لجريدة عمان:
2025-03-15@06:24:40 GMT

ماذا تخسر المجتمعات من غياب «التسامح»؟!

تاريخ النشر: 9th, November 2024 GMT

ما من شك أن المجتمعات الحديثة هي بنت التنوع العرقي والإثني والديني وبالتأكيد ما ينتج عن ذلك من أشكال مختلفة للتنوع الثقافي، ولأنه لا يمكن لمجتمع أن يقفز على حقيقة تنوعه بسبب ما سيصنع ذلك من أزمات تطال بالتخريب بناؤه الاجتماعي ذاته، بل إن إغفال وتعطيل الوعي بهذا التنوع هو أكبر خطر يهدد تماسك وبقاء المجتمع.

ورغم تعدد التعريفات لمفهوم التسامح، بل وتداخلها في حقول شتى، إلا أن أقرب وأبسط تعريف هو أن التسامح: يعني القدرة على قبول واحترام (وفي حالتنا العربية: احتمال) الآخر، والإقرار بحقه في الاختلاف، وهذا ما يساعد على تقوية البيئة الاجتماعية، وفتح الطريق أمام أفرادها للتعايش السلمي، وبالتالي إثراء الحياة الاجتماعية بأشكال عديدة من التعبير الثقافي ما يسهم بشكل كبير في صياغة الهوية الشاملة لأي مجتمع من المجتمعات ويحمي بقاءها حية وإيجابية.

والتسامح ينشأ عن عمليات تفاعل مستمرة داخل المجتمعات، وما نريد الإشارة إليه هنا، أن ثمة فارق موضوعي حول سردية التسامح في السياق العربي عنها في التاريخ الاجتماعي الغربي، فالثقافة العربية ومنذ التئام جسدها بدعوة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) قامت على قواعد متينة لبناء المجتمع، فأولى القيم التي جذرها نبينا صلوات الله عليه في دعوته إلى التحرر من الجاهلي فينا (=العصبية القبلية) هي بناؤه المجتمع الجديد على فكرة التسامح والتعايش، ومن الأمثلة واضحة المعالم "الوثيقة" التي وقعها في مدينته الجديدة (يثرب) وهو عهده الذي ركّبَهُ على فضيلة الاعتراف بالتنوع والدعوة الجادة إلى التعايش، فعل ذلك لوعيه المتقدم بأنه لا يقوم مجتمع إلا على حالة من تنوع عميق، لذا صدّر وثيقته، وهي الوثيقة الشهيرة بـ"وثيقة المدينة" حيث كانت المدينة تجمعاً حضرياً ضم الوحدات التقليدية (القبيلة)، كما ضم روح فكرة المدينة وهي التنوع الديني (=اليهود بطوائفهم) كتب في السنة الأولى للهجرة كتابه بين (المهاجرين والأنصار واليهود) واضعاً قواعد للبناء الاجتماعي حتى قبل أن تطرأ الحاجة إليها في عصر النهضة، نقرأ: "هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن اتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحارث (من الخزرج) على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته...إلخ".

كما أننا واجدون في مرجعيتنا العربية وعند ابن منظور دقة في بيان وظيفة التسامح الاجتماعية، يقول: "والمسامحة: المساهلة. وتسامحوا: تساهلوا. وفي الحديث المشهور: السماح رباح أي المساهلة في الأشياء تربح صاحبها. وسمح وتسمح: فعل شيئاً فسهل فيه، وأنشد ثعلب: ولكن إذا ما جلّ خطب فسامحت به النفس يوما كان للكره أذهبا".

أما التسامح في السياق الغربي فإنه وليد الصراع الاجتماعي الذي قسّم المجتمعات الغربية المسيحية بالذات الفترة التي شهدت عمليات الاصلاح البروتستانتي، حيث انفرط العقد الاجتماعي وتناوشت الكيانات القومية في أوروبا الحروب الأهلية حتى انتهت إلى صدور المرسوم الفرنسي الشهير (مرسوم نانت – 1598م) المسمى بـ"مرسوم التسامح" والذي جاء استجابة لتوسع الصراع الديني بين المذاهب المسيحية المختلفة، وقد أقر هذا المرسوم السماح بهامش محدود لطوائف البروتستانت للتبشير ببرنامجهم الإصلاحي لكن في حدود ضيقة وتحت تهميش متعمد، ولكن سرعان ما ضاق صدر لويس الرابع عشر ليصدر في العام 1685م قراراً بإلغاء هذا المرسوم والذي دفعه لممارسة قمع ديني راح ضحيته الآلاف. لكن الأمر لم يقف هنا، فقد استمر الشد والجذب في فرنسا بين (العرش والمذبح) كما يقول المؤرخ بول هازاراد في كتابه "أزمة الضمير الأوروبي" حتى افتتح فولتير (1694-1778م) عهد التنوير الفرنسي بل الأوروبي كافة، حيث انتفض ضد دوغمائية الكنيسة الكاثوليكية التي أعلن تحرره من الإيمان بدورها السياسي والاجتماعي، ليكتب في رسالة التسامح الصادرة عام (1763م) مانفستو التسامح في عصر الأنوار، كتب يقول: "أنا لا أتفق معك ولكني سأقاتل حتى الموت حتى يكون لك الحق في أن تقول ما تعتقده".

إنه ولصالح مجتمعاتنا العربية فإننا نحتاج الاستناد إلى مرجعيتنا الثقافية، مرجعيتنا تلك التي تقوم على تعبير عميق عن ذواتنا الاجتماعية، فالمجتمع لا يقوم بناؤه إلا على تحقيق التواصل الثقافي داخل بنيته الأم، بنيته الثقافية، والحقيقة أننا نعيش عصر انتهت فيه أفكار التعصب الديني والمذهبي عالمياً بدرجة ملحوظة، لكننا نعيش حالة متأخرة عن ذلك، بل متأخرة حتى عن تراثنا النبوي الذي صاغ أسس البناء الاجتماعي على اعتراف بالتنوع الديني والعرقي. وفي واقعنا اليوم فإن النضال الثقافي ينبغي أن يتجه لمحاصرة التطرف والعصبيات المذهبية، إذ هي المهدد الأخطر لبقاء مجتمعاتنا سالمة معافاة.

إن النعرات الطائفية التي نعيشها اليوم هي عَرْض لغياب فاعلية قيم التعايش، فرغم لبوس هذا التطرف لمعاني يقول أنها من جوهر الدين، إلا أنها المغالطة الكبرى في السياق العربي الراهن، فالإسلام لم يحارب مشكلة اجتماعية مثل محاربته لمشكلة العصبية بأشكالها كافة، ولسنا في حاجة إلى إيراد الأسانيد من الأثر أو النص القرآني لإثبات ما نقول، فقط يكفي أن نشير بأن الخطاب القرآني جاء متحرراً من أية تبعية لتصنيف عرقي أو ديني، بل هو خطاب للكافة (=للعالمين)، بل حتى في مستويات المغايرة التي يمايز فيها النص بين أتباع الديانات الأخرى، فإنه يشدد على أن دعوته تقوم على فكرة (السلام) أي تحقيق أقصى درجات التعايش عبر الجدال والحوار، والإسلام ليس كما تقول بعض التخريجات بِقَصرِها المعنى على (الاستسلام)، فالدقيق أن الاسم يصلنا بـ"الخضوع إلى إرادة هي الأعلى (=إلى الله سبحانه وتعالى).

إن الحل لمواجهة موجات التطرف وغياب التسامح التي تضرب مجتمعاتنا العربية، أن نعود لدراسة مظاهر الانحراف التي أصابت وعينا الثقافي، وأن نفهم طبائع المجتمع والتي هي في الأصل نتيجة جِماع عمليات التعايش، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق دون تجذير الوعي بالتسامح كفعالية رئيسية في الحياة بين الأفراد.

غسان علي عثمان كاتب سوداني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

مع السعي الأمريكي لدعم بغداد.. إيران قد تخسر العراق قريبًا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

أمضت إيران عقودًا من الزمان في تنمية شبكة من الوكلاء في جميع أنحاء الشرق الأوسط، باستخدام نفوذها في دول مثل العراق ولبنان وسوريا للرد على القوى الغربية والمنافسين الإقليميين. ومع ذلك، تشير التطورات الأخيرة إلى أن قبضة إيران على العراق - حجر الزاوية في "محور المقاومة" - تضعف. 

يمكن أن يشير هذا التحول في ديناميكيات القوة إلى تفكك استراتيجية طهران الإقليمية، حيث أصبح العراق ساحة المعركة التالية في صراع جيوسياسي أوسع.

تراجع النفوذ الإقليمي لإيران

منذ ثورة ١٩٧٩، دعمت إيران استراتيجيًا الميليشيات والوكلاء في الشرق الأوسط، ورسخت نفسها كلاعب رئيسي في الشؤون الإقليمية. بحلول عام ٢٠١٤، أعلن أحد أعضاء البرلمان الإيراني بجرأة أن طهران تسيطر على أربع عواصم عربية: بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء. ومع ذلك، في العام الماضي، تحول النظام الإقليمي بشكل كبير. لقد أضعف الصراع الإسرائيلي المستمر مع حزب الله في لبنان الجماعة المسلحة المدعومة من إيران بشدة، وفي ديسمبر/كانون الأول، انتزعت القوات السُنية المدعومة من تركيا السيطرة على دمشق من نظام الأسد المتحالف مع إيران.

الآن، تحول التركيز إلى العراق، وهو حجر الدومينو المحتمل التالي الذي سيسقط من قبضة إيران. لسنوات، اعتمدت إيران بشكل كبير على حلفائها العراقيين لدعم طموحاتها الإقليمية. ومع ذلك، مع تغير المشهد السياسي والضغوط المتزايدة من الولايات المتحدة والسكان المحليين، بدأ وكلاء إيران في العراق يشعرون بالضعف.

امتنعت الميليشيات العراقية المدعومة من إيران، والتي كانت تشارك في هجمات متكررة على أهداف أمريكية وإسرائيلية طوال عام ٢٠٢٤، بشكل ملحوظ عن شن ضربات كبرى منذ ديسمبر، ما يشير إلى تحول في استراتيجيتها.

المشهد السياسي العراقي والتحالفات المتغيرة

كانت الحكومة العراقية، بقيادة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، متحالفة تقليديًا مع إيران. ومع ذلك، كشفت التسويات السياسية الأخيرة عن استعداد متزايد لاسترضاء الولايات المتحدة. في يناير ٢٠٢٥، قدمت حكومة السوداني عدة تنازلات ملحوظة، بما في ذلك إسقاط مذكرة اعتقال بحق الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، والموافقة على إطلاق سراح الباحثة في جامعة برينستون إليزابيث تسوركوف من الأسر، وإقرار تعديل حاسم للميزانية سعى إليه الأكراد العراقيون منذ فترة طويلة ــ الذين تربطهم علاقات تاريخية أوثق بالولايات المتحدة. وتشير هذه التسويات إلى أن قيادة العراق ربما تعيد النظر في علاقتها بإيران.

إن التحولات السياسية في بغداد مهمة. ففي حين لا يزال تحالف السوداني، إطار التنسيق، متحالفا مع طهران، فإن هذه الإجراءات الأخيرة تشير إلى شعور متزايد بالضعف بين حلفاء إيران العراقيين. وبالنسبة للولايات المتحدة، يمثل هذا فرصة لتحدي سيطرة إيران في المنطقة.

الاعتماد الاقتصادي الإيراني على العراق

إن أهمية العراق بالنسبة لإيران لا تقتصر على النفوذ السياسي والعسكري ــ بل إنها تلعب أيضا دورا حاسما في اقتصاد إيران. والعراق هو أحد أكبر منتجي النفط في العالم، وتعتمد إيران بشكل كبير على الموارد العراقية لتجاوز العقوبات الدولية. تنقل إيران نفطها إلى المياه العراقية، حيث يتم تصنيفه زورًا على أنه نفط عراقي قبل تصديره إلى الأسواق العالمية. تعمل الميليشيات والشركات المدعومة من إيران داخل قطاع النفط العراقي، وغالبًا ما تسرق هذه المجموعات النفط أو تحول الأموال من خلال ممارسات فاسدة.

يعاني النظام الإيراني من ضغوط مالية كبيرة. فقدت عملة البلاد أكثر من ٦٠٪ من قيمتها، ولا يزال التضخم مرتفعًا. ونتيجة لذلك، فإن ثروة النفط العراقية حيوية لقدرة إيران على الحفاظ على اقتصادها المحلي وتمويل عملياتها الإقليمية. إن فقدان السيطرة على العراق لن يكلف إيران شريان حياة اقتصاديًا حاسمًا فحسب، بل سيقوض أيضًا طموحاتها الإقليمية.

النهج الأمريكى: الدبلوماسية الصارمة والعقوبات

تتمتع الولايات المتحدة بالفرصة للاستفادة من نقاط ضعف إيران في العراق. يجب أن يتحول تركيز واشنطن من استيعاب القادة العراقيين المتحالفين مع طهران إلى استخدام الدبلوماسية الصارمة والعقوبات والعمليات الاستخباراتية لتقويض نفوذ إيران. تستطيع الولايات المتحدة استهداف الميليشيات العراقية المدعومة من إيران، وقطع تمويلها وإضعاف قدرتها على زعزعة استقرار المنطقة. ومن الأهمية بمكان أيضًا أن تدعم الولايات المتحدة الجهود العراقية الرامية إلى الحد من البصمة الاقتصادية الإيرانية، وخاصة من خلال كبح الشبكات المالية التي تسمح للجماعات المدعومة من إيران بالاستفادة من موارد العراق.

من خلال تكثيف الضغوط على القادة السياسيين والعسكريين في العراق، يمكن لواشنطن ضمان احترام سيادة العراق وعدم إملاء تحالفاته من قبل إيران. يجب على الولايات المتحدة أيضًا ضمان خلو الانتخابات المقبلة في عام ٢٠٢٥ من النفوذ الأجنبي، وخاصة من إيران. إن الدعم العلني لاستقلال العراق عن طهران من شأنه أن يعزز نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة، مما يحسن فرص الاستقرار الجيوسياسي الأوسع.

إن احتمال خسارة العراق يشكل خطرًا مدمرًا على إيران بشكل خاص. فالعراق ليس مجرد جار؛ بل إنه يشكل جزءًا حيويًا من المجال السياسي والاقتصادي والإيديولوجي لإيران. وسوف تشكل خسارة العراق ضربة رمزية للجمهورية الإسلامية، وسوف تضعف موقفها في المنطقة وتشجع قوى المعارضة داخل إيران. وتاريخيًا، كان العراق يشكل جزءًا رئيسيًا من استراتيجية إيران الأمنية، وسوف تؤدي خسارته إلى إحداث تأثير ممتد في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.

وعلاوة على ذلك، سمحت سيطرة إيران على العراق لها بالحفاظ على ارتباط مباشر ببلاد الشام، وخاصة في جهودها لدعم حزب الله في لبنان ووجودها العسكري في سوريا. وإذا ابتعد العراق عن نفوذ إيران، فسوف تتقلص قدرة طهران على فرض قوتها في هذه المناطق بشكل كبير.

مقالات مشابهة

  • حوار يناقش دور الأسرة في بناء المجتمعات
  • لست في سباق.. ارفق بذاتك حتى لا تخسر كل شيء
  • ماذا يعني غياب الإنترنت عن حياة أهل غزة؟
  • «طنطا للموسيقى العربية» تفتتح ليالي رمضان الثقافية والفنية بالمركز الثقافي
  • إبراهيم الهدهد: تكريم اليتيم وإطعام المسكين أساس استقرار المجتمعات
  • إيران قد تخسر العراق.. ترامب وإمكانية استغلال الخوف في مفاوضات الملف النووي
  • مع السعي الأمريكي لدعم بغداد.. إيران قد تخسر العراق قريبًا
  • إبراهيم الهدهد: تكريم اليتيم وإطعام المسكين أساس استقرار المجتمعات |فيديو
  • ضمن السهرات العربية والإسلامية.. الأوبرا تحتفي بالتراث الثقافي الباكستاني غدا
  • شفيونتيك.. «الفوز الساحق» في إنديان ويلز