برعي محمد دفع الله (3-3): أصلو الجمال أقسام !!
تاريخ النشر: 7th, November 2024 GMT
هناك خاصية عند برعي وهي إمكانية "التبادل" بين ألحانه الغنائية ومقطوعاته الموسيقية..! فيمكن أن تتحوّل مقطوعة موسيقية إلى تركيبة غنائية؛ كما أن ألحانه الغنائية ومقدماته صالحة لأن تكون مقطوعة موسيقية بحتة لا يصاحبها غناء..!
ومن العسير أن تقول أن هناك مقطوعات أو ألحان أو مهارات أداء تجاوزت أو أضعفت من مكانة ألحان وأداء ومقطوعات برعي.
**
برعي عدا هذا وذاك كان له دور محوري ريادي في تشكيل منظومة الاوركسترا من حيث (الابتكار والتطوير والترقية والتنظيم والتقويم والتوثيق والإبداع والاستشراف) كان زاده فيها الدأب وحسن القيادة والتواضع ومراعاة الآخر ومحبة العمل من خلال فريق.. والجدية المخلصة المتجرّدة..!
وله دور كبير عظيم الأثر في (لجان إجازة الألحان) كان له فيها الكثير من المشاركة التفاعلية، واكتشاف المواهب وتمهيد الطريق أمامها..وإقالة المتعثرين حتى يشتد عودهم..!
**
لقد لعب برعي أدواراً ذات قيمة عالية في تسجيل وتوثيق الإبداع الموسيقي والغنائي السوداني داخل الوطن وفي المنصات الإقليمية والعالمية والإذاعات والقنوات الإعلامية العربية والإفريقية والعالمية
**
لبرعي مُنجز عالي الأهمية يحتاج إلى عناية ومدارسة وتسليط ضزء..وهو تحويل ميلودي أغنيات الحقيبة و"التم تم" والفولكلور الشعبي إلى أغاني وترية مستحدثة؛ عبر معالجتها ورفدها بمقدمات موسيقية وتغذيتها بأفكار لحنية وإيقاعات وتجديدات، أو عن طريق مشاركته عملياً في أداء العزف المصاحب لها...مما يضفى عليها عذوبة وحيوية تضاعف من حلاوتها واستملاحها من غير إخلال بأجوائها ومناخاتها..!
يكفي أن تتأمل أغنيات أبو داؤود ومختاراته من الحقيبة والتمتم لترى أنفاس برعي:
غزال الروض فيك رايح بالي/غزال البر يا راحل/ زهرة الروض الظليل/ عروس الروض يا ذات الجناح/ من بف نفسك يا القطار/ قلبى همالو /آلفني في البرهة القليلة/ نسايم الليل زوريني/ كيف الحياة غير ليمك/ يا حليل رياضنا الغنا/ مابنسى ليلة كنا تايهين في سمر/ من غير ذنب وأسباب/ الفى دلالو/ أنة المجروح/ يا عين بتخافي مالك/ فلق الصباح/ جاهل وديع مغرور/غصن الرياض المايد/ نغيم فاهك/ بعيد الدار/ بدر الحسن فاق/ يا عيني وين تلقي المنام/ زيدني في هجراني/ لي زمن بنادي/ انا بيك سعادتي مؤكدة / من أول نظرة/ أمتي ارجع لام در واعودا/ / يا ليل ابقالي شاهد/ طول يا ليل على الباسل/ هات لينا صباح/ جسمي المنحول/ عيون الصيد ناعسات عيوني/ دمعة الشوق كبي/ خلي العيش حرام/ تم دورو/ حبيبي غاب/ طبعا يهواك/ بدر الحسن فاق/ يجلي النظر يا صاحي/ صباحك مالو/ زهر الرياض في غصونو ماح/ قم نرتشف خمر الهوى..إلخ
ثم هناك أغنيات ذات صفة "شعبية" على غرار "القايمه بنبونة" و"من فريع البان البسوح نديان" و"بلالي ما جا" و"ردي عليا يا عينيا" و"حلو درب الطير في سكينة" و"العجب حبيبي" و"دمعي الإتشتت" و"سميري المرسوم في ضميري" و"قمر العشا الضواي" و"الفينا مشهودة" و" غالي عليّ يا يمّه غالي عليّ حبيبي":
الليلة يا ألامات ** ابقن كبار عاقلات
إنتن زمانكن فات** دا زمن شباب ناهضات
تقدّم..!
أهم شي الحمام ** ونظافة الجسام
الزول يكون بسّام** اصلو الجمال أقسام
مؤكد..!
يا يمه مالك بي ** يا والدة شن قال لي
داير نجاحاً لي ** علشان يفاخر بي
في أوروبا..!
ما اجمل الكَبَريت ** ومعاهو فرش البيت
نلغي الدهن والزيت ** ونستعمل (التواليت)
تمدّن..!
طبعاً المقصود هو التواليت (أبو مراية)..! حتى لا ينصرف الذهن لمعنى آخر غير "منضدة التسريحة"..!
وهذه قصيدة كتبها سيد عبد العزيز موازية لأغنية قديمة آخري في مسعى مع عبدالرحمن الريح وعبيد عبدالرحمن لملء ألحان "التم تم" بمحتوى آخر من باب "تهذيب الأغاني" كما كانوا يقولون..!
وهناك نوع آخر من الأغاني الوطنية "بلادي يا سنا الفجر" و"اجري يا نيل الحياة"..إلخ
ومن الأغاني الخفيفة أو (ترس تلاتة): ياحليلم دوام بطراهم/ وعلى النجيلة جلسنا/ وسمير الروح قلبي سميرو/ وأنا من شجوني/ ويتنى في الترتيل/ ويلا يا سايق/ وطولت ما رديت/ وحكِّم ضميرك/ وجاني جوابكم جاني/ وعشانك عشانك/ والصبر الصبرتو/ وسفرك بكرة قالوا/ ويا مسافر نسيتنا ما ودعتنا/ ومساء الخير يا أمير/ وصباح الخير أنت يا ملاك/ ويا حبيبي ماك داري/ والإنسان الرايق النعسان/ وسيبوني بس على لوعتي..إلخ
وفي مصاحبة ألحان الأمداح "انتم فروضي ونفلي" و"السرّاي"
وحتى الأغنية التي يغنيها أبو داوود بلغة الهوسا (أري وا قسر نوما..دا أيكا دَهَنْ..) فمن لم يجد فيها روح موسيقى برعي لم يُنصف..!
ولا ندري - بسبب عدم التخصّص- ماذا يمكن تسمية اجتهادات برعي في الأغاني الشعبية والتراثية التي سبق تلحينها وأعاد برعي لها امتدادات وتنويعات..ولا نعلم موضع هذا النوع من الإبداع بين التأليف الموسيقى أو الفكر الموسيقي أو التوزيع الموسيقي أو مذاهب التلحين..وهلمجرا..!
**
كيف نعرف ألحان برعي من غيرها..؟!
لا بد أن نكون قد أخطأنا في نسبة لحن أغنية أو أكثر لبرعي والسبب معلوم..! وهو ما ذكرنا من إهمال توثيق أسماء الملحنين مع أغانيهم؛ حيث لا تجد مرجعاً موثوقاً يحدد نسبة الأغاني السودانية لملحنيها؛ فيلجأ الناس عندها للظن والتخمين..!
ما هو السبيل لإعداد قوائم للأغاني السودانية ونسبتها لملحنيها الذين اجتهدوا في إخراجها للوجود من أعصابهم وسويداء ذائقتهم الفنية وإلهامهم الخصيب..!! من يقوم بهذه المهمة يا ترى..؟!
**
في الشبكة العنكبوتية تجد أرقاماً وإشارات لمنجزات برعي في حقل الألحان والتأليف الموسيقي ..وفي بعضها أن أعماله تتراوح بين 350 و400 وتغطي طيفاً واسعاً من التأليف والتلحين والأداء في شتى المجالات العاطفية والدينية والصوفية والاجتماعية والشعبية والموسيقى الافتتاحية للبرامج الإذاعية..وأغاني الأفلام..إلخ
وبعض الأرقام تقول أن مقطوعاته الموسيقية بلغت المائة.. وتم تسجيل العديد منها في إذاعات عربية وافريقية وعالمية؛ من بينها القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية ومونت كارلو ودوتشي فيللا الألمانية وهلمجرا..!
ولكن أين ما قام به برعي على امتداد السنوات من أداء مباشر (المشاركات العملية) منفرداً ومع الاوركسترا ومع المُطربين والموسيقيين العديدين؟ ثم منجزاته في ما يسمى بورش العمل الفنية، وما أسهم فيه من إضافات وتعديلات وتصويبات لألحان غيره من الملحنين..؟! ..عدا اكتشافاته لمواهب فنية جديدة على مستوى المُطربين والعازفين..أو اكتشافاته لأبعاد صوتية مخبوءة في حنجرة الفنانين الكبار ومن هم دونهم...؟!
**
تأثير برعي في المحيط العربي والإفريقي يأتي من خلال مسيرة عملية في الإبداع الموسيقي وتجويد قواعد الأغاني السودانية..هذا هو الطريق للعالمية..!
وبرعي من مؤسسي الكيان الموسيقي الحديث في السودان وكان له قصب السبق في إعادة الاعتبار للملحنين والموسيقيين السودانيين..!
وهو الموسيقار البارع وشيخ الملحنين بلا منازع..
عندما كان برعي يعمل في الملحقية بالقاهرة كان محطة تزويد وتخصيب لجملة من الفنانين بحيث كانت ألحانه لكثيرين منهم هي التي مهرت لهم شهادة العبور للنجومية والشعبية والمقاعد الذهبية في عالم الغناء..!
**
أربع مزايا يتسم بها برعي (تنقصنا كسودانيين في أحيان كثيرة) أو لنقل إنها تصلح لأن تكون نموذجاً أو مصفوفة لبناء (أو إعادة اعتبار) الشخصية السودانية:
- غاية من اللطف الإنساني والإيثار واحترام الآخر
- انكباب على ما يتقن بدأب كبير بغير ضجر أو شكوى
- استثمار الوقت فيما يفيد
- الهروب من المظهرية والأنانية والتطفّل و(الشمشرة)
**
هذا عدا أن برعي يتمتع بوسامة وخيرية "أورثها زرياب ابنه" الذي سهر على إقامة هذا المحفل (براً بأبيه) وبالثقافة والموسيقى السودانية..ودعا له إخوته الموسيقيين الذين شنفوا الآذان واظهروا براعة فائقة في تقديم مقطوعات برعي، كما صاحبوا الفنان الوريف "أبوبكر سيد أحمد" في أدائه الرائع لروائع ألحان برعي..!
لقد كان برعي وسيماً ذا بابتسامة صافية..كان يفرشها على وجه الدنيا..وكان جميل الخِلقة والخُلق..!
في أغنية أبو داوود (سمير الروح...قلبي سميرو/ لكن ما عارف الفي ضميرو)..يقول عبد الرحمن الريح:
جميل خِلقة..جميل خَلقو..وجميل أخلاق
تجلّت حِكمة الخلاق ..في تصويرو
**
نجيب محفوظ كان موظف ووصل إلى نوبل من نشاطه خارج الوظيفة..! قال: أنا صنعت نفسي وأدبي كله من (نِشارة الحياة) وهو يعني من (فتافيت الوقت) مثل نثار الخشب التي تتساقط على الأرض من (فأرة النجّار)..!
برعي موظف من مواليد 1927 ظل يعمل في وظيفة رسمية من الوظائف العصرية وقتها لأكل العيش..وبات مداوماً فيها طوال حياته..!
ماذا لو أتاحت له الدولة التفرّغ لأداء ما يُحسن ..؟!
مرتضى الغالي
murtadamore@yahoo.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
كينيا والأزمة السودانية.. وساطة محايدة أم انخراط في الصراع؟
أثارت استضافة كينيا اجتماعًا لقوات الدعم السريع السودانية في نيروبي جدلا واسعا، حيث انتقدت الحكومة السودانية هذه الخطوة واعتبرتها انحيازًا لطرف على حساب الآخر في الأزمة المستمرة منذ نحو عامين.
في المقابل، دافعت الخارجية الكينية عن موقف بلادها، مؤكدة في بيان أن هذه الاستضافة تأتي ضمن دورها التقليدي كوسيط إقليمي يسعى إلى إنهاء النزاعات عبر الحوار، وليس من منطلق الانحياز لأي طرف.
لكن قراءة البيان الكيني، في سياق ردود الفعل السودانية والإقليمية، تثير تساؤلات حول مدى توازن هذا الدور، وما إذا كان يعكس التزامًا كاملاً بالحياد الدبلوماسي، أم أن هناك أبعادًا أخرى تستدعي مزيدًا من التدقيق.
غياب التأكيد على وحدة السودانإحدى الملاحظات اللافتة في بيان الخارجية الكينية هي غياب الإشارة المباشرة إلى وحدة وسلامة أراضي السودان، وهي نقطة أساسية غالبًا ما تؤكدها البيانات الدبلوماسية بشأن النزاعات الداخلية للدول.
وبدلًا من ذلك، ركز البيان على "حق الشعب السوداني في تقرير مصيره"، وهو تعبير قد يفسَّر بطرق مختلفة، سواء كدعم لعملية ديمقراطية أوسع، أو كإشارة ضمنية إلى احتمال إعادة رسم المشهد السياسي في السودان.
وفي هذا السياق، أشارت الباحثة في مجال الصراعات والسلام والسياسة تشيبكورير سامبو، في تصريح للجزيرة نت، إلى أنه لا يمكن الجزم بأن غياب التأكيد قد يكون نتيجة غموض مقصود أو سهو، لكنه بلا شك لا يعزز الثقة في دور الحكومة الكينية كقائد سابق لمجموعة الإيفاد الرباعية المكلفة بحل النزاع في السودان.
إعلان كينيا بين الحياد والانخراط في الأزمةرغم تأكيد كينيا على عدم انحيازها، فإن بعض التصريحات الصادرة عن مسؤوليها قد توحي بخلاف ذلك، فقد نقلت صحيفة "ذي ستار كينيا" عن مصادر حكومية تأكيدها أن نيروبي "لن تغلق أبوابها أمام أي مجموعة تسعى إلى السلام".
ورغم أن هذا الموقف يبدو حياديا في ظاهره، فإنه قد يُفسَّر أيضًا على أنه اعتراف ضمني بدور قوات الدعم السريع كفاعل سياسي، وهو ما ترفضه الحكومة السودانية.
هذا التباين في التصريحات فتح الباب أمام تساؤلات حول مدى التزام كينيا بالحياد، خاصة أن الوساطات الإقليمية السابقة كانت تعتمد على إشراك جميع الأطراف، بما في ذلك الحكومة السودانية، بدلًا من عقد لقاءات منفصلة قد يُنظر إليها كخطوات منحازة.
ولم يكن تحرك كينيا في الأزمة السودانية مفاجئًا، حيث سبق لها أن لعبت أدوارًا محورية في نزاعات إقليمية، أبرزها الوساطة في الحرب الأهلية السودانية، عبر بروتوكول مشاكوس لعام 2002، والتي انتهت باتفاقية سلام شامل 2005 قادت لاحقًا إلى انفصال جنوب السودان.
وفي هذا السياق، يشير الصحفي الكيني موانغي ماينا في تصريح إلى الجزيرة نت إلى أن استضافة قوات الدعم السريع في نيروبي لا تأتي في سياق وساطة شاملة، وإنما كجزء من تحول كيني في التعامل مع الأزمة السودانية، حيث يرى ماينا أن كينيا تسلك حاليًا مسارًا مستقلا بعد تعثر جهود الوساطة الإقليمية التي قادتها الإيغاد.
في هذا السياق، يُعد سعي قوات الدعم السريع فجأة لإقامة كيان سياسي موازٍ في نيروبي تطورًا لافتًا، خاصة أنه يتعارض مع نهج الوساطات السابقة التي ضمّت جميع الأطراف، بما في ذلك الحكومة السودانية، مما يطرح إشكاليات دبلوماسية معقدة لأي تسوية سياسية مستقبلية للأزمة السودانية.
من جانبها، ترى تشيبكورير سامبو أنه لا يمكن مقارنة ما حدث هذا الأسبوع بمحادثات بروتوكول مشاكوس سنة 2002، الذي كان نتاج عملية تفاوضية رسمية تحت إشراف الإيغاد وبمشاركة طرفي النزاع، إذ كان الهدف من مؤتمر الدعم السريع تشكيل حكومة موازية دون حضور الأطراف المتحاربة، كما أن غياب أطراف الوساطة يفقد الحدث صفة المحادثات الرسمية.
إعلانواعتبرت سامبو أن مساواته باجتماعات القوى المدنية في نيروبي غير دقيق، فالدعم السريع طرف في النزاع، عكس المدنيين، مما جعل البيان الكيني يخلق معادلة غير واقعية.
هل تتجاوز كينيا الاتحاد الأفريقي والإيغاد؟ومن النقاط التي أثارت الجدل أيضًا في البيان الكيني الإشارة إلى قرار الاتحاد الأفريقي بتعليق عضوية السودان منذ أكتوبر/تشرين الأول 2021 على خلفية التغيير السياسي في البلاد.
ورغم أن هذا القرار معروف، فإن التذكير به في هذا السياق قد يُفسَّر على أنه تقليل من شرعية الحكومة السودانية الحالية، مما قد يبرر تعامل كينيا مع أطراف أخرى، مثل قوات الدعم السريع والمعارضة المدنية.
وفي هذا السياق، تعتقد سامبو أن استضافة كينيا للمؤتمر لم يحظ بأي دعم دولي أو إقليمي، وإلا لكانت وزارة الخارجية قد أوضحت ذلك. ورأت أن انعقاد المؤتمر بقرار كيني منفرد يضعف مصداقية الرئيس روتو كوسيط، ويعزز الشكوك حول حياده.
وأضافت أن المؤتمر يعد الأحدث في سلسلة من الوقائع التي تعزز لدى السودانيين الانطباع بأن كينيا منحازة إلى طرف دون آخر، أما إصدار وزارة الخارجية للبيان، فجاء نتيجة ردود الفعل الغاضبة من الكينيين.
من جانبه، صرح موانغي ماينا بأن "كينيا تقف في عزلة متزايدة بشأن هذه القضية، دون أي دعم إقليمي أو دولي لتحركاتها. وبدلًا من الحصول على التأييد، تواجه نيروبي ضغوطًا دبلوماسية متزايدة لتبرير أفعالها، مما يثير تساؤلات حول الدوافع الحقيقية وراء انخراطها في هذا المسار".