لجريدة عمان:
2025-11-16@17:51:28 GMT

التاريخ والدراما

تاريخ النشر: 9th, November 2024 GMT

شاع بين كتّاب الدراما ظاهرة الأعمال الدرامية فـي السينما والتلفزيون، التي تعتمد على الأحداث التاريخية، يستوي فـي ذلك كتّاب الدراما فـي العالم العربي أو حتى فـي العالم الغربي، وهي أعمال مهمة حينما نعود إلى التاريخ لتسجيل وقائع وأحداث وقعت خلال قرون أو عقود؛ فالمشاهد فـي أي مكان فـي العالم يتطلع إلى معرفة تلك الوقائع، لكن من المهم أيضا ألا يُعد ذلك مصدرا لمعرفة الحقائق التاريخية؛ فكتّاب الدراما من هذا النوع يطلقون العنان لخيالاتهم ويحلّقون فـي تفاصيل، وعينهم على المشاهد بهدف الحصول على أكبر نسبة من الجمهور، وهو موضوع يفتقد إلى الحياد فضلا عن افتقاده للدراسة والتحقيق والاعتماد على المصادر التاريخية الأصيلة، لا بأس أنْ يعتمد كتّاب الدراما على فـيض المعلومات التاريخية المتعلقة بقضية ما، لكن من المهم الحذر لأن التاريخ شيء والدراما شيء آخر، حتى لو كان الأمر يتعلق بالتوثيق لشخصيات عامة ممن أدّوا دورا فـي حياة أوطانهم، فغالبا ما تسود فكرة صناعة البطل، الذي يتجرد من كل الأخطاء، حتى لو كانت مجرد هنّات بحكم أن الشخص يعيش فـي مجتمع ينبض بالحياة، ومن الطبيعي أن يقع البطل فـي أخطاء إنسانية كغيره من عامة الناس.

أحيانا ما يعتمد كتّاب الدراما على ما خلَّفه البطل من مذكرات أو أوراق، قد تكون شخصية، وبحكم أنها شخصية فكاتبها غالبًا ما يُعلي من شأن نفسه، مبررًا أخطاء قد وقع فـيها، أو سياسات أتت بنتائج سلبية على المجتمع، ولهذا وجب الحذر من استقاء المعلومات من هذه المذكرات، خصوصا إذا كان كاتبها قد شغل وظيفة عامة، وعليه يجب التفرقة بين المذكرات التي سبق أن شغل أصحابها وظائف مهمة وكانوا جزءا من المسؤولية، بعكس المذكرات التي يكتبها أصحابها وهم بعيدون عن السلطة، ولدينا فـي التاريخ العماني نماذج كثيرة من هذه الكتابات، من قبيل ما كتبه نور الدين السالمي، وابن رزيق، والسيدة سالمة بنت سعيد بن سلطان، وفـي عالمنا العربي نماذج أخرى كتابات ابن إياس (بدائع الزهور) حينما يسجل الرجل أحداثا قد شاهدها وعايشها بعيدا عن صناعة القرار، وهو ما ينطبق بشكل واضح على ما كتبه عبدالرحمن الجبرتي (عجائب الآثار) حينما يرصد المؤرخ حياة الناس وأنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية، كما يكتب عن مظاهر توغل السلطة على حياة الناس فـي كل مناحي الحياة، وأعتقد أن هذا النوع من الكتّاب يعد من أكثر الكتابات أهمية، كما تلاحَظ فـي حياتنا المعاصرة أعمال درامية كثيرة خلال النصف قرن الماضي فقد استقى كاتبوها معلوماتهم من الثقافة العامة، التي لا ترقى أبدا إلى درجة الحقيقة، باعتبارها معلومات موثقة من قبيل الأعمال التي أعدت عن عصر المماليك أو العثمانيين أو ما قدمته الدراما المصرية عقب ثورة ١٩٥٢، حينما أخذت موقفا سلبيا من كل التجارب التي سبقت ثورة يوليو، بل راح الكثير منها يهيل التراب على هذه الحقبة التاريخية وشيطنتها، ابتداء من عصر محمد علي وحتى منتصف الخمسينيات من القرن الماضي.

لا بأس أن تعتمد الدراما على التجارب التاريخية بإيجابياتها وسلبياتها لكن من الضروري التفرقة بين التاريخ والدراما، فمن الصعب أن يأخذ المشاهد معلوماته عن عصر صدر الإسلام والخلفاء الراشدين وما قدمته الدراما عن العصرَين الأموي والعباسي، وكل الموضوعات التي تناولت الحروب بين الدولة الإسلامية وغيرها من القوى المناهضة لها، هي معلومات يمكن أن يكون كاتبها قد استقاها من الثقافة العامة، التي لا يمكن أن ترقى إلى درجة الكتابة بمعناها العلمي والفني، خصوصا أن الكثيرين ممن يتصدون للكتابة فـي مثل هذه الموضوعات لا يملكون معلومات موثقة، بل يعتمدون على مصادر ربما كُتبت بعد ثلاثة أو أربعة قرون من وقوع الأحداث التي يكتبون عنها، وغالبا لا تخضع مثل هذه الأعمال لأي نوع من النقد أو التحليل، وافتقادها فـي المجمل إلى العقل والمنطق، وهي أمور نشاهدها كثيرا فـي الأعمال الدرامية والتاريخية التي يشاهدها العامة، وبدلا من أن تكون الدراما عامل وعي إلا أنها تشيع بين الناس تقبل الأحداث مهما تعارضت مع الحقيقة أو العقل.

أعتقد أن الأحداث التاريخية بتفاصيلها الاجتماعية والسياسية تعد منجما عظيما لكتّاب الدراما، ولا بأس أن يستقي الكتّاب معلوماتهم وخيالاتهم عن هذه الأحداث مهما كانت درجة مخالفتها للوقائع الحقيقية، شريطة أن يعرف المشاهد أن كل ما يشاهده هو من خيالات الكاتب، ولا يمكن أن تكون الأحداث معبّرة عن الواقع بكل تفاصيله، فنحن نكتب عن عصر لم نعايشه وعن أحداث لا نعرف عنها إلا القليل، ولم نقرأ عنها من خلال مصادر موثقة، والفرق كبير بين التجربة التاريخية وبين خيالات كتّاب الدراما التي يستقي منها العامة معلوماتهم باعتبارها حقائق يقينية، وفـي كثير من الأعمال الدرامية نلاحظ محاولة توظيفها سياسيًّا لأسباب تتعلق بأمور دينية أو سياسية أو اجتماعية، خصوصًا حينما يتعلق الموضوع بقضايا مذهبية، يختلط فـيها الدين بالسياسة، وقد لاحظنا فـي بعض الأعمال الدرامية النزوع نحو الإعلاء من شأن مذهب بذاته يعمل أتباعه على الترويج له، كما نلاحظ فـي بعض أعمال الدراما التاريخية التي يجتهد فـي كتابتها الهواة يُؤتى بعدها بأحد الأكاديميين لمراجعتها والتنويه إلى أنها قد روجعت من هذا الأستاذ أو غيره، وهو أمر يشبه كثيرا شهادات الزور فـي المحاكم.

ظهرت أعمال درامية كثيرة عن ابن رشد والغزالي وابن عربي وابن تيمية، وصولا إلى الشيخ الشعراوي، وقد راح كاتبوها يعلون من شأن الشخصية التي يكتبون عنها، لا بأس فـي ذلك، لكن شريطة أن لا نعتبر هذا تاريخا، وإنما هي تصورات خاصة من عقل كاتبها ولا ترقى أبدا إلى التعبير عن الحقيقة، حينما يذهب البعض إلى الإشادة أو النيل من هذه الشخصية أو تلك، حتى فـي السينما عندما ظهرت أفلام تُعلي من قيمة الثورة المصرية فـي أمور تتعلق بالقضايا الاجتماعية أو الاقتصادية انتصارا لعامة الناس الذين التفوا حول الثورة، بينما راحت الأفلام تهيل التراب على كل التجارب التي سبقت الثورة واعتبارها شيطانًا أكبر، والأمثلة على ذلك كثيرة، ولم يلتفت صنّاع الدراما فـي السينما والتلفزيون إلى أن التاريخ بإيجابياته وسلبياته ملك للشعوب وليس ملكا لنظام بعينه؛ فالتاريخ حلقة متواصلة بإيجابياتها وسلبياتها دون انقطاع، وقضية التراكم فـي التاريخ قضية حضارية قبل أن تكون قضية سياسية.

نظرا للتطور المذهل فـي عصر الصورة والتوثيق، أصبح من الضروري فـي حياتنا المعاصرة أن نوثق لوقائعنا السياسية والاجتماعية ولبرامج نهضاتنا ولكل تفاصيل الحياة لكي يكون هذا التوثيق مصدر معرفة للأجيال القادمة، سواء فـي الكتابة التاريخية أو فـي الأعمال الدرامية، وليس من المهم أن تُكتب الأحداث التاريخية لحظة وقوعها، بل الأهم أن نحتفظ بكل تفاصيل حياتنا السياسية والثقافـية والاجتماعية لكي تكون مادة علمية تعتمد عليها الأجيال القادمة فـي كتابة التاريخ أو الدراما، بعكس ما مضى من تاريخ لم تكن الصورة أو الوثيقة المكتوبة متاحة، ولم تكن موضع عناية القائمين على شؤون الحياة، وهي حالة عامة تستوي فـيها الدول المتقدمة والدول التي تراجعت، رغم أن كثيرا من الدول الأوروبية قد وثقت تاريخها منذ فترة مبكرة من التاريخ الحديث، ابتداء من القرن السادس عشر، وهو ما نلاحظه فـي بعض الدراما التاريخية فـي الدول الأوروبية، حينما وثّق الإيطاليون تجربتهم منذ عصر النهضة فـي القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وما أعقب ذلك من عصر الدول القومية فـي أوروبا، التي عُنيت بتوثيق شؤونها، أما الدول العربية فلم يكن التوثيق موضوعا فـي شؤون الحياة، ولم يكن أحد ممن عاصروا هذه التجربة يتصوَّر أن العالم سوف يتطور بهذا الشكل، ولعلهم كانوا يعتقدون بأن الحياة تنتهي بموتهم ولا مكان فـيها للمستقبل.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الأعمال الدرامیة لا بأس

إقرأ أيضاً:

السودان.. بين هدنة الحرب واستراحة التاريخ

لم يكن السودان يوماً ساحة حربٍ فقط، بل كان مرآة لتاريخٍ ممتد من وادي النيل إلى قلب إفريقيا. هذا البلد الذي حمل مع مصر ذاكرةً مشتركة منذ مملكة وادي النيل الموحدة، ظل في وعي المصريين جزءاً من عمقهم الجنوبي، كما ظل في ذاكرة السودانيين امتداداً لشمالهم التاريخي. فعندما توحدت مصر والسودان تحت تاجٍ واحد، لم تكن الحدود السياسية سوى خطوط رسمها الاستعمار على الخرائط، أما النيل فكان الشريان الذي لم يعرف انفصالاً.

لكن التاريخ أخذ منحى آخر بعد عام 1954 حين انتهت وحدة "مصر والسودان" رسمياً، لتبدأ مرحلة الدولة السودانية المستقلة التي حملت في رحمها بذور التمزق قبل أن تكتمل ملامحها. ومع كل منعطف سياسي في القاهرة، كان صدى التحولات يصل إلى الخرطوم، والعكس صحيح. فعقب نكسة يونيو 1967، حين اهتزت مصر سياسياً وعسكرياً، كانت الأراضي السودانية ملاذاً آمناً للطائرات المصرية المنسحبة، وكانت الكلية الحربية المصرية تُنقل إلى الخرطوم في مشهدٍ يعبّر عن وحدة المصير لا مجرد تضامنٍ سياسي.

تاريخياً، أدركت القاهرة أن حدودها الجنوبية ليست خطاً على الرمال، بل خط حياةٍ استراتيجي، وأن السودان بعمقه ومساحته يمثل امتداد الأمن المائي والغذائي والإنساني لمصر. ومع ذلك، ظل الاهتمام العربي والإقليمي بالسودان أقل من حجمه الحقيقي، فبينما تُسلّط الأضواء على غزة الصغيرة في الشرق، تُترك السودان، بامتداده الشاسع، للنزاعات القبلية والحروب الأهلية والضغوط الخارجية. إنها مفارقة تُجسد اختلال أولويات الوعي العربي، إذ يتم التعامل مع جغرافيا السودان كمساحةٍ بعيدة، بينما هي في الحقيقة صمام الأمان لمنطقة النيل والقرن الإفريقي والبحر الأحمر معاً.

السودان ليس بلداً واحداً بالمعنى الاجتماعي والثقافي، بل فسيفساء من تسعة أقاليم، لكل منها لغته ولهجته وزيه ودينه وذاكرته الخاصة. هذا التنوع الذي يمكن أن يكون مصدر قوة لو تم احتواؤه سياسياً وثقافياً، تحول بفعل سوء الإدارة إلى صراعات مزمنة. في عهد جعفر نميري مثلاً، حاول النظام أن يمنح الأقاليم نوعاً من الحكم الذاتي الجزئي لاحتواء النزعات الانفصالية، لكنها كانت خطوة مؤقتة لم تعالج جوهر الأزمة، بل رحّلتها إلى المستقبل.

من الجنوب الذي انفصل رسمياً إلى دارفور التي احترقت بنيران الإقصاء، ومن الشرق المهمّش إلى الشمال المثقل بالذكريات، يتبدى السودان كقارة صغيرة تتنازعها لغات وآلهة وتقاليد مختلفة، يجمعها فقط النيل والتاريخ المشترك.

لذلك، فإن أي "هدنة إنسانية" في السودان لا يمكن قراءتها كمجرد توقفٍ مؤقت للقتال، بل كاختبار لإرادة البقاء الوطني في بلد تتقاطع فيه الجغرافيا مع المصالح الإقليمية. الهدنة هنا ليست نهاية حرب، بل فصل من فصولها، تستخدمها الأطراف المتحاربة لترتيب أوراقها سياسياً وعسكرياً، بينما يدفع المدنيون ثمن الدماء والخراب.

من منظورٍ جيوسياسي، تكتسب الأزمة السودانية عمقاً استراتيجياً لا يقل عن أزمات المشرق العربي. فحدود السودان مع مصر تمتد لأكثر من 1200 كيلومتر، وهي الأطول والأكثر حساسية في المنطقة، إذ تمر عبرها مصالح الطاقة والنقل والمياه. وإذا ما قورنت بمساحة غزة التي لا تتجاوز بضع عشرات من الكيلومترات، فإن المفارقة تبدو فاضحة: غزة الصغيرة حظيت باهتمامٍ سياسي وإنساني عالمي، بينما السودان الشاسع، الذي يمكن أن يكون سلة الغذاء الإفريقي والعربي، يعاني التجاهل رغم أنه يختزن كل مقومات الانفجار الإقليمي.

إن مأساة السودان لا تختصرها البنادق ولا بيانات الهدنة. إنها مأساة التهميش التاريخي، وسوء استثمار التنوع، وغياب الرؤية التي تدرك أن هذا البلد هو قلب إفريقيا النابض، وأن انهياره يعني زلزلة البنية الاستراتيجية لمصر والقرن الإفريقي والبحر الأحمر معاً.

فالحرب في السودان ليست فقط حرب سلطة، بل صراع على هوية وطنٍ لم يكتمل. وكل هدنةٍ تُعلن اليوم هي استراحة محاربٍ في معركة طويلة بين المركز والهامش، بين التاريخ والجغرافيا، وبين الطموح الوطني والتدخل الخارجي.

السودان وسد النهضة… معركة الماء والوجود

لا يمكن فصل مستقبل السودان عن معادلة سد النهضة التي تتجاوز ملف المياه إلى معركة بقاء إقليمي. فالسودان يقع في قلب المعادلة بين مصر وإثيوبيا، وهو الجسر الجغرافي الذي يربط المنبع بالمصب. أي اضطراب في السودان يعني مباشرةً اهتزاز توازن الأمن المائي في حوض النيل بأكمله.

إن استقرار السودان ليس فقط ضرورة إنسانية، بل هو شرط لبقاء منظومة الحياة في وادي النيل. فبينما تخوض مصر معركة الدفاع عن حصتها التاريخية من المياه، فإن السودان — إن غرق في الفوضى — سيصبح خاصرة رخوة يمكن لأي قوة خارجية أن تستغلها لابتزاز الجميع.

لهذا، يجب أن يُعاد النظر في السودان لا كدولة جارة فحسب، بل كـ عمق استراتيجي وبيئة حيوية للأمن المصري-الإفريقي المشترك. فكما أن النيل لا يتجزأ، فإن أمن مصر والسودان لا يمكن فصله بالحدود.وإذا كانت غزة الصغيرة تذكّر العرب يومياً بقضية الوجود، فإن السودان الواسع يذكّرهم بمعنى البقاء.

إن الحرب هناك ليست استراحة محارب، بل جرس إنذار لقارةٍ بأكملها. فحين يختنق الجنوب، لا يمكن أن يتنفس الشمال.

كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية

اقرأ أيضاًعاجل| وزير الخارجية يدين الفظائع والانتهاكات المروعة في مدينة الفاشر السودانية

الإمارات تؤكد التزامها الراسخ بمنع استخدام أراضيها فى تهريب الأسلحة إلى السودان

كبير مستشاري ترامب للشؤون العربية والإفريقية: السودان يعيش أصعب أزمة إنسانية في العالم

مقالات مشابهة

  • وكيل محافظة إب يفتتح معرض صور الآثار والمعالم التاريخية اليمنية
  • المشاط: عمق ومتانة علاقات مصر والسعودية والروابط التاريخية بين البلدين
  • التراث والسياحة تنتهي من ترميم عدد من الأماكن التاريخية والأثرية بشمال الشرقية
  • سوق الموسم ينطلق من منطقة الطوالع التاريخية بـ "النجناج"
  • السودان.. بين هدنة الحرب واستراحة التاريخ
  • عمرو سلامة: المنصّات الرقمية أنقذت صناعة الدراما والسينما وصنعت سوقًا جديدًا
  • إنشاء متحف للحرف اليدوية بالقاهرة التاريخية
  • المسلسلات القصيرة جدا شبح يغزو عالم الدراما
  • جوارديولا يزور الدرعية التاريخية
  • مصطفى بكري: الفنان محمد صبحي أحد أبرز رموز الدراما في مصر والعالم العربي