«العودة»... متاهات الكلمة وأشباحها
تاريخ النشر: 9th, November 2024 GMT
تصيبني كلمة «العودة» بالحيرة في المعنى، فمن أجل أن يعود الإنسان لا بد له أن يجيب عمليًّا على سؤالين على الأقل: إلى أين؟ وكيف؟ لأنه من دون وضوحٍ للوجهة والسبيل لا يغدو حلم العودة إلا غيبوبة مطلقة في التاريخ والجغرافيا، هاجس يشرّد صاحبه ويحرمه من الاطمئنان لأي مستقر سيجد نفسه فيه، طوعًا أو قسرًا، ومعه وفي خضمه يعلّق حياته كلها في ظرفٍ مؤقت الزمان والمكان.
مثل كثيرين غيري فإن كلمة «العودة» ظلَّت في ذاكرتي كلمةً فلسطينية بامتياز، ذات نسبٍ فلسطيني واضح. كيف لا وهي التي كانت من أوائل الكلمات المتناسلة من كلمة «النكبة» في المعجم الفلسطيني؟! لا تغيب هذه الكلمة المُحيِّرة والحائرة (العودة) عن اللغة الفلسطينية في كل مراياها. وحتى حين تتوارى لفظًا فإنها تحضر معنىً وهاجسًا في أي كلام يدور عن فلسطين والفلسطينيين. وبذا أستطيع الجزم بإنها واحدة من بين أبرز الكلمات القليلة المؤسِّسة للأدب الفلسطيني بعد عام 1948. وقد صار معناها منذ ذلك التاريخ شديد الالتصاق بالهوية الفلسطينية؛ كما هو الحال مع كلمات أخرى مثل: المنفى واللاجئ والمخيم.. إلخ.
فكرة العودة في جوهرها هي تعبير عن إصرار الفلسطيني على التشبث بجمرة الهوية. والإيمان الفردي والجمعي بها يمثل أسلوبًا من أساليب صيانة الهوية المطرودة من عنصر تكوينها الأول، وهو الأرض التي بسقوطها من تحت الأقدام أصبح الإنسان الفلسطيني في أي مكان من الكوكب مضطربًا وقلِقًا، حالة من المنفى الأبدي التي يصفها إدوارد سعيد بكلمات أدق في كتابه «بعد السماء السابعة» إذ يحكي عن نفسه بصوت الجماعة: «لقد تبخر من حياتي وحياة الفلسطينيين جميعا ثبات الجغرافيا وامتداد الأرض. وحتى لو لم يَقم أحدهم بإيقافنا على الحدود أو سوقنا إلى مخيمات جديدة أو منعنا من الدخول أو الإقامة أو السفر من مكان إلى آخر، فإن أراضينا يجري احتلالها، ويتدخل الآخرون في حياة كل منا بصورة اعتباطية وتمنع أصواتنا من الوصول إلى بعضنا بعضا. إن هويتنا تُقيد وتحبس وتحاصر في جزر صغيرة خائفة ضمن محيط غير مضياف تحكمه قوة عسكرية عليا تستخدم رطانة إدارة حكومية تؤمن بالطهارة (العرقيّة) الخالصة».
غير أن العودة التي يُلح عليها الفلسطينيون، خاصة ممن هم في الشتات، حتى وإن كانوا غير مستعدين لها عمليًّا، ليست مجرد نداء شعري أو أسطورة اجتماعية/ جماعية كما أراد لها منذ البداية الإسرائيليون بالتعاون مع القوى الاستعمارية التي شاركت في صناعة النكبة المستمرة. بنزع الصفة السياسية عن اللاجئين الفلسطينيين وباعتبارهم ذواتًا «غير سياسية» ربما تستحق العيش لكنها لا تستحق أكثر من العيش، عملت سياسات القوة والتهجير والحرمان الاستعمارية على تحويل حق العودة إلى أسطورة، في انقلاب ساخر للخرافة على التاريخ؛ بحيث تتحول الأسطورة التوراتية عن عودة الشعب اليهودي «إلى أرض الميعاد» حقيقةً مادية وسياسية قاهرة، تزامنًا مع تحول الحقيقية المادية والسياسية لوجود الشعب الفلسطيني على أرضه إلى محض أسطورة للحنين الشعبي وحكاية من حكايات الجدات للأحفاد، لا أكثر. أي باختصار أن تتحول 8 عقود من النكبة المستمرة إلى «تراث» أو ثقافة فلكلورية.
مع انطلاق الحركة الوطنية الفلسطينية في ستينيات القرن المنصرم وتبلور خطابها السياسي الخاص والمستقل عن الخطابات العربية، سعت مختلف التيارات السياسية التي قادت نضال الشعب الفلسطيني، منذ تلك المرحلة إلى اليوم، إلى تطوير كلمة «العودة» وصقلها إلى حد اعتبار الإيمان السياسي والأخلاقي بها شرطًا من شروط الهوية الفلسطينية المعقدة ومعيارًا وطنيًّا كان حاسما في إفشال اتفاقيات أوسلو وكامب ديفيد فيما بعد. ولعل من أبرز المنجزات السياسية لنضالات تلك المرحلة كان الإصرار على تثبيت المعنى السياسي لهذه الكلمة «الشعرية»، مجددًا بصرف النظر عن الفشل الفادح في التوصل إلى نظرية عملية وواقعية لإخراج هذه الكلمة من حقل التنظير إلى مجال التطبيق والفعل السياسي.
في كتاب مؤلف من دراسات لعدة باحثين، بعنوان «عبور الحدود وتبدل الحواجز: سوسيولوجيا العودة الفلسطينية» صادر عام 2008 عن مركز دراسات الوحدة العربية، يقول ساري حنفي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة بيروت: «لقد أظهرت أبحاثي الميدانية أن لدى اللاجئين الفلسطينيين شعورا بالحنين إلى أرض فلسطين أقوى كثيرًا من الحنين إلى شعب فلسطين. ففي المقابلات، أصر بعض اللاجئين على التحدث عن الُملكية، الأرض، البحر الأبيض المتوسط، المسجد الأقصى، أو كنيسة دير برعم، وتفادوا التفكير في كيف سيعيشون ومع من. ولست أقترح هنا استحالة التعايش بين العائدين المحتملين من الفلسطينيين وجيرانهم اليهود، لكن ضرورة التفكير في العودة ليست فقط في تعبيراتها الجغرافية، لكن أيضًا في تعبيراتها المجتمعية». هذا التحليل يجر معه سؤالا/ أسئلة قد تتحاشى أجيال من اللاجئين الفلسطينيين بحثها حتى بينهم وأنفسهم عن مدى استعدادهم نفسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا للعودة فعليًّا إلى أرض فلسطين في حال انفرج واقع الصراع على الأرض في أي مستقبل قادم على نحو يسمح بالقليل من العودة إلى ما تبقى من تراب الوطن السليب، مع أن واقع القضية الفلسطينية ينحدر إلى مسار أكثر مأساوية من إمكانية هذا السؤال الافتراضي. إنها العودة التي يصفها ساري حنفي بـ «هجرة العودة» في إشارة إلى أنها ليست عودة طبيعية إلى ما كان، كما يحب اللاجئ أن يتخيل، بل هي هجرة جديدة إلى حالة جديدة، إلى مكان جديد نسبيًّا حتى على توقعات المخيلة، وهذا بالفعل ما عاشه عدد من الفلسطينيين الذين جربوا معنى العودة والتباساتها إلى «ما تبقى من البلاد» حين دخلوا إلى الوطن من البوابة الخلفية إثر توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
كلاب إسرائيل وجثث الفلسطينيين!
هل هناك حدود للإجرام والوحشية الإسرائيلية ضد العرب عموما والفلسطينيين خصوصا؟
كنت أعتقد أن هناك حدودا يصعب حتى على أى مجرم مهما كان عتيا أن يتجاوزها، لكن ما تفعله إسرائيل فى قطاع غزة فاق كل خيال.
صدعت إسرائيل رءوسنا ورءوس العالم بخرافة أنها واحة الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان فى غابة من الاستبداد العربى الإسلامى، إلى أن جاء عدوانها المستمر على قطاع غزة منذ ٧ أكتوبر من العام الماضى، ليكشف أنها منبع وأصل الوحشية والعنصرية.
ما هو الجديد الذى يدفعنى للكتابة عن هذا الموضوع اليوم؟
صحيفة هاآرتس العبرية ذات الاتجاه اليسارى نشرت.
يوم الأربعاء الماضى عن قائد بالفرقة ٢٥٢ بجيش الاحتلال أن هناك خطا شمال محور الشهداء «نتساريم» فى قطاع غزة يسمى بخط الجثث ويعرفه أهالى المنطقة جيدا. يضيف أى شخص يتجاوز هذا الخط نطلق عليه الرصاص فورا، ولا يجرؤ الأهالى على سحب الجثث، بل نتركها لتأكلها الكلاب.
المئات من جثامين الشهداء ما تزال موجودة فى شوارع مخيم جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، وكلما حاول الأهالى نقل الجثث تستهدفهم المسيرات مما يؤدى لسقوط شهداء جدد، والعشرات من المصابين ظلوا ينزفون لأيام طويلة حتى استشهادهم دون أن يتمكن أحد من إسعافهم.
«صور الكلاب وهى تنهش جثامين الشهداء أمام أعين جنود وضباط الاحتلال تكشف - حسب بيان لحركة حماس - عن مستوى الوحشية وحجم السادية والإجرام واللاإنسانية فى سلوك جيش الاحتلال وقيادته الفاشية».
صحيفة هاآرتس أيضا التقت بمجموعة من قادة وضباط وجنود الجيش الإسرائيلى فى شمال قطاع غزة وجاءت أهم تصريحاتهم كالتالى:
محور نتساريم مصنف بأنه منطقة قتل، وكل من يدخل نطلق عليه النار فورا، وهناك سباق بين الوحدات لقتل أكبر عدد من الفلسطينيين. نحن نقتل مواطنين ثم نعدمهم على أساس أنهم مسلحون. ولدينا أوامر بإرسال صور الجثث، وقد أرسلنا صورا لـ٢٠٠ قتيل، وتبين أن عشرة فقط منهم ينتمون لحماس. وأحيانا يتصرف الجيش فى غزة وكأنهم ميليشيا مسلحة مستقلة لا تلتزم بأى قوانين، ولدينا سلطات غير محدودة، وهناك عمليات تجرى من دون أوامر. وبعض القادة الذين خدموا فى المنطقة كانوا يبحثون عن صورة نصر شخصى، وأحد القادة قال لجنوده أن صورة النصر لفرقته سوف تتحقق بعد إفراغ شمال غزة من سكانه.
وأظن أن العبارة الأخيرة هى أحد الأهداف الأساسية للعدوان الإسرائيلى ضمن أهداف أخرى كثيرة. لكن هناك جيوشا كثيرة تحتل مناطق فى دول أخرى من دون أن تفعل ما فعلته وتفعله إسرائيل فى غزة من إجرام غير مسبوق.
فى نفس اليوم، لتقارير هاآرتس كانت منظمة «هيومان رايتس ووتش» تتهم إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة جماعية. المنظمة قالت إن السلطات الإسرائيلية فرضت عمدا على سكان غزة ظروفا معيشية مصممة لتدمير جزء من السكان من خلال تعمد حرمان المدنيين من الوصول إلى المياه بشكل كاف. مما أدى إلى آلاف الوفيات، إضافة إلى الحرمان من الصرف الصحى، وتعطيل البنية التحتية، خصوصا قطع الكهرباء وكلها أعمال تشكل جريمة حرب متمثلة بالإبادة.
المنظمة استشهدت بما قاله يوآف جالانت وزير الدفاع الإسرائيلى السابق بعد بدء العدوان مباشرة فى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ «لن تكون هناك كهرباء ولا طعام ولا ماء، ولا وقود. كل شىء مغلق». يومها وصف جالانت الفلسطينيين بأنهم «حيوانات بشرية!!!».
تقرير هومان رايتش ووتش استغرق إعداده عاما كاملا، ومن المستحيل اتهام أصحابه بأنهم مغرضون أو عرب معادون للسامية. هو اعتمد على مقابلات سكان مدنيين وصور بالأقمار الصناعية وبيانات وتحليل صور وفيديوهات. وبالطبع فإن وزراء الخارجية الإسرائيلية قال إن التقرير ملىء بالأكاذيب، وافتراء دموى لتعزيز الدعاية المناهضة لإسرائيل!!!
ولا أعلم كيف يمكن أن يكون هذا التقرير ملىء بالأكاذيب فى حين أن أهم دليل على صحته هو سقوط ١٥٢ ألف شهيد وجريح فلسطينى وعشرة آلاف مفقود ودمار هائل ومجاعة قتلت عشرات الآلاف من الأطفال والمسنين والنساء وتدمير أكثر من ٧٠٪ من قطاع غزة ونزوح أكثر من ٨٠٪ من السكان، مما شكّل واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية فى العالم.
أما ما يحدث فى شمال قطاع غزة من تدمير منظم لكل شىء وتسوية المبانى والمنشآت بالأرض خير دليل على الجريمة العظمى التى ترتكبها إسرائيل.
ختاما يقول ضابط إسرائيلى: «نحن فى مكان بلا قوانين وحياة البشر فيه بلا قيمة!!!».
(الشروق المصرية)