دفنه في مقبرة الأسرة بمدينة السادس من أكتوبر، وسيقتصر تقديم العزاء على مراسم الجنازة وفقًا لوصيته.
وُلد أبو سنة عام 1937 في مدينة الصف بمحافظة الجيزة، وتخرج في كلية الدراسات العربية بجامعة الأزهر عام 1964. بدأ مشواره العملي كمحرر سياسي في الهيئة العامة للاستعلامات بين عامي 1965 و1975، ثم انتقل للعمل بإذاعة البرنامج الثاني المصرية عام 1976. شغل منصب مدير عام البرنامج الثقافي في الإذاعة عام 1995، كما تولى منصب نائب رئيس الإذاعة، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية في الشعر عام 1984.
أصدر الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة اثني عشر ديوانًا شعريًا، إلى جانب مسرحيتين شعريتين وعشر دراسات أدبية. قام أيضًا بإعادة صياغة شعرية لمائة قصيدة من الشعر الأرمني. من بين دواوينه الشعرية: قلبي وغازلة الثوب الأزرق (1965)، أجراس المساء (1975)، رماد الألسنة الخضراء (1985)، شجر الكلام (1990)، مرايا النهار البعيد، رقصات نيلية، موسيقى الأحلام، وغيرها، كما كتب المسرحيتين حصار القلعة وحمزة العرب.
يُعد أبو سنة من أبرز شعراء جيل الستينيات في مصر، وتميز بسمات فنية جعلت شعره فريدًا. خلال مسيرته الطويلة، طوّر هذه السمات لتصبح جزءًا من هويته الشعرية الخاصة. ونال جائزة أحمد شوقي الدولية من النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر في عام 2021، كما حاز على جائزة النيل في الآداب لعام 2024 الجاري.
محمد إبراهيم أبو سنة مسجد السيدة نفيسة محافظة الجيزة
تابع صفحتنا على أخبار جوجل
تابع صفحتنا على فيسبوك
تابع صفحتنا على يوتيوب
فيديو قد يعجبك:
الخبر التالى: بيان عاجل من الصحة بشأن أنباء رصد متحور جديد للإنفلونزا: انخفاض ملحوظ للإصابات الأخبار المتعلقة غلق كلي بشارع الأهرام لمدة 6 أشهر.. محافظة الجيزة تُعلن التفاصيل أخبار توجيهات مهمة من محافظ الجيزة خلال متابعته جهود إزالة آثار الأمطار أخبار حدث في 8ساعات| الرئيس السيسي يستقبل رئيس "إيني".. والجيزة تعلن عن أخبار وظائف قيادية في محافظة الجيزة بدرجة مدير عام.. الشروط وطريقة التقديم أخبار أخبار مصر وفاة الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة بعد صراع مع المرض منذ 12 دقيقة قراءة المزيد أخبار مصر أخبار الطقس اليوم.. الأرصاد: أمطار متفاوتة الشدة والعظمى بالقاهرة 24 منذ 16 دقيقة قراءة المزيد أخبار مصر أخبار الطقس حتى الجمعة.. أمطار ورياح على مناطق متفرقة واضطراب ملاحة منذ 3 ساعات قراءة المزيد أخبار مصر بعد حكم الدستورية التاريخي.. تعرف على مقترحات النواب لزيادة الإيجار منذ 4 ساعات قراءة المزيد أخبار مصر حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الأحد 10-11-2024 منذ 5 ساعات قراءة المزيد أخبار مصر بالانفوجرافيك.. حصاد فاعليات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في منذ 6 ساعات قراءة المزيدإعلان
إعلان
أخباروفاة الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة بعد صراع مع المرض
أخبار رياضة لايف ستايل فنون وثقافة سيارات إسلاميات© 2021 جميع الحقوق محفوظة لدى
إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك الإيجار القديم.. كيف تفاعل أطراف القانون الثلاث "الملاك والمستأجر والمشرع" مع حكم الدستورية "التاريخي"؟ وكيل "إسكان النواب" لمجدي الجلاد: 80% من أزمة الإيجار القديم ترتكز بـ3 محافظات تغطية خاصة| آخر التحركات القانونية بشأن قانون الإيجار القديم بعد حكم الدستورية العليا 28القاهرة - مصر
28 19 الرطوبة: 37% الرياح: شمال المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار bbc وظائف اقتصاد أسعار الذهب أخبار التعليم رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك خدمة الإشعارات تلقى آخر الأخبار والمستجدات من موقع مصراوي لاحقا اشترك