شهد السودان منذ استقلاله في 1956 عدة تجارب ديمقراطية قصيرة، أُجهضت جميعها عبر انقلابات عسكرية كان آخرها انقلاب الحركة الإسلامية السودانية في 1989، والذي مثّل نقطة تحول في تاريخ السودان السياسي. أثار انقلاب 1989 وما تلاه من سياسات التمكين تساؤلات عديدة حول التزام الحركة الإسلامية بمبادئ الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، فضلاً عن انتهاجها أساليب قمعية واقتصادية وسياسية أضرت بالسودان.

اليوم، تخوض الحركة حربًا جديدة من أجل العودة إلى السلطة، مما يفتح المجال لنقد شامل لتجربتها في الحكم وسلوكها السياسي.
صعود الحركة الإسلامية وتجاهل ميثاق القوى السياسية
مع سقوط نظام الرئيس الأسبق جعفر نميري في 1985، اتفقت القوى السياسية على تجنب التدخل العسكري في الشأن السياسي من أجل تمهيد الطريق أمام نظام ديمقراطي يعيد الاستقرار للسودان. ولكن الحركة الإسلامية السودانية، بقيادة حسن الترابي، خالفت هذا التوافق وقادت انقلابًا عسكريًا في 1989 بالتعاون مع ضباط في الجيش، ما مثّل تجاوزًا للميثاق الوطني وتحطيماً للتجربة الديمقراطية الوليدة.
إجهاض الديمقراطية الوليدة
بعد الإطاحة بنميري، كانت القوى السياسية السودانية تعمل على إرساء نظام ديمقراطي، مستندة إلى اتفاق ضمني على ضرورة عدم تدخل الجيش في السياسة. ومع ذلك، قررت الحركة الإسلامية تجاوز هذا الاتفاق والسيطرة على السلطة، مما أجهض تلك التجربة وأدخل البلاد في مرحلة جديدة من الحكم السلطوي. هذا الانقلاب لم يكن فقط تجاوزاً للميثاق السياسي، بل كان أيضًا ضربة موجهة ضد إرادة الشعب السوداني الذي كان يطمح لتحقيق استقرار سياسي وديمقراطي.
بناء نظام تمكين شامل بعد الاستيلاء على السلطة، أطلقت الحركة الإسلامية سياسة "التمكين"، التي استهدفت إحكام السيطرة على مؤسسات الدولة وأجهزتها من خلال تعيين كوادر موالية في المناصب العليا في الجيش والأمن والقضاء والخدمة المدنية. وقامت بإقصاء الأصوات المعارضة، حتى تحوّلت الدولة إلى آلية تدعم الحزب الإسلامي الحاكم وتنفّذ سياساته. هذا التمكين حول أجهزة الدولة إلى مؤسسات تابعة تخدم أجندة الحزب، وجعل من الصعب على القوى المعارضة أن تجد لها مساحة للتعبير عن مواقفها أو ممارسة دورها السياسي، مما أدى إلى تدهور الثقة بين الدولة والمجتمع.

التسييس الكامل للجيش والأمن لم تكتفِ الحركة الإسلامية بالانقلاب، بل سعت إلى تعزيز هيمنتها عبر إدخال كوادرها ضمن صفوف الجيش والأجهزة الأمنية، فضلاً عن إنشاء قوات موازية خارج الجيش النظامي، مثل "الدفاع الشعبي". هذا التسييس أدى إلى تراجع الروح الوطنية داخل الجيش وأصبح الجيش أداة لتحقيق مصالح الحزب الحاكم بدلاً من الدفاع عن مصالح الشعب السوداني. هذه السياسة تركت إرثاً عميقاً من الانقسامات داخل المؤسسة العسكرية، مما انعكس سلباً على استقرار السودان وأدى إلى تعميق الانقسامات الداخلية بين الجيش والمجموعات المسلحة.

التلاعب بالانتخابات والقمع السياسي رغم أن الحركة الإسلامية قدّمت نفسها كقوة شعبية، إلا أنها لم تعتمد على الانتخابات الحرة كوسيلة لتثبيت شرعيتها، بل استخدمت موارد الدولة وأجهزتها للتلاعب بالانتخابات، وضمنت فوز مرشحيها عبر استخدام أساليب القمع السياسي ضد المعارضين. حيث شهدت فترة حكمها موجة من الاعتقالات للناشطين والصحفيين المعارضين، وشهدت وسائل الإعلام السودانية تضييقاً ومراقبة مشددة جعلت من المستحيل أن تنتقد النظام أو تكشف عن فساده.

السيطرة على الاقتصاد وتفشي الفساد
خصخصة مؤسسات الدولة عمدت الحركة الإسلامية إلى خصخصة أصول الدولة لصالح كوادرها، مما أدى إلى تحويل جزء كبير من الثروات الوطنية إلى أيدي نخبة ضيقة موالية. هذه السياسة أضرت بالنظام الاقتصادي وأضعفت قدرة الدولة على تقديم الخدمات الأساسية للسودانيين.
تشجيع الاقتصاد الموازي دعم النظام الاقتصادي الموازي وشجع على تنامي التجارة غير الرسمية والتهريب، مما جعل الاقتصاد السوداني يعاني من ضعف الاقتصاد الرسمي وانعدام الاستقرار المالي. وبدلاً من استغلال الموارد الوطنية بطريقة تعود بالنفع على الشعب، تم استنزاف الاقتصاد لصالح نخبة صغيرة ترتبط بالحركة الإسلامية.
إذكاء الصراعات القبلية وإضعاف النسيج الاجتماعي استغلت الحركة الإسلامية التعدد القبلي والعرقي في السودان لأغراض سياسية، حيث دعمت بعض القبائل وحرّضتها ضد أخرى بهدف إضعاف الحركات الثورية التي واجهتها. أدى هذا الاستغلال إلى تمزيق النسيج الاجتماعي واندلاع نزاعات مسلحة أدت إلى خسائر بشرية واقتصادية هائلة. كما روّجت الحركة لخطاب ديني وسياسي أثار الشكوك حول انتماء الأقليات الدينية والعرقية، مما زاد من التوترات وأدى إلى تدهور العلاقات الاجتماعية بين المجموعات المختلفة.

التأثير السلبي على العلاقات الخارجية انتهجت الحركة الإسلامية سياسة تدخل خارجي دعمت من خلالها حركات إسلامية في الدول المجاورة، مما أدى إلى عزل السودان دولياً وتعريضه لضغوط وعقوبات اقتصادية. هذه السياسة أثرت بشكل سلبي على علاقات السودان الخارجية وزادت من عزلته الإقليمية والدولية، مما أضر بقدرته على جذب الاستثمارات الأجنبية أو تطوير اقتصاده.
الصراع الحالي من أجل العودة إلى السلطة
مع سقوط نظام الحركة الإسلامية في 2019 إثر ثورة شعبية عارمة، تحوّل صراع الحركة إلى مسعى جديد لاستعادة السلطة عبر الحرب والتحالفات، وتقديم نفسها كبديل للسلطة المدنية التي تعاني من ضعف بسبب التدخلات العسكرية. وقد لجأت الحركة في هذا الصراع إلى تجنيد أنصارها في المناطق الريفية وتفعيل خطاب ديني وسياسي يدّعي حماية الهوية الإسلامية للسودان، لتأجيج النزاعات وإضعاف فرص الاستقرار.
استغلال التوترات السياسية و تستغل الحركة الإسلامية التوترات بين الجيش والقوى المدنية لبناء تحالفات تمكنها من التأثير على القرارات السياسية، مستخدمةً شبكاتها القديمة في الجيش والمؤسسات الأمنية.
إثارة خطاب التخويف و تعتمد الحركة على خطاب يروج لفكرة أن القوى المدنية ستقود السودان إلى الانحلال الأخلاقي أو التبعية الخارجية، مما يعزز من شعور الخوف بين بعض فئات المجتمع السوداني ويعيد استقطاب قطاعات متحفظة تعتقد أن الحركة الإسلامية هي الحامية للقيم الإسلامية.
ولقد أثبتت التجربة الطويلة للحركة الإسلامية السودانية في السلطة أنها عرقلت مسار الديمقراطية والتنمية في السودان، وقوّضت فرص بناء نظام سياسي قائم على التداول السلمي للسلطة واحترام التعددية. سياسات التمكين والتسييس والاقتصاد الموازي، والتلاعب بالتركيبة الاجتماعية والسياسية، كلها أضرت بالسودان وأثقلت كاهل الدولة، مما أضعف من قدرتها على مواجهة تحديات التنمية وبناء الدولة الحديثة. واليوم، ما زالت الحركة تخوض حرباً مفتوحة سعياً للعودة إلى السلطة، مما يعيد السودان إلى دوامة من النزاعات السياسية والعسكرية التي تهدد أمنه واستقراره وتضعف فرص تحقيق حلم السودانيين بالديمقراطية والسلام والتنمية.

 

zuhair.osman@aol.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الإسلامیة السودانیة الحرکة الإسلامیة إلى السلطة أدى إلى

إقرأ أيضاً:

الشرطة السودانية تعلن استئناف استخراج الرقم الوطني والبصمة المدنية بعد توقف عامين

الشرطة أكدت حرصها على تطوير خدماتها في مختلف الإدارات لتسهيل الإجراءات الهجرية وتبسيطها في جميع ولايات السودان. 

بورتسودان: التغيير

أعلنت الشرطة السودانية، اليوم الخميس، استئناف العمل بالبصمة المدنية واستخراج الرقم الوطني لجميع الفئات العمرية، وذلك بعد توقف دام نحو عامين بسبب الحرب الدائرة في البلاد.

وأوضح المدير العام لقوات الشرطة بالنيابة، الفريق محمد إبراهيم عوض الله، أن استعادة هذه الخدمات الحيوية يمثل إنجازًا مهمًا لمنتسبي هيئة الجوازات والسجل المدني والإدارة العامة للسجل المدني، مشيرًا إلى حرص الشرطة على تطوير خدماتها في مختلف الإدارات لتسهيل الإجراءات الهجرية وتبسيطها في جميع ولايات السودان. كما أكد التزام رئاسة الشرطة بمواصلة جهود حوسبة العمل الشرطي.

من جهته، اعتبر مدير الإدارة العامة للسجل المدني، اللواء طارق علي سورج، أن استئناف العمل في نظام البصمة المدنية واستخراج الرقم الوطني يُعد انتصارًا في مواجهة قوات الدعم السريع، التي قال إنها سعت إلى طمس الهوية السودانية وتغيير الخارطة السكانية من خلال استهداف وتدمير قاعدة بيانات السجل المدني.

وأكد سورج أن جهود رئاسة الشرطة وكوادر الإدارة، وعلى رأسهم مهندسو دائرة التقانة والمعلومات، أسفرت عن استعادة كافة بيانات المواطنين السودانيين، مشيرًا إلى ربط 31 بنكًا بنظام السجل المدني لتسهيل عمليات استبدال العملة للمواطنين.

فيما أكد على مضي الإدارة قدمًا نحو إعادة تشغيل نظام البطاقة القومية في القريب العاجل، بما يتيح للمواطنين الحصول على أوراقهم الثبوتية بسهولة ويسر، عبر توظيف التقنية الحديثة في كافة أعمال السجل المدني.

الوسومآثار الحرب في السودان الرقم الوطني السجل المدني الشرطة السودانية

مقالات مشابهة

  • «مصطفى بكري» يكشف تفاصيل رسالة الرئيس السيسي للقيادة السودانية «فيديو»
  • الشرطة السودانية تعلن استئناف استخراج الرقم الوطني والبصمة المدنية بعد توقف عامين
  • الحكومة السودانية توضح بشأن ارسال البرهان مبعوثا إلى إسرائيل
  • الإمارات وأزمة السودان
  • الحكومة السودانية تستدل بشهادة خبراء الأمم المتحدة على دعم الإمارات لقوات الدعم السريع
  • جبهة الخلاص بتونس تحيي عيد الشهداء.. وسياسيون قلقون من تدهور الوضع السياسي
  • الكيزان والحرب: مشروع التمكين الدموي وتجارة المأساة في السودان
  • تعقيبا على مقال الأستاذ ياسر عرمان .. ورداً على سؤاله لماذا لا يفاوض الجيش ويقاتل في آن واحد ؟ (1-2)
  • الهوية السودانية بين الغابة والصحراء (2/2)
  • عوامل الركود وموانع الانعتاق بين الماضي والحاضر