المستبدّ الجاهل: هديّة أمريكا إلى العلوم السياسية!
تاريخ النشر: 9th, November 2024 GMT
مثل طفل حائر خائف ماض إلى مصيره سيرا إلى الخلف، يستدبر غده بدل أن يستقبله، فعلت الديمقراطية الأمريكية (ثانية) بنفسها ما يفعل العدو بعدوه، فأسلمت أمرها إلى المستبد. لا «المستبد العادل» (نموذج التاريخ الشرقي القديم) بل المستبد الجاهل! ولا «المستبد المستنير» (نموذج التاريخ الأوروبي الحديث) بل المستبد المستدير بظهره لأبسط مبادئ العقل وأصول اللياقة.
مستبد الشر المستطير الذي لن يكون ثمة هذه المرة (على عكس ولايته الأولى) ما يكبح جماحه ويخفف من غلوائه. فقد تخلص ترامب من جميع المساعدين والموظفين القادمين من صلب المؤسسات واستعاض عنهم بمن يضارعونه شذوذا ذهنيا وغرائبيّة سياسية.
والملمح الذي عادة ما يغيب عن النظر العام هو أن الشخصية الاستبدادية، بأعراضها ورذائلها المرضيّة، ليست اختصاصا حصريا للأنظمة غير الديمقراطية. فقد كتبنا هنا قبل سنوات أن ثمة بين الساسة الغربيين من هو مصاب بكل أمراض الشخصية الاستبدادية، ولكن ما يمنعه من تفتيق مواهبه والانسياق لشيطان نزواته هو أن سوء الحظ أوقعه في بلاد رسخت فيها الديمقراطية الليبرالية فلم تعد تطيق أن تسلم أمرها إلا لسلطان القانون. وقلنا آنذاك إنه لو أتيح لبرسلكوني أو ساركوزي، مثلا، أن يحكما دولة إفريقية أو آسيوية لنافسا بوكاسا في غرائب التنكيل والتعذيب ولكان عدد ضحاياهما بعشرات الألوف.
ولكن هذا كله كان قبل أن تتحفنا الديمقراطية الأمريكية العليلة المقعدة المشرفة على الهلاك بشخصية، كاريكاتورية ودكتاتورية في الوقت ذاته، اسمها دونالد ترامب. إذ ما أن هاجر هذا المهرّج الرديء من تلفزيون الواقع (الذي كان يرقص فيه بثياب صفر مع دجاجات صفر!) إلى دنيا التنافس على حكم أكبر قوة عظمى في التاريخ، بأسا عسكريا وثراء ماديا، حتى اكتشفنا أنه أيّا كانت رحابة تصوراتنا وتوقعاتنا وسعة خيالنا، نحن البشر، فإن الواقع أوسع منا خيالا، وأمضى مكرا، بما لا يقاس.
ولم يعد في الوسع إحصاء الأقوال التي عبر فيها ترامب عن إعجابه بالطغاة من أمثال الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ والكوري الشمالي كيم جونغ أون، أو عن عدم ممانعته في قتل الصحافيين، أو توعده بإغلاق بعض قنوات التلفزة، أو تهديده بالانتقام من جميع أهل الإدارة والأمن والقضاء الذين لم يؤيدوه في زعمه الفوز بانتخابات 2020 أو الذين حققوا في قضايا الفساد الكثيرة المرفوعة ضده والتي أدت حتى الآن إلى إدانته بأربع وثلاثين تهمة جنائية، أو تحسره على أنه عديم الحظ مقارنة بهتلر (!) الذي كان له «مساعدون منضبطون متفانون في خدمته» أو مناشدته المتدينين المسيحيين أن يبذلوا جهدا ويقبلوا على مراكز الاقتراع ليصوتوا له، واعدا إياهم أن هذه ستكون المرة الأخيرة، ولن يكون عليهم أن يتجشموا عناء التصويت مجددا!
لكن حتى قبل أن يأخذ ترامب في إطلاق هذا السيل العرِم من الأقوال التبريرية للاستبداد، تنبأ المفكر السياسي اليميني (والعراب الأيديولوجي لجورج بوش) روبرت كيغان بأن الانتخابات ستسفر عن دكتاتورية ترامبية مكتملة المعالم، حيث كتب في نوفمبر 2023 أن الطريق الأمريكية إلى الدكتاتورية قد صارت سالكة لأن ترامب هو المستفيد الوحيد من اشمئزاز الجمهور من انسدادات النظام الأمريكي، ولأن الجمهور يصدق أن الحل عند ترامب. وما هو الحل؟
إنه ترامب ذاته! مجرد شخصه وحضوره كاف لطمأنتهم بأن الحال ستنصلح ومستوى المعيشة سيرتفع وأمريكا ستعود سيرتها الأولى قوية ثرية عظيمة. وتنبأ كيغان أن ترامب سيجتمع له من السلطات هذه المرة ما لم يتسن له المرة الأولى، بل وما لم يتسن لأي رئيس قبله. ثم سأل: «ما الذي يحد هذه السلطات؟ الجواب البديهي هو مؤسسات القضاء. ولكن مجرد فوز ترامب يعني تحديه لها جميعا وفضحه مدى عجزها. إذ إن المحاكم التي لم تستطع التحكم فيه لما كان مواطنا عاديا لن تستطيع بالأحرى التحكم فيه بعد أن يصير رئيسا يعين وزيرا للعدل على هواه. فلتتصوروا مدى قوة رجل يفوز بالرئاسة رغم المثول في المحاكم ورغم أحكام الإدانة»!
الحقيقة البيّنة إذن هي أن الاستبدادية ليست بعرض طارئ في الرجل، بل إنها طبع راسخ. إذ إن أبا جهل الأمريكي ثابت ومقيم في ضلاله القديم. ولكن الضلال سيتجدد، متعاليا متعاظما، بتجدُّد رئاسة ستكون نقمة على أغلب البشر، بدليل تبجّحه بأنه «بطل الرسوم الجمركية» بعد أن قضت الحكمة الترامبية بأن «الحروب التجارية أمر حسن»!
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه ترامب الاستبدادية الولايات المتحدة الاستبداد الإنتخابات الأمريكية ترامب مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة رياضة صحافة سياسة سياسة عالم الفن سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
أمنية رجل مريض (2)
د. إبراهيم بن سالم السيابي
أعود هذه المرة إلى المستشفى وأنا مثقل الخُطى، حتى جدران المستشفى وممراته اكتست رأيتها مكتسية بلون قاتم السواد، وأنا الذي كنت أظنها طول هذه السنين مطلية بطلاء شديد البياض، حتى الجدران في الممرات بدت خالية لا توجد عليها تلك الأوراق المعلقة في الحائط؛ بما فيها من تعليمات وإرشادات، وكأنَّ الريح قد اقتلعت تلك الأورق في يوم عاصف.
في ذلك الهدوء، الحراس كأنهم تركوا أماكنهم عند أبواب الحراسة، رغم أن وقت الزيارة لم يحن بعد، والأطباء والكوادر المساعدة من ممرضين وفنيين ومساعدين بدوا وكأنهم يتهامسون على غير العادة وهم بتلك المعاطف، التي بدت هذه المرة أكثر قتامة عن أيام كثيرة، بالرغم مما علق بها من رائحة المحاليل والأدوية التي تزكم الأنوف.
عندما وصلت إلى غرفته لم تكن نفس الغرفة التي تركته فيها في آخر زيارة؛ فالصمت يُخيِّم على المكان، وكأن من في هذه الغرفة لا يعرف الليل من النهار، وكأن عقارب الساعة قد توقفت منذ مدة، أو أن حركة دوران الأرض حول الشمس قد تغيّرت. في الطريق كنت أُمنِّي النفس بمثل تلك الزيارة، وضحكاته تملأ المكان، بأن يعود ليُحدِّثُني عن الذكريات، عن المواقف، عن تلك السنين التي مرّت في اللعب والجد والهزل، لكن مع الأسف هذه المرة قد كان غارقًا في نوم عميق، ولم يعد قادرًا ليُحدِّثُني عن الأحلام وعن الذكريات وعن الطفولة أو عن أيام الصبا والشباب وعن البيت والأسرة والأصدقاء وعن المواقف التي جمعتنا في السفر ولا حتى عن رحلته إلى المدينة وإلى زمزم وإلى البيت العتيق.
توجَّهت إلى أصحاب المعطف الأبيض، عرِف ما أريد وأخذ يبحث في حاسوبه في كل صفحة لعله يجد شيئًا بين السطور، قرأت من وجهه العابس فأشفقت عليه من عبء الاعتذار؛ فلسان حاله يقول إنه لم تعد تجدي مع صاحبك المسجى على السرير تلك العقاقير التي تملأ مخازن الأدوية، ولا تلك المحاليل بمختلف الألون أو حتى مشارط الجراحين ذات الأحجام المختلفة؛ فالشمس قد قاربت على المغيب.. شكرته وانصرفت. ثم عُدتُ مرة أخرى إلى الغرفة، لم أقوْ على البقاء، فنظرت إليه في السرير المسجى عليه، نظرة أخيرة، وكانت كافية، وقفلت راجعًا من حيث أتيت.
وأنا أهمُّ بالخروج من القسم، سمعتُ صرخة أحدهم قد فقد عزيزًا وفي الجانب الآخر في قسم قريب من المكان سمعت صرخة أخرى لطفل يأتي إلى هذه الدنيا؛ فسبحان الله عندما يُولد الإنسان في هذه الدنيا تسمع صراخه يبعث الأمل والفرح، وعندما يودع هذه الدنيا تسمع صراخ أحدهم عليه من الألم والفقد.
وعند خروجي من المستشفى هائمًا لكي أعود من حيث أتيت مثقلًا بالحزن هذه المرة، وأنا الذي قضيت في هذا المستشفى عدة سنين لم يعكر صفوها إلّا الرحيل إلى درب آخر وحلم آخر. عندما خرجت من المبنى كنت أتأمل الشمس وأتوسل إليها، لكي لا تغيب؛ فالليل أخاف أن يكون مُظلمًا عندما يغيب عنه القمر!
وأخذت أحدِّث نفسي، أترحلُ عنَّا دون حتى وداعٍ وتتركني مع قراطيسي وأقلامي وصوري ورسائلي وذكريات لا تحصى ولا تعد.. أترحلُ وتترك كل هذا الأحلام والجري والركض نحو الأمل، فكيف تستسلم وأنت دائمًا من علَّمنا بألا نعرف الياس أو الاستسلام، أم أن ذلك الذي يشغلك ويثقل صدرك والذي لم تشارك فيه أحدًا حتى أنفاسك، قد غلبك، فقررت الرحيل عن أحبتك ورفاقك؟ كيف لهذا القلب العامر بالحب والفرح، والروح العامرة بالألفة بالطيب والتسامح أن يتعطل في تلك الغرفة مع بعض الأجهزة والمحاليل؟
وماذا عن حبيبتك؟ ألم تطلب مني في آخر زيارة أن أكتب لها؟ ماذا عساني أن أكتب لها هذه المرة، فأنا أعرف أنك تريدني أن أكتب لها لكي تقرأ أنك أحببتها حتى قبل أن يُعرف الحب في هذه البسيطة وقبل أن يكتب الشعراء قصائد الحب والغزل أو تُلقى في سوق عكاظ! وأنك قد شغفتها حبًا خالصًا من داخل أعماقك، وكان حبها يزيد مع الأيام طول هذه السنين رغم البُعد والاستحالة، وأنك وُلِدَت في هذه الدنيا فقط لكي تحبها وأن هذا الحب لا يعرف المكان ولا الزمان؛ فهو حبٌ وُلِدَ ليبقى، حتى لو فارقت الروح الجسد.
أتذكر عندما قلت لي إن من تحبها هي نبضات قلبك الذي يتسارع بمجرد أن تذكر اسمها بينك وبين نفسك، وإن كنت ترى الأشياء في هذا العالم بشكل مختلف ويصبح كل شيء أجمل من خلال عينيها، وأن حبها هو الذي يضيء قلبك وسط عتمة الحياة، تمامًا كما يضيء القمر ليل السماء.
كيف لك أن تترك وتُوَدِّعُ كل هذا؟ من سيلهمني الشعر ونظم القصائد؟ من سيعلمني الكتابة عن الحب، فأنت من يقول إن قلمي وحده من يقرأ الخبر في قلبك قبل أن تتحدث؟! أم أن الألمَ دليلُ الحياة، وذوو المعاطف البيضاء قد يعودون ويُغيِّرُون آراءهم وأن المعجزات من الله لن تغيب، حتى لو غَيَّب الموت الرسل!