لا النافية للرق: الدبلوماسية السودانية وسماحة جمل الطين
تاريخ النشر: 8th, November 2024 GMT
عبد الله علي إبراهيم
(نص من كتابي أوراق إنقاذية: من يخاف الحركة الإسلامية. وهو عن تجربتي عضوا بمؤتمر "الحوار الوطني من أجل السلام" الذي عقدته حكومة الإنقاذ في شتاء 1989. ويحكي عن عرض لي بالسفارة عن السودان في 1991)
طلبني سكرتير السيد العقيد محمد الأمين خليفة عضو مجلس ثورة الإنقاذ الوطني في أوائل 1991 ليقول لي إن العقيد يرغب في لقائي بمكتبه بمبنى البرلمان بأمدرمان.
كنت شكوت له من عادة الحكومة مناداتنا بالإذاعة إلى المشاركة في هذا الأمر أو ذاك من غير استئذان لائق. كما احتججت مع نفر صالح من أعضاء المؤتمر على الحكم بإعدام الدكتور مأمون محمد حسين الذي قاد إضراب نقابة الأطباء ضد الحكومة وهي في عامها الأول لا تزال. وكان من بين النفر الصالح المحتج المرحوم الدكتور عمر بليل؛ مدير جامعة الخرطوم السابق، والتيجاني الكارب المحامي، وعبد الله إدريس الأستاذ بجامعة الخرطوم، والدكتور سيد حريز الأستاذ بنفس الجامعة، والصديق الإسلامي المعروف الدكتور الطيب زين العابدين، وقد أغنانا الطيب عن التطويل في لقائنا مع العقيد خليفة حيث قال له إن الإسلام لا يقتل النقابيين وكفى. وكان العقيد خليفة خلال لقائنا رابط الجأش حفياً مستمعاً.
حسبت أن العقيد إنما يطلبني عن طريق سكرتيره لنقاش مسألة متبقية عن احتجاج أو اقتراح. وكنت قد التمست منه قبل أيام فقط أن يلتقي وفداً من الأساتذة المشرفين على مشروع البحر الأحمر البحثي المشترك بين جامعة بيرغن في النرويج وجامعة الخرطوم. فقد اتفق لمؤتمر أخير لأهل المشروع أن علائم بإقليم البحر الأحمر تشير إلى مجاعة وشيكة. وقد رغبت أن يحمل زملائي الباحثون هذه العلائم والمواقف إلى العقيد خليفة الذي كان وقتها مشرفاً سياسياً على إقليم البحر الأحمر، وقبل العقيد خليفة بحفاوة أن ينظم اللقاء الذي اعتذر عنه الأساتذة.
دارت جملة من المسائل برأسي وأنا في طريقي إلى لقاء العقيد. وحين جلست إليه سألني إن كنت أرغب في التعيين دبلوماسياً بوزارة الخارجية. أخذني العرض لحينٍ لأنني لم أتوقع أن يكون مدار حديثنا في ذلك اليوم. ويبدو أن العقيد هو الذي فوجئ بعد ذلك، وربما شك في أنني أسمع العرض لأول مرة.. ومنه بالتحديد. ومنشأ مفاجأته، في حدسي، ليس لأنني رفضت (وش)، وهي (الوجه)، أي ابتداء، ما يسيل له لعاب الصفوة الجامعية الطموحة من أمثالي، بل لأنني رتبت أسباب رفضي بقوة تتعذر على من سمع العرض بالتعيين لأول مرة.
حين قررت أن استجيب لنداء نظام البشير بالمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني من أجل السلام 1989، في ملابسات مقاطعة مدججة من القبائل اليسارية التي أنا منها و (باري) (أي بريء) منها، في عبارة سودانية جيدة، كنت قد وطنت نفسي ألا يتسرّب إلى من فضل النظام وعطاياه شيء. قلت في نفسي (الغني الله). وكان نفراً من زملائي في المؤتمر قد بدأ بالفعل ينتقل من قاعة المؤتمر إلى دواوين الحكومة.
وكنت رفضت حتى حضور اليوم الختامي للمؤتمر حتى لا اتسلم نوط جدارة أو جوازاً خاصاً. وليست هذه بطولة وإنما اتعاظ. فالذي رأى كيف تهاوى نخل الصفوة السامق بإغراءات الرئيس نميري. وبمنصبي الوزير والسفير خاصة، يعلم أن ظل الدولة الوريف غالب ومهين وزائل. وقد شاع في معنى هذه الحكمة أن النميري قد فرغ من تأليف كتاب سماه (رجال تحت حذائي). وأولئك الرجال هم رهط الصفوة التي دجنها بالعطايا وأهانها بالفصل العشوائي المكتوم عن طريق نشرة اخبار ما بعد الظهر. وقد راجت آنذاك عبارة أن فلاناً لم يقبل بالمنصب عجباً وخدمة للوطن، وإنما ليضمنه في ترجمته الذاتية ليسع به يروج لكفاءته في التعيين لمناصب الأمم المتحدة ودوائرها البشعة.
جاءني عرض السفارة وكنت ألقيت قبل أسبوع أو نحوه كلمة في مؤتمر سياسة السودان الخارجية الذي رتبه معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية، التابع لجامعة الخرطوم، تطرقت فيها إلى أسلوب حكومة السيد الصادق المهدي (1986-1989)، ووزارة الخارجية في الاستجابة للاتهام الذي راج عالمياً عن عودة ممارسات الرق للسودان في سياق الحرب الأهلية بين الحركة القومية الجنوبية والدولة السودانية. وقد ذاع هذا الاتهام بعد صدور كتاب "مذبحة الضعين والرق في السودان" (1987) للدكتورين بلدو وعشاري من هيئة التدريس بجامعة الخرطوم. وقد أحرج هذا الصيت السيء الحكومة السودانية إحراجاً لم يسبق لها إطلاقاً. وقاد هذا الصيت إلى تراجع بعض الحكومات الأوروبية عن حسن نيتها أو عونها للحكومة الوليدة. واستعصمت الحكومة بإزاء شبهة النخاسة الجديدة بإنكار وقوع الرق جملة وتفصيلاً. وألقت بالدكتور عشاري في غيهب السجن ونسبت كل قول عن الرق في السودان إلى نسيج مؤامرة بسيطة صهيونية إمبريالية أو صليبية ... وهلم جراً. ومن أراد التوسع في ذلك فعليه بكتابي "الثقافة والديمقراطية في السودان" (القاهرة 1996). اتيح لي خلال هذه المحنة أن أقرأ رسائل بعثاتنا الدبلوماسية إلى وزارة الخارجية فإذا هي كورس مشفق منزعج يدفع الافتراء عن السودان، ويقرأ خبايا خبث نفوس أهل العالم. وغير خاف أن الدبلوماسية السودانية قد وضعت بإزاء مأزق دقيق لم يتأسس في سياسة العالم من فصل عنصري، أو محنة صهيونية، أو نضال شعبي في جزائر الواق واق، أو في اقتصاد العالمين من بنك دولي وقروض وعالم ثالث وعالم جنوب وعالم شمال. بل تأسس هذا الحرج في أكثر التخوم بعداً عن الدبلوماسية السودانية وقرباً منها في نفس الوقت: في ثقافة وممارسات جفاة الأعراب والزنج السودانيين من بدو وحضر، وقد أخرجت أثقالها الاجتماعية، وقال الإنسان مالها. ولأن الدبلوماسية السودانية كانت قد خشيت العالم وازدرت الجفاة من السودانيين، فقد اشترطت في تعيين الدبلوماسيين التخرج بمؤهلات في الاقتصاد والسياسة الدولية. وحرمت على خريجي كليات العلوم الاجتماعية والثقافية مجرد التقديم للعمل كدبلوماسيين بها. والعلوم الاجتماعية والثقافية هي التي لا يصح فهم الرق بدون معارفها ومناهجها.
كان إنكار ممارسة الرق بداهة من قبل الحكومة والدبلوماسية السودانية ولايزال لؤماً وجهلاً. كان لؤماً من جهة، لأن الحكومة آنذاك (1987) لم تحفل أبداً بالتحقيق عما أشيع عن الرق. بل بلغت الدولة آنذاك دركاً من اللوم سحيقاً حين أسقط البرلمان مشروع قرار بتكوين لجنة برلمانية تحقق في المزاعم عن تجدد الرق في السودان. وكان جهلاً، من جهة أخرى، لأن الدبلوماسية السودانية خلت من ذوي التأهيل المناسب للنصح والخوض في هذا الشأن المحرج. بل ولم تنم الدبلوماسية عادة استشارة ذوي الخبرة من خارجها لنصحها بشأن متاعبها في الساحة العالمية.
قلت للعقيد خليفة: لن تنصلح وزارة الخارجية بتعيين طائفة أخرى من الرجال والنساء وتسريح طائفة قديمة من الرجال والنساء. فأزمة عملنا الخارجي مؤسسية قبل أن تكون في الكادر البشري. و "سمَّعت" له كلمتي التي ألقيتها في مؤتمر علاقات السودان الخارجية. وما أحسب أن العقيد انتظر كل هذا مني، ولكنه ظل كعادته رابط الجأش، حفياً، مستمعاً.
غلاف كتاب "أوراق إنقاذية: من يخاف الحركة الإسلامية؟). وهو غلاف النسخة التي على أمازون لا الورقي. معروض بمعرض الشارقة للكتاب هذه الأيام.
ibrahima@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الدبلوماسیة السودانیة العقید خلیفة فی السودان
إقرأ أيضاً:
الحركة الإسلامية السودانية-بين التمكين والانقلاب على الديمقراطية وصراع العودة إلى السلطة
شهد السودان منذ استقلاله في 1956 عدة تجارب ديمقراطية قصيرة، أُجهضت جميعها عبر انقلابات عسكرية كان آخرها انقلاب الحركة الإسلامية السودانية في 1989، والذي مثّل نقطة تحول في تاريخ السودان السياسي. أثار انقلاب 1989 وما تلاه من سياسات التمكين تساؤلات عديدة حول التزام الحركة الإسلامية بمبادئ الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، فضلاً عن انتهاجها أساليب قمعية واقتصادية وسياسية أضرت بالسودان. اليوم، تخوض الحركة حربًا جديدة من أجل العودة إلى السلطة، مما يفتح المجال لنقد شامل لتجربتها في الحكم وسلوكها السياسي.
صعود الحركة الإسلامية وتجاهل ميثاق القوى السياسية
مع سقوط نظام الرئيس الأسبق جعفر نميري في 1985، اتفقت القوى السياسية على تجنب التدخل العسكري في الشأن السياسي من أجل تمهيد الطريق أمام نظام ديمقراطي يعيد الاستقرار للسودان. ولكن الحركة الإسلامية السودانية، بقيادة حسن الترابي، خالفت هذا التوافق وقادت انقلابًا عسكريًا في 1989 بالتعاون مع ضباط في الجيش، ما مثّل تجاوزًا للميثاق الوطني وتحطيماً للتجربة الديمقراطية الوليدة.
إجهاض الديمقراطية الوليدة
بعد الإطاحة بنميري، كانت القوى السياسية السودانية تعمل على إرساء نظام ديمقراطي، مستندة إلى اتفاق ضمني على ضرورة عدم تدخل الجيش في السياسة. ومع ذلك، قررت الحركة الإسلامية تجاوز هذا الاتفاق والسيطرة على السلطة، مما أجهض تلك التجربة وأدخل البلاد في مرحلة جديدة من الحكم السلطوي. هذا الانقلاب لم يكن فقط تجاوزاً للميثاق السياسي، بل كان أيضًا ضربة موجهة ضد إرادة الشعب السوداني الذي كان يطمح لتحقيق استقرار سياسي وديمقراطي.
بناء نظام تمكين شامل بعد الاستيلاء على السلطة، أطلقت الحركة الإسلامية سياسة "التمكين"، التي استهدفت إحكام السيطرة على مؤسسات الدولة وأجهزتها من خلال تعيين كوادر موالية في المناصب العليا في الجيش والأمن والقضاء والخدمة المدنية. وقامت بإقصاء الأصوات المعارضة، حتى تحوّلت الدولة إلى آلية تدعم الحزب الإسلامي الحاكم وتنفّذ سياساته. هذا التمكين حول أجهزة الدولة إلى مؤسسات تابعة تخدم أجندة الحزب، وجعل من الصعب على القوى المعارضة أن تجد لها مساحة للتعبير عن مواقفها أو ممارسة دورها السياسي، مما أدى إلى تدهور الثقة بين الدولة والمجتمع.
التسييس الكامل للجيش والأمن لم تكتفِ الحركة الإسلامية بالانقلاب، بل سعت إلى تعزيز هيمنتها عبر إدخال كوادرها ضمن صفوف الجيش والأجهزة الأمنية، فضلاً عن إنشاء قوات موازية خارج الجيش النظامي، مثل "الدفاع الشعبي". هذا التسييس أدى إلى تراجع الروح الوطنية داخل الجيش وأصبح الجيش أداة لتحقيق مصالح الحزب الحاكم بدلاً من الدفاع عن مصالح الشعب السوداني. هذه السياسة تركت إرثاً عميقاً من الانقسامات داخل المؤسسة العسكرية، مما انعكس سلباً على استقرار السودان وأدى إلى تعميق الانقسامات الداخلية بين الجيش والمجموعات المسلحة.
التلاعب بالانتخابات والقمع السياسي رغم أن الحركة الإسلامية قدّمت نفسها كقوة شعبية، إلا أنها لم تعتمد على الانتخابات الحرة كوسيلة لتثبيت شرعيتها، بل استخدمت موارد الدولة وأجهزتها للتلاعب بالانتخابات، وضمنت فوز مرشحيها عبر استخدام أساليب القمع السياسي ضد المعارضين. حيث شهدت فترة حكمها موجة من الاعتقالات للناشطين والصحفيين المعارضين، وشهدت وسائل الإعلام السودانية تضييقاً ومراقبة مشددة جعلت من المستحيل أن تنتقد النظام أو تكشف عن فساده.
السيطرة على الاقتصاد وتفشي الفساد
خصخصة مؤسسات الدولة عمدت الحركة الإسلامية إلى خصخصة أصول الدولة لصالح كوادرها، مما أدى إلى تحويل جزء كبير من الثروات الوطنية إلى أيدي نخبة ضيقة موالية. هذه السياسة أضرت بالنظام الاقتصادي وأضعفت قدرة الدولة على تقديم الخدمات الأساسية للسودانيين.
تشجيع الاقتصاد الموازي دعم النظام الاقتصادي الموازي وشجع على تنامي التجارة غير الرسمية والتهريب، مما جعل الاقتصاد السوداني يعاني من ضعف الاقتصاد الرسمي وانعدام الاستقرار المالي. وبدلاً من استغلال الموارد الوطنية بطريقة تعود بالنفع على الشعب، تم استنزاف الاقتصاد لصالح نخبة صغيرة ترتبط بالحركة الإسلامية.
إذكاء الصراعات القبلية وإضعاف النسيج الاجتماعي استغلت الحركة الإسلامية التعدد القبلي والعرقي في السودان لأغراض سياسية، حيث دعمت بعض القبائل وحرّضتها ضد أخرى بهدف إضعاف الحركات الثورية التي واجهتها. أدى هذا الاستغلال إلى تمزيق النسيج الاجتماعي واندلاع نزاعات مسلحة أدت إلى خسائر بشرية واقتصادية هائلة. كما روّجت الحركة لخطاب ديني وسياسي أثار الشكوك حول انتماء الأقليات الدينية والعرقية، مما زاد من التوترات وأدى إلى تدهور العلاقات الاجتماعية بين المجموعات المختلفة.
التأثير السلبي على العلاقات الخارجية انتهجت الحركة الإسلامية سياسة تدخل خارجي دعمت من خلالها حركات إسلامية في الدول المجاورة، مما أدى إلى عزل السودان دولياً وتعريضه لضغوط وعقوبات اقتصادية. هذه السياسة أثرت بشكل سلبي على علاقات السودان الخارجية وزادت من عزلته الإقليمية والدولية، مما أضر بقدرته على جذب الاستثمارات الأجنبية أو تطوير اقتصاده.
الصراع الحالي من أجل العودة إلى السلطة
مع سقوط نظام الحركة الإسلامية في 2019 إثر ثورة شعبية عارمة، تحوّل صراع الحركة إلى مسعى جديد لاستعادة السلطة عبر الحرب والتحالفات، وتقديم نفسها كبديل للسلطة المدنية التي تعاني من ضعف بسبب التدخلات العسكرية. وقد لجأت الحركة في هذا الصراع إلى تجنيد أنصارها في المناطق الريفية وتفعيل خطاب ديني وسياسي يدّعي حماية الهوية الإسلامية للسودان، لتأجيج النزاعات وإضعاف فرص الاستقرار.
استغلال التوترات السياسية و تستغل الحركة الإسلامية التوترات بين الجيش والقوى المدنية لبناء تحالفات تمكنها من التأثير على القرارات السياسية، مستخدمةً شبكاتها القديمة في الجيش والمؤسسات الأمنية.
إثارة خطاب التخويف و تعتمد الحركة على خطاب يروج لفكرة أن القوى المدنية ستقود السودان إلى الانحلال الأخلاقي أو التبعية الخارجية، مما يعزز من شعور الخوف بين بعض فئات المجتمع السوداني ويعيد استقطاب قطاعات متحفظة تعتقد أن الحركة الإسلامية هي الحامية للقيم الإسلامية.
ولقد أثبتت التجربة الطويلة للحركة الإسلامية السودانية في السلطة أنها عرقلت مسار الديمقراطية والتنمية في السودان، وقوّضت فرص بناء نظام سياسي قائم على التداول السلمي للسلطة واحترام التعددية. سياسات التمكين والتسييس والاقتصاد الموازي، والتلاعب بالتركيبة الاجتماعية والسياسية، كلها أضرت بالسودان وأثقلت كاهل الدولة، مما أضعف من قدرتها على مواجهة تحديات التنمية وبناء الدولة الحديثة. واليوم، ما زالت الحركة تخوض حرباً مفتوحة سعياً للعودة إلى السلطة، مما يعيد السودان إلى دوامة من النزاعات السياسية والعسكرية التي تهدد أمنه واستقراره وتضعف فرص تحقيق حلم السودانيين بالديمقراطية والسلام والتنمية.
zuhair.osman@aol.com