لماذا يرحب اليمين الشعبوي في أوروبا بعودة ترامب؟
تاريخ النشر: 8th, November 2024 GMT
لا يبدو أن فيكتور أوربان رئيس الوزراء المجري، وحده من يرحب بعودة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب في البيت الأبيض.
فبحسب تقرير لأندرو هيغينز في صحيفة "نيويورك تايمز" فإن العديد من السياسيين اليمينيين الأوروبيين، يرحبون بعودة رئيس أمريكي يشاطرهم وجهات نظرهم الصارمة بشأن قضايا مثل الهجرة.
وفق التقرير، فعلى مدى أشهر، ضخت أجهزة الإعلام في المجر قصصاً تمجد دونالد ترامب وتسخر من كامالا هاريس، والتي وصفها أحد العناوين بأنها "غير سارة للغاية".
وفي أكتوبر (تشرين الأول)، تعهد زعيم البلاد بالاحتفال الصاخب إذا عاد ترامب.
وبعد ذلك، بينما كان الناخبون الأمريكيون يتوجهون إلى صناديق الاقتراع، تجمع العشرات من أنصاره لحضور حفل احتفالي في بودابست قبل حتى إعلان النتائج.
ولم يراهن أي زعيم أجنبي بشكل كبير أو علني على فوز ترامب مثلما فعل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان.
وباعتباره من أشد المعجبين بالرئيس الأمريكي المنتخب، استقبل أوربان نتائج الانتخابات بفرح غامر.
وفي مؤتمر صحفي عقده يوم الخميس، قال أوربان إنه "لم يف إلا جزئياً بوعده" بشأن الاحتفال، فقد كان في قرغيزستان عندما ظهرت النتيجة.
"The Americans will quit this war."
Prime Minister of Hungary Viktor Orban says the US will stop support for Ukraine following Donald Trump's win in the election. pic.twitter.com/fTfh0Tl45u
وقال لمتابعيه على "إكس" إنه تحدث بالفعل مع الرئيس المنتخب، مضيفاً: "لدينا خطط كبيرة".
تفاؤل يمينيبالنسبة لأوربان والسياسيين الأوروبيين الشعبويين من ذوي التفكير المماثل في ألمانيا وهولندا وصربيا وأماكن أخرى، لم تُعِد انتخابات هذا الأسبوع فقط مؤمناً بسياسات الهجرة الصارمة إلى البيت الأبيض، لكنها أرسلت رسالة إلى دوائرهم الانتخابية مفادها أن التاريخ يتحرك في اتجاههم وأن المنافسين السياسيين الذين يلعنونهم باعتبارهم نخبويين مستيقظين ومنفصلين عن الواقع في حالة فرار.
وقال الدبلوماسي المجري السابق زسومبور زيلولد: "من الناحية السياسية، هذا فوز كبير لأوربان، لقد راهن وفاز".
وعلى نطاق أوسع، كما قال، فإن انتخاب ترامب "يضع بالتأكيد الرياح في أشرعة اليمين الشعبوي في أوروبا".
وأضاف أن من بين الأطراف التي من المرجح أن تحصل على دفعة هي الأحزاب الأوروبية التابعة لمؤتمر العمل السياسي المحافظ، وهي منظمة أمريكية مؤيدة لترامب تعقد تجمعاً سنوياً في بودابست.
وقد نجحت المجموعة في تنمية علاقات وثيقة مع سياسيين أوروبيين مثل خيرت فيلدرز، زعيم اليمين المتطرف الهولندي الذي فاز بأكبر عدد من الأصوات في انتخابات العام الماضي.
وقال المدير الإداري لصحيفة "ماجيار هانغ" تشابا لوكاكس، وهي مؤسسة إعلامية محافظة تنتقد حزب فيدس الحاكم في المجر، والذي دعمه لوكاكس لسنوات عديدة لكنه انقلب عليه بسبب ما يعتبره عدم تسامح أوربان مع النقد والتسامح مع الفساد المستشري: "نجاح ترامب يشكل تشجيعاً وتعزيزاً للقوى الشعبوية في العالم".
وأوضح لوكاكس أن أوربان، المتعطش للنجاح بعد سلسلة من النكسات المحلية والخارجية، كان بحاجة إلى فوز ترامب.
وأضاف: "إنه قادر على استغلال هذا الأمر وسيفعل ذلك في الأمد القريب".
"زعيم عظيم"ووصف ترامب أوربان، الذي يتهمه المنتقدون بإسكات وسائل الإعلام والإشراف على نظام واسع النطاق من سياسات المحسوبية، بأنه "زعيم عظيم للغاية، ورجل قوي للغاية"، يكرهه البعض فقط "لأنه قوي للغاية".
وترتبط العديد من الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا بعلاقات معقدة مع الولايات المتحدة، التي يراها البعض قوة مهيمنة متغطرسة تروج لقيم تتعارض مع قيمهم.
???????? 94% of the votes have been counted and the PVV is now looking no longer looking at 35, but at 37 seats!
This is unprecedented.
1 in 4 Dutch people voted for the so-called “far right”.
A true landslide victory. Congrats @geertwilderspvv. pic.twitter.com/MQLcGsLNsF
على سبيل المثال، هناك تيارات عميقة من معاداة أمريكا في حزب التجمع الوطني بزعامة مارين لوبان في فرنسا وحزب البديل من أجل ألمانيا، لكنهم هللوا لاحتمال عودة ترامب إلى السلطة.
وسارعت زعيمة حزب البديل من أجل ألمانيا، أليس فايدل، إلى الإعلان عن تضامنها مع ترامب يوم الأربعاء، قائلة: "إنه بالطبع نموذج لنا".
وصرحت لإذاعة دويتشلاند فونك أن شعاره "جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى" لا يختلف عن برنامج حزبها "جعل ألمانيا عظيمة"، لأننا "نحن في حزب البديل من أجل ألمانيا ندافع عن المصالح الوطنية وعن شعب ألمانيا".
وفي يوم الأربعاء، رحب فيلدرز والرئيس الصربي ألكسندر فوسيتش، وهو زعيم قوي اتهم في الماضي وزارة الخارجية الأمريكية بالعمل على الإطاحة به، بفوز ترامب بحماس.
وعندما تولت المجر الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي لمدة 6 أشهر في يوليو (تموز)، أثارت الفزع بتقليدها ترامب وتبني شعار "جعل أوروبا عظيمة مرة أخرى".
ولكن ما زال من غير الواضح إلى أي مدى يمكن نقل ترامبية إلى أوروبا، بما يتجاوز الشعارات التي تشبه شعار "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى".
ولكن أسلوبها، ومضمونها فيما يتصل بقضايا مثل الهجرة، قد ترسخا بالفعل.
ويرجع هذا جزئياً إلى أوربان، الذي أثار تصميمه على منع المهاجرين من الدخول من خلال تشييد أسوار عالية تحرسها قوات أمن وحشية في بعض الأحيان إدانة واسعة النطاق خلال أزمة الهجرة في أوروبا عام 2015.
Western countries can no longer afford to integrate Ukraine into NATO, Hungary’s Prime Minister Viktor Orban said in an interview with Tucker Carlson:https://t.co/NuEhT9KhQP pic.twitter.com/6alAxSECjF
— TASS (@tassagency_en) August 30, 2023لكن النمسا وإيطاليا وسلوفاكيا والعديد من البلدان الأخرى قلدت منذ ذلك الحين موقفه الصارم بشأن هذه القضية.
وفي إيطاليا، كانت رئيسة الوزراء اليمينية جورجيا ميلوني تربطها علاقات طويلة الأمد بمعسكر ترامب، وأشادت به.
كما دعا حزبها، الذي يعود بجذوره إلى الجماعات الفاشية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، إلى اتخاذ تدابير مثيرة للجدل للسيطرة على الهجرة، بما في ذلك خطة تعطلها المحاكم الإيطالية لإرسال طالبي اللجوء المحتملين إلى معسكرات الاعتقال في ألبانيا.
وفي يوم الأربعاء، قالت ميلوني إنها تحدثت إلى ترامب عبر الهاتف وهنأته.
وفي اليوم التالي، نشرت رسالة على موقع "إكس" تقول فيها إنها هنأت أيضاً إيلون ماسك، الملياردير المؤيد لترامب والذي أشارت إليه باعتباره "صديقاً".
اختلافاتفي حين يتحد اليمين القومي في أوروبا في إعجابه بمعارضة ترامب للهجرة وازدرائه لاتفاقيات المؤسسة، إلا أن هناك أيضاً اختلافات، فالدعم القوي الذي تقدمه ميلوني لحلف شمال الأطلسي ومساعداته لأوكرانيا ضد روسيا قد يضعها في خلاف مع التيارات المتشككة في أوكرانيا من حركة "جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى".
ولا تتشاطر المجر ولا صربيا مع آراء ترامب المتشددة بشأن الصين، التي تبنتها كل منهما كشريك اقتصادي لا غنى عنه.
مسؤول أمريكي سابق: حرب الرسوم الجمركية مع الصين قادمة - موقع 24رجّح وزير الخزانة الأمريكي السابق ستيفن منوتشين الخميس أن يعود الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب إلى قضية الرسوم الجمركية في المفاوضات مع الصين، إضافة إلى النظر في إجراء تخفيضات ضريبية وفرض عقوبات جديدة.وقال جيرجلي سزيلفاي، الكاتب في صحيفة ماندينر، وهي جزء من جهاز إعلامي تسيطر عليه حزب فيدس الذي يتزعمه أوربان: "يمكن أن تكون الصين مصدراً للتوتر"، مضيفاً: "لكن يمكن التعامل مع الصين، لأن هناك صداقة وتوافقاً أيديولوجياً وثيقاً".
وجاءت الانتخابات الأمريكية في وقت صعب بالنسبة لأوربان. فقد انزلق الاقتصاد المجري إلى الركود للمرة الثانية في ثلاث سنوات، ويواجه حزب فيدس تحدياً من حزب سياسي معارض ناشئ.
ويرى محللون أن أوربان كان يعتمد على فوز ترامب لإظهار أنه والمجر ليسا معزولين.
وقال زيلولد، الدبلوماسي السابق، "إن الأمر كله يدور حول تصوير رئيس وزرائنا كشخصية مؤثرة على الساحة العالمية".
وعمل أوربان لسنوات عديدة، بنتائج متباينة، لتثبيت نفسه باعتباره حامل لواء حركة أوروبية شاملة ملتزمة بحماية السيادة الوطنية من خلال فرض ضوابط حدودية صارمة ومقاومة ما يراه تدخلاً من جانب مسؤولي الاتحاد الأوروبي.
No foreign leader gambled so heavily or publicly on a Trump victory as Prime Minister Viktor Orban of Hungary. A fervent fan of the U.S. president-elect, Orban has greeted the election results with unrestrained glee. https://t.co/nK6sIM25f0
— The New York Times (@nytimes) November 8, 2024وكان يأمل في تحقيق هذا الهدف في يونيو (حزيران) عندما انتخبت المجر و26 دولة أخرى أعضاء في الاتحاد الأوروبي برلماناً أوروبياً جديداً.
ولكن تنبؤاته بأنه وحلفاؤه سوف "يستولون على بروكسل" باءت بالفشل، الأمر الذي ترك الساسة السائدين في السلطة.
وفي الأسبوع الماضي، أرسل أوربان مستشاره السياسي، بالاز أوربان - لا تربطه به أي صلة قرابة - إلى أريزونا لحضور تجمع انتخابي لترامب مع تاكر كارلسون، مقدم البرامج السابق في قناة فوكس نيوز.
مقامرة متهورةفي يوم الأربعاء، انتقد السفير الأمريكي في المجر ديفيد بريسمان، وهو المعين من قبل إدارة بايدن، نهج أوربان القائم على الرهان على ترامب ووصفه بأنه "مقامرة متهورة على انتخابات كان من الممكن أن تذهب في أي اتجاه".
وأضاف، أن "حكومة المجر ربما ربحت رهانها على ترامب، لكن "الحكومة المجرية تعاني من مشكلة المقامرة" التي تقوض ثقة حلفائها في حلف شمال الأطلسي، وهو تحالف من الدول وليس الأحزاب السياسية. "سواء ربحت أو خسرت، فإن الأمر له ثمن".
وأكد تاماس ماجياريكس، الأستاذ بجامعة إيتفوس لوراند في بودابست والمدير السابق لقسم أمريكا الشمالية بوزارة الخارجية المجرية، إن أوربان يعتبر أن السياسة الخارجية الأمريكية في ظل الرؤساء الجمهوريين تميل إلى أن تكون أقل تدخلاً، و"يعتقد أن الديمقراطيين يريدون تدمير حكومته".
لكن ماجياريكس أضاف أن أوربان ربما بالغ في تقدير اهتمام الجمهوريين بالمجر ودعمهم لها.
وتابع، أن "عدد سكان الولايات المتحدة يبلغ 350 مليون نسمة. أما المجر فهي دولة لا يتجاوز عدد سكانها 10 ملايين نسمة وتقع في وسط أوروبا ـ ولا تتمتع بأي نفوذ استراتيجي على الإطلاق".
وقد اعترف أوربان نفسه يوم الخميس بأن "الحجم مهم"، قائلاً إن الرئيس المنتخب "لديه أشياء أكبر من التعامل مع معاناة المجريين".
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: عودة ترامب عودة ترامب عام على حرب غزة إيران وإسرائيل إسرائيل وحزب الله الانتخابات الأمريكية غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية دونالد ترامب فيكتور أوربان أوروبا عودة ترامب أوروبا كامالا هاريس فيكتور أوربان یوم الأربعاء فوز ترامب فی أوروبا
إقرأ أيضاً:
لماذا يفزع قادة أوروبا من فوز ترامب؟
انتهت ليلة فرز الأصوات بنبأ مزعج جدًا لقادة أوروبا؛ أو لبعضهم على وجه التحديد. فالمؤشِّرات القادمة من ضفّة الأطلسي الغربية، فرضت هواجس عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض حقيقة مرئية لا مناص منها، مع كلّ ما يعنيه ذلك بالنسبة للقارّة الملحقة بالقيادة الأميركية في زمن الاستقطاب الدولي.
حدث ذلك من قبل تقريبًا، عندما فاجأ فوز ترامب بولايته الأولى (نوفمبر/ تشرين الثاني 2016) جوقة صانعي القرار وراسمي الإستراتيجيات عبر أوروبا، بعد أن منحت استطلاعات الرأي، وقتها أفضلية لمنافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون. مثّل الرئيس الجمهوري المغامر والمتغطرس يومها تحدِّيًا لأوروبا التي كانت على وشك تجريب طريقته الغريبة في الحكم وإدارة العلاقات الدولية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2البنتاغون يرسل مذكرة للجنود حول نقل السلطة والبعد عن السياسةlist 2 of 2ترامب: تحدثت مع 70 زعيما ومكالمتي مع نتنياهو جيدة جداend of listلم يكلّ ترامب طوال سنوات أربع قضاها في البيت الأبيض عن استثارة أعصاب شركائه الأوروبيين، على نحو اختزلته صورة نادرة التُقطت من أعمال قمّة "السبع الكبار" في كندا (يونيو/ حزيران 2018) أظهرت مدى التوّتر الذي كان يثيره هذا الرجل في الأروقة الغربية. التقطت الصورة المذهلة خلال مداولات حادّة معه قادتها المستشارة الألمانية وقتها أنجيلا ميركل، ثمّ غادر ترامب القمة فجأة، وانسحب من البيان الختامي المشترك.
ترامب يصعد من جديدها هو دونالد ترامب يصعد إلى الصدارة من جديد، ولا مبالغة في وصف نتائج الفرز بالاكتساح الجمهوري على مستوى الولايات المتأرجحة، والتصويت الشعبي، ومقاعد الكونغرس، وبعد أن نجا من محاولة اغتيال واحدة على الأقلّ كادت أن تجهز عليه، وتجاوز تهديدات قضائية ماحقة طاردته بلا هوادة.
لا شكّ أنّ هذا الفوز المدوِّي، الذي لا يتوافق مع استطلاعات الرأي، أزعج أوروبا، وإن لم يفصح قادتها عن مشاعرهم المكبوتة باستثناء زعماء شعبويين تصدّرهم أوّل زعيم أوروبي وجّه التهنئة لسيد البيت الأبيض الجديد، هو صديقه المقرّب رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي يُعدّ من متصدِّري الظاهرة الترامبية في القارّة، الذي لم يكفّ هو الآخر عن توتير أعصاب نظرائه الأوروبيين منذ أن رأست بودابست الاتحاد الأوروبي في دورته الحالية للنصف الثاني من سنة 2024.
تدشِّن عودة ترامب مرحلة حرجة بالنسبة لأوروبا قد لا تنتهي بختام ولايته الثانية، بعد أن ساد الانطباع بأنّ صفحته طُويت مع خسارته انتخابات 2020. جرت منذ ذلك الحين مياه وفيرة في الوادي، فقد عاد الاستقطاب الدولي المعهود في زمن الحرب الباردة، ولم تتردّد أوروبا في الانزلاق إلى الخندق الأميركي عندما دهمتها صدمة غزو أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022.
تغيّرات أوروبية كبرى مع بايدنمثّل عهد جو بايدن استدارة إستراتيجية عن وجهة سلفه ترامب في ولايته الأولى، فمضى بدءًا من عام 2021 في حشد القارّة العجوز خلف ناظم الإيقاع الأميركي بخطاب غربي مستوحى من ثقافة الحرب الباردة، وتأتّى له ذلك تحديدًا بفضل استشعار الأوروبيين تهديدًا روسيًا ماحقًا ضخّ الدماء في الشرايين الأطلسية سريعًا، بعد أن تكررت شكوى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال عهد ترامب من أنّ "الناتو" يعاني "موتًا سريريًا".
طرأت تغيّرات كبرى على أوروبا في عهد بايدن، منها سباق التسلّح المحموم الذي تخوضه القارّة مع ما يتطلّبه من إنفاق قياسي على الجيوش والبنى العسكرية وصفقات السلاح. تمدّد حلف الأطلسي سريعًا في الشمال الأوروبي المحايد عبر التحاق السويد وفنلندا بالمظلّة الدفاعية التي صارت على تماس مباشر مع تخوم روسيا الشمالية الغربية.
عزّزت الولايات المتحدة انتشارها العسكري المباشر في أعماق أوروبا في ظلال حرب أوكرانيا، بينما تعيّن على الدول الأوروبية أن تنخرط في إسناد كييف عسكريًا وماليًا وسياسيًا ودعائيًا بصفة متدحرجة، حتى أوشكت على المخاطرة بتوريط القارّة في صراع غير مباشر مع موسكو.
تزايدت في غضون ذلك تحذيرات صادرة من جهات أوروبية مرموقة من إقدام روسيا على شنّ حرب على أوروبا الغربية في غضون سنوات معدودة بصفة مشفوعة بتعثّر خطط الهجوم الأوكراني المضادّ المدعوم غربيًا عمّا كان متوقعًا له في سنة 2023.
اتّخذ الانخراط الأوروبي في حرب أوكرانيا مسارًا إضافيًا هو أداة العقوبات المغلّظة التي جاءت في حزم متلاحقة غير مسبوقة في صرامتها ضد روسيا ومصالحها. ما كان لهذا كلّه أن يطرأ لولا إخلاص الأوروبيين في الاصطفاف خلف القيادة الأميركية خلال عهد بايدن، مع احتفاظهم بوهم تجديد ولايته بصفته الشخصية، أو من خلال نائبته كامالا هاريس؛ للمحافظة على الوجهة الغربية المعتمدة حتى بداية سنة 2029 على الأقلّ.
لكنّ مفاتيح البيت الأبيض سقطت مجددًا في قبضة ترامب، فعاد بقوّة حاملًا شعار "أميركا أوّلًا"، متجاهلًا أولويّات حلفاء الاستقطاب الغربي في الحرب الباردة – الساخنة الجديدة.
أوروبا المتضائلة إستراتيجيًاعاد ترامب هذه المرّة وقد تآكل الوزن الإستراتيجي لأوروبا الموحّدة عمّا كان عليه في عقد مضى، فقد فارقت بريطانيا الاتحاد وأبحرت نحو أواصرها الإستراتيجية الأنجلوسكسونية الأميركية، كما تجلّى في إبرام تحالف "أوكوس" الثلاثي في خريف سنة 2021 مع الولايات المتحدة وأستراليا، وتجلّى ذلك من بعد في تبعية لندن لمواقف واشنطن وأولوياتها على المسرح الدولي؛ خاصة في أوكرانيا، وفي سياق حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
من واقع الحال أنّ أوروبا صارت اليوم بلا قيادة ناجزة كالتي مثّلتها ألمانيا في عهد المستشارة السابقة أنجيلا ميركل. بل إنّ برلين ذاتها خسرت أقساطًا من مكانتها الجيوسياسية ورصيدها الإستراتيجي مع الائتلاف الحكومي الثلاثي الهشّ بزعامة المستشار الضعيف أولاف شولتس، ولم تمضِ ساعات معدودة على الفرز الانتخابي الأميركي حتى تصدّعت الحكومة الألمانية، وتعلّق مصيرها بالهواء بانتظار انتخابات مبكرة محتملة.
شهدت ألمانيا، التي تقود القاطرة الأوروبية، تراجعًا واضحًا في السنوات الأخيرة، فقد تعاظم دور جارتها الشرقية بولندا؛ بسبب موقعها ودورها في حرب أوكرانيا بالتلازُم مع خسارة برلين امتياز إدارة علاقات مصالح متوازنة مع موسكو، كما ظلّت تفعل منذ الوحدة الألمانية.
وتواجه الجمهورية الاتحادية حاليًا متاعب اقتصادية مرشّحة للتفاقم، تتّضح في اضمحلال مؤشِّرات النموّ، وارتفاع تكاليف الإنتاج، وتضاؤل قدرة المنافسة في السوق العالمية، ونقص الأيدي العاملة، علاوة على أزمة صناعة السيارات المحورية في اقتصادها، وتبقى هذه الأعراض عمومًا مرشّحة لمزيد من التأزيم إن مضى ترامب في فرض إجراءات حمائية في مواجهة شركائه الأوروبيين.
لا يتسامح الرئيس الأميركي المُنتخَب مع حقيقة أنّ الميزان التجاري لبلاده مع أوروبا مختلّ بوضوح لصالح الأوروبيين، ولن يكفّ عن السعي لتعديل ذلك بكلّ ما هو متاح له؛ تحقيقًا لوعوده الانتخابية، وتكريسًا لنهج باشره بصرامة في ولايته الأولى، ومن شأن ذلك أن يمسّ بمصالح ألمانيا التجارية والصناعية في المقام الأوّل.
تأخذ أوروبا هذا التهديد على محمل الجدّ، وسيتعيّن عليها خوض اختبار المفاوضة الجماعية المتماسكة مع الجانب الأميركي، إن تأتّى لها الاتفاق على ذلك حقًا، لأجل تحسين شروطها على الطاولة مع سيد البيت الأبيض العنيد.
لكنّ التجاذب في الملف التجاري لا ينفكّ عن مجمل إدارة العلاقات المركّبة مع الولايات المتحدة، التي تبقى زعيمة الاستقطاب الغربي الذي لا تجد أوروبا بديلًا عنه في زمن التهديدات العسكرية المرئية من الجانب الروسي.
قد تفرض عودة ترامب على أوروبا مزيدًا من الاستحقاقات الحرجة، مثل كيفية إدارة علاقات متوازنة مع الأطراف إن تصاعدت حدّة التجاذب الأميركي – الصيني في المجال التجاري، وربما العسكري لاحقًا، إذ لا يرى الأوروبيون مصلحة لهم في تأزيم علاقاتهم والتضحية بمصالحهم المتبادلة مع بكين، وقد أظهرت خبرة العقوبات المكثّفة التي فرضوها على روسيا منذ غزو أوكرانيا أنّ لسيف العقاب الاقتصادي حدًّا آخر يُؤذي حامله أيضًا.
ثمّ إنّ قيادة ترامب المُجرّبة من قبل، تضع الشركاء الأوروبيين في حرج بالغ عندما يبدو أنّ قائد الركب الغربي الجديد لا يكفّ عن استفزازهم والاستخفاف بهم، وربما تسديد نقد لاذع لهم على مرأى من شعوبهم والعالم، بعد أن حرص بايدن على تغليف الاصطفاف الأوروبي خلف القيادة الأميركية بالشعارات القيمية المعهودة عن أمم "الحرية" و"الديمقراطية" التي تقف في فسطاط مقابل لنظيره المخصص لروسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران.
وممّا يزيد التوتّر الأوروبي من ترامب أنّه شخصية "من خارج الصندوق"، يصعب تقدير تصرّفاتها مُسبقًا ولا يمكن الوثوق بما تنوي الإقدام عليه، وقد يتفنّن في نقض عُرى نسجها أسلافه والتملّص من اتفاقا دولية أو إقليمية لا تروق له؛ كما فعل مع اتفاقية المناخ مثلًا.
بواعث قلق إضافيةيحفِّز صعود ترامب الكاسح قلقًا آخر في العمق الأوروبي، حيث يجد الشعبويون والقوميون المحافظون واليمينيون المتطرفون فيه نموذجًا ملهمًا يحتذونه ويتأسّون به، في قارّة تتخلّل الترامبية السياسية بعضًا من دولها وتحصد أحزابها اليمينية المتطرفة أقساطًا معتبرة من أصوات ناخبيها إلى حدّ الاكتساح أحيانًا.
وسيجد ترامب من حوله من يدفعون بمواقف وخطابات تثير فزع الحكومات والنخب العلمانية في أوروبا، ليس أقلّها حديثهم مثلًا عن أنّ "الربّ أراد أن يكون دونالد ترامب رئيسًا" كما قالت متحدثة البيت الأبيض سارة ساندرز (30 يناير/ كانون الثاني 2019) أو بحديثه هو عن أنّ "الرب أنقذني كي أُنقِذ أميركا"، كما قال بثقة بالغة في خطاب الفوز الجديد.
سيغادر بايدن المُنهَك البيت الأبيض بعد ولاية رئاسية أشعلت حرائق في العالم مصطحبًا معه كامالا هاريس، تاركًا أوروبا لمواجهة قدَرها العسير مع حامل المفاتيح الجديد، الذي سيستعيد هوايته المفضّلة في توتير أعصاب شركاء الآصرة الأطلسية الذين تجلّى انكشافهم الإستراتيجي واعتماديتهم المفرطة على المظلّة الأميركية في دورة رئاسية "ديمقراطية".
مضى الأوروبيون خلف إدارة بايدن في تصعيدها ضد روسيا، وقطعوا أشواطًا قياسية في ذلك، وسيتعيّن عليهم الآن أن يحتملوا استدارة عكسية متوقّعة تطوي ملف حرب أوكرانيا على حساب كييف على الأرجح، وقد يأتي ذلك بشكل خاطف إن صدقت وعود ترامب بأنّه يقتدر على إنهاء الحرب في أربع وعشرين ساعة فقط!
سيتضّح في الخلاصة أنّ واشنطن هي مَن قرّرت وجهة التصعيد والانخراط غير المباشر فيما تبدو حربًا غربية بالوكالة على الرقعة الأوكرانية، وهي التي ستقرِّر الوجهة الجديدة التي قد تتمثّل بصفقة كبرى تحتوي أدخنة الحرب على غير ما تشتهي كييف والعواصم الأوروبية، وما من دور لأوروبا في حسم قرار الوجهتين: الأولى والثانية.
خسرت أوروبا عبر العُهد الرئاسية المتعاقبة على البيت الأبيض، فرصة التصرّف كقطب متماسك في عالم متعدِّد الأقطاب، وتضاءلت حظوظها في تحويل مشروع الوحدة إلى شراكة إستراتيجية مستقلّة لها جيش مشترك أو حتى دبلوماسية فعّالة ذات حضور ناجز على المسرح الدولي.
غابت الدبلوماسية الأوروبية عن المشهد منذ اندلاع حرب أوكرانيا، وتوارت تمامًا عن الأنظار في سياق حرب الإبادة الوحشية في غزة، ولم تنفكّ التحركات الأوروبية المرصودة في الملفّيْن عن إرادة ناظم الإيقاع الأميركي الذي يمسك بوجهة شركائه ويسوقهم إلى مصائرهم ذات اليمين وذات الشمال، بينما يتقلّبون هم في أزماتهم الاقتصادية والسياسية المستعصية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية