الدفن عمل شاق.. تراجيديا الكتابة عند الحاجز في رواية عبور شائك
تاريخ النشر: 9th, November 2024 GMT
منذ كتب إيميل حبيبي قصته القصيرة "بوابة ماندلباوم" سنة 1959 نشأ أدب ما يمكن أن نسميه "أدب الحواجز"، فكتب زياد خداش قصته "كاتب قصة قصيرة لا ينفذ أوامر الجنود" وجعل أحداثها عند "حاجز عطارة"، وكتب عزمي بشارة رواية "الحاجز.. شظايا رواية"، وكتب علاء حليحل "قصة باسبورت 2011" وكتب يسري الغول غزة 87، ليتحول الحاجز إلى كيان حي في حيوات الفلسطينيين، وصار فضاء مركزيا ومصيريا يضع الفلسطيني كل يوم موضع خطر ليتوقف الفضاء على أن يكون نقطة عبور عادية إلى نقطة استنزاف روحي وجسدي يقضي عنده الفلسطيني الساعات الطوال كل يوم ذهابا وإيابا وهو يلاحق حقه في الحياة والعمل والتنقل.
في هذا الفضاء الجحيمي الذي يتكاثر كل يوم منذ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين تضع باسمة التكروري أحداث روايتها "عبور شائك" الصادرة عن دار مرفأ في طبعتها الثانية.
كابوس الحاجزفي حاجز قلنديا الفاصل بين القدس المحتلة ورام الله تنزل باسمة التكروري الأحداث الرئيسية لروايتها وكما تشي به كلمة "شائك" في العنوان من صعوبة تكون الكاتبة قد قبضت حبكتها. وكان الكاتب الكردي السوري سليم بركات يعرّف الرواية باعتبارها اختراع المأزق.
عند هذا الفضاء المعادي تستضيف الكاتبة تخييليا 3 من الشخصيات الفلسطينية منار وزياد وشذى لكل شخصية حكايتها مع الحاجز، وبسببه تسترجع حياتها الماضية في ضوء الأزمة الراهنة.
ويبدو الحاجز فضاء سقط من كتاب "شعرية الفضاء" لغاستون باشلار، فلا هو بالطريق ولا هو بالمعتقل ولا هو بالجسر رغم تمدده في كل هذه الفضاءات وتعالقه بها. إنه فضاء المخاطرة بالحياة كالمشي في حقل الألغام. هكذا كانت شخصيات رواية باسمة تتعامل مع الحاجز كتجربة موت يومية وامتحان مصيري يتغير استقباله للشخصيات حسب الوضع الأمني ومزاج الحراس وأوامر الحكومة الإسرائيلية.
تدور أحداث الرواية في يوم واحد حول مكان إشكالي واحد هو حاجز قلنديا، مما يدفع بالرواية نحو شكل النوفيلا إذا استحضرنا أن صفحاتها لا تتجاوز المائة صفحة بكثير غير أن هذه النوفيلا تلخص ضراوة الحياة وقسوتها في القدس المحتلة.
الدفن عمل شاقيعيش زياد مأزقا خاصا مع الحاجز، فخلافه مع والده لا يمكن أن يدفعه إلى ترك جثته في رام الله، فقد قضى الأب نحبه في زيارتها ويتوجب على زياد عبور الحاجز لتسلمها والعودة بها إلى القدس حيث يجب أن يدفن. إن هذا المأزق يذكرنا برواية السوري خالد خليفة "الموت عمل شاق" الذي كتبها بعد سنوات من كتابة باسمة لروايتها، وفي رواية خالد خليفة يجد البطل الابن الذي توفي والده تائها بجثته بين الأراضي السورية التي صارت مقسمة بين الفصائل المتقاتلة والتي كانت تحول دون أن ينفذ الابن وصية والده في أن يدفنه في مكان معين. مع باسمة التكروري نكون أمام واجب الابن على والده وقد اصطدم بواقع الحاجز وعبر هذا المأزق ينطلق الراوي العليم في التوغل في حياة الابن وابيه وتاريخ الأسرة.
"استيقظ زياد ذلك الصباح وهو متأكد تماما من أن ما فعله في الليلة السابقة كان السبب. خرج بملابسه المبهدلة وملامحه المتعبة كمن لبسه جني، حين وصلته الأخبار. ماذا يعني موت والده لم يقترب منه ولم يعرف كيف يرتبط به من قبل. بل إنه طالما خجل به، وعاش حياته ينزع عنه أي شبه به. إلا أنه الابن الأكبر، ولا يمكنه التهرب من المسؤولية، خاصة فيما يتعلق بتفاصيل وإجراءات التسلم وترتيب التغسيل والدفن وخبر الجريدة، والاتصال بالمقبرة، والمقرئ واستئجار الكراسي وشراشف الميتم الحمراء والاتفاق مع المغسل، وإعلام إمام الجامع بوقت الميتم ليعلنه على السماعات وترتيب غداء الميتم، والقهوة، والتمر والكنافة الخشنة، ومهام تسلم أكياس السكر والبن والبيت الذي ستخزن فيه، كلها تفاصيل هجمت على رأسه كمطارق لا ترحم فجأة لحظة أغلق السماعة مع أمه". ص 8
يكتشف زياد أن العبء عليه مضاعفا، فزيادة على واجب تحمل المسؤولية وتسلم جثة الأب من رام الله، بصفته الابن البكر فإنه يجب أن يقوم بكل ذلك في وقت قياسي، فالميت يجب أن يدفن عقب صلاة الظهر، وعليه فإن كل تفاصيل الجنازة، والتغسيل، والإعلان، يجب أن تتم في وقت ماراثوني" ص 11 مع الأخذ بالاعتبار أن الجثة في رام الله وقد يتأخر الدفن لليوم الموالي.
تحملنا باسمة التكروري شيئا فشيئا عبر أفكار الشخصية إلى فداحة الموقف فليس الأمر سهلا أبدا وليست مجرد مهمة وواجب عائلي، إذ كانت الجثة في منطقة الحكم الذاتي في رام الله وعليها أن تدفن في القدس.
فـ"سيكون على زياد، أن يرتب لسيارة نقل الموتى، كي تنتظره على جهة القدس من حاجز قلنديا العسكري، وعليه بالتالي أن يقطع الحاجز بالجثة ويقنع الجنود بأن والده من القدس، ومن بعدها سيتعين عليه تصديق شهادة الوفاة من المحكمة الشرعية، وبعدها ما هو أصعب، أن يبقى مع جثة والده ليلة كاملة".
تنقل لنا الكاتبة فضاء الحاجز في كتابة مشهدية ترسخ عبرها بؤس الفضاء ووعورته من قبل الوصول إليه عندما نبه سائق الباص زياد أن عليه أن ينزل: "احنا على قلنديا، الباصات ممنوع تدخل، بدك تنزل تصف عالحاجز". ص16
إن هذا المشهد يضيف للحاجز سمة أخرى، أنه فضاء مسيج ومحظور على العربات، ليكون البشر في مواجهة مصيرهم التراجيدي المعتاد عبر طابور القيامة كما شبهه الراوي. ليتحول زياد عبر رحلة المشي في الطابور الذي لا يتحرك تقريبا، إلى خرقة بالية وجائعة.
ولم تكن الكاتبة لتكتفي بهذه التراجيديا الإنسانية، بل زادت في التنكيل بشخصيتها عندما جعلته ينتبه لحظة وصوله إلى الحاجز أنه نسي بطاقة هويته لدى رفاقه الذي كان قضى معهم ليلته الماجنة. ولم يكن من حل إلا العودة إلى القدس لكي يجلب معه البطاقة غير أن الجنود الإسرائيليين تنبهوا إليه فجروه إلى خلف الكشك "وأشبعوه ركلا في معدته ورأسه وكل أنحاء جسده" ص17. وكان ذلك العنف مضاعفا لأن الجنود خيل إليهم أنه شخص من رام الله تسلل إلى القدس فكالوا له الضرب بأعقاب البنادق والأحذية العسكرية في الرأس ومناطق حساسة. ولم ينجح زياد في الكلام إلا بعد وقت ليتأكدوا أنه صادق فألقوا به من جديد في الجانب الآخر من الحاجز.
في تلك اللحظات من الخيبة والحيرة كانت الكاتبة أمام فرصة جديدة لتعمق من تاريخ الشخصية عبر الغوص في ماضيها وتشكلاتها النفسية والفكرية، وهي مناسبة لتفشل الكاتبة أفق انتظار القارئ عندما تعلمنا أن هذه الشخصية ليست من تلك الشخصيات الفلسطينية الأيقونية التي رشح بها الأدب الفلسطيني إنما هذه شخصية عادية من الشوارع الخلفية للقدس وباب العامود، حيث طموحه ليس أكثر من أن يصبح أحد الشطار في مجتمع من المهمشين وضاربي الحشيش ورجل صاحب سلطة وسيطرة في فضاء يرشح بالجريمة. ولكن في طموحه رغم ذلك شيء من الفروسية الوراثية جعلته يحلم بامتلاك حصان أكثر من امتلاك وظيفة حكومية، طموح يليق بتاريخ عائلته التي ينحدر منها عائلة "أبو مخلب".
أزمة الأجيال المتعاقبةتكشف الكاتبة أننا مع جيلين من الفلسطينيين يشتركان في ذلك السقوط ضحايا، لتستند على معاناة الجدة "الرسن" في محاولاتها تربية أبنائها "وعزلهم عن الواقع الذي يحيط بهم" دون فائدة فقد كانوا "ضحية جيل سبق جيل الانتفاضة الأولى، في محيط مدينة القدس والبلدة القديمة على وجه الخصوص، في خضم مخطط استيطاني شامل طالما استهدف المدينة. وأخطر ما كان يرمي إليه هو تخريب أبنائها، وتسكين عقولهم بجرهم إلى السكر وإدمان المخدرات. وهي إذ تتشدد في تربية أحفادها، وتنفذ الأحكام العقابية، والهدايا التعزيزية بيدها وحدها، إنما كانت تحاول إصلاح ما يمكنها إصلاحه في ظل كل ذلك". ص 29.
في المستشفى يكتشف زياد استشهاد عمه الوطني فيكون أمام جثتين، جثة أب مستقيل غارق في المخدرات والشرب وعم مناضل، وكأن بالكاتبة تقول إن الموت يلاحق الجميع مثل الحاجز البشع.
هكذا تضيف الكاتبة مصادفة جديدة، فكل ما يحدث كان يحدث في ذلك اليوم المرعب الذي بدأ فيه اجتياح رام االله واكتشاف زيف معاهدة السلام، اتفاقية أوسلو، حيث اجتاحت المزنجرات رام الله يوم الثامن من مارس/آذار 2002 لإسقاط ياسر عرفات، مهندس اتفاقية السلام.
عبر تقنية التناوب بين الشخصيات تبني باسمة التكروري روايتها وتوزع أحداثها، فتحمل الفصول أسماء الشخصيات دون زيادة، وهذا يسهل عملية التلقي، لكن هذه التقنية التي عرفت منذ وليام فوكنر لصيقة بتعدد الأصوات حيث كل شخصية تروي بلسانها الأحداث، تقودها باسمة التكروري في هذه الرواية براو عليم يعلم كل شيء مثل إله سردي، يخترق العقول والذاكرة والمشاعر متجسسا على حركتها عبر الأزمنة المختلفة.
في إمكان قصة زياد وأبيه أن تشكل عالما روائيا كاملا لكن الكاتبة اختارت أن تثري هذا الفضاء بأصوات نسائية أخرى تعكس معاناة المرأة الفلسطينية في القدس وحياتها اليومية تحت الاحتلال، وهنا تظهر شذى ومنار وليكون الحاجز الفضاء الذي تلتقي فيه الشخصيات الثلاث، ليسترجعوا العلاقات التي جمعتهم في الطفولة والمدرسة وأسباب فراقهم. تسبب هذا الاختيار في تراخي السرد في القسم الثاني من الرواية قبل أن يستعيد نفسه مع المشهد الأخير مع الحاجز عندما تفتح البوابة ليستعيد كل شخص فردانيته ويركض وحيدا نحو البوابة. كان زياد عائدا بهوية عمه الذي استشهد في رمزية لاستمرار المقاومة واستمرار الصراع مع الحواجز.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الجامعات مع الحاجز رام الله یجب أن
إقرأ أيضاً:
عبور طائرة نتنياهو فوق دول أوروبية دون اعتقاله يثير الجدل
استنكر حقوقيون وناشطون عبور طائرة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فوق دول أوروبية، مثل فرنسا وكرواتيا وإيطاليا، دون تنفيذ مذكرة الاعتقال الصادرة من المحكمة الجنائية الدولية بحقّه بتهم ارتكاب جرائم حرب، وسط اتهامات بتواطؤ هذه الدول مع ممارسات الاحتلال ضد الفلسطينيين في غزة.
وكانت وكالة "سند"، التابعة لشبكة الجزيرة، قد رصدت إقلاع الطائرة الإسرائيلية الحكومية التي تقل نتنياهو، من العاصمة المجرية "بودابست" أمس الأحد نحو العاصمة الأميركية واشنطن، بحسب بيانات ملاحية من موقع "فلايت رادار" المتخصص في تتبع حركة الطائرات.
وعَبَرت الطائرة، من طراز "بوينغ 767" تحمل رقم التسجيل (4X-ISR)، المجال الجوي لكرواتيا وإيطاليا وفرنسا، وجميعها دول موقعة على "معاهدة روما"، وملزمة بموجب القانون الدولي بتنفيذ قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، الذي صدَر في نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
وتُعد تلك الدول الثلاث طرفا في المحكمة الجنائية الدولية، وموقعة على نظام روما الأساسي، وإذا لم تمتثل لقرار المحكمة، يمكن لها أن "تحيل المسألة إلى جمعية الدول الأطراف أو إلى مجلس الأمن إذا كان مجلس الأمن قد أحال المسألة إلى المحكمة"، بموجب المادة 87 من نظام روما.
إعلانيُذكر أن الطائرة الإسرائيلية التي تُقلّ نتنياهو كانت قد هبطت بالمجر في الثاني من أبريل/نيسان، في تحدٍ لقرار المحكمة الجنائية، مما دفع الحكومة المجرية لاحقا إلى إعلان انسحابها من اتفاقية روما، ورفضها تسليم نتنياهو.
وقال المدير التنفيذي لمنظمة العفو الدولية في أيرلندا "ستيفن بوين": إنه "لأمر مفجع أن نرى القادة الأوروبيين غافلين بدلا من تأمين اعتقاله، وبقدر ما تستطيع الدول رفض تصريح التحليق لنتنياهو، فيجب عليها أن تفعل ذلك. لا يمكننا السماح بأن تكون سماء أوروبا ملاذا آمنا للهاربين من العدالة الدولية".
1/4 Responding to reports that Prime Minister Netanyahu’s plane was about to leave Budapest, Stephen Bowen, Executive Director Amnesty Ireland noted: “This wanted man can not leave Hungary without travelling through the sovereign territory or airspace of many European countries.
— Amnesty Ireland (@AmnestyIreland) April 6, 2025
ودوّنت الكاتبة إل سي كريس تقول إن "نتنياهو سافر مباشرة من المجر إلى الولايات المتحدة لمقابلة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهذا مجرم حرب مطلوب دوليا، يسافر بحرية عبر معظم أنحاء العالم الغربي. يا له من عارٍ مُطلق".
There's no such thing as international law, it's a fiction never meant to apply to western nations and their clients. https://t.co/B8ocm6ZQ1Z
— Shrill by Mouth (@Iskesullas) April 7, 2025
وغرّد أحدهم: "لا يوجد شيء اسمه القانون الدولي، فهو مجرد خيال لم يتم وضعه لينطبق على الدول الغربية وعملائها".
واستذكر متابعون اضطرار طائرة رئيس بوليفيا للهبوط في النمسا عام 2013، بعد أن رفضت فرنسا والبرتغال فتح مجاليهما الجويين للطائرة، للاشتباه في أنها تحمل على متنها مسرب المعلومات الاستخباراتية الأميركي إدوارد سنودن.
إعلانوغرد أحدهم: "يبدو وقتا مناسبا للتذكير عندما أُجبرت طائرة إيفو موراليس على الهبوط في النمسا في عام 2013، لمجرد الاشتباه في إيوائها إدوارد سنودن".
وأفادت وسائل إعلام إسرائيلية بأن طائرة نتنياهو اتخذت مسارا زاد من طول الرحلة بنحو 400 كيلومتر في رحلتها من المجر لأميركا، لتجنب التحليق فوق الدول الأوروبية الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية التي قد تنفذ أمر المحكمة باعتقاله، مثل أيرلندا وآيسلندا وهولندا.
وبهذا الشأن، قال الكاتب والصحفي علي أبو نعمة: "نتنياهو لن يجرؤ على زيارة دول لا يستطيع ولا يُسمح له بالتحليق فوقها، رغم تواطؤ حكوماتها في مجازره الجماعية المستمرة، وتؤكد صحيفة هآرتس أنه تجنب التحليق فوق دول يخشى أن يُعتقل فيها، وهذا يعني أنه حصل على ضمانات من شريكيه في الإبادة الجماعية، إيمانويل ماكرون وجورجيا ميلوني، بأنه آمن ومرحب به في فرنسا وإيطاليا".