ترامب الثاني: انتظار الفاشية خلف انتصار الـ«ماغا»!
تاريخ النشر: 8th, November 2024 GMT
بعد الهزيمة المدوية التي مُني بها الحزب الديمقراطي الأمريكي، في شخص مرشحته للرئاسة كامالا هاريس ومقاعد مجلس الشيوخ في وست فرجينيا ومونتانا وأوهايو؛ لم تكن مفاجأة أن النقد الأوضح لخطّ الحزب واستراتيجيته أتى من أحد كبار «المشبوهين المعتادين» القلائل جداً في نهاية المطاف: السناتور برني ساندرز، الذي يعتبر نفسه مستقلاً، ولكنه ينضوي ضمن تجمّع الديمقراطيين في مجلس الشيوخ ولا ينأى عنهم إلا في مناسبات قليلة؛ لأنه، في واقع الأمر، محسوب عليهم في أعمّ المناسبات.
ما يقوله ساندرز اليوم ليس جديداً من حيث المبدأ، أو هو لا يتصل أساساً باندحار هاريس والحزب الديمقراطي، لأنّ إهمال أولويات الطبقة العاملة، كما يساجل ساندرز اليوم، ليس خياراً طرأ على الديمقراطيين خلال الأشهر القليلة التي أعقبت عزوف جو بايدن عن الترشيح وصعود نجم هاريس؛ بل هو قديم ومتقادم وجزء لا يتجزأ من الشطر الرأسمالي في فلسفة الحزب الديمقراطي، على غرار الحزب الجمهوري وإنْ بفارق هنا أو هناك. كذلك يحيل ساندرز بعض أسباب الهزيمة الأخيرة، بل يوحي ضمناً بأنها الأبرز: «بينما دافعت قيادة الحزب الديمقراطي عن الأمر الواقع، كان الشعب الأمريكي غاضباً وأراد التغيير. وكان على حقّ».
ليس تماماً، أو على الأقلّ ليس بمعدّل 71.7 مقابل 66.8 مليون ناخب، والفوز في التصويت الشعبي للمرّة الأولى بالنسبة إلى مرشح جمهوري منذ سنة 2004؛ و295 مقابل 226، في المجمّع الانتخابي؛ وليس في 27 مقابل 18، على صعيد الولايات؛ وليس وقد اتضح أنّ أداء هاريس كان أضعف من أداء بايدن 2020 في كلّ الولايات… التأزم، استطراداً، أبعد من مجرّد «غضب» شريحة من الشعب الأمريكي؛ والهزيمة هذه ليست أقلّ من فصل جديد في مسلسل طويل من انتقالات عاصفة وتحوّلات كبرى يعيشها المجتمع الأمريكي، فلا تقتصر على الحزبين الديمقراطي والجمهوري وحدهما، بل تمسّ سائر فئات الشعب وطبقاته، على أصعدة شتى اجتماعية ــ اقتصادية، ثمّ سياسية ومعنوية وأخلاقية وثقافية، وسواها.
في الوسع الابتداء من حقيقة أولى بسيطة، ماثلة للعيان وأوضحتها أنساق التصويت الاجتماعية والجغرافية والعُمْرية، مفادها أنّ الولايات المتحدة بعد 248 سنة على إعلان استقلالها ليست، بعدُ، مستعدة لانتخاب امرأة إلى منصب الرئاسة؛ وهيهات، تالياً، أن تكون جاهزة لانتخاب امرأة من أصول مهاجرة، آسيوية وسوداء البشرة في آن معاً. وفي باطن هذا المعطى الأول لوحظ أنّ تصويت المجموعات الهسبانية ذهب إلى ترامب بمعدّل 45 في المئة، رغم التصريحات العنصرية البغيضة التي شهدتها بعض تجمعات ترامب الانتخابية، على مسمع ومرأى منه (كما في تعليق توني هنشكليف ضدّ بورتو ريكو بوصفها «جزيرة القمامة» مثلاً)؛ وهذا فضلاً عن أغلبية عالية لصالح ترامب في أوساط الرجال، لاعتبارات ذكورية لا تخفى.
وجهة أخرى في استدلال مغزى مركزي خلف الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة هي تلك التي تبدأ من تصريح ترامب، خلال خطبة انتصاره، بأنّ الـMAGA هي «أعظم حركة سياسية في التاريخ»؛ ليس لأنها كذلك بالفعل، فهي أبعد ما تكون عن أيّ طراز من العظمة حفظه التاريخ، بل لأنّ مكوّنات الاستيهام فيها (جَعْلُ أمريكا عظيمة مجدداً) حرّكت عشرات الملايين خلف ترامب: أشدّ تأثيراً من الاقتصاد ومسائل التضخم والقدرة الشرائية، وأدهى استقطاباً من رهاب اللاجئين والمهاجرين والأجانب، وأعمق دغدغة للكوامن الفاشية التي تصاعدت وتتصاعد في نفوس أمريكيين كُثُر ابتداء من العقدين المنصرمين.
وفي قلب الـ»ماغا» كان يتنامى هوس «القومية الأمريكية» الذي لم يعد غريباً أو ناشزاً أو نادر الاستخدام كما كانت الحال قبل صعود ترامب، ومنذ شيوع هستيريا تعظيم أمريكا سنة 2015، حين تضاعفت أكثر فأكثر النزعات العنصرية والمناطقية، وفلسفات «التفوّق» العرقي الأبيض. كذلك، في جزء متمم، لم تعد الولايات المتحدة حصينة تماماً إزاء مؤثرات العالم خارج المحيط، ولم يعد تكوينها المجتمعي ــ الذي ساد الاعتقاد بأنه متعدد المنابت، تعددي الأعراق ــ بمنأى عن يقظة القوميات هنا وهناك، في العالم بأسره ثمّ في أوروبا حيث المنبع الثقافي الذي يغذّي قسطاً غير ضئيل من «القِيَم» الأمريكية.
: سطوة أمريكا العظمى!
وكي لا يُظلم ترامب أو تُنسب إليه وحده شرور الـ«ماغا» فإنّ غالبية الإدارات الأمريكية السابقة، منذ عهد وودرو ولسون وليس رونالد ريغان أو جورج بوش الأب والابن؛ لم تفعل سوى محاولة تطوير المشروع الإمبريالي الأمريكي، السياسي والاقتصادي والثقافي، تحت هذه المظلة بالذات: سطوة أمريكا العظمى! ولم نعدم كاتباً أمريكياً ظريفاً جنح ذات يوم إلى الشكوى من «واجب مقدّس» أُلقي على عاتق أمريكا تجاه العالم، اتخذ سلسلة تسميات مثل «الإمبراطورية بالصدفة العمياء» و«الإمبريالية بالتطوّع» و«العبء الجديد للرجل الأبيض». وفي كتاب بعنوان «السلام الأمريكي» صدر للمرّة الأولى سنة 1967 ولم تمنع حرب فييتنام من جعله مرجعاً أثيراً لدى شرائح واسعة من القرّاء في أمريكا، كتب رونالد ستيل: «على النقيض من روما، إمبراطوريتنا لم تلجأ إلى استغلال أطرافها وشعوبها. على العكس تماماً… نحن الذين استغلتنا الشعوب واستنزفت مواردنا وطاقاتنا وخبراتنا»!
والرجل، ترامب، الذي أعلن على الملأ أنّ إعادة انتخابه سوف تخوّله أن يكون دكتاتوراً؛ وأنه سيثأر من خصومه، وعلى رأسهم أولئك الذين كانوا مستشارين في إدارته أو وزراء أو رؤساء أركان أو محامين، بمن فيهم نائبه نفسه؛ وأنّ عودته إلى البيت الأبيض سوف تريح الأمريكيين من واجب الذهاب إلى صناديق الاقتراع الرئاسية، مرّة أخرى أو إلى الأبد… لماذا سوف يعفّ، هذا الرجل بالذات، عن الذهاب إلى أقصى مدى في الفاشية والتسلط وترويض ما يتبقى من قواعد/ نواهٍ ديمقراطية في نظام الولايات المتحدة؟
للبعض أن يتشبث بمقولة رسوخ هذا النظام، وأنه أقوى من أيّ سلطات يمنحها الدستور للرئيس الأمريكي؛ ولكن… كيف يُلجَم رجل كهذا وهو يسيطر على البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ، ومجلس النوّاب، والمحكمة العليا، فضلاً عن كونه القائد الأعلى الفعلي للقوات المسلحة؟
من المنتظَر، بالطبع، أن يغرق كبار «نطاسيي» الحزب الديمقراطي، المختلفين عن ساندرز من حيث المنهج والغاية والوسيلة، في ترحيل أسباب الهزيمة إلى عوامل مثل تأخّر بايدن في قرار عدم الترشيح، أو اختيار تيم والتز شريكاً على البطاقة مع هاريس، أو الأدوار التي لعبتها وسائل الإعلام اليمينية واليمينية المتطرفة، أو تدخّل الاستخبارات الروسية لصالح ترامب من زاوية عدم حماس الأخير للحرب في أوكرانيا، أو حتى الآثار (أياً كانت) لعجز هاريس والديمقراطيين عن كسب الصوت العربي في ولاية متأرجحة مثل ميشيغان؛ وسوى ذلك، ممّا هو كثير متعدد ومتشابك، محقّ أو باطل أو في منزلة بينهما. الراسخ، مع ذلك، أنّ فوز ترامب ليس اختراقاً تاريخياً لشخصه وشخصيته وما بات يمثّل في وجدان ملايين الأمريكيين، فحسب؛ بل هو انتصار ساحق للـ»ماغا» في مدلولاتها الأعمق، والأبعد أثراً وديمومة، من المحتوى الركيك الذي يعلن جعل أمريكا عظيمة مجدداً.
وما يصحّ أن يُنتظر من ترامب الثاني ليس المزيد من التطرّف في السياسة الخارجية، وملفات حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، وتعزيز التطبيع مع السعودية خصوصاً، وتقليص الحضور الأمريكي في الأطلسي، فقط؛ بل ما هو آت على صعيد الداخل الأمريكي، أيضاً، لجهة انحسار يمين الجزب الجمهوري، مقابل صعود اليمين المتشدد: العنصري أكثر، والانعزالي أشدّ، والشعبوي أنكى، و… الفاشيّ الأعتى.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه هاريس الولايات المتحدة ترامب الولايات المتحدة الإنتخابات الأمريكية ترامب هاريس مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة صحافة سياسة رياضة رياضة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحزب الدیمقراطی
إقرأ أيضاً:
الركود الديمقراطي.. نكسة عابرة أم مرض الموت؟
يتزايد القلق بشكل واضح بسبب التراجع الملحوظ لقضية "الديمقراطية"، فكرة وممارسة، حتى بات البعض يطلق على هذه المرحلة الراهنة من تاريخنا بأنها مرحلة "الركود الديمقراطي" مستدعين في ذلك فكرة الركود الاقتصادي.
وعلى الرغم من أننا شهدنا في العام 2024 تنظيم 77 انتخابًا حول العالم، فإن المخاوف بشأن تراجع زخم الديمقراطيات وانحسار جاذبية فكرة الديمقراطية، تتعمّق بشكل واضح ومتزايد.
اعتبرَ العديد من الدراسات السياسية أن القرن العشرين كان على مستوى نظام الحكم، قرن الازدهار الديمقراطي. وانتقل انتشار النظام الديمقراطي من بضع دول كانت تتبناه مع بداية القرن العشرين، إلى أكثر من 120 مع نهايته، وبداية القرن الواحد والعشرين. ففي 2006 اعتبرت تقارير ترصد الحالة الديمقراطية أن أكثر من 120 دولة حول العالم، تبنت النظام الديمقراطي بشكل أو بآخر.
ورغم ما تخلل القرن العشرين من أحداث كبرى فارقة، على غرار الحربين العالميتَين؛ الأولى والثانية، وصعود النازية والفاشية، فضلًا عن الحركات الاستعمارية، فإننا نستطيع أن نقول إن مسيرة الديمقراطية في القرن العشرين كانت قصة نجاح معتبرة، أعطت للشعوب بارقة أمل من أجل التطلع لإقامة نظام حكم يعبّر بشكل أو بآخر عن إرادتهم. وكان نجاح مسيرة العديد من الديمقراطيات في تحقيق الازهار والتنمية والرفاه والتداول السلمي على السلطة، ملهمًا للشعوب من أجل اجتراح مستقبل أفضل.
إعلانلكن اللافت أن منحى تبني النظام الديمقراطي والإقبال عليه، حول العالم، بدأ خلال السنوات الماضية في النزول والانكسار بشكل ملحوظ، حتى وصلنا إلى ما يصطلح عليه اليوم بالركود الديمقراطي.
ويمكن تسجيل مجموعة من الملاحظات بشأن هذه المخاوف حول "الركود الديمقراطي"، لمحاولة فهم بعض أسبابه وسياقاته وفرص تحفيز ديناميكية الإنعاش والتجاوز لهذا الركود:
أولًا: لا بد من الإشارة إلى أن مسيرة الديمقراطيات نجاحًا، على مدى عقود وما راكمته من زخم سياسي، جعلها تتوسّع وتتحوّل إلى أكثر أنماط الحكم جاذبية على المستوى السياسي، بيد أنها لم تكن كذلك على المستوى الفكري والثقافي. فقد صاحب الانتشار الواسع والتألق السياسي لفكرة الديمقراطية كنظام للحكم على المستوى السياسي، تشكيك دائم على المستوى الثقافي والفكري في مدى أفضلية ونجاعة الديمقراطية.ويأخذ هذا التشكيك بعدًا أيديولوجيًا، تكثّف لعقود على خلفية الصراع الدولي بين النظم الرأسمالية والنظام الشيوعية الاشتراكية، كما اتخذ في الفضاء العربي الإسلامي بعدًا دينيًا، يتعلّق بمدى شرعية الديمقراطية. كما اعتبرت فضاءات أخرى الديمقراطية، خطوة متقدمة في التبعية للقوى الغربية الرأسمالية والليبرالية. ثانيًا: العملية الديمقراطية كمسار سياسي يعبّر عن نفسه من خلال مؤسسات حكم يديرها أشخاص، يطرأ عليها مع الزمن حالة من الضعف والارتخاء وحتى الانحراف، وهي سمات ملازمة للفعل البشري. ويعني ذلك أن العملية الديمقراطية بقدر ما تحمل بذور قوتها في ذاتها (التصحيح الذاتي المستمر)، تحمل أيضًا بذور ضعفها، (فهو مسار يمكن أن ينحرف وأن يبلى ويتقادم).وإذ تفشل الديمقراطيات في تصحيح مسارها، وضبط اتجاهها وترشيد ممارستها، وتجديد أفقها وفلسفتها، فإنها يمكن أن تستحيل من نظام تمثيلي إلى نظام تسلطي، ومن نظام أنيق إلى نظام عتيق.وتقتضي الديمقراطية تعهدها باستمرار، بالمراجعة والتقييم والتجديد والتصحيح لمسارها، وأيضًا إعادة تأهيلها وفق تطورات الواقع، دون الخروج بها عن جوهرها الأساسي، وهو النظام التمثيلي التعددي الضامن للتداول، سلطة، وللتعدد حقوقًا وحريات، وللعدالة، اجتماعًا.
ثالثًا: ما يعمّق القلق بشأن ظاهرة الركود الديمقراطي، هي أنها لم تقتصر على البلدان حديثة العهد بالديمقراطية، وبتبني المسار الديمقراطي والانخراط فيه، وإنما يعمّ التراجع ليطال البلدان ذات التجارب العريقة والتاريخ الديمقراطي الطويل، على شاكلة بريطانيا، والولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا.فإذا كان مفهومًا إلى حد ما أن تواجه البلدان حديثة العهد بالديمقراطية صعوبات وحتى انتكاسة للمسار الديمقراطي ولفكرة الديمقراطية، خاصة أنها لن تكون ترسّخت ولا اكتمل استواؤها بعد، فإن تراجع الديمقراطية وركودها في البلدان ذات التاريخ الديمقراطي العريق، يبعث على القلق والتساؤل والحاجة للتوقف والمراجعة.إذ إن تراجع الديمقراطيات العريقة وركودها ينعكس حتمًا على الديمقراطيات الناشئة ويربكها، ويفقدها زخمها. فالديمقراطيات تلهم بعضها البعض، وتدعم ويعزز بعضها البعض. والعريق منها يمثل بمنواله ومثاله، خارطة الطريق والموجه للمستجد منها. لذلك فركود الديمقراطيات العريقة ناقوس خطر ذاتي وناقوس خطر خارجي. ويمكن القول إن واحدًا من الأسباب البارزة للركود الديمقراطي، هو الأفق القلق والغامض للديمقراطيات العريقة، وما يهدد من مخاطر ويفرزه من تداعيات وتبعات. رابعًا: مع تزايد وتعقد التحديات الراهنة في العالم، تلوح مؤشرات واضحة على تراجع قدرة الديمقراطيات العريقة على توقع المطبات والمشكلات الطارئة في هذه البلدان، وأيضًا تبدي هذه الديمقراطيات – على عراقتها – عدم قدرة على التعاطي المتوازن مع هذه التحديات، بل وتظهر حالة من الارتباك والعجز الواضح على حل هذه القضايا الطارئة. ويتعمّق مأزق الديمقراطية، عندما تبدو هذه النظم الديمقراطية ليست أفضل من النظم غير الديمقراطية لجهة القدرة على توقع الأزمات والصعوبات.وتكشف الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية في العالم وما صاحبها من تحديات كبيرة، أن البلدان ذات التاريخ الديمقراطي العريق، ليست بمنأى عن الأزمات العاصفة، وأن ما يطرأ من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية لا يقتصر على البلدان غير الديمقراطية، وإنما قد تكون هذه الأزمات في الديمقراطيات العريقة أكثر حدة وأشد وطأة أحيانًا.وتُفقد هذه الصعوبات التي تواجه الديمقراطيات العريقة فكرة الديمقراطية الكثير من جاذبيتها وألقها، وتجعلها تكفّ عن أن تكون منوالًا يحتذى أو مثالًا يقتدى، ما ينذر بأن تفقد الفكرة بريقها ويخفت إشعاعها في نفوس المتطلعين لحكم ديمقراطي رشيد، أثبتت التجارب أنه أقل أنظمة الحكم شرورًا وأكثرها نجاعة وعدالة. خامسًا: كشفت الأزمة الاقتصادية الاجتماعية الحادة التي تعصف بالعالم، والتي تعمّقت بشكل كبير خلال وباء كورونا، عن هشاشة بنية الأنظمة السياسية بمختلف مدارسها. بل لعل البلدان ذات الديمقراطيات العريقة، بدت أكثر هشاشة وأقل مناعة أمام التحديات التي أفرزتها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.ففي وقت بدت فيه بلدان، مثل الصين، وروسيا متحكمتَين بزمام الأمور في مواجهة الأزمة، واتخاذ إجراءات ناجعة وفعالة لاحتواء الأزمات، أظهرت دول مثل الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا، وفرنسا، ارتباكًا وهشاشة واضحة أمام الأزمة.وولّد هذا الوضع انطباعًا خطيرًا بأن الديمقراطيات العريقة ليست مؤهلة بالضرورة للتأقلم واحتواء الأزمات الطارئة بالنجاعة المطلوبة. كما ظهر لقطاعات كبيرة من المجتمعات الغربية الديمقراطية أن نظامها الديمقراطي، لا يجيب بالضرورة عن التحديات الطارئة على البلاد والمجتمع، بل قد يكون انفتاحها كنظام ديمقراطي سببًا في هذه الهشاشة، وهذا الفشل الاقتصادي والاجتماعي والتعاطي مع الأزمات. وقد يكون هذا ما يُفسِّر ظهورًا مفاجئًا ولكن متصاعدًا لخطابات شعبوية ترذّل القيم الديمقراطية، وتتبنى خطابات متطرفة، ضد المهاجرين، والانفتاح، والقيم الكونية. سادسًا: لعبت مسألة "التدخلات الخارجية" دورًا سلبيًا في تراجع الزخم الديمقراطي في العالم، لا سيما في المناطق التي كانت تكافح من أجل التغيير الديمقراطي، وتبني نظام سياسي يقوم على التعددية وحقوق الإنسان والتداول السلمي على السلطة.وتبدو المنطقة العربية من أكثر المناطق التي بقدر ما عملت نخبها وقواها السياسية على التغيير من أجل الديمقراطية، ودفعت لذلك أثمانًا باهظة، بقدر ما عانت المنطقة من تدخلات أجنبية بدت مستحكمة، كان الكثير منها في ظاهره دعمًا للإصلاح السياسي والديمقراطية، بينما كانت حقيقته دعمًا للدكتاتوريات كأنظمة تسلطية قادرة على التحكم وحفظ "الاستقرار"، الذي تعتبره القوى الخارجية أولوية الأولويات، ولا تخفي تفضيله على التغيير والانتقال الديمقراطي.وقد لعب هذا التدخل الأجنبي دورًا واضحًا في دعم المعادلات السياسية في دول المنطقة، وخلق هذا الدور الأجنبي المنحاز للأنظمة القائمة، مزاجًا من خيبة الأمل والإحباط واليأس من التغيير. وقد ظهر الدور الأجنبي السلبي جليًا في دعم أنظمة تسلطية دموية والتعامل معها دون تحفظ، بل وإبداء استعداد واضح لحمايتها في وجه ما يتهددها من مخاطر.كان الربيع العربي شاهدًا واضحًا على عدم حماسة القوى الخارجية لدعم الحراك الشعبي في المنطقة العربية للتغيير والديمقراطية. وانتقل موقف القوى الخارجية من مستوى التحفظ إلى مستوى الإرباك والإفشال. وما عقّد هذه التدخلات الأجنبية لإجهاض الانتقال الديمقراطي، أنها جاءت من الولايات المتحدة، ودول غربية، كما جاءت من روسيا، والصين.
وما يفاقم من حجم تأثير التدخل الأجنبي ويعمّقه هو ما توفّره التطورات التكنولوجية والثورة الاتصالية من إمكانات تسهّل عملية التدخل الأجنبي، وتجعل فرص التصدي له مهمة ليست باليسيرة، إن لم تكن مستحيلة.
ويتجلى التدخل الخارجي لإرباك وتخريب الديمقراطية بارزًا اليوم من خلال التدخل والتأثير في أي استحقاق انتخابي. وتم تجيير أدوات التواصل الاجتماعي، التي باتت تمثل أدوات فعالة في إعادة تشكيل الوعي، وتوجيه الرأي العام والتأثير في اختياراته عند كل عملية انتخابية.
وإذا كانت دول عظمى على غرار الولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، وألمانيا، وبريطانيا، تواجه خطر التدخل في انتخاباتها والتأثير فيها، لا سيما من قبل روسيا، فإن ذلك سيعني حتمًا أن التدخل والتأثير في انتخابات أي بلد آخر، أمر متاح.
ويضرب هذا التدخل الخفي في الاستحقاقات الانتخابية، مصداقية هذه الانتخابات، ويجعلها غير معبّرة عن إرادة الناخبين واختياراتهم، بقدر ما هي معبرة عن قوى خفية نافذة يراد تمكينها من الحكم في هذا البلد أو ذاك.
ويفقد هذا التدخل ثقة الرأي العام في العملية الديمقراطية، إذ لن يراها معبرة عن إرادته، ما يدفعه للاستقالة معتبرًا نفسه ليس معنيًا بالمشاركة في أي استحقاق انتخابي، نتائجه محسومة سلفًا.
سابعًا: تمثّل ظاهرة الشعبوية المتصاعدة اليوم تهديدًا مباشرًا لفكرة الديمقراطية. ويزداد خطر الشعبوية في ظل صعود العديد من الأحزاب الشعبوية في العالم، لتطال هذه الظاهرة الخطيرة دولًا كبرى تمثل معقلًا للديمقراطية، على غرار الولايات المتحدة والعديد من الدول الغربية. وإذ تستغل التيارات الشعبوية النظام الديمقراطي لتعبّر من خلاله عن نفسها، في دغدغة المشاعر القومية والوطنية، لمهاجمة المهاجرين والانفتاح والتسامح والتعددية الثقافية، فإنها لا تتردد في تسفيه وترذيل الديمقراطية والتشكيك في نجاعتها. وكلما انتشرت الشعبوية واكتسحت المشهد السياسي، زاد خطر تحوّل الديمقراطية من آلية للتداول السلمي على السلطة وإدارة التعدد، إلى آلية لإضعاف المؤسسات الديمقراطية وتقويض القيم والمبادئ التي تقوم عليها.وتمثل التجربة الأميركية اليوم مع فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأميركية لمرتين في ظرف عشر سنوات، واكتساح الخطاب الشعبوي للمشهد الأميركي، فضلًا عن دول غربية أخرى كثيرة، مؤشرًا خطيرًا على ما انتهت إليه الديمقراطية الأميركية، التي كانت لعقود طويلة النموذج الجاذب، فإذا بها تستحيل تجربة مخيفة ومقلقة غير معلومة الأفق والمآلات. ثامنًا: بدلًا من أن تكون الأيديولوجيات في المنطقة العربية رافعات فكرية وثقافية وروحية ورأسَ مالٍ رمزيٍّ للديمقراطية، فإنها على عكس المتوقع تمثل عائقًا أمام فكرة الديمقراطية، بل وتعطّلها. فقد تحوّل الصراع الأيديولوجي بين التيارات السياسية، إلى تأبيد حالة من الانقسام والتجاذب، حرمت بلدانًا عربية كثيرة من فرص توحيد الجهود من أجل التغيير الديمقراطي، ومن أجل إنجاح المسار الديمقراطي.بدت الديمقراطية وكأنها مختطفة من قبل التيارات السياسية التي رهنت مصير الديمقراطية بالأفق الأيديولوجي لهذه التيارات.ولقد لعب الانقسام الأيديولوجي دورًا رئيسيًا في شل التجربة الديمقراطية وإجهاض مسارها. وقدّمت قوى سياسية عربية عدوها الدكتاتوري، على خصمها الأيديولوجي، فضحّت بالديمقراطية لحساب ردة سياسية أعادت العديد من بلدان المنطقة لنادي الدكتاتوريات. إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية