ثورة أكتوبر وتوق الشعب السوداني إلى حركة حقوق مدنية (6-6)
تاريخ النشر: 8th, November 2024 GMT
مجتزأ من ورقة: عبد الله الفكي البشير، "ثورة أكتوبر ومناخ الستينيات: الانجاز والكبوات (قراءة أولية)"، نُشرت ضمن كتاب: حيدر إبراهيم وآخرون (تحرير)، *خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية (1964- 2014): نهوض السودان المبكر*، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2014.
عبد الله الفكي البشير
abdallaelbashir@gmail.
الكبوة الأخلاقية: الفشل في حقن الدماء وتحقيق التسوية الوطنية
وضعت ثورة أكتوبر الأحزاب التقليدية أمام تحد أخلاقي. فالمطلوب حسن التصرف في الحرية في اتجاه مبادئ الثورة حيث حقن الدماء في الجنوب، وتحقيق التسوية الوطنية الشاملة، حفاظا على وحدة السودان. فخروج الجماهير في ثورتهم بسبب قضية الجنوب، التي وفرت شرارة الانفجار للغضب الشعبي، كان تعبيرا عن الورع الأخلاقي عبر رفض الحسم العسكري للقضية، وبحثا عن سبل تحقيق التسوية الوطنية الشاملة وبناء الوحدة. كان مؤتمر المائدة المستديرة للجنوب، والذي عقد في مناخ ثورة أكتوبر وكان من ثمارها، وهو أول محاولة سودانية جادة للبحث عن السلام، فرصة عظيمة لتحقيق التسوية الوطنية الشاملة. إلا أن فشل مؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الاثنى عشر التي خرجت منه، كان تعبيرا قويا عن عجز الأحزاب السودانية في تحقيق التسوية الوطنية، ومن ثم المفارقة لأشواق الجماهير و"تجميد الأوضاع". ففي الحفل الذي أقامته لجنة الاثني عشر في مساء يوم 26 سبتمبر 1966 لتقديم تقريرها رسميا إلى الحكومة، جاء في خطاب التقديم: "لقد أجمعت الأحزاب السودانية في مؤتمر المائدة المستديرة على أن الوضع الحالي للحكم- الحكومة الموحدة الممركزة- لم يعد يخدم المصلحة القومية، إذ ثبت عجزه عن مواجهة التحديات التي تواجه البلاد الناشئة كبلادنا، التي يسبق فيها الاستقلال السياسي بناء القومية، وحيث تتعدد عناصر الأمة، وتنشأ بالضرورة نوازع الفرقة بينها، نسبة للعوامل الجغرافية والثقافية والتاريخية. وعلي جيلنا هذا، إما أن يقابل هذا التحدي، أو أن يخلد إلى اليأس، وتبديد الطاقة في تجميد الأوضاع". غاب الورع الأخلاقي في التعاطي مع القضايا وحيكت المؤامرات، ففشل قادة الأحزاب التقليدية في تحقيق التسوية الوطنية، وجمدوا الأوضاع وبددوا الطاقات. ويضيف يوسف محمد علي، عضو سكرتارية المؤتمر ورئيس لجنة الاثنى عشر، قائلا: "ولم يقدر لتلك التجربة أن تؤتي ثمارها للأسف. فقد نكست رايات أكتوبر بعد حين، وعادت النظم الاستبدادية –برلمانية وعسكرية- تتناوب على التسلط والقهر". ما من ثورة جماهيرية غاب عنها مبدأ الأخلاق لدى قادة الجماهير، كما كان حال ثورة أكتوبر، إلا ونكست راياتها. فغياب مبدأ الأخلاق عند خدمة الجماعة يعني بالضرورة غياب القانون وهو قاعدة الأخلاق، ويعني بالضرورة أيضا، خيانة الجماعة وخيانة مبادئ الثورة. فالأخلاق تعطي الناس الفرصة ليكونوا أحرارا وشجعانا في سعيهم لخدمة الجماعة والفكر والثقافة وأنسنة الحياة، فغياب الأخلاق يعني موت المعاني الإنسانية.
تبع فشل مؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الاثني عشر، وهو بمثابة الإعلان عن عجز الساسة في تحقيق التسوية الوطنية الشاملة، أن اتبعت الدولة السودانية، بمختلف أنظمتها السياسية المتعاقبة، أمام تحديات التسوية الوطنية وانفجار الصراعات في أقاليم أخرى، منهج الترقيع والترميم عبر الاتفاقيات الثنائية والجزئية والمؤقتة، في سعيها لتحقيق السلام والاستقرار والوحدة. فمنذ ثورة أكتوبر، وحتى تاريخ اليوم، لم تتوفر فرصة لتحقيق التسوية الوطنية الشاملة، مثل تلك التي توفرت مع مؤتمر المائدة المستديرة. وأصبحت المعالجات جزئية وثنائية ومؤقتة وفوقية. فمنذ توقيع اتفاقية السلام بأديس أبابا عام 1972، تفشت في السودان ثقافة عقد الاتفاقيات، فقد تم توقيع عشرات الاتفاقيات، ولا يزال توقيع الاتفاقيات مستمرا وبكثافة حتى تاريخ اليوم. وبرغم التوقيع المستمر للاتفاقيات ظلت الصراعات تتجدد وتتوسع والانقسامات تتالى وتتمدد. فالاتفاقيات – برغم حقنها المؤقت للدماء وهو أمر مطلوب وواجب وطني وإنساني- لا تمثل سوى حلا جزئيا ومرحليا للصراع مهما قيل عنها وطال سريانها، في حين أن المطلوب هو الحل الكلي والشامل والدائم. كما أن الاتفاقيات الثنائية والحلول الجزئية والمؤقتة، في بلدان التعدد الثقافي، كحال السودان، ما هي إلا ترميم لبناء متهالك، وتعبير فصيح عن العجز والفشل في تحقيق التسوية الوطنية، أقصى مراتب مصيرها الانهيار وأدناه الانفصال.
إن تفشي ثقافة الاتفاقيات الثنائية والجزئية، هو نتيجة طبيعية لفشل مؤتمر المائدة المستديرة، وعجز الأحزاب التقليدية عن تحقيق التسوية الوطنية الشاملة. والمفارقة العجيبة أن نفس تلك الأحزاب عندما وقع انقلاب 25 مايو 1969، عادت إلى مربع النضال من أجل استعادة الديمقراطية، وظلت تناضل حتى عادت بالمصالحة الوطنية عام 1977. وما لبثت أن غطت سماء الخرطوم مرة ثانية بالدعوات للدستور الإسلامي، الأمر الذي تحقق لها في عام 1983. فدخلت البلاد في الحرب الأهلية مرة ثانية، وتحكم مناخ الانفصال والتشظي حتى تاريخ اليوم. ولا مخرج إلا بالثورة الكبرى، ثورة العقول.
خاتمة: نحو الثورة الكبرى ثورة العقول
على الرغم أن ثورة أكتوبر الشعبية السلمية العزلاء، إلا من قوة إجماع الجماهير على إرادة التغيير، استطاعت أن تغير الحكم العسكري، بيد أنها لم تحقق المكاسب المرجوة حيث التغيير الجذري والشامل في اتجاه الحرية والعدالة الاجتماعية ووحدة البلاد، والمنطلق من مكونات السودان وتكويناته المتنوعة وانتمائه الأفريقي، والمتصل بالمشهد العالمي حيث انتصار حركة الحقوق المدنية والاعتراف بالتعدد الثقافي. لقد اختطفت القوى التقليدية والدينية والطائفية ثورة أكتوبر، وتحالفت قياداتها فيما بينها، وعبر التآمر والعبث بإرادة الجماهير والفوضي الدستورية نجحت في إبعاد القوى الحديثة وتحجيم المد الديمقراطي، وتكليس الوعي الديمقراطي. كما أنها سارت بالسودان، أمام تحديات التسوية الوطنية وانفجار الصراعات، في اتجاه منهج الترقيع والترميم في سعيها لتحقيق السلام والاستقرار من خلال توقيع الاتفاقيات الثنائية، وهو منهج يعبر عن العجز وأفضي إلى الانفصال وتمكين ثقافة التشظي.
وعلى الرغم الخسائر الضخمة الناتجة من اختطاف ثورة أكتوبر، وعدم تحقيقها للمكاسب المرجوة، إلا أن ثورة أكتوبر، لم تكتمل مراحلها بعد. فقد تركت إرثاً ثورياً ضخماً وعميقاً، سيعين في اكتمالها يوم اشتعال الثورة الكبرى من جديد، ثورة في عقول الجماهير، بقيادة المثقفين الأحرار. وعندما تشتعل الثورة من جديد في عقول الشعب فإنها تكون قد بدأت المرحلة الإيجابية من ثورة أكتوبر.. وهذه في الحقيقة هي الثورة الكبرى، وواجب اشعالها يقع على أفراد الشعب عامة وعلى المثقفين بصفة خاصة عبر تنوير الجماهير وتحريرهم من التبعية والطائفية والقوى التقليدية والدينية ورجال الدين والأوصياء على العقول.
إن المد الثوري، كحالة إنسانية تنشد التغيير والتحرير، في حالة توسع وتجدد واستمرار. كما أن مغذيات الثورة الشعبية وأسبابها في السودان، اتسعت وتعمقت الآن، أكثر من أي وقت مضى، وتسربت إلى وعي الجماهير، بمعزل عن الأوصياء على العقول، ولهذا فنحن الآن على مشارف انفجار "الثورة الكبرى". وهي ثورة ستشتعل في عقول الجماهير، وهدفها التغيير الشامل والجذري، ولا يفصلنا عنها، سوى لحظة الاجماع، وقيام المثقفين بواجبهم نحو اشعالها في عقول الجماهير. فمتى ما تمت الثورة الكبرى، الآن أو مستقبلاً، ستكون إدارة السودان على أساس التعدد الثقافي، وقيم الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان، من أبجديات الحراك السياسي والفكري، وعندها ستتم الوحدة بين أقاليم السودان المختلفة، بما في ذلك جنوبه، الذي اختار اسم (جمهورية جنوب السودان) لدولته وفي هذا نبوءة مستقبلية لوحدة قادمة.
(بالطبع تتضمن الورقة قائمة بالمصادر والمراجع، وهي منشورة ضمن: حيدر إبراهيم وآخرون (تحرير)، خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية (1964- 2014): نهوض السودان المبكر، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2014).
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: مؤتمر المائدة المستدیرة الاتفاقیات الثنائیة الثورة الکبرى ثورة أکتوبر فی عقول
إقرأ أيضاً:
هل تستغل جوبا الأزمة السودانية لفرض واقع جديد في أبيي؟
الخرطوم- بعد فترة من الهدوء، برز إلى السطح مجددا النزاع بين السودان وجنوب السودان على منطقة أبيي الحدودية، إثر تحركات في جوبا للاعتراف بنتائج استفتاء من جانب واحد جرى قبل أكثر من 11 عاما، في حين عدت الخرطوم ذلك خرقا للتحكيم الدولي، واحتجت قبيلة المسيرية العربية التي تقطن المنطقة ولوحت بالتصعيد.
ويشكل وضع منطقة أبيي، التي توازي مساحة لبنان وتقع بين السودان وجنوب السودان، إحدى نقاط الخلاف الرئيسية التي لم يعالجها اتفاق السلام الشامل الموقع عام 2005 وانتهى بانفصال الجنوب في 2011 وصار دولة مستقلة.
منطقة أبيي تقع في الشريط الحدودي بين شمال السودان وجنوبه (الجزيرة) تحركات جوبافي تحرك جديد حيال منطقة أبيي بدأت حكومة جنوب السودان خطوات عملية للاعتراف بنتائج الاستفتاء الأحادي. وينتظر أن يعقد مجلس وزراء جنوب السودان اجتماعا -الأربعاء المقبل- للاعتراف رسميا بنتائج استفتاء عشائر دينكا نقوك.
وتكشف منصات إعلامية قريبة من حكومة الجنوب أن وزير شؤون أفريقيا دينق ألور المنحدر من أبيي ورئيس دائرة أبيي شول دينق ألاك عقدا اجتماعا مع الرئيس سلفاكير ميارديت ونائبه رياك مشار لإدراج قضية أبيي في أجندة مجلس الوزراء.
وفي وقت سابق اعتمد المجلس التشريعي لمنطقة أبيي الذي شكلته حكومة الجنوب من جانب واحد نتائج الاستفتاء الذي سيطرح بعد تمريره من مجلس الوزراء على الجمعية التشريعية الوطنية الانتقالية "البرلمان" للمصادقة عليه.
إعلانفي المقابل، نظمت الخارجية السودانية في بورتسودان -السبت- لقاء مع ممثلي البعثات الدبلوماسية والمنظمات الدولية المعتمدة بالسودان.
وطرح وكيل وزارة الخارجية حسين الأمين خلال اللقاء عدة قضايا مرتبطة بأوضاع السودانيين في جنوب السودان الذين تعرضوا إلى اعتداءات -الأسبوع الماضي- بعد تحرير الجيش ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة ووقوع عنف ضد رعايا من دولة الجنوب.
كما كشف المدير العام للتعاون الدولي بالخارجية السفير أنس الطيب -حسب بيان من الوزارة- عن قرارات أحادية ظلت تتبناها دولة جنوب السودان بشأن منطقة أبيي.
ووصف الطيب ممارسات جوبا بأنها مثيرة لقلق الحكومة السودانية وقوة الأمم المتحدة لحفظ السلام في أبيي "يونيسفا" (قوامها نحو 5 آلاف من العسكريين والشرطة والمدنيين)، وعد تلك الخطوات الأحادية انتهاكا صارخا لاتفاقية 20 يونيو/حزيران 2011 بشأن الترتيبات الإدارية والأمنية في المنطقة وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة.
عشائر دينكا نقوك احتفلوا عام 2013 بنتائج استفتاء شعبي -من جانب واحد- بشأن الانضمام لجنوب السودان (رويترز) فرض أمر واقعوعددت المذكرة خروقات حكومة الجنوب بنشر قوات من جيشها وعناصر أمنها في أبيي وتوسيع دائرة تمددها يوميا، وتعيين إدارية من جانب واحد، إضافة لإنشاء مكتب في جوبا لمنح تأشيرة دخول إلى أبيي مما يعتبر ممارسة لأعمال السيادة على المنطقة.
يقول مدير إدارية أبيي من جانب السودان سلومة موسي، إن مساعي عشائر دينكا نقوك لدفع حكومة جنوب السودان للاعتراف بالاستفتاء الأحادي "مرفوضة وغير مرحب بها بالنسبة للحكومة السودانية والمواطنين السودانيين في أبيي".
ورأى موسي أن من حق شعب المسيرية مناهضة اتجاه دينكا نقوك لفرض الاعتراف بنتائج الاستفتاء من جانب أحادي وسيعملون من أجل ذلك بكل الوسائل السلمية المتاحة.
وحسب حديث المسؤول الحكومي للجزيرة نت، فإن الحكومة السودانية هي المسؤولة عن إجراء الاستفتاء والترتيبات المتعلقة به، وإن تحركات جوبا من شأنها أن تهدم الهدوء والاستقرار الذي تشهده المنطقة.
إعلانبدوره، يوضح المحامي وأستاذ القانون الدولي هاني تاج السر أن قرار التحكيم الدولي أجاز حكما ذاتيا خاصا لمنطقة أبيي. كما حدد القرار -حسب المحامي- حدود المنطقة بشكل دقيق، ولم يكن مرضيا بصورة كاملة لأي طرف لكنه صار واقعا قضائيا لا فكاك منه.
وقال تاج السر للجزيرة نت إن أي خطوة جديدة من حكومة جنوب السودان تجاه أبيي ستكون انتهاكا لقرار دولي وتعديا على أراض سودانية وعدوانا على سيادته.
احتجاج المسيريةوكانت قبيلة المسيرية قد نظمت، في 19 يناير/كانون الثاني الجاري، وقفة احتجاجية أمام مقر البعثة الدولية "يونيسفا" ضد إجراءات حكومة جنوب السودان باعتماد استفتاء عشائر دينكا نقوك، وسلمت قيادة القبيلة مذكرة إلى الأمين العام للأمم المتحدة.
وأكد قادة القبيلة الذين وقعوا على المذكرة -التي اطلعت عليها الجزيرة نت- رفضهم القاطع للخطوات التي تقوم بها حكومة جنوب السودان لإقرار الاستفتاء الأحادي وضم أبيي إلى سلطتها.
واتهم المحتجون حكومة جنوب السودان باستغلال ظروف الحرب الدائرة في السودان لمحاولة فرض أمر واقع وضم المنطقة المتنازع عليها، وتمسكوا بحق الدفاع عن حقوقهم بكل الطرق المشروعة.
"يونيسفا" تضم نحو 5 آلاف من العسكريين والشرطة والمدنيين (إعلام سوداني) سنوات على الاستفتاءوكان الطرفان قد لجآ إلى محكمة التحكيم الدائمة بلاهاي التي قضت في يوليو/تموز 2009 بإعادة رسم حدود منطقة أبيي الشمالية والغربية والشرقية، وصارت حقول النفط خارج المنطقة تابعة للسودان.
ونص اتفاق السلام على إجراء استفتاء لسكان أبيي من قبيلتي المسيرية العربية ودينكا نقوك الأفريقية حول مصير المنطقة، إذا كانوا يفضلون البقاء تحت سلطة الحكومة السودانية مع الاحتفاظ بوضع خاص، أم يرغبون في الالتحاق بالجنوب.
لكن الاستفتاء أرجئ أكثر من مرة بسبب خلاف بين الخرطوم وجوبا على الكتلة الناخبة التي يحق لها التصويت.
إعلانغير أن عشائر دينكا نقوك صوتت في استفتاء شعبي من جانب واحد في أكتوبر/تشرين الأول 2013 على الانضمام لجنوب السودان بنسبة 99.9%، في حين أعلن الاتحاد الأفريقي عدم قبوله بأي إجراء أحادي لتحديد مصير تبعية المنطقة إلى جوبا أو الخرطوم.