الاستثمار لمواجهة الأزمات في المؤسَّسات
تاريخ النشر: 8th, November 2024 GMT
د. نازك حامد الهاشمي
في ظل الأزمات المتتابعة التي يشهدها العالم، أصبح من الضروري على الباحثين والمفكرين في مختلف المجالات الفهم والتحليل المستمر للظواهر المتنوعة في ميادين شتى، مثل العلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحتى العلوم الطبيعية. وازداد التركيز على مفهوم المرونة كمنهجٍ رئيسي لتوجيه التفكير حول كيفية التعامل مع الأزمات والتعافي منها، إضافة إلى تعزيز القدرة على الوقاية من الأزمات المحتملة في المستقبل.
لقد ازداد الاهتمام بمفهوم المرونة واستخداماته بشكل كبير نتيجة الأزمات العالمية المتتابعة مثل الأزمة المالية في 1997 والأزمة الاقتصادية في 2008 وأخيراً جائحة كوفيد-19 التي أثرت سلباً على مختلف المجالات الصحية والاقتصادية. وغدت المرونة أولوية للدول كوسيلة لمواجهة الأزمات المتعددة وتعزيز القدرة على مواجهة التحديات المستقبلية، خاصة بعد أن أدركت الكثير من الدول أن الاعتماد على الحلول الخارجية لم يعد كافياً للتعامل مع الأزمات أو تقليل المخاطر، مما دفعها إلى التفكير في بناء أنظمة متكاملة لتعزيز المرونة في جميع المجالات وتقوية قدرة المجتمعات على مواجهة الأزمات باستمرارية من الداخل. وأصبح مفهوم المرونة أساسياً في إدارة شؤون الدولة وتحقيق التنمية المستدامة ليس فقط في أوقات الأزمات بل حتى في الظروف العادية. كذلك تستند قدرة أي نظام – سواءً أكان دولة أو مؤسسة أو حتى فرداً – على مواجهة الأزمات إلى ثلاث ركائز أساسية تبدأ بامتصاص صدمة الأزمة من خلال اتخاذ إجراءات سريعة لاستعادة الوضع الطبيعي، ثم تأتي مرحلة التكيف التي تشمل اتخاذ تدابير لتقليل المخاطر المستقبلية المرتبطة بالأزمة، وفي النهاية يتم تعديل استجابة النظام لتجنب تكرار المشكلة في المستقبل. ويتطلب بناء هذه المرونة تعاوناً مكثفاً بين الجهات الحكومية وغير الحكومية. فعلى مستوى الدول، يُعد تطوير مختلف أشكال رأس المال – الاجتماعي والاقتصادي والبشري والسياسي – بالإضافة إلى تحسين البنية التحتية واستغلال الموارد الطبيعية أمراً أساسياً لتحقيق هذه القدرات. ويمكن تحقيق المرونة على مستوى المؤسسات الخاصة عبر تبني استراتيجيات تركز على تطوير خطط طوارئ فعالة للاستجابة السريعة للأزمات المحتملة، كما يُعد تنويع الموارد والاعتماد على أكثر من مصدر للتوريد أو السوق عنصراً حيوياً في تقليل المخاطر الناتجة عن الأزمات. ويسهم الاستثمار في التكنولوجيا في تحسين الكفاءة التشغيلية للمؤسسات، مما يعزز مرونتها في مواجهة التحديات المفاجئة. كما يدعم تدريب الموظفين على إدارة الأزمات وتطوير مهاراتهم التكيفية قدرة المؤسسة على التكيف، بينما يعمل بناء شراكات مع جهات خارجية، مثل الشركات والمنظمات غير الحكومية، على تعزيز استجابتها للأزمات. وفي القطاع الخاص، تُعد القدرة على التكيف مع التغيرات في السوق أساساً لاستدامة المؤسسات؛ حيث يجب على أصحاب الأعمال مراقبة المتغيرات البيئية وتكييف استراتيجياتهم وفقاً للمتطلبات المستجدة، إضافةً إلى بناء علاقات قوية مع العملاء والموردين. كذلك، يُعتبر التعلم المستمر وتطوير المهارات خطواتٍ ضرورية لتحسين اتخاذ القرارات الفعالة لمواجهة تحديات المستقبل.
ويؤدي الاستثمار بمختلف أشكاله دوراً محورياً في تخفيف آثار الأزمات، حيث يعزز القدرات المجتمعية والاقتصادية على المواجهة واستعادة الاستقرار. ويمكن للاستثمار في بنية تحتية مقاومة للكوارث تحسين استعداد الدول لمواجهة الكوارث الطبيعية؛ ففي إندونيسيا على سبيل المثال، أُعيد تصميم العديد من الجسور لتحمل الزلازل القوية، مما قلل من الأضرار وسرّع عملية التعافي. كذلك يتيح الاستثمار في التكنولوجيا والبيانات للدول والمؤسسات جمع وتحليل المعلومات لتعزيز التنبؤ والتخطيط للطوارئ، كما حدث في بنغلاديش، حيث أُنشئت أنظمة إنذار مبكر تحذر السكان من الفيضانات المتكررة، ما أسهم في إنقاذ الأرواح وتقليل الخسائر. ويعتبر الاستثمار في رأس المال البشري عنصراً أساسياً في الاستجابة للكوارث؛ فقد دُرّبت المجتمعات المحلية في الفلبين على التعامل مع الأعاصير، مما عزز من قدرتها على البقاء والتصرف بفعالية. وفي إثيوبيا، دعمت ممارسات الزراعة المستدامة مرونة النظام الغذائي، مما خفف من تأثير الجفاف وضمن استمرارية إمدادات الغذاء للمجتمعات. وتبرز بوضوح جميع هذه الأمثلة التي ذكرناها أهمية الاستثمار المستدام والمتنوع في تعزيز مرونة المجتمعات وقدرتها على التكيف مع الأزمات المتنوعة.
ويُعَدُّ تطوير رأس المال البشري والاستثمار في البنية التحتية من الركائز الأساسية لتعزيز القدرة على الصمود أمام الكوارث والأزمات، سواءً على مستوى المؤسسات أو المجتمعات. فبينما يُسهم تدريب الموظفين على اتخاذ قرارات فعّالة وتنظيم تدريبات دورية لمحاكاة الطوارئ في ضمان استمرارية الخدمات، يُعزز الاستثمار من إدارة الأزمات لحماية سمعة المؤسسات من خلال فرق علاقات عامة مدربة، ويضمن تواصلاً فعالاً مع العملاء والشركاء بما يعزز الثقة المشتركة. وعلى مستوى المجتمعات، فإن تطوير بنية تحتية مقاومة للكوارث وتدريب الشباب على مواجهة التحديات يعززان الاستعداد الوطني ويقللان من آثار الكوارث. وتُظهر هذه الاستراتيجيات أن الاستثمار المتنوع يُمكّن المؤسسات والمجتمعات من مواجهة الأزمات بمرونة وتكيف، كما أن الشراكة بين الحكومة والمجتمع المدني والقطاع الخاص تؤدي دوراً أساسياً في تحقيق استقرار مستدام.
أما على نطاق الدول، فإن إعداد خطط وطنية شاملة لمواجهة الكوارث، مع إشراك المجتمعات المحلية يُسهم في تعزيز الاستعداد والمرونة. ويشمل ذلك تحسين البنية التحتية والخدمات الأساسية، ودعم الاقتصاد المحلي بتركيز على تلبية الاحتياجات الضرورية. ويُعتبر الاستثمار في التعليم والتدريب المهني ضرورياً لإعداد الشباب بمهارات تُمكِّنهم من إعادة بناء المجتمعات بعد حدوث الأزمات، مما يعزز استدامة المجتمعات وقدرتها على التكيف مع التحديات المستجدة.
لا شك في أن البلدان المتضررة من النزاعات تحتاج إلى استراتيجيات استثمارية تعزز من قدرتها على الصمود، مما يسهم في تحسين جودة الحياة وتحقيق الاستقرار. ويعتمد نجاح هذه الجهود على التعاون الفعّال بين الحكومة والمجتمع المدني والقطاع الخاص لضمان تنفيذ الاستراتيجيات بكفاءة. ولدعم السكان المتأثرين بالأزمات، تعد الاستراتيجيات التي تركز على الدعم النفسي والاجتماعي من الأمور الأساسية اللازمة لتعزيز قدرة الأفراد على التعافي والتكيف. ويشمل ذلك تنظيم برامج توعية بالصحة النفسية وتشجيع الأفراد على طلب المساعدة، عبر ورش عمل وأنشطة تنمي مهارات التأقلم. كما أن تقوية الروابط المجتمعية عبر مجموعات دعم محلية وفعاليات تُعزز الشعور بالانتماء وتُسهم في بناء مجتمعات متماسكة تساند أفرادها في مواجهة التحديات.
وفيما يخص السودان، فينبغي إدراك الحاجة الماسة لمثل تلك المبادرات من أجل توفير الدعم النفسي والاجتماعي وتعزيز فرص العمل في معالجة الآثار الممتدة للنزاعات. ومن شأن ذلك مساعدة السكان على تجاوز التحديات وبناء مجتمعات قادرة على الصمود. كما أنها تعزز من قدرة الأفراد على التكيف والعودة إلى الحياة الطبيعية.
nazikelhashmi@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: مواجهة التحدیات مواجهة الأزمات الاستثمار فی على مواجهة على الصمود القدرة على على التکیف التکیف مع على مستوى
إقرأ أيضاً:
وزيرة البيئة تبحث مع مدير صندوق التكيف آليات زيادة التمويل
عقدت الدكتورة ياسمين فؤاد وزيرة البيئة لقاءً ثنائيًا مع السيد ميكو أوليكاينن مدير صندوق التكيف، بحضور الأستاذة سها طاهر رئيس الإدارة المركزية للتغيرات المناخية وذلك على هامش مشاركتها في الشق الوزاري لمؤتمر المناخ COP29 بباكو بأذربيجان، والذي انطلقت فعالياته بدءا من من 11 إلى 22 نوفمبر 2024، تحت شعار "الاستثمار في كوكب صالح للعيش للجميع".
وزيرة البيئة تشارك في جلسة الرئاسة الأذربيجانية لمؤتمر المناخ COP29 للتقييم وزيرة البيئة تشارك في احتفالية توزيع جوائز مبادرة Africa Grows Green Awardsوقد بحث الجانبان آليات العمل على زيادة تمويل التكيف في إطار العمل على الخروج بهدف جمعي جديد لتمويل المناخ، حيث أعرب رئيس صندوق التكيف عن تطلعه للاستفادة من الدور المحوري للدكتورة ياسمين فؤاد وزيرة البيئة المصرية في ملف تمويل المناخ خاصة مع قيادتها وشريكها الأسترالي لمشاورات الهدف الجمعي الجديد لتمويل المناخ خلال مؤتمر المناخ الحالي COP29.
وقد أكدت الدكتورة ياسمين فؤاد على أهمية زيادة التمويل المخصص لتمويل التكيف، باعتباره أولوية للبلدان النامية بشكل خاص، موضحة ان الهدف الجمعي الجديد لتمويل المناخ الذي يتم العمل عليه حاليا يخص تمويل المناخ بشكل عام دون التطرق لتخصيص تمويلات بعينها للصناديق النوعية.
كما ثمنت وزيرة البيئة التعاون مع صندوق التكيف على المستوى الوطني، وزيادة حصة مصر في الصندوق بدلا من ١٠ مليون دولار التي تم استخدامها في تنفيذ مشروعات التكيف لتصبح ٢٠ مليون دولار فيما يخص المشروعات التنفيذية (Action grants) ومشروعات الاستعداد (Readiness Project)، وآليات الاستفادة من النوافذ الأخرى لتنفيذ مشروعات التكيف خارج الحصة التمويلية لمصر، ومنها المشروعات الابتكارية (Innovation grants)، و المشروعات الاقليمية (Regional grants)، والإمداد التمويلي للمشروعات التنفيذية القائمة (Project scale-up grants)، وتمويل التعليم في مجال التكيف (Learning grants)، وتعزيز الوصول المباشر للمعارف المحلية (Enhanced direct access).
جدير بالذكر أن المشروعات المصرية الممولة حاليا من صندوق التكيف هي مشروع مرونة الغذاء في صعيد مصر والتابع لبرنامج الغذاء العالمي ووزارة الزراعة، وهو مرحلتين بإجمالي ميزانية 10 مليون دولار استهدفت ٦٤ قرية مصرية، حيث تم إشراك أهالي القرى في مشروعات زراعية وابتكارية لتنويع مصادر الدخل وزيادة مرونة مجتمعاتهم في مواجهة التغيرات المناخية.