سودانايل:
2025-02-01@17:09:29 GMT

في رحيل الشاعر الكبير محمد خير الخولاني

تاريخ النشر: 10th, November 2024 GMT

بدايات تسعينيات القرن المنصرم كنت حضور لمسامرة شعرية، نجمها الشاعر المرهف – حبيب أروى – محمد خير الخولاني، بمركز الشباب – نيالا، كانت المرة الأولى والأخيرة للقائي بشخصه الودود، يمتاز الخولاني بحسه الشاعري الدفّاق، وهدوئه الأدبي الوقور، لقد امتلك موهبة فريدة ولونية مختلفة في فن الالقاء الشعري، حينما ألقى على مسامعنا قصيدة مطلعها (أرخي السمع يا زول)، التي شدا بها العملاق عمر إحساس لاحقاً، استطاع الخولاني تطويع المفردة البدوية وصهرها في قالب الشعر الغنائي الحديث، وتمكّن من شق طريق محفوف بالمخاطر من أجل ولوج العمق السوداني، فأدت قصائده لحناً غنائياً باذخاً المطربة نانسي عجاج، ونال شعره رضا واستحسان صاحب المدرسة الغنائية التي ألهمت "الحوت" – الهادي الجبل، وشعر محمد خير يمكن وصفه بالسهل الممتنع، لبساطة المفردة وسلاسة التعبير وشمول التناول، هذا مع عبقريته الفذّة في تطويع الملمح الشعري البدوي، ليواكب النزعة الشبابية المتمردة على التقليدي من الشعر العامي السوداني، في خواتيم القرن الأخير بالألفية الثانية، فحجز لنفسه مقعداً متقدماً مع العظماء والجهابذة من أساطين شعراء الأغنية السودانية، وهو في ذلك الوقت ما يزال يافعاً صغيراً مقارنة بمن لمع نجمهم آنذاك، فمحمد خير الخولاني ولد ليكون شاعراً ولو لم يكن شاعراً لكان شاعراً، فهو يجبرك على الاذعان لشاعريته متى ما القيت السمع وأنت شهيد أمام منبره ومحرابه، ومن أبرز سماته الشخصية وجهه الحيي الذي يكاد الناظر إليه يعتقد في أنه لا يقوى على مواجهة الجمهور من شدة الخجل، لكنه يبهرك بروحه الآسرة وهو يتلو آيات من شعره بابتسامة خفيضة، أصبحت بصمته الفريدة ووسمه الرشيق.


محمد خير من المبدعين غير القابلين للعيش خارج أرض الوطن – وخاصة الوطن الصغير (نيالا)، فلولا كارثة الحرب الملعونة لما غادر وطنه ولما ترك مدينته الوارفة، التي أحال نضرتها وجمالها المهووسون إلى يباس ودمار، وهو من المعادن الثمينة والنادرة للأشخاص الخادمين لمجتمعاتهم بحب وإخلاص وتفاني، فقد بذل طاقة جبارة لرفد الأجيال المعاصرة بعصارة ما انتجه عقله الوقاد من فكر، وضميره المتقد دوماً بحرارة من وفاء لمجتمعه ومدينته الجميلة، فهو كحيتان البحر لا تحيا إلّا في أعماق أعالي البحار، ولاستشعاري لرهافة حسه منذ الوهلة الأولى، أكاد أجزم أن الموت قد دق باب داره منذ اليوم الأول الذي غادر فيه الدار، فأمثال الخولاني لا تقوى أرواحهم على مغالبة أشجان الغربة، لذا كان لقاءً حتمياً مع القدر أن ترتقي روحه الشفيفة إلى السماوات العلى من أرض ليست بأرضه – الزنتان بليبيا، إنّه قدر المبدعين من الشعراء والأدباء والمطربين والمسرحيين والعازفين، فكم من عدد كبير من هذه الشريحة قد فارق الحياة انفطاراً للقلب وفشلاً للكلي وارتفاعاً لضغط الدم ومستويات السكر والكلسترول، فالقتلة في الحروب لا يقتلون بالرصاص وحده، فهنالك قتلة صامتون أيضاً، يستهدفون ضعيف القلب وشفيف النفس والحالم بدنيا سعيدة ووطن فسيح، فضعاف القلوب هؤلاء كثيرون التقيناهم في الشتات بعد الحرب اللعينة، آخرهم طبيب بيطري لعبت الصدفة دوراً في معرفتي به، بينما كان واقفاً بجنب صف السيارات في إحدى المراكز التجارية، كان يتصبب عرقاً في مساء بارد، يبحث عن فضل ظهر يطوي به المسافة بين المركز التجاري ومنزله الذي يبعد بضعة عشرات من الأمتار، سألته ما بك تتعرق والفصل شتاء؟، فكان الرد الحزين: إنّي مصاب بداء القلب، ما السبب؟ رد قائلاً: إنّها الحرب، قبلها كنت كالحصان، لقد منعني الطبيب مشاهدة الفيديوهات القادمة من ميادين الموت.
رحم الله محمد خير، فهو حقاً كان خيراً لأسرته الصغيرة ومجتمعه العريض ولمحبيه وتلامذته، كان نسمة في هجير شمس السودان الحارقة، ومتنفساً لشعب كابد حياة الظلم والاضطهاد والبطش المهووس، ناضل من أجل الطيبين مثل طيبته، فلم يلن عوده ولم ينكسر قلمه، رغم بؤس الحال وقلة المال وحسرة المآل، لا أدري من سيجد جيل السلام – بعد الحرب – من شعراء جميلين أمثال الخولاني، اذا كنا نفقد هرم من أهرامات الفكر والأدب صباح وظهيرة ومساء كل يوم جديد، لقد قضت هذه الكارثة الكونية على عدد مقدر من الجميلين الذين صبغوا وجدان الشعب الكريم بلون الابتهاجات والمسرات، ولا نعلم من سيكون القادم من المودّعين الراحلين من أهل الفن والإبداع، التاركين شعبهم يعاني الحياة والموت معاً؟، إنّ الرحيل المتتالي والمتلاحق للمبدعين يدل على أن الحرب ما تزال على أشدها مع الأسف، وأن مغادرة المرهفين يعني أن مشوار السلام وإيقاف الحرب ما يزال طويلاً وشاقاً، فحمائم السلام من أمثال الخولاني لن تموت لو كان هنالك بصيص من أمل، ولن تعلن عن الخروج النهائي بلا عودة من الحياة، لو أن هنالك ضوءاً في آخر نفق الطريق المؤدي لرفع رايات السلام البيضاء، ليس تشاؤماً، لكن أرضاً غادرها محمد خير لابد أن ينعق فيها البوم ويعلن فيها الحداد إلى أجل غير مسمى، رحمك الله أخي الخولاني وأسكنك فسيح جناته.

إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: محمد خیر

إقرأ أيضاً:

أحزاب اللقاء المشترك تنعى المجاهد الكبير محمد الضيف والشهداء القادة

يمانيون/ صنعاء عبرت أحزاب اللقاء المشترك عن العزاء والمواساة للمقاومة الإسلامية حماس وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية وجماهير الأمة العربية والإسلامية وأحرار العالم باستشهاد قائد هيئة أركان كتائب القسام محمد الضيف وثلّة من القادة الأبرار خلال معركة طوفان الأقصى في مواجهة العدو الصهيوني.

وأشارت أحزاب المشترك في بيان لها، إلى أن الشهيد الضيف كان رمزًا للصمود والمقاومة، وقائدًا جسورًا لم يعرف التراجع، حمل همّ القضية الفلسطينية ودافع عنها حتى نال شرف الشهادة وكذلك بقية الشهداء القادة العظماء.

وأكدت أن اغتيال القادة لا يعني نهاية المقاومة، بل تأكيد على صوابية خيارها وعدالة قضيتها، فالأبطال يرتقون وتبقى راية الجهاد خفّاقة بأيدي الأحرار، مشددة على أن فلسطين ستظل عنوانًا لنضال الأمة، ولن تنكسر إرادة المقاومين أمام آلة القتل الصهيونية المدعومة من قوى الاستكبار العالمي.

مقالات مشابهة

  • الرئيس السيسي يدعو ترامب للمشاركة في افتتاح المتحف المصري الكبير
  • أوربان: واشنطن تسعى الآن من أجل السلام في أوكرانيا وبروكسل تسعى لاستمرار الحرب
  • دار الكتب تناقش كتاب المراغي في معرض الكتاب
  • مدرب ليفربول يرفض رحيل محمد صلاح
  • أحزاب اللقاء المشترك تنعى المجاهد الكبير محمد الضيف والشهداء القادة
  • خالد عمر يوسف يؤكد معارضة حزبه للحكومة الموازية
  • الحرب في السودان: بعض تحديات الاستقرار والتعافي الاقتصادي واعادة الاعمار
  • سردية السلام لمناهضة الحرب وخطاب الكراهية
  • رحيل الكاتب محمد جبريل عن عمر يناهز 87 عامًا
  • وفاة الكاتب والروائي الكبير محمد جبريل عن عمر 87 عاما