غزة- مدلين خلة - صفا ما تزال أصوات القذائف تُمزق السماء، والظلام يعم الأرجاء دون بزوغ شمس الصباح، هنا وجوه أُنهكت من نقل قصص تُفطر القلب مع كل جثمان يتم انتشاله من تحت ركام المنازل المدمرة، لكن دون أن تجد من يصغي. هناك في ظلام الموت حكايات تنتظر قاصًا بلغة فصيحة يحكي روايةٌ ماتت فيها ضمائر الإنسانية، في سرد القصة من فم أثقله التعب ولوعة الفراق، وحملٍ ثقيل تنهد له الجبال وتخر لمرارته أعتى الرجال.

وجع وفراق كان مساءً مختلفًا يحمل بين طياته وجع كبير لمسعف الهلال الأحمر المتطوع منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تلك اللحظات التي على بها صوته أرجاء المشفى ليُخبر الجميع أنها ليست مجهولة الهوية إنها "أمه". الصدمة أبلغ من أي كلمة تُقال فهو الذي انتشل جثمان بجانب المنزل المدمر، غطي جسدها بالكامل احترامًا لحرمة الميت كونها إمرأة، نقلها مع زميل له دون أن يتفقد وجهها أو يتعرف على تلك الشهيدة "مجهولة الهوية". تلك الرسالة كانت الأثقل على كتف المسعف عبد العزيز البرديني، رسالة تطلب منهم التوجه على وجه السرعة لمنزل تم استهدافه في مخيم البريج وسط القطاع. قاده قلبه بسرعة جنونية لم يكن ليصلها بهذا الوقت، ثلاث دقائق فقط كانت الفاصلة ما بين استلام الرسالة والوصول إلى مكان الاستهداف، تخطى فيها البرديني وُعورة الطريق من أكوام الحجارة التي تغلقها وكأن حدثًا ما حصل هناك. صرخة ألم يقول البرديني لوكالة "صفا": "وصلت والفريق المرافق لي، فوجدنا ثلاثة أشخاص على الأرض، قام المارة بتغطية أحدهم، وعند السؤال تبين أنها أمرأة اقتربت منها دون الكشف عن وجهها لأفحص نبضها، وتبين أنها اُستشهدت". يضيف "ركضت نحو الشخصين الآخرين فإذا بأحدهما طفل ما يزال قلبه ينبض، فأخذتُ على عاتقي إسعافه ونقله بصحبة جثمان السيدة إلى المشفى لاستكمال العلاج". "ربما شده قلبه لتلك التي تنام بسلام، فقرر الجلوس بجانبها داخل سيارة الإسعاف، يشده لها شعور غريب لم يستطع تفسيره في حينها لانشغاله بحالة ذلك الطفل الذي لم يتجاوز عمره 10 سنوات".  وصلت سيارة الإسعاف للمشفى وانشغل الجميع بالطفل الصغير بإدخاله لقسم العناية المكثفة، يُسارعون الوقت للفوز بروح نجت من دمار هائل حل بالمكان المستهدف. يتابع البرديني "كان هدفي الأول أن يصل الطفل إلى المشفى، واهتمامي منصب على بقائه على قيد الحياة". "عند الإطمئنان على حالة الصغير، خرجتُ وزملائي لنقل جثمان الشهيدة التي لم يسأل عنها أحد، فيبدو أنها كانت تمر من جانب المنزل المستهدف فأصيبت واستشهدت". لا تكاد الكلمات تخرج من فمه، هل كتب له أن يُخبر أشقائه باستشهاد والدته، هل كان عليه أن يحمل هذا الحمل مثقلًا بالوجع على لحظات جمعته ووالدته الشهيدة دون أن يعي أنها هي، كيف له أن يفحص نبضها دون التعرف عليها من تفاصيل يدها التي قبلها قبل خروجه من المنزل لعمله؟". يقول: "كنت أحاول تكذيب نفسي وأشكك في ما أرى أمامي لا أريد أن يكون ما أراه واقعًا، أنظر حولي لعلي أجد من يُكذب هذا الخبر، لكنها أمي هل لي أن أتوه عن وجهها كما تاه قلبي عن يديها". "اقترب زملائي من الجثمان يريدون نقله لمكان آخر، استوقفتهم بكامل قوتي، لا تأخذوها لأي مكان، اقتربت منها تمعنت ملامحها، وشممت رائحتها، هذه أمي، ليست مجهولة الهوية، إنها أمي". بجانب جسدها الذي ضل مُغطى عن عينيه حتى يُؤدي مهمته على أكمل وجه، يُلقي آخر نظراته على تلك الشهيدة التي حملها بقلبه قبل يديه، يستذكر لحظات خروجه لعمله وتوديعها له، صاروخ إسرائيلي أنهى أجمل أيامه مع حبيبة قلبه "أمه"، فكان نعيها خاصًا به وحده.

المصدر: وكالة الصحافة الفلسطينية

كلمات دلالية: عبد العزيز البرديني العدوان على غزة

إقرأ أيضاً:

كيف تستخدم إسرائيل اللغة العربية في طمس الهوية الفلسطينية؟

اعترفت قوانين الانتداب البريطاني على فلسطين المحتلة، باللغة العربية إلى جانب العبرية والإنجليزية كلغات رسمية منذ عام 1922، وهو ما استمر لدى الاحتلال الإسرائيلي من بعدها لفترة طويلة.

ورغم أن دولة الاحتلال أقرت في تموز/ يوليو 2018 قانون أساس: "إسرائيل – الدولة القومية للشعب اليهودي"، الذي أحدث تغييرات واسعة ومنها اعتبار اللغة العبرية الرسمية والوحيدة، بينما تراجعت العربية من رسمية إلى "لغة بمكانة خاصة".

ولم يأتِ تبني "إسرائيل" للقوانين البريطانية المتعلقة باستخدام اللغة العربية "احتراما" للسكان الفلسطينيين الأصليين المتبقين داخل الأراضي المحتلة عام 1948 جراء أحداث النكبة، إنما على ما يبدو من أجل استكمال مهمة التهجير وطمس آثارها، بحسب ما جاء في دراسة لمركز "أركان للدراسات والأبحاث".

وجاءت قرارات المحكمة العليا الإسرائيلية بالاعتراف باللغة العربية كلغة رسمية إلى جانب العبرية والإنجليزية لتعمل على ترسيخ استخدام العربية وضرورة وجودها في الحيز العام، وظهر ذلك بشكل واضح عام 2012، عندما جرى إلزام بلدية تل أبيب بوضع أسماء الشوارع والمناطق والمرافق العامة باللغة العربية إلى جانب العبرية والإنجليزية.

 وبات قرار المحكمة العليا ملزما لجميع مؤسسات "إسرائيل" الرسمية والبلديات وكل ما يتبع لها، وذلك بنشر اللافتات العامة مثلا باللغات الثلاثة.



ومع حلول عام 2018 وإقرار قانون القومية، لم يعد إلزاميا وضع اللغة العربية في الأماكن العامة على اللافتات، إلا أن "إسرائيل" واصلت وضعها لأهداف أخرى، لعل أهمها هو "عبرنة" الأسماء العربية، من خلال كتابة لفظها واسمها العبري بحروف عربية.

اللفظ العبري 
وتغيرت لافتات الشوارع التي تشير إلى الاتجاهات إلى مدينة عكا التاريخية إلى اسم "عكو أو "أكو"، وهو اللفظ والاسم الذي أقرته "إسرائيل" للمدينة بعد احتلالها وتهجير غالبية سكانها عام 1948.


ووضعت على اللافتات اسم "يافو"، مكان اسم يافا، و"لود" مكان اسم مدينة اللد، وذلك بهدف طبع هذه الأسماء في أذهان الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام 1948، الذين يمرون يوميًا على العشرات منها، وكذلك أمام السياح الأجانب وكل من يرى هذه اللافتات، بحسب ما ذكرت الدراسة.

وفي القدس، تقوم لجنة التسميات التابعة لبلدية الاحتلال في القدس بوضع الأسماء العبرية والتوراتية للمناطق، مثل "شمعون هتسديك" مكان الشيخ جراح، و"هجفورا" مكان طريق الواد التاريخي، كما أنها حولت اللافتات الإرشادية لمدينة القدس من القدس إلى "أورشليم".

View this post on Instagram A post shared by Kharita ™ | خــــريـــــطة (@mykharita)
ورغم ذلك، فقد بقيت مثلا قرية بذات الاسم رغم محاولات "إسرائيل" تحويل اسمها لإلى "تسيبوري"، وبقي الاسم الفلسطيني الأصلي على اللافتات الإرشادية بدل الاسم واللفظ العبري.

أصل المخطط
منذ أواخر القرن التاسع عشر، شرع "صندوق استكشاف فلسطين" بعملية مسح للأرض، وجمع خلالها أسماء عربية للمواقع، ثم ربطها بأسماء توراتية لتأكيد علاقة اليهود بالأرض، وأكد مسؤولون في هذا الصندوق أنهم "أعادوا البلاد إلى العالم" عبر الخرائط التي ربطت فلسطين بالتوراة، بحسب ما جاء في دراسة لمركز "بيت المقدس للدراسات التوثيقية".

وأوضحت الدراسة أنه قبل قيام "إسرائيل"، اعتُبرت "الهوية اليهودية" لفلسطين من المسلمات في الفكر الصهيوني الرافض لوجود شعب فلسطيني، وسط مزاعم أن العرب هم مهاجرون حديثون من الدول المجاورة.

وأكدت أن "الدعاية الصهيونية وسعت إلى تكريس فلسطين كأرض بلا شعب، وجعلت "إيرتس يسرائيل" (أرض إسرائيل) الاسم البديل لفلسطين.

وبعد النكبة مباشرة، جرى تأسيس "اللجنة الحكومية للأسماء" لتبديل الأسماء العربية إلى أخرى عبرية، ولا تزال فاعلة حتى الآن، وعملت على فرض الأسماء العبرية في المناهج التعليمية، وإجبار المعلمين والتلاميذ العرب على استخدامها.


وعملت اللجنة على إصدار خرائط جديدة باللغة العبرية تشمل تسميات جديدة، واستبعاد التسميات العربية من الخرائط البريطانية القديمة.

وأكدت الدراسة أن تغيير الأسماء يُعدّ جزءاً من استراتيجية "التشريش" (زرع الجذور) لإضفاء شرعية على الوجود الصهيوني، إذ تعمل "إسرائيل" على خلق هوية عبريّة جديدة تستمد شرعيتها من نصوص العهد القديم والتلمود، في تجاهل تام للهوية الفلسطينية.



ويظهر ذلك أيضا في مذكرات رئيس الوزراء التاريخي للاحتلال دافيد بن غوريون، التي قال فيها إنه خلال جولة إلى منطقة سدوم في النقب ثم إلى إيلات جنوبا، صادف أن كل الأسماء للحيز المكاني كانت عربية.

وأضاف بن غوريون: "اتجهت إلى إيلات بتاريخ 11 حزيران/ يونيو 1949 في يوم السبت، مررنا في منطقة العارابا، وصلنا إلى عين حاسوب، ثم إلى عين وهنة، لذا فإن من الضروري إكساب هذه الأماكن أسماء عبرية قديمة، وإذا لم تتوفر أسماء كهذه، فلتعط أسماء جديدة".

المواجهة
وتُبذل في فلسطين جهود متعددة من قِبَل مؤسسات ومبادرات تهدف إلى الحفاظ على اللغة العربية وتعزيز الهوية الثقافية الفلسطينية، خاصة في مواجهة التحديات التي تفرضها السياسات الإسرائيلية. 

وفي 2021، جرى تأسيس جمعية حماية اللغة العربية في فلسطين "ضاد" بمبادرة من أدباء ونقّاد وأكاديميين فلسطينيين، وتهدف إلى أن تكون حلقة وصل بين المؤسسات والهيئات المختلفة، بالإضافة إلى كونها ملتقى للأفراد المهتمين باللغة العربية. 

وتسعى الجمعية إلى تعزيز البحث والدراسة في مجال اللغة، وتشجيع النقاد والمجددين على إغناء المكتبة الفلسطينية والعربية، وإيصال الجهود إلى المتلقين والمعنيين بوسائل وآليات فعّالة.

وفي داخل الأراضي المحتلة عام 1948، جرى إطلاق "مبادرة اللغة العربية في يافا" وهي برنامج شاملًا لتعليم اللغة العربية يستهدف الأطفال والشباب في المدينة، ويهدف البرنامج إلى تعزيز الهوية الثقافية والحفاظ على اللغة كجزء من التراث الفلسطيني.


وجرى أيضا إطلاق مبادرة من قبل جمعية الثقافة العربية في مدارس الداخل الفلسطيني بهدف تعزيز استخدام اللغة العربية كلغة هوية في المدارس، خاصةً في ظل مناهج التعليم الإسرائيلية التي لا تتعامل مع العربية على هذا الأساس. 

وتسعى المبادرة إلى تعريف الجيل الشاب بالأدب الفلسطيني وباللغة العربية كجزء من هويتهم الثقافية.

مقالات مشابهة

  • "بص يا كبير" أولى أغنيات ألبوم مروان موسى الجديد "الرجل الذي فقد قلبه"
  • الرجل الذي فقد قلبه.. تفاصيل ألبوم مروان موسى الجديد
  • كيف تستخدم إسرائيل اللغة العربية في طمس الهوية الفلسطينية؟
  • المرتضى ناعياً البابا فرنسيس: جعل لآلام بلادنا مكانًا في قلبه وحيزًا من اهتماماته
  • يسرا تداعب كلاب الشوارع: مفيش أحلى من البني آدم اللي في قلبه رحمة
  • سنجاب يمسك قلبه من الرعب
  • مسيرات بالمغرب رفضا لرسو سفن يُشتبه في حملها معدات عسكرية متوجهة لإسرائيل
  • غرام الحسناوات..من هي الممثلة التركية سيفيل أكداج التي أنهت حياة صديقتها بـ30 طعنة؟
  • احتجاجا على سفينة يشتبه حملها أسلحة لـإسرائيل.. مسيرة بميناء طنجة وتطويق أمني
  • أكثر من 105 مظاهرة خرجت في 58 مدينة مغربية رفضا لرسو سفن في موانئ مغربية يشتبه حملها أسلحة لإسرائيل