تمهيد:
(في مقال سابق لي كان تحت عنوان " أهم تحديات تواجه تحالفات القوي المدنية"، تناولت بشئ من التفصيل المبدأ التنظيمى الذي يحكم الحياة الداخلية للحزب الشيوعي الذي فصلته لائحة ذلك الحزب. وقد أوضحت مدي تجاوزات تلك اللائحة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان لأنها تصادر حق العضوية مثل حقوق الحركة والتعبير داخل الحزب وداخل المجتمع مما اثر سلبا علي التحالفات السياسية التي يكون طرفا فيها وذلك بالمثابرة في فرض رأي قيادة الحزب وإلا فإن سلاح التخوين يكون شاهرا في وجه المجتمع المدني ومنظماته ، وهو ما عشناه في تجربة تجمع المهنيين ولجان المقاومة وتحالف قوي الحرية والتغيير.
كذلك كنت قد تعرضت في الجزء الأول من هذا المقال إلى ما توصل إليه المفكر الألماني الشهير ايمانويل كانط في عدم قدرة العقل البشري علي ادراك " الشئ في نفسه " وسماه النيومينون
Noumenon
لأن العقل قادر فقط علي دراسة خواص الموضوع المراد التعرف عليه بإستخدام الحواس الخمس وكلما من شانه رفع قدرات تلك الحواس ) .
الحقيقة ان الديالكتيك أو جدل المتناقضات لايولد معرفة، وما هو إلا نوع من التصوف او الشعوذة mysticism، وقد لاحظ كانط محقا أن الحوار بين اثنين له حدود، وفي العادة لا ينتهي بنفي احد الطرفين لرأي الاخر نفيا تاما كي يفسح المجال لفكرة جديدة تماما.
ثم جاء بعده مباشرة الفيلسوف الالماني جورج هيجل الذي أعلن، وخلافا لكانط، امكانية معرفة "الشئ في ذاته " وذهب إلي القول بأن حرية الافراد تحققها الدولة وهي شرط لتلك الحرية كي تتحقق، ثم البسها لباسا مقدسا بالقول ان الدولة تباركها العناية الإلهية State Providence. وهي ممارسة شبيهة بمواقف الإسلام السياسي في عالم اليوم. فاذا كانت الكنيسة قد انزوت عن الحياة العامة إلي حد كبير بعد عصر النهضة والتنوير ، فإن الإسلام السياسي قد فعل العكس حيث أصبحت الدولة هي " كنيسته الخاصة" ولم تعد المساجد مكان للعباده الحقيقية وقد أصبحت لديهم بمثابة وسائل للتحشيد لا اكثر.
يمكن رصد ملامح تطور فلسفات الهوية بعد هيجيل وماركس لأنها عملت علي تهيئة المناخ الفكري والنفسي والمزاجي لدي الشعب الألماني لتقبل الافكار الفاشية والنازية والمشاركة في كل جرائمها الكبري. ذلك إنها اشترطت ان الحرية مفهوم جماعي يمر عبر الجماعة.
من المعروف أن مجتمعات الهوية تحرص علي أن تكون هوية الجماعة هي المهيمنة علي الأفراد وتفرض الوصاية عليهم بالتضييق علي حقوق الافراد وحرياتهم الشخصية واعتبارها " رجس من عمل الشيطان" يجب إجتنابه تماما، لدرجة ان تم تصويرها وكأنها مؤشرا علي التحلل والانحرافات الاخلاقية.
ان العلاقة الضرورية بين المعرفة والفعل عند كل من هيجيل وماركس سواء أكانت تحركها الروح في صيرورة تاريخية تزعم بان التاريخ واعي بذاته self conscious عند الاول ، او معرفة الضرورة عند الاخير حيث الصراع الطبقى يعتبر المحرك للتاريخ ، هو ما جعل الممارسة السياسية تقوم علي السيطرة والوصاية والتحشيد حيث يتم في ظل هذه المعرفة " اليقينية المزعومة" حشد الناس والاشياء كالقطيع وكأدوات instruments في تحقيق وجهة التاريخ الحتمية كما يتصورون ، ولذلك فانها تستند الي نوع من العقلانية يعرف ب " العقلانية الاداتية instrumental rationality في الفكر الديمقراطي العالمي، وهذا ما يفسر لنا السر من وراء خنق الحقوق والحريات الشخصية في داخل نصوص الدستور الخاص بالحزب الشيوعي حتي كاد ان يكون شبيها بنصوص وبممارسات احزاب اليمين المتطرف مثل الاخوان المسلمين.
شهدنا قبل أيام كيف ووجهت زيارة رئيس الوزراء السابق د.عبد الله حمدوك الي لندن ضمن جهود تنسيقية تقدم التي تقود حملة من أجل وقف الحرب وحماية المدنيين في السودان، بالمقاطعة والاحتجاجات والتنديد وحتي العنف في بعض الأحيان من قبل الكيزان وفرع الحزب الشيوعي بلندن.!
في هذا الظرف التاريخي العصيب الذي يموت فيه المواطن يوميا في السودان وينهب من قبل أفراد مليشيا الدعم السريع أو من قبل مليشيات ما عرف مجازا بالجيش السوداني بسبب تهم التعاون مع أحد الاطراف، وفقط لمجرد ان المواطن المغلوب علي أمره حاول ان يتعايش مع هذا الطرف أو ذاك.! ، فمثل هذه المآسي تستوجب علينا التلاحم كمدنيين من أجل توسيع وتفعيل الجبهة المنادية بوقف الحرب.
هذا المقال يجتهد في نقد ثقافتنا السياسية المتوارثة تقليدية كانت أم حداثوية طالما انها تقوم علي الوصاية والتحشيد والسيطرة وترسيخ روح القطيع.
لابد لثقافتنا السياسية ان تنتقل من نموذج مجتمع الهوية إلي نموذج للمعرفة يقوم علي اللغة، اي علي احترام الافراد وصيانة حقوقهم لأن المعرفة لا تقوم علي " السيطرة والهيمنة " . بل إن المعرفة الحقيقية تتم عن طريق لغة الحوار وتوفر شروط وإجراءات لذلك الحوار ، كالحرص علي بسط الحريات العامة حتي يتم التلاقح والمحاججة بشفافية في الشان العام من اجل تحقيق المصلحة العامة، ومن أجل الوصول الي معرفة هي الاقرب إلي الواقع وهذا ما نسميه ب " الاجماع " consensus بدلا عن مفهوم "الصراع" الذي تأسست عليه فلسفات الهوية.
وما أحوجنا اليوم لمثل ذلك الاجماع، فمعركتنا في السودان أصبحت معركة وجود ، والسودان اليوم يكون أو لا يكون !
talaat1706@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
في حب الملك..!
في #حب_الملك..!
د. #مفضي_المومني.
2025/4/23
في التربية والتعليم والتعلم… يكتسب الانسان المعرفة في الجانب العقلي، والموقف في الجانب الانفعالي او الوجداني.. ، والمهارة في الجانب الجسدي أو النفس حركي، ويظهر الفرد السلوك في مجتمعه وبيئته، ويكون على شكل معرفة أو موقف أو مهارة، وتعلمنا أن المعرفة والموقف(حب، بغض، كره،… ) لا يمكن قياسها او ملاحظتها بشكل مباشر، أي من خلال الحواس، وفي علم القياس والتقويم تقاس بطريقة غير مباشرة من خلال الامتحانات بانواعها والاختبارات المقننة أو المقاييس المعروفة، فلا يمكن أن نقدر المعرفة والموقف من خلال النظر لوجه أحدهم…أو الاستماع لخطبه الرنانة المكسرة. .!،بل من خلال سلوك فعلي فيه فعل وحركة… ، أما المهارة فتقاس بشكل مباشر لانها قابلة للقياس والملاحظة بالحواس.
ما أثير في جلسة مجلس النواب في جلسته أول أمس كان مثيرا للتساؤلات…وتحول الموقف إلى (من يحب الملك.. ويلعن أبو اللي ما بحبه، وأحدهم ربط محبة الملك بحب الله…) وغير ذلك من عبارات اقحمت حب الملك للجلسة… وكأن هنالك خلاف بين الاردنيين على حب الملك…وأدخل الموضوع عنوة بطريقة سطحية في دائرة الشك… وانبرى جمع من النواب للتعبير بطريقة لم يحبها كل مراقب حصيف… وأجزم أن الملك لا يوافقهم هذا الاسلوب والطرح…! وتحويل الجلسة لجلسة ( بتحب الملك ولا… لا..! )… مع أن الموضوع بجملته… ضبط جهاز المخابرات خلية متهمة بمخالفة القانون…وتهدد أمن الدولة، وتقديمها للمحاكمة…ولن تكون الأولى… ولن تتوانى الاجهزة الامنية عن تقديم أي كان له علاقة جرمية بالموضوع بغض النظر كان أخوان أو جبهة عمل…أو غيره للمحاكمة، وثقتنا بالقضاء واجهزتنا الأمنية ثابته لا تتزعزع عبر مسيرة بلدنا.
كنت ساكتب أكثر عن الجلسة الممتدة… وما دار فيها… واستغراب استخدام الفاظ لا تجري عرفاً على السنة من يمثلون الشعب…وزاد الطين بلة أن رئيس المجلس في تعقيبه على كلمة العرموطي… صرح أنه أو أننا نعرف الخونة…وأقول لا مكان للخونة بيننا… ووجب عليك يا سعادة الرئيس تقديم ما تعرفه وتتثبت منه للجهات الأمنية دون إنتظار.. ليجتث من بيننا.
وأعود للكلمات التي عبرت عن حب الملك وبطرق لم نألفها ولا يصح أن تسير في جلسات مجلس المراقبة والتشريع…وأظن أن بعضها أحرج الملك… والذي منع سابقاً نشر صور كبيرة له على واجهات المباني.. وفي سفر الحب عند نزار قباني:
(كَلِماتُنا في الحُبِّ .. تقتلُ حُبَّنَا
إن الحروف تموت حين تقال…!).
القول ومعسول الكلام بمحبة الملك علميا لا يعبر عن المحبة بالضرورة… فبيننا الحاقد والمنافق والوصولي.. والفاسد.. وكلهم اشبعونا هديرا بحب الملك… والاصل أن محبة الملك والوطن يجب أن تظهر من خلال السلوك… والعمل الجاد والإخلاص فيه… وأن الإختباء تحت عباءة الملك أسلوب استمرئه كثيرون… وأظهرت الأيام انهم ارباب فساد وتآمر… ونفاق ووصولية…خانوا الوطن والملك… وبعضهم قبع ويقبع في السجون بتهم التآمر والفساد…! ورأيي لم يكن موفقا طرح محبة الملك والعبارات المتداولة… بهذا الأسلوب، الملك يطلب منكم القيام بأعمالكم بأخلاص ومحبة للوطن… وكلنا نعرف تاريخ البعض…ممن ادخلوا بسذاجة محبة الملك لدائرة الشك… وكأنها قضية مطروحة… مع أن محبة الملك والنظام محط إجماع… لا يوضع على طاولة الشك بكلمات مغرقة في السطحية… ولا تنم عن ذات نيابية حصيفة لدى البعض… لم تكن الأمور موفقة.. والوطن بحاجة للمخلصين…لا المتنفعين ركاب الموجات.
اتحفونا نواب الأمة بمهاراتكم القابلة للقياس والملاحظة… من خلال عدم تمرير القوانين المجحفة بحق المواطن… والرقابة الحقيقية على الحكومة واجهزتها… واتركوا محبة الملك لقلوب الأردنيين…فهي ليست حكراً عليكم…!، وابتعدوا يا رعاكم الله عن المدح المغرق بالسطحية… فقد كانت جلستكم عبئا جديدا غير موفق على محبة الملك…وعلى من انتخبكم… حمى الله الأردن.