عبد الله علي إبراهيم

(نص من كتابي أوراق إنقاذية: من يخاف الحركة الإسلامية. وهو عن تجربتي عضوا بمؤتمر "الحوار الوطني من أجل السلام" الذي عقدته حكومة الإنقاذ في شتاء 1989. ويحكي عن عرض لي بالسفارة عن السودان في 1991)
طلبني سكرتير السيد العقيد محمد الأمين خليفة عضو مجلس ثورة الإنقاذ الوطني في أوائل 1991 ليقول لي إن العقيد يرغب في لقائي بمكتبه بمبنى البرلمان بأمدرمان.

كنت تعرَّفت على العقيد خليفة خلال مشاركتي في المؤتمر الوطني من أجل السلام الذي كلف برئاسته، وقد وجدته دمثاً، حيياً وباله طويل. وهي الصفات التي حببت الرجل إلى فأمطرته باحتجاجاتي المتكررة أشكو فيها ضيماً خاصاً أو عاماً ضمن جماعة من أخيار أعضاء المؤتمر الوطني للسلام.
كنت شكوت له من عادة الحكومة مناداتنا بالإذاعة إلى المشاركة في هذا الأمر أو ذاك من غير استئذان لائق. كما احتججت مع نفر صالح من أعضاء المؤتمر على الحكم بإعدام الدكتور مأمون محمد حسين الذي قاد إضراب نقابة الأطباء ضد الحكومة وهي في عامها الأول لا تزال. وكان من بين النفر الصالح المحتج المرحوم الدكتور عمر بليل؛ مدير جامعة الخرطوم السابق، والتيجاني الكارب المحامي، وعبد الله إدريس الأستاذ بجامعة الخرطوم، والدكتور سيد حريز الأستاذ بنفس الجامعة، والصديق الإسلامي المعروف الدكتور الطيب زين العابدين، وقد أغنانا الطيب عن التطويل في لقائنا مع العقيد خليفة حيث قال له إن الإسلام لا يقتل النقابيين وكفى. وكان العقيد خليفة خلال لقائنا رابط الجأش حفياً مستمعاً.
حسبت أن العقيد إنما يطلبني عن طريق سكرتيره لنقاش مسألة متبقية عن احتجاج أو اقتراح. وكنت قد التمست منه قبل أيام فقط أن يلتقي وفداً من الأساتذة المشرفين على مشروع البحر الأحمر البحثي المشترك بين جامعة بيرغن في النرويج وجامعة الخرطوم. فقد اتفق لمؤتمر أخير لأهل المشروع أن علائم بإقليم البحر الأحمر تشير إلى مجاعة وشيكة. وقد رغبت أن يحمل زملائي الباحثون هذه العلائم والمواقف إلى العقيد خليفة الذي كان وقتها مشرفاً سياسياً على إقليم البحر الأحمر، وقبل العقيد خليفة بحفاوة أن ينظم اللقاء الذي اعتذر عنه الأساتذة.
دارت جملة من المسائل برأسي وأنا في طريقي إلى لقاء العقيد. وحين جلست إليه سألني إن كنت أرغب في التعيين دبلوماسياً بوزارة الخارجية. أخذني العرض لحينٍ لأنني لم أتوقع أن يكون مدار حديثنا في ذلك اليوم. ويبدو أن العقيد هو الذي فوجئ بعد ذلك، وربما شك في أنني أسمع العرض لأول مرة.. ومنه بالتحديد. ومنشأ مفاجأته، في حدسي، ليس لأنني رفضت (وش)، وهي (الوجه)، أي ابتداء، ما يسيل له لعاب الصفوة الجامعية الطموحة من أمثالي، بل لأنني رتبت أسباب رفضي بقوة تتعذر على من سمع العرض بالتعيين لأول مرة.
حين قررت أن استجيب لنداء نظام البشير بالمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني من أجل السلام 1989، في ملابسات مقاطعة مدججة من القبائل اليسارية التي أنا منها و (باري) (أي بريء) منها، في عبارة سودانية جيدة، كنت قد وطنت نفسي ألا يتسرّب إلى من فضل النظام وعطاياه شيء. قلت في نفسي (الغني الله). وكان نفراً من زملائي في المؤتمر قد بدأ بالفعل ينتقل من قاعة المؤتمر إلى دواوين الحكومة.
وكنت رفضت حتى حضور اليوم الختامي للمؤتمر حتى لا اتسلم نوط جدارة أو جوازاً خاصاً. وليست هذه بطولة وإنما اتعاظ. فالذي رأى كيف تهاوى نخل الصفوة السامق بإغراءات الرئيس نميري. وبمنصبي الوزير والسفير خاصة، يعلم أن ظل الدولة الوريف غالب ومهين وزائل. وقد شاع في معنى هذه الحكمة أن النميري قد فرغ من تأليف كتاب سماه (رجال تحت حذائي). وأولئك الرجال هم رهط الصفوة التي دجنها بالعطايا وأهانها بالفصل العشوائي المكتوم عن طريق نشرة اخبار ما بعد الظهر. وقد راجت آنذاك عبارة أن فلاناً لم يقبل بالمنصب عجباً وخدمة للوطن، وإنما ليضمنه في ترجمته الذاتية ليسع به يروج لكفاءته في التعيين لمناصب الأمم المتحدة ودوائرها البشعة.
جاءني عرض السفارة وكنت ألقيت قبل أسبوع أو نحوه كلمة في مؤتمر سياسة السودان الخارجية الذي رتبه معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية، التابع لجامعة الخرطوم، تطرقت فيها إلى أسلوب حكومة السيد الصادق المهدي (1986-1989)، ووزارة الخارجية في الاستجابة للاتهام الذي راج عالمياً عن عودة ممارسات الرق للسودان في سياق الحرب الأهلية بين الحركة القومية الجنوبية والدولة السودانية. وقد ذاع هذا الاتهام بعد صدور كتاب "مذبحة الضعين والرق في السودان" (1987) للدكتورين بلدو وعشاري من هيئة التدريس بجامعة الخرطوم. وقد أحرج هذا الصيت السيء الحكومة السودانية إحراجاً لم يسبق لها إطلاقاً. وقاد هذا الصيت إلى تراجع بعض الحكومات الأوروبية عن حسن نيتها أو عونها للحكومة الوليدة. واستعصمت الحكومة بإزاء شبهة النخاسة الجديدة بإنكار وقوع الرق جملة وتفصيلاً. وألقت بالدكتور عشاري في غيهب السجن ونسبت كل قول عن الرق في السودان إلى نسيج مؤامرة بسيطة صهيونية إمبريالية أو صليبية ... وهلم جراً. ومن أراد التوسع في ذلك فعليه بكتابي "الثقافة والديمقراطية في السودان" (القاهرة 1996). اتيح لي خلال هذه المحنة أن أقرأ رسائل بعثاتنا الدبلوماسية إلى وزارة الخارجية فإذا هي كورس مشفق منزعج يدفع الافتراء عن السودان، ويقرأ خبايا خبث نفوس أهل العالم. وغير خاف أن الدبلوماسية السودانية قد وضعت بإزاء مأزق دقيق لم يتأسس في سياسة العالم من فصل عنصري، أو محنة صهيونية، أو نضال شعبي في جزائر الواق واق، أو في اقتصاد العالمين من بنك دولي وقروض وعالم ثالث وعالم جنوب وعالم شمال. بل تأسس هذا الحرج في أكثر التخوم بعداً عن الدبلوماسية السودانية وقرباً منها في نفس الوقت: في ثقافة وممارسات جفاة الأعراب والزنج السودانيين من بدو وحضر، وقد أخرجت أثقالها الاجتماعية، وقال الإنسان مالها. ولأن الدبلوماسية السودانية كانت قد خشيت العالم وازدرت الجفاة من السودانيين، فقد اشترطت في تعيين الدبلوماسيين التخرج بمؤهلات في الاقتصاد والسياسة الدولية. وحرمت على خريجي كليات العلوم الاجتماعية والثقافية مجرد التقديم للعمل كدبلوماسيين بها. والعلوم الاجتماعية والثقافية هي التي لا يصح فهم الرق بدون معارفها ومناهجها.
كان إنكار ممارسة الرق بداهة من قبل الحكومة والدبلوماسية السودانية ولايزال لؤماً وجهلاً. كان لؤماً من جهة، لأن الحكومة آنذاك (1987) لم تحفل أبداً بالتحقيق عما أشيع عن الرق. بل بلغت الدولة آنذاك دركاً من اللوم سحيقاً حين أسقط البرلمان مشروع قرار بتكوين لجنة برلمانية تحقق في المزاعم عن تجدد الرق في السودان. وكان جهلاً، من جهة أخرى، لأن الدبلوماسية السودانية خلت من ذوي التأهيل المناسب للنصح والخوض في هذا الشأن المحرج. بل ولم تنم الدبلوماسية عادة استشارة ذوي الخبرة من خارجها لنصحها بشأن متاعبها في الساحة العالمية.
قلت للعقيد خليفة: لن تنصلح وزارة الخارجية بتعيين طائفة أخرى من الرجال والنساء وتسريح طائفة قديمة من الرجال والنساء. فأزمة عملنا الخارجي مؤسسية قبل أن تكون في الكادر البشري. و "سمَّعت" له كلمتي التي ألقيتها في مؤتمر علاقات السودان الخارجية. وما أحسب أن العقيد انتظر كل هذا مني، ولكنه ظل كعادته رابط الجأش، حفياً، مستمعاً.

غلاف كتاب "أوراق إنقاذية: من يخاف الحركة الإسلامية؟). وهو غلاف النسخة التي على أمازون لا الورقي. معروض بمعرض الشارقة للكتاب هذه الأيام.

ibrahima@missouri.edu

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الدبلوماسیة السودانیة العقید خلیفة فی السودان

إقرأ أيضاً:

“خيال النخب السودانية: بين الذاتية الضيقة ولعنات القبيلة والحزب والجهوية”

في غرفة من غرف تطبيق الكلوب هاوس الصوتية اجتمعت نخبة من المثقفين السودانيين لمناقشة مشروع وطني يفترض أن يكون جامعًا، لكن سرعان ما تحولت الجلسة إلى ساحة لتجلي كل مظاهر الذاتية والتعالي. مارسوا أنواعًا شتى من الإقصاء الفكري، وتعمدوا تهميش من بذل جهده بإخلاص لإعادة صياغة الأفكار المطروحة. اتهامات متبادلة، وولاءات خفية لقضايا ضيقة، جعلت المشروع الذي كان يمكن أن يُحدث فرقًا، مجرد ورقة أخرى ضائعة بين صراعات القبيلة، قداسة الحزب، والجهوية المتجذرة والانحياز للذات المريضة والمحاولات المستمرة لصناعة كيانات تخدم أجندة بعينها
هذه القصة، التي تتكرر بصور مختلفة، تُجسد أزمة النخب السودانية التي أسرت طموحاتها الوطنية داخل قوالب ذاتية ضيقة. بدلًا من تقديم رؤية جامعة تُنقذ السودان من صراعاته المستدامة، باتت النخب تدور في حلقة مفرغة من الانقسامات، تاركة الوطن يدفع ثمن صراعات لا تنتهي.
خارطة الطريق: انتصار للوطن وانتصار للذات السودانية
السودان، في أزمته الراهنة، بحاجة إلى مشروع وطني يتجاوز الحسابات الضيقة ويصيغ مستقبله على أسس متينة من العدالة، القانون، والمؤسسات. لا يمكننا الحديث عن خلاص الوطن دون إدراك أن الانتصار لقضيته ليس فقط انتصارًا جماعيًا لكل أهله، بل هو انتصار لكل فرد سوداني يُدرك أن قيمة الوطن من قيمة الذات.
الانتصار للوطن هو انتصار للذات
إن قضايا السودان ليست مجرد معارك سياسية أو عسكرية، بل هي معارك للكرامة الإنسانية والحقوق الأساسية. عندما ننتصر لقضية الوطن، فإننا نؤسس لذات جماعية تُدرك قيمتها الحقيقية في ظل دولة القانون والمؤسسات. كل خطوة نحو السلام، العدالة، والتنمية هي خطوة نحو تحرير الذات السودانية من إرث القهر، التشظي، والاستبداد.
بناء دولة القانون والمؤسسات
الدولة السودانية الحديثة لا يمكن أن تُبنى إلا على دعائم واضحة:
سيادة القانون ولضمان أن تكون القوانين عادلة وشفافة، تطبَّق على الجميع دون استثناء.
المؤسسات المستقلة: تأسيس مؤسسات تحمي الحقوق، وتدير شؤون الدولة بكفاءة ونزاهة، بعيدًا عن هيمنة أي جهة حزبية أو عسكرية.
المواطنة المتساوية تجاوز الهويات الضيقة لبناء مجتمع يُعلي من قيم العدل والتنوع.
خارطة الطريق: نحو سودان جديد
انتصار شروط الشعب
وقف الحرب عبر مفاوضات شاملة تعكس تطلعات المتضررين، وليس مصالح الأطراف المتصارعة.
وضع العدالة الانتقالية كشرط أساسي، لتعزيز الثقة وبناء مجتمع متماسك.
سيادة القانون وتفكيك المليشيات
حلّ المليشيات المسلحة وبناء جيش وطني مهني، تحت إشراف مؤسسات الدولة المدنية.
حماية حقوق الأفراد والجماعات من خلال تفعيل دور القضاء المستقل.
حكومة انتقالية للكفاءة
تشكيل حكومة انتقالية من التكنوقراط غير الحزبيين، تضع أسسًا متينة لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة.
بناء دستور يرسّخ مبادئ الحرية والعدالة، ويضمن مشاركة كل السودانيين في تحديد مستقبلهم.
4. دولة المؤسسات والانتخابات الحرة:
تنظيم انتخابات حرة ونزيهة، تتيح للسودانيين اختيار قيادتهم على أسس ديمقراطية.
إعادة بناء مؤسسات الدولة لضمان الشفافية والمحاسبة.
الطريق الثالث: الحل الوطني الجامع
إن الطريق الثالث ليس خيارًا ترفيًا، بل هو السبيل الوحيد لإخراج السودان من محنته. هذا الطريق يتطلب قيادة متجردة، تُدرك أن المصلحة الوطنية تتجاوز الحسابات الشخصية والولاءات الحزبية. إنه طريق يُعيد الاعتبار للذات السودانية من خلال وطن قوي، موحد، ومستقر.

انتصار الوطن بداية جديدة للجميع
عندما ننتصر للوطن، فإننا نؤسس لواقع جديد يجعل السودان بيتًا لكل أهله، دون إقصاء أو تهميش. هذا الانتصار هو انتصار لكل سوداني يرى في السلام فرصة لحياة كريمة، وفي العدالة ضمانًا لمستقبل مستدام، وفي المؤسسات ركيزة لدولة تحترم الجميع.
وهذا الطريق هو بداية لتاريخ جديد، حيث تكون قوة القانون هي السائدة، وحيث تنتصر إرادة الشعب على كل أشكال الظلم والفرقة.

zuhair.osman@aol.com  

مقالات مشابهة

  • وزير الخارجية يلتقي بالسفراء ورؤساء البعثات الدبلوماسية والقنصلية و ممثلي منظمات الامم المتحدة المعتمدة بالسودان
  • السودان ما بين استبدال القوى السياسية أو استبدال الأمة السودانية
  • “بيرييلو” ومآلات الحرب السودانية
  • نوازع السيطرة عند بريطانيا وإنكارها مسؤوليات ودور الحكومة السودانية
  • أطباء بلا حدود: تستأنف عملياتها في مستشفى بشائر جنوبي العاصمة السودانية
  • الإدارة المدنية للدعم السريع تمنع تدوال العملة السودانية الجديدة بجنوب دارفور
  • منها تأهل المنتخب لأمم أفريقيا.. 4 أحداث بيوم واحد تشعل المنصات السودانية
  • “خيال النخب السودانية: بين الذاتية الضيقة ولعنات القبيلة والحزب والجهوية”
  • البرهان يوافق على مقترحات المبعوث الأميركي لحل الأزمة السودانية
  • لقاء موسع بين البرهان والمبعوث الأمريكي حول الأزمة السودانية