رب ضارة نافعة
كانت لغياب الحواضر العلمية، كالأزهر في القاهرة وجامع الزيتونة في تونس والقرويين في المغرب آثار وخيمة على الوعي الديني لشعوب شمال إفريقية والعالم أجمع. فما كان لأحد من الناس أن يتجرأ على ابتداع طريقة أو القول برأي أو تغيير مستقر من الفقه من دون أن يراعي هذه المراجع الكبرى خوفا على نفسه من الفضيحة في الأوساط العلمية وتحسبا منه لردات الفعل الاجتماعية.
بين المنشأ والمآل عهد من تاريخ أمتنا المظلم تطاول عليه العمر وقد أزفت ساعة التمحيص. يتداول الصالحون في بلاد الشام مشافهة قصة غريبة ذات عبرة، كان بطلها أحد علمائها حينما كان يعمل مدرسا في دولة الإمارات العربية المتحدة إبان حكم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. كان هذا الحاكم على علاته لا يكيد للدول الإسلامية كما هو شأن بنيه اليوم، وقد حظي ذلك العالم بقرب الأمير فأدناه منه، وصارت بينهما ثقة وكلمة مسموعة، تنبه إليها عملاء الإنجليز، فاستوقفوا هذا العالم مرة في طريقه وأخبروه بأن عليه مغادرة الإمارات فورا. شكى الرجل للأمير ما تعرض له من قبل هؤلاء الغرباء، فكانت مفاجأة العالم أكبر برد الشيخ زايد، بأنه لا يستطيع حمايته من أولئك الذين هددوه! فما كان من هذا الشيخ الصالح سوى الرحيل إلى وطنه مؤثرا السلامة.
فبين كتاب الضابط الإنجليزي توماس إدوارد لورانس العرب (ت ١٩٣٥م) "أعمدة الحكمة السبعة"، وبين مقولة وزير الدفاع الأمريكي دونالد هنري رامسفيلد (ت ٢٠٢١م)، بعد احتلال العراق سنة ٢٠٠٣م، بـ"ضرورة تغيير ذهنية المسلمين"، رواية قد أشرفت على نهايتها، تستحق من الأذكياء وطلاب العلم قراءتها بعمق.
التعصب والكيد والعنف معاول هدم لمعلم حضاري يسمى الحوار بين الثقافات والأديان. كان الأنبياء أفضل فرسانه فيما سجل لنا الكتاب المنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولقد استلهم منه علماء كثر منهجا لا أحسب أن أحدا من أساطين الفكر بلغ شأوه؛ فلنجعل من سير الأنبياء أسوة لنا في هذا العالم المتفجر كالبركان.للضمير الجمعي في أمتنا نداء، ومن واجبنا أن نلبي هذا النداء. نداء ينقذ الأمة من سرداب الشقاق الذي زجت فيه بغير مشورة منها، ومن دون أن تُتوخى مصلحة معتبرة لها من ذلك العبث، اللهم إلا مصلحة يتزلف بها البعض إلى الأجنبي.
لكل دينه ومذهبه، فلم الخصام؟ تعالوا نتحاور بالحكمة والعلم، في جو من المودة والرحمة، فلعل بعض ما تقولون فيه حق، ولعل بعض ما نقول فيه خير.
التعصب والكيد والعنف معاول هدم لمعلم حضاري يسمى الحوار بين الثقافات والأديان. كان الأنبياء أفضل فرسانه فيما سجل لنا الكتاب المنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولقد استلهم منه علماء كثر منهجا لا أحسب أن أحدا من أساطين الفكر بلغ شأوه؛ فلنجعل من سير الأنبياء أسوة لنا في هذا العالم المتفجر كالبركان.
الوطنية الحقة
ليست الوطنية من أحدنا بأب أو أم، أو بدولة قطرية جمهورية كانت أم إمارة ملكية، إنما الوطنية انتماء لأمة مسلمة من شرق الأرض إلى غربها، وهي أمة حية باقية وتتمدد بحول الله؛ لذلكم، فإن خلافة الله في أرضه ـ كل أرضه ـ من الواجبات التي تراخى المسلمون عن أدائها، وتلزمهم العودة الجادة إلى القيام بها، بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.
من سمات الدولة الحديثة تركيزها على "الوطنية" كمشتق ليس له دلالة واضحة، إذ غالبا ما يتداول في سياق الحديث عن محبة الوطن، "الوطن" بمعنى الدولة القطرية لا الدولة الأمة كما في الشريعة السمحة. أما التدقيق في مختلف الاشتقاقات فمدعاة لتحرير محل النزاع، والخلوص إثره لتشكيل مفهوم تشكيلا يضع النقاط على الحروف، بدل الجهالة المفضية للمنازعة كما يقول الفقهاء رحمهم الله.
إنه لمّا رفع غطاء الرأس عن الحضارة الإسلامية، أعنى تداعي عروة الحاكمية على مهل عبر الزمن، كشفت ثلمة عظيمة في تاريخ أمتنا لم تسد حتى وقتنا الحاضر. ولا تزال شعوب مسلمة كثيرة تعاني من تركة الاستعمار التشريعية، حين استبدل الشريعة بالقانون، فأصاب التركيبة الاجتماعية لتلك البلدان في مقتل، كابدت بمرارة سمه الذعاف حتى كادت أن تفقد في النجاة الأمل. ولبنان خير مثال على ذلك.
نقاش الساسة الغربيين فكريا إحسان ظن بهم، لا يلقون له بالا في قرارة نفوسهم؛ وتصريحات معتوهة كتلك التي صدرت من "ماكرون" عن الإسلام كانت من نفسية مريضة بتراكملات الصراع التاريخي بين حضارتين. ربما كان أردوغان في رده السياسي أقرب إلى الواقعية من نقاش فكري.
ما يقوله الغربيون وأذنابهم الطائعون من الشرقيين يوضح صورة المستقبل الذي يحدق نحوه هؤلاء ويقودون الشعوب إليه: إنها ديمقراطية على شاكلة غربية. حق له ذلك لو أنهم كانوا يفاضلون بين الاستبداد والديمقراطية أو كانوا يعيشون بين أمة لا تؤمن بالإسلام. أما والأمة مسلمة وفي ميراثها نظام شوري في عهد الدولة النبوية وإبان الخلافة الراشدة فليس لما يقوله الديمقراطيون حظ ولا نصيب؛ إن في ذلكم مأزق يطيل الطريق أمام الجموع ويحدو بالقافلة إلى شاطئ غير مأمون. الديمقراطية ليست سلعة نشتريها بل ثقافة تراكمية لها خصوصيتها الحضارية الفارقة.
ليست الوطنية من أحدنا بأب أو أم، أو بدولة قطرية جمهورية كانت أم إمارة ملكية، إنما الوطنية انتماء لأمة مسلمة من شرق الأرض إلى غربها، وهي أمة حية باقية وتتمدد بحول الله؛ لذلكم، فإن خلافة الله في أرضه ـ كل أرضه ـ من الواجبات التي تراخى المسلمون عن أدائها، وتلزمهم العودة الجادة إلى القيام بها، بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.كان محمد حسين هيكل شخصية مصرية مؤثرة في الحياة السياسية والإعلامية المصرية، مثل كثيرين تأثروا بالمد اليساري في مطلع القرن العشرين، ووقفوا بسلبية من الإسلام، خاصة في قضايا السياسة والحكم. هلك الرجل منذ سنوات، وخلف وراءه تركة ثقيلة، لم تتمكن الآلة الإعلامية في مصر وخارجها من الفكاك منها، لتشابك نهجه بين الفكرة والسلطة والقوة، وأمور أخرى تورط فيها، لا تعلم تفاصيلها إلا القلة.
لقد كانت للرجل مقاربات متهافتة في علاقة الدين بالدولة، تبين بوضوح جهل الرجل بالثقافة الإسلامية وتاريخ الحكم عند المسلمين؛ فتعرض وآخرين مثله لهم منابر، لطبع على القلوب، لم يستطيعوا فك شيفرته حتى أدركهم الموت، جزاء وفاقا. تحتاج السياسة غير الشرعية في البلدان المسلمة إلى تديّن خاص يغطي علمانيتها الصريحة أو المبطنة، أي تستخدمه كورقة التوت. أما التدين البديل لعلمانيتها فقد شاعت تسميته خطأ بــ"الإسلام السياسي"، والصحيح أن يسمى "السياسة الشرعية". المشتغلون بإصلاح السياسة يؤدون واجبا كفائيا يؤجرون عليه قدر نياتهم وجهدهم، مصداقا للحديث الشريف: "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر"، وما أكثر من لا يفقه من الدين هذا!!
يهمني تذكير من رضي من دينه أن يكون ورقة توت بين أكوام ورق في بلاط الحاكم، يستبدل هذه بتلك، ما بقي الحاكم في ملكه، وما بقيت أوراق صالحة للاستعمال من حوله ـ أن بين المؤمن بهذا والكافر به فرصة للتعلم والمراجعة، والعاقبة المترتبة من ذلك خير دليل على صحة الطريق.
لقد كان هارون الرشيد (رحمه الله) أعظم أمراء بني العباس ملكا، حكم نصف الكرة الأرضية أو يزيد، بدولة منيعة مهيبة دامت خمسة قرون. لم يمنعه انشغاله بمصالح الرعية، من أن يحج عاما ويغزو في سبيل الله عاما. ورغم ذلك كله لم يستطع الظفر بشرعية الحكم ومشروعيته كاملتين، بعدما تجاوز خلفاء بني أمية وبني العباس من قبله سنة النبي (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدين في التداول على السلطة بـالشورى، فبقي الحكم بعد العهد الراشدي مثلوما إلى يوم الناس هذا.
روي ابن الجوزي في كتابه "صفة الصفوة (2/81) "قائلا: "قال أشعث بن شعبة المصيصي: قدم هارون الرشيد الرقة فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، وتقطعت النعال وارتفعت الغبرة، وأشرفت أم ولد أمير المؤمنين من برج من قصر الخشب، فلما رأت الناس قالت: ما هذا؟ قالوا: عالم من أهل خراسان قدم الرّقة يقال له عبد الله بن المبارك. فقالت: هذا والله الملك، لا مُلك هارون، الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَط وأعوان".
[email protected]
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الحوار المسلمون مسلمون حوار رأي أوضاع مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة عالم الفن سياسة رياضة رياضة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة أرضه ـ
إقرأ أيضاً:
تحبط عملك وتفسد العبادات.. خطيب المسجد الحرام يحذر من 10 أفعال شائعة
قال الشيخ الدكتور أسامة بن عبدالله خياط، إمام وخطيب المسجد الحرام ، إنه في دنيا الواقع من صور حفظ الفروع وتضييع الأصول ما لا يكاد يُحصى من الصور.
تحبط عمله واجتهادهوأضاف “ خياط” خلال خطبة الجمعة الأولى من رجب من المسجد الحرام بمكة المكرمة، : فترى في الناس مَن يجتهد في ألوان القربات ليله ونهاره، ليزدلف بها إلى مولاه، ويحظى عنده بالدرجات العُلا والنعيم المقيم، لكنه يقرن ذلك بما يفسد عليه جده ونصبه ، ويحبط عمله واجتهاده.
وتابع: حين يشرك بالله غيره، بدعاء أو باستعانة أو باستغاثة أو بذبح أو بنذر أو بصرف أي نوع من أنواع العبادة التي هي حق خالص لله لا يجوز صرف شيء منها لغيره سبحانه.
وأردف : وحين يأتي كاهنًا أو عرَّافًا فيسأله ويصدِّقه، وحين يعلِّق تميمة أو ودعة يستدفع بزعمه الضرَّ عن نفسه أو أهله وولده، مع أن الله تعالى قد بيَّن لعباده في كتابه بواضح البيان.
ونبه إلى أن عاقبة ما كان من هذا الإشراك شركًا أكبر هو حبوط العمل وفساده، وعدم انتفاع عامله به في الآخرة، وتحريم الجنة عليه وجعل مأواه النار، فقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
حين تستحكم الآفاتوأوضح أنه حين تستحكم الآفات، وتستشري العِلَل، وتكثر الأدواء، تضطرب عند ذلك الألباب، وتلتاث العقول، وتحار الأفهام، فتنأى بالمرء عن سلوك الجادة، وتحيد به عن الصراط، وتحدث في نظام الحياة فسادًا عريضًا، حيث يشيع الخلل.
واستطرد: ويفشو العوج، وتختل الموازين، وتنعكس الأمور، فيقدَّم المؤخر، ويؤخر المقدَّم، وتصغَّر العظائم، وتعظَّم الصغائر، وتحفظ الفروع، وتضيَّع الأصول، منوهًا بأنه مِنَ الناس مَن يُعنى بإقامة حروف القرآن وتجويدها، وتحسين الصوت بالتلاوة، يضيع حدوده.
وواصل: ويهمل العمل بما أنزل الله فيه، ويغمض الأجفان عن تدبر معانيه، والتأثر بعظاته، والاعتبار بقصصه وأمثاله، ومِنَ الناس مَن يحترز من رشاش النجاسات أن يصيب ثيابه شيء منها، لكنه لا يتوقَّى من غيبة أو نميمة أو قول زور.
وأشار إلى أن مَن يكثر من الصدقات، لكنه لا يتورَّع عن مال حرام، ومِنَ الناس مَن يصلي بالليل ويصوم النهار، لكنه يؤذي جيرانه ويتعدِّى على حقوقهم، ويستطيل في أعراضهم، حتى تكون جيرته عليهم همًّا ثقيلًا، وشرًّا مستطيرًا، وبلاءً عظيمًا.
وأفاد بأن مِنَ الناس مَن يَبَرُّ معارفه وعشراءه بإقامة أوثق العلائق معهم، لكنه يعق والديه وإخوانه، ويقطع رحِمه، ويتبرأ من قرابته وأهل بيته، ومِنَ الناس مَن يجود على الفقير البعيد، لكنه يدع أهل بيته عالة يتكففون الناس، أو يضيق عليهم في النفقة الواجبة، فلا يعطيهم ما يكفيهم بالمعروف.
ولفت إلى أن مِنَ الناس مَن يصون لباسه ومركبه وفراشه عن الأدناس والأقذار، لكنه لا يحفظ سمعه وبصره عن التلوث بأرجاس الحرام، ومِنَ الناس مَن يطيع في صغار الأمور دون كبارها، وفيما تخف عليه مؤونته دون ما عليه فيه مشقة.
مبعث هذا الانحرافوبين أنه لا ريب أن مبعث هذا الانحراف، ومصدر هذا العِوَج، في تضييع الأصول وحفظ الفروع، إنما هو الخضوع لسلطان العادات، والإذعان لهيمنة الأعراف، بعيدًا عن أنوار الوحيين، قصيًّا عن ضوابط التنزيلين، وكذا اتباع الهوى بغير هدى من الله، وفصول جهل بدين الله، وقلة الناصح وندرة المعين.
ونوه بأن المخرج من كل أولئك، لا يكون إلا بدواء العلم والعمل، أما العلم فلأنه يقف صاحبه على القواعد والأصول والأسس التي تُبتنى عليها الفروع، وتقوم عليها الجزئيات، وينشئ له فكرًا منظَّمًا منضبطًا يضع الأشياء في مواضعها، ويعرف للأعمال مراتبها ومنازلها.
وأبان بالنسبة للعمل، فلأنه يقع صحيحًا موافقًا لما شرعه الله، ماضيًا على نهج رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، سعيدًا بالقَبول، مُبلِّغًا كل مأمول، مشيرًا إلى أن مخالفة الهوى، والاجتهاد في ضبط الأعراف والعادات بضوابط الشرع، مما يرجى أن يستصلح به هذا الانحراف، ويُقام به هذا العِوَج، ويثوب به المسلم إلى طريق دينه القويم.
وذكر أن عِظَم الخسارة التي يُمنى بها مَن يحفظ فروعًا ويضيِّع أصولًا، لا سيَّما إذا كانت هذه الأصول توحيدًا وإيمانًا، خليق بأن يحمل أولي الألباب على كمال العناية بهذا الأمر، وشدة الحذر من التردِّي في وهْدَته، وتمام الحرص على التجافي عن كل سبيل يفضي إليه، وكل حامل يحمل عليه، وأي خسارة، وأعظم من أن يحبط عمل العامل، أو يُنتقص من أجره، أو يُضاعف في وزره، محذرًا من تضييع الأصول، واعرفوا لكل شيء قدره، وانزلوه منزلته، تستقم أموركم، وتَطِب حياتكم، وتحظَوا برضوان ربكم.