لجريدة عمان:
2024-11-12@23:05:03 GMT

التاريخ والدراما

تاريخ النشر: 9th, November 2024 GMT

شاع بين كتّاب الدراما ظاهرة الأعمال الدرامية فـي السينما والتلفزيون، التي تعتمد على الأحداث التاريخية، يستوي فـي ذلك كتّاب الدراما فـي العالم العربي أو حتى فـي العالم الغربي، وهي أعمال مهمة حينما نعود إلى التاريخ لتسجيل وقائع وأحداث وقعت خلال قرون أو عقود؛ فالمشاهد فـي أي مكان فـي العالم يتطلع إلى معرفة تلك الوقائع، لكن من المهم أيضا ألا يُعد ذلك مصدرا لمعرفة الحقائق التاريخية؛ فكتّاب الدراما من هذا النوع يطلقون العنان لخيالاتهم ويحلّقون فـي تفاصيل، وعينهم على المشاهد بهدف الحصول على أكبر نسبة من الجمهور، وهو موضوع يفتقد إلى الحياد فضلا عن افتقاده للدراسة والتحقيق والاعتماد على المصادر التاريخية الأصيلة، لا بأس أنْ يعتمد كتّاب الدراما على فـيض المعلومات التاريخية المتعلقة بقضية ما، لكن من المهم الحذر لأن التاريخ شيء والدراما شيء آخر، حتى لو كان الأمر يتعلق بالتوثيق لشخصيات عامة ممن أدّوا دورا فـي حياة أوطانهم، فغالبا ما تسود فكرة صناعة البطل، الذي يتجرد من كل الأخطاء، حتى لو كانت مجرد هنّات بحكم أن الشخص يعيش فـي مجتمع ينبض بالحياة، ومن الطبيعي أن يقع البطل فـي أخطاء إنسانية كغيره من عامة الناس.

أحيانا ما يعتمد كتّاب الدراما على ما خلَّفه البطل من مذكرات أو أوراق، قد تكون شخصية، وبحكم أنها شخصية فكاتبها غالبًا ما يُعلي من شأن نفسه، مبررًا أخطاء قد وقع فـيها، أو سياسات أتت بنتائج سلبية على المجتمع، ولهذا وجب الحذر من استقاء المعلومات من هذه المذكرات، خصوصا إذا كان كاتبها قد شغل وظيفة عامة، وعليه يجب التفرقة بين المذكرات التي سبق أن شغل أصحابها وظائف مهمة وكانوا جزءا من المسؤولية، بعكس المذكرات التي يكتبها أصحابها وهم بعيدون عن السلطة، ولدينا فـي التاريخ العماني نماذج كثيرة من هذه الكتابات، من قبيل ما كتبه نور الدين السالمي، وابن رزيق، والسيدة سالمة بنت سعيد بن سلطان، وفـي عالمنا العربي نماذج أخرى كتابات ابن إياس (بدائع الزهور) حينما يسجل الرجل أحداثا قد شاهدها وعايشها بعيدا عن صناعة القرار، وهو ما ينطبق بشكل واضح على ما كتبه عبدالرحمن الجبرتي (عجائب الآثار) حينما يرصد المؤرخ حياة الناس وأنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية، كما يكتب عن مظاهر توغل السلطة على حياة الناس فـي كل مناحي الحياة، وأعتقد أن هذا النوع من الكتّاب يعد من أكثر الكتابات أهمية، كما تلاحَظ فـي حياتنا المعاصرة أعمال درامية كثيرة خلال النصف قرن الماضي فقد استقى كاتبوها معلوماتهم من الثقافة العامة، التي لا ترقى أبدا إلى درجة الحقيقة، باعتبارها معلومات موثقة من قبيل الأعمال التي أعدت عن عصر المماليك أو العثمانيين أو ما قدمته الدراما المصرية عقب ثورة ١٩٥٢، حينما أخذت موقفا سلبيا من كل التجارب التي سبقت ثورة يوليو، بل راح الكثير منها يهيل التراب على هذه الحقبة التاريخية وشيطنتها، ابتداء من عصر محمد علي وحتى منتصف الخمسينيات من القرن الماضي.

لا بأس أن تعتمد الدراما على التجارب التاريخية بإيجابياتها وسلبياتها لكن من الضروري التفرقة بين التاريخ والدراما، فمن الصعب أن يأخذ المشاهد معلوماته عن عصر صدر الإسلام والخلفاء الراشدين وما قدمته الدراما عن العصرَين الأموي والعباسي، وكل الموضوعات التي تناولت الحروب بين الدولة الإسلامية وغيرها من القوى المناهضة لها، هي معلومات يمكن أن يكون كاتبها قد استقاها من الثقافة العامة، التي لا يمكن أن ترقى إلى درجة الكتابة بمعناها العلمي والفني، خصوصا أن الكثيرين ممن يتصدون للكتابة فـي مثل هذه الموضوعات لا يملكون معلومات موثقة، بل يعتمدون على مصادر ربما كُتبت بعد ثلاثة أو أربعة قرون من وقوع الأحداث التي يكتبون عنها، وغالبا لا تخضع مثل هذه الأعمال لأي نوع من النقد أو التحليل، وافتقادها فـي المجمل إلى العقل والمنطق، وهي أمور نشاهدها كثيرا فـي الأعمال الدرامية والتاريخية التي يشاهدها العامة، وبدلا من أن تكون الدراما عامل وعي إلا أنها تشيع بين الناس تقبل الأحداث مهما تعارضت مع الحقيقة أو العقل.

أعتقد أن الأحداث التاريخية بتفاصيلها الاجتماعية والسياسية تعد منجما عظيما لكتّاب الدراما، ولا بأس أن يستقي الكتّاب معلوماتهم وخيالاتهم عن هذه الأحداث مهما كانت درجة مخالفتها للوقائع الحقيقية، شريطة أن يعرف المشاهد أن كل ما يشاهده هو من خيالات الكاتب، ولا يمكن أن تكون الأحداث معبّرة عن الواقع بكل تفاصيله، فنحن نكتب عن عصر لم نعايشه وعن أحداث لا نعرف عنها إلا القليل، ولم نقرأ عنها من خلال مصادر موثقة، والفرق كبير بين التجربة التاريخية وبين خيالات كتّاب الدراما التي يستقي منها العامة معلوماتهم باعتبارها حقائق يقينية، وفـي كثير من الأعمال الدرامية نلاحظ محاولة توظيفها سياسيًّا لأسباب تتعلق بأمور دينية أو سياسية أو اجتماعية، خصوصًا حينما يتعلق الموضوع بقضايا مذهبية، يختلط فـيها الدين بالسياسة، وقد لاحظنا فـي بعض الأعمال الدرامية النزوع نحو الإعلاء من شأن مذهب بذاته يعمل أتباعه على الترويج له، كما نلاحظ فـي بعض أعمال الدراما التاريخية التي يجتهد فـي كتابتها الهواة يُؤتى بعدها بأحد الأكاديميين لمراجعتها والتنويه إلى أنها قد روجعت من هذا الأستاذ أو غيره، وهو أمر يشبه كثيرا شهادات الزور فـي المحاكم.

ظهرت أعمال درامية كثيرة عن ابن رشد والغزالي وابن عربي وابن تيمية، وصولا إلى الشيخ الشعراوي، وقد راح كاتبوها يعلون من شأن الشخصية التي يكتبون عنها، لا بأس فـي ذلك، لكن شريطة أن لا نعتبر هذا تاريخا، وإنما هي تصورات خاصة من عقل كاتبها ولا ترقى أبدا إلى التعبير عن الحقيقة، حينما يذهب البعض إلى الإشادة أو النيل من هذه الشخصية أو تلك، حتى فـي السينما عندما ظهرت أفلام تُعلي من قيمة الثورة المصرية فـي أمور تتعلق بالقضايا الاجتماعية أو الاقتصادية انتصارا لعامة الناس الذين التفوا حول الثورة، بينما راحت الأفلام تهيل التراب على كل التجارب التي سبقت الثورة واعتبارها شيطانًا أكبر، والأمثلة على ذلك كثيرة، ولم يلتفت صنّاع الدراما فـي السينما والتلفزيون إلى أن التاريخ بإيجابياته وسلبياته ملك للشعوب وليس ملكا لنظام بعينه؛ فالتاريخ حلقة متواصلة بإيجابياتها وسلبياتها دون انقطاع، وقضية التراكم فـي التاريخ قضية حضارية قبل أن تكون قضية سياسية.

نظرا للتطور المذهل فـي عصر الصورة والتوثيق، أصبح من الضروري فـي حياتنا المعاصرة أن نوثق لوقائعنا السياسية والاجتماعية ولبرامج نهضاتنا ولكل تفاصيل الحياة لكي يكون هذا التوثيق مصدر معرفة للأجيال القادمة، سواء فـي الكتابة التاريخية أو فـي الأعمال الدرامية، وليس من المهم أن تُكتب الأحداث التاريخية لحظة وقوعها، بل الأهم أن نحتفظ بكل تفاصيل حياتنا السياسية والثقافـية والاجتماعية لكي تكون مادة علمية تعتمد عليها الأجيال القادمة فـي كتابة التاريخ أو الدراما، بعكس ما مضى من تاريخ لم تكن الصورة أو الوثيقة المكتوبة متاحة، ولم تكن موضع عناية القائمين على شؤون الحياة، وهي حالة عامة تستوي فـيها الدول المتقدمة والدول التي تراجعت، رغم أن كثيرا من الدول الأوروبية قد وثقت تاريخها منذ فترة مبكرة من التاريخ الحديث، ابتداء من القرن السادس عشر، وهو ما نلاحظه فـي بعض الدراما التاريخية فـي الدول الأوروبية، حينما وثّق الإيطاليون تجربتهم منذ عصر النهضة فـي القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وما أعقب ذلك من عصر الدول القومية فـي أوروبا، التي عُنيت بتوثيق شؤونها، أما الدول العربية فلم يكن التوثيق موضوعا فـي شؤون الحياة، ولم يكن أحد ممن عاصروا هذه التجربة يتصوَّر أن العالم سوف يتطور بهذا الشكل، ولعلهم كانوا يعتقدون بأن الحياة تنتهي بموتهم ولا مكان فـيها للمستقبل.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الأعمال الدرامیة لا بأس

إقرأ أيضاً:

طوفان الأقصى وإعلاء الحقيقة التاريخية

المؤرخ الإسرائيلي الشهير إيلان بابيه (70 سنة) له توصيف دقيق لما يجرى الآن في الشرق الأوسط يقول فيه: "نحن الآن في خضم مسار تاريخي بدأ بالفعل، يمكنك أن تؤجل زوال إسرائيل وزوال الاحتلال، لكنك لا يمكن أن توقفه..".

وبغض النظر عن كون الرجل ضيق حيز التغيير التاريخي الذي يشير إليه وحصره في قصة بقاء إسرائيل وزوالها.. إلا أننا بالفعل أمام مسار تاريخي جديد، ليس على مستوى الأحداث فقط، بل وهو الأهم على مستوى الأفكار..

* * *

اليقين المؤكد هو أننا كعرب دخلنا تاريخ الإنسانية بالإسلام، وتكونت على إثر ذلك معادلة أقامت نفسها بنفسها وكان لها مقامها، وهي أن الأمة العربية بالإسلام، تكون في قلب مجرى التاريخ، وبدون الإسلام، هي على هامش كل التواريخ..

وستظهر هذه المعادلة بوضوح بدءا من العصر العباسي الثاني (القرن العاشر ميلادي) وبداية الهجوم الأوروبي على عالم الإسلام ومعه الهجوم التتاري، في الحالتين كانت المعادلة تنصب نفسها قائمة والعكس صحيح تماما، ورأيناه في حطين (1187م) وعين جالوت (1260م)..

وكل حركات التحرر الوطني في المشرق والمغرب العربي كانت منتبهة جيدا لهذه المعادلة.. وذلك عهد قريب لم يبعد عنا بعد.

* * *

وسنرى الراحل ميشيل عفلق (ت: 1989م) المسيحي الأرثوذكسي والمنظر العتيد لحزب "البعث العربي" يعبر لنا عن ذلك فيقول: "الدين في صميم القضية العربية، والمواطن العربي الذي نعمل لتكوينه، لم نرض له أن يكون تكوينا ناقصا أو زائفا، وبدافع من الحب للأمة العربية، أحببنا الإسلام منذ السن اليافعة، وبعد أن اقتربنا أكثر من فهمه، أضحى حبنا لأمتنا يتلخص في حبنا للإسلام".

وسيقول جملة جامعة مانعة شارطة: وإذا "فُهم الإسلام على حقيقته" ستتكرر ملحمته بكل فصولها في واقعنا الحاضر، وإلى أن تختم بالظفر النهائي للحق والإيمان.. كأن الراحل الكريم يتحدث عن "طوفان الأقصى".. فها هي المقاومة تحمل لنا وللشرق وللأمة كلها "فهم الإسلام على حقيقته".

* * *

وسيكون هاما هنا أن نسمع لرأى له وزنه وثقله من داخل المخزن الأكاديمي في إسرائيل، إنه د. داتون هاليفي أستاذ التاريخ بجامعة تل أبيب، والذي سيكتب لنا في موقع يديعوت الأسبوع الماضي كما نقل لنا الأستاذ ياسر الزعاترة على صفحته: مات السنوار، ولكن يبدو أن إسرائيل تساهم في تنفيذ وصيّته، السنوار فَهم بعمق قدرة القيادة المتطرفة على جر مصير أمة كاملة معها.

الحكومة المتطرفة في إسرائيل في هذه الفترة لم تكن فقط السبب وراء هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، بل كانت أيضا فرصته (السنوار) لدفع إسرائيل نحو الهاوية، لقد نجح في ذلك بشكل ممتاز على مدار عام، كان يعلم أن إسرائيل ستتوجه الى الانتقام الوحشي.

وسيتكفل ذلك داخليا وخارجيا بـ"هدم صورة إسرائيل" عن نفسها، وصورتها في العالم الخارجي، حكومة الكارثة، ستفعل كل ما بوسعها لتنفيذ وصية السنوار كما هي، حتى تتفكك إسرائيل!

* * *

ما الذي فعلته المقاومة حتى يحدث كل هذا؟ والشيء الهام حقا، بل والأهم، هو كيف أعدت المقاومة نفسها للقيام بكل هذا..؟

لنعرف ذلك، سيكون علينا أولا أن نستدعى النظام العربي الرسمي من الخمسينيات وحتى يومنا هذا، أولئك الذين كانوا يتحدثون من خارج التاريخ!.. هم الذين اختاروا ذلك، وعن بينة اختاروا ذلك.. لماذا؟ لأن الدخول إلى "مجرى التاريخ" الحقيقي، كان سيترتب عليه ما يقض مضاجعهم كأصحاب سلطان، وهم في واقع الحال يريدون أن يعيشوا بسلطانهم ويتمتعوا بالأبّهة الكاملة (راجع مذكرات خالد محي الدين- "الآن أتكلم").

ذلك أن الدخول ثانية إلى مجرى التاريخ لن يكون إلا عبر نفس الطريق الذي دخلت منه الأمة في "الميلاد الأول"، كما يقول لنا المفكر الراحل مالك بن نبي (ت: 1973م) في كتابه المهم "شروط النهضة". وسيقول لنا فيه جملة من أروع ما قاله في كل كتاباته: "وإنها لشريعة السماء: غيرّ نفسك تُغيّر التاريخ".

* * *

ما وراء الصورة المبسّطة للواقع الحالي، هو أن الشرق الذي تشكّل بعد الحرب العالمية الثانية، كان مقصودا له ومنه أن يكون "خارج التاريخ"، حتى تدخل "إسرائيل" هذا التاريخ.. ليس حبا في اليهود، فتاريخ الكراهية الأوروبية لليهود أشهر من أن يُذكر ويعرَّف.

* * *

دخلت إسرائيل التاريخ على أيدي المقاول الغربي (أوروبي وأمريكي)، وكما قلنا كان لا بد من خروج الشرق من "مجرى التاريخ"، لتكون إسرائيل وأشباه إسرائيل هم تاريخ هذا الشرق.

من التصريحات المتكررة لنتنياهو تشبها بكبار الزعماء في التاريخ، هو أنه يقود حربا لتغيير الشرق الأوسط! والشرق كله فعلا يتجه نحو التغيير، لكنه التغير باتجاه إعلاء "الحقيقة التاريخية".. حقيقة ارتباطه القدري والتاريخي بالإسلام.

مقالات مشابهة

  • هنيدي راجع في رمضان بـ"شهادة معاملة أطفال".. استعداد للضحك ولا إيه؟
  • حدث في مثل هذا اليوم| 8 سنوات على رحيل الساحر محمود عبد العزيز
  • كتّاب وأكاديميون: الأديب ليس مؤرخاً ومعيار الدراما العربية الجودة
  • مهد الحضارة انموذجاً.. دراسة تتخذ من العراق منطلقاً لحماية الآثار التاريخية ولو بالجيوش
  • إقامة جبرية ونقطة سودا.. موسم الدراما الشتوية
  • طوفان الأقصى وإعلاء الحقيقة التاريخية
  • الدراما المصرية في رمضان 2025: قضايا اجتماعية وبيئة صعيدية وأعمال كوميدية
  • ميراث يواصل رحلته وسط معالم إسطنبول التاريخية
  • اليوم.. ذكرى ميلاد عمدة «الضوء الشارد» الفنان ممدوح عبد العليم
  • في ذكرى وفاتها.. رحلة معالي زايد بين السينما والدراما