رحلة نحو نهضة مستدامة لتحرير العقل من عبودية الأفراد
تاريخ النشر: 9th, November 2024 GMT
د. الهادي عبدالله أبوضفآئر
في زخم الشعارات التي تملأ أفق السياسة وتغمر الأذهان بالكلمات الحماسية، يظهر بعضها وكأنه نشيدٌ يتردد في آذان الجماهير. (سِر سير يا البشير)، (شكراً حمدوك)، كلمات تختلط فيها المشاعر، وتعلو فيها الهتافات، لكن هل تساءلنا يوماً عن الأفكار التي تقف خلف هذه الأسماء؟ هل نحن حقاً معجبون بالأشخاص أم بتلك الأفكار التي يَحملونها، آملين ان تكون الحل الحقيقي لتغيير الواقع.
إن تقديس الأشخاص وتحويلهم إلى رموز غير قابلة للنقد هو السلاح الذي يدمر ما تبقى من ثقافة الحوار. حينما يصبح الشخص هو القضية، يتبدد النقاش وينحرف عن الهدف الأساسي، الذي يتمثل في تحقيق المصلحة العامة والبحث عن الحلول الجذرية للمشاكل. فكيف لنا أن نبني مجتمعاً يصون الكرامة الوجودية للإنسان، إذا كان تركيزنا كله على الأفراد وليس على الأفكار التي تضمن مستقبلاً أفضل للجميع. ان شخصنة الأفراد وتحويلهم إلى أساطير حية يبعدنا عن التفكير النقدي الذي يحتاجه أي مجتمع يتطلع إلى الرقي. لا تمتلك الأمة أي فرصة حقيقية للنهوض إذا انشغلت بالزعماء أكثر من انشغالها بالأفكار التي يحملونها. فالشخصيات تأتي وتذهب، لكن الأفكار الحقيقية هي التي تظل باقية، تصمد أمام الزمان والمكان، تتجاوز الأفراد، وتظل نوراً يضيء درب الأجيال القادمة. وفي خضم هذا التحدي، تكمن العظمة في قدرتنا على الانتصار للأفكار التي تُحيي المجتمعات وتُزهر الأوطان. الفكرة هي التي تتسلل إلى القلوب، تُلهب العقول، وتبني الجسور بين الحاضر والمستقبل. أما الأشخاص، فهم مجرد وسائل تحرك تلك الأفكار في أوقات معينة، ثم يغادرون. فما يبقى في النهاية (الفكرة) لأنها الأداة الحقيقية لبناء الحضارة واستدامة الأمل.
في عمق التاريخ، حيث تتناثر بذور المجد والحكمة، تَعي المجتمعات الطامحة نحو النهوض أن الأفكار العظيمة تظل خالدة تفوق الأشخاص، وأن القيادة ليست أكثر من أداة، ووسيلة لا غاية، لحمل الناس إلى آفاق التغيير والتطور. فما أجمل أن تحتفي الأمم بأفكارها النبيلة، تلك الأفكار التي تبقى حية، ترفرف فوق الأزمان والأشخاص، تزرع الأمل في قلوب الناس، وتشق دروب المستقبل دون أن تتأثر بتقلبات الأفراد أو عظمة اللحظات. لقد جاء القرآن الكريم ليؤكد هذه الحقيقة العميقة، بأن العظمة لا تكمن في الأشخاص، بل في الأفكار التي يحملونها. قال الله تعالى: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا۟ إِلَّا إِيَّاهُ)، في إشارة أبدية إلى أن العبادة لا تكون إلا لله، وأن تأليه المخلوقات هو مسلك خاطئ لا يليق بالإنسان. وأوضح أن الرسل، الذين هم أسمى البشر، ليسوا آلهة، بل بشرٌ مؤمنون جاؤوا برسالة هداية للناس، كما قال سبحانه: (مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ)، ليضع حداً لكل محاولات تقديس البشر أو رفعهم فوق مقامهم الحقيقي. وها هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي اختاره الله ليكون الرحمة المهداة للعالمين، يخاطبنا القرآن على لسانه قائلاً: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌۭ مِّثْلُكُمْ)، لتُشعل في قلوبنا شعلة من الفهم العميق، مفادها أن البشرية بأسرها سواسية، وأن النبوة رسالة عظيمة تحملها الأنبياء ليبشروا بها الناس. فالحكمة لا تكمن في الشخص الذي يحمل الفكرة، بل في الفكرة ذاتها، التي تضيء العقول وتغير المسار. إن قيمة الفكرة هي التي تُلهم، وتُحرك، وتُحفز العقول على التفكير والتطور، بينما يبقى حاملها مجرد وسيلة لنقل الحكمة.
في هذا السياق، يظهر القرآن الكريم موقفاً واضحاً ضد التقليد الأعمى، كاشفاً عن خطورة الجمود الفكري الذي يستمد قوته من ماضٍ متجذر، يحبس العقول ضمن حدود ضيقة. ويدعو الإنسان إلى النظر بعين الحاضر، إلى التأمل والتدبر، وإلى تجاوز النظرة السطحية، مستفيداً من أدوات المعرفة المتاحة في كل زمان ومكان. فالقرآن لا يشجع السير خلف التقاليد لمجرد كونها موروثة أو لكونها عُرفاً اعتاده السابقون، بل يحث على التفكير والنظر بحكمة لخلق خارطة إدراكية واعية، حتى لا يكون الحكم بعيداً عن واقع الحياة وحاجات الإنسان المتجددة يقول الله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا۟ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُوا۟ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ)، في توجيهٍ عميق إلى أن العقل هو الدليل الأمين نحو الحقيقة، وأن الاتباع يجب أن يكون محكوماً بالعقل والعدل، لا بالعادات التي لا تُمحص. يعتبر العقل السراج الذي ينير لنا الطريق، والميزان الذي نزن به الأفكار والآراء. تتجسد في هذه الآية معانٍ راقية، تذكرنا أن الأفكار السامية هي التي تصنع المجد، وأن الأفراد ليسوا إلا رسلاً لهذه الأفكار. فالمجتمعات التي تتبنى مبادئ العقل والعدل تؤسس حضارات متينة على قواعد راسخة. وتظل الأفكار الكبرى هي المشعل الذي يوقد جذوة المعرفة، تتناقلها الأجيال، لتمدنا بنور يهدينا في بحر الحياة الواسع لكي نعبر بأمان إلى شاطئ الحقيقة.
يكمن الفرق الأساسي بين التفكير العاطفي والعقلاني في قدرتنا على التمييز بين ما يخدم مصلحة المجتمع ككل بعيداً عن التحيزات الشخصية. فالتفكير العاطفي غالباً ما يُحصّن الأفراد من النقد، مما يعزز السلطة على أسس من الولاءات الخاصة ويهمش المصلحة العامة، فيصبح القادة رموزاً لا تُساءل، ويغدو المجتمع رهينةً للأفراد بدلاً من المبادئ. أما التفكير العقلاني، فيمنحنا القدرة على تقييم الأفعال بناءً على نتائجها ومدى توافقها مع أهداف التقدم. هذا النوع من التفكير يرتكز على مبادئ تفيد الجميع، موجهاً الكل نحو أهداف مشتركة، حيث يتحول الولاء من الأشخاص إلى الأفكار، وهو ما يبني مجتمعاً أكثر استدامة.
أن الرسالة الإلهية تدعونا إلى الإيمان بالمبادئ وتجنب تقديس الأفراد، و أهمية التركيز على القيم والأفكار. فالمجتمعات التي تختار بناء نهضتها على أساس الأفكار الراسخة، لا الأشخاص، تمتلك بوصلة حقيقية نحو التقدم. فالأفراد عابري سبيل، يظهرون في حياتنا، يتركون أثراً ثم يمضون، كنسائم الفجر التي تأتي سريعاً لتغمر الكون بدفء عابر. لكن الأفكار والمبادئ هي الشمس التي لا تغيب، تظل مشتعلة في سماء الذاكرة، تورثها الأجيال لتبقى حاضرة، تتوهج عبر الزمن، وتلهم القلوب والعقول. إنها المرشد الثابت، الذي يهدي المجتمعات نحو آفاق أسمى.
abudafair@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الأفکار التی هی التی ت
إقرأ أيضاً:
شبكات صغيرة هجينة توفر طاقة مستدامة للمجتمعات النائية
أبوظبي: عبد الرحمن سعيد
طوّر فريق بحثي من جامعة خليفة للعلوم والتكنولوجيا في أبوظبي، نظاماً مبتكراً لإدارة الطاقة يسهم في تحسين الشبكات الصغيرة الهجينة وتحقيق التوازن بين مصادر الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والديزل، وذلك لإتاحتها على نحوٍ أكثر موثوقية واستدامة وكفاءة من حيث التكلفة، حيث يعتمد أكثر من 4000 مجتمع ناءٍ في كافّة أنحاء العالم على مولدات الديزل لتلبية احتياجاتهم من الكهرباء، ويشكّل الاعتماد على الديزل ضغطاً على الموارد المالية لتلك المجتمعات وعلى البيئة نتيجةً لارتفاع نسبة الانبعاثات التي تحدّ من التنمية المستدامة في المناطق المعزولة.
ضم الفريق البحثي كلاً من: الدكتور أحمد الدُرّة والدكتور طارق الفولي والدكتور إيهاب السعدني، من جامعة خليفة وعادل مرابط، مع سوجوي باروا من جامعة سانت ماري في كندا، وركزوا على طريقة جديدة لتحسين الشبكات، تسمى خوارزمية ليفي الحسابية، وتعتمد على تقنيات التحسين الحسابية التقليدية من خلال تعزيز القدرات البحثية وتجنب الأخطاء الشائعة في عملية التحسين، ما يتيح حلاً فعالاً لإدارة المصادر المتعددة للطاقة داخل شبكة صغيرة، خاصة في ظل الظروف الصعبة السائدة في المجتمعات النائية، ونشر الفريق النتائج التي توصّل إليها في المجلة العلمية «أبلايد إنيرجي» المُصنّفة ضمن أفضل 1% من المجلات العلمية.
خوارزمية ليفي
أوضح الفريق البحثي، أن نموذج الشبكة الصغيرة الهجينة يدمج الألواح الشمسية الكهروضوئية وأجهزة توليد طاقة الرياح ومجموعة المولدات التي تعمل بالديزل لتلبية متطلبات الطاقة في المناطق النائية، حيث تُسهم خوارزمية ليفي الحسابية في تحسين استخدام الطاقة من خلال إعطاء الأولوية لمصادر الطاقة المتجددة كلما كانت متاحة، ما يُقلّل الاعتماد على مولدات الديزل، وتعد هذه الطريقة كافية لخفض تكاليف الطاقة وتقليل الانبعاثات بشكل ملحوظ بنسبة تصل إلى 10% مقارنة بالشبكات الصغيرة التي تعتمد على الديزل فحسب.
وقال د. إيهاب السعدني: «يستلزم نقل الوقود وتخزينه في المناطق النائية غالباً تكاليف وتعقيدات لوجستية إضافية، الأمر الذي يؤدي لتفاقم الأعباء البيئية والمالية التي قد تتكبدها هذه المجتمعات، وهو ما يؤكد بصفة خاصة على أهمية تقليل الاعتماد على الديزل».
وأضاف: «تكمن أبرز مميزات النموذج في قدرة خوارزمية ليفي الحسابية على تقليل التكلفة والانبعاثات عند اتّخاذ القرارات المتعلّقة بنقل الطاقة، فقد ركّزت الاستراتيجيات الاقتصادية التقليدية لتوزيع الأحمال بالأساس على تحقيق التوازن بين كميات الطاقة المتطلبة والتكاليف، مع إهمال تأثير الانبعاثات الناتجة عن توليد الطاقة من الديزل، في حين يُقيّم نظام الفريق البحثي العقوبات والتكاليف الاقتصادية الناتجة عن الانبعاثات، ما يؤدي للحصول على حل أكثر أمنًا على البيئة وأكثر كفاءة من حيث التكلفة بإدارة مواعيد ونطاق استخدام المولدات بناءً على التوافر المتوقع للطاقة المتجددة».
الشبكات الصغيرة
تابع د. إيهاب السعدني: «تؤكّد نتائجنا على الدور الذي تلعبه الشبكات الصغيرة الهجينة المحسنة كحل قابل للتطوير والتطبيق في المجتمعات النائية والمحرومة، حيث يعمل النموذج على تعزيز المرونة والتخفيف من حدة الآثار البيئية لتوليد الطاقة وتحسين القدرة على التزود بطاقة مستقرة».
ويخطط الفريق البحثي لمواصلة تحسين النظام لتنفيذه على أرض الواقع مع التركيز على الدمج بين حلول شحن المركبات الكهربائية وتخزين الطاقة الكهربائية على نحو يمكن أن يوفر طاقة احتياطية قيّمة أثناء فترات انخفاض إنتاجية مصادر الطاقة المتجددة، كما يمكن لتقنيات الإدارة المتقدّمة لاستهلاك الطاقة الكهربائية ضمن إطار عمل خوارزمية ليفي الحسابية أن تمكّن النظام من توقع تغيرات الطلب بفعالية أكبر، ما يؤدي إلى تحسين استخدام الطاقة على مدار دورات أطول.