استنفار عسكري متبادل وتحركات سياسية داخلية وخارجية متزايدة، كلها مؤشرات على عمل عسكري مرتقب قد يشهده اليمن، خلال الفترة المقبلة، من بوابة الحديدة الواقعة غربي البلاد.

فالمليشيات الحوثية الايرانية رفعت من جاهزيتها القتالية على طول الشريط الساحلي الواقع تحت سيطرتهم غربي اليمن، في الوقت الذي يتحدث فيه قادة الجماعة الارهابية عن مخططات تُعد لمهاجمة الحديدة، وربما فتح أكثر من جبهة في الداخل، بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية.

الإدارة الأمريكية هي الأخرى صعدت لهجتها ضد الحوثيين، وأرسلت قاذفات وأسلحة ومدمرات إلى المنطقة، في الوقت الذي تجري فيه مباحثات مع الأطراف اليمنية والإقليمية لحشد الدعم ضد الجماعة.

ويبدو أن عمليات الحوثيين الداعمة لغزة، وتأثيراتها على الملاحة الدولية وسلاسل التوريد، تقف وراء تغيير واشنطن موقفها من الجماعة، فهل تدعم الولايات المتحدة عملية عسكرية تخوضها أطراف يمنية لحرمان الحوثيين من منفذهم البحري الوحيد؟

استنفار حوثي
وفق مصادر عسكرية مقربة من الجماعة، فقد وجهت قيادتها العسكرية برفع الجاهزية القتالية في المعسكرات الساحلية في الحديدة، التي تعتبر نافذة الجماعة الوحيدة على البحر الأحمر، ومنها تنطلق عملياتها التي تستهدف السفن الإسرائيلية والمتوجهة إلى "إسرائيل".

وبحسب مصادر يمنية في محافظة الحديدة، كثفت الجماعة الارهابية من تحركاتها العسكرية، وأرسلت مزيداً من التعزيزات إلى المحافظة الساحلية، وسط مخاوف تسود الجماعة من احتمال تدشين عملية عسكرية مفاجئة لقوات موالية للحكومة اليمنية المعترف بها لاستعادة الحديدة.


وفي 27 أكتوبر، نفذت الجماعة مناورة عسكرية واسعة في الساحل الغربي، وقالت إن هذه المناورة تُحاكي التصدي لأربع موجات هجومية واسعة بحراً وجواً.

وبحسب بيان الجماعة، فقد شارك في تلك المناورة قوات التعبئة العامة التي شكلتها الجماعة خلال الأشهر الماضية، للتصدي لما أسمته أي "عدوان" على اليمن.

تحركات الحوثيين ودفعهم بمزيد من القوات إلى الساحل الغربي دفع القوات الموالية للحكومة اليمنية إلى تعزيز صفوفها على خطوط التماس من جهة المخا والخوخة ومواقع أخرى غربي البلاد.

قوات الحكومة
على الطرف الآخر رفعت قوات المقاومة الوطنية، التي يقودها نجل الرئيس السابق عضو مجلس القيادة الرئاسي طارق صالح، من جاهزيتها القتالية على طول خطوط التماس مع الحوثيين في الحديدة.

كما رفعت "ألوية العمالقة" السلفية من جاهزيتها القتالية في مناطق تمركزها في الحديدة، وكذلك ألوية المقاومة التهامية، وهي وحدات عسكرية شُكلت خلال سنوات الحرب بدعم من المملكة العربية السعودية والإمارات.

ونقل موقع "يمني مونيتور" المحلي عن مصدر عسكري قوله إن المقاومة الوطنية بقيادة طارق صالح دفعت بتعزيزات عسكرية كبيرة إلى الخطوط الأمامية لجبهات القتال، كما فعلت قوات العمالقة والقوات الحكومية.


وسبق أن وصلت القوات الحكومية إلى محيط ميناء الحديدة الاستراتيجي في 2018، إلا أن ضغوطاً قيل إنها أمريكية حالت حينها دون استعادة المدينة الساحلية، التي تعتبر ثاني أهم ميناء في البلاد، بعد ميناء عدن جنوبي البلاد.

وانسحبت القوات الموالية للحكومة في ظروف غامضة، أواخر 2021، من مناطق شاسعة في الحديدة؛ ما سمح للحوثيين بالتمدد مجدداً في تلك المناطق، لتتحول المنطقة إلى ساحة للتمدد والتحشيد الحوثي.

تحركات دبلوماسية
سياسياً تبذل الولايات المتحدة الأمريكية جهوداً كبيرة لتوحيد القوى اليمنية، في خطوة يرى سياسيون أنها بمنزلة تحول في الموقف الأمريكي تجاه الجماعة، بسبب هجمات الأخيرة البحرية، وفشل واشنطن في التصدي لها.

وخلال الأشهر القليلة الماضية، نشط المبعوث الأمريكي الخاص إلى اليمن تيم ليندركينغ، والسفير الأمريكي ستيفن فاغن، دبلوماسياً في محاولة لإقناع الأطراف اليمنية والإقليمية بضرورة الوقوف في وجه الحوثي.

وأجرى المبعوث الأمريكي مباحثات في السعودية، وكذلك في مصر، وقد نقلت صحيفة "واشنطن بوست" عن مصادرها الخاصة أن ليندركينغ فشل في انتزاع إدانة سعودية ومصرية لعمليات الحوثيين.

كذلك نشطت قيادة الشرعية في اليمن دبلوماسياً، وزار رئيس هيئة الأركان العامة قائد العمليات المشتركة الفريق الركن صغير بن عزيز الولايات المتحدة مرتين خلال عام، آخرها في أكتوبر الماضي، وهناك بحث التعاون المشترك، وسبل دعم الحكومة للقيام بدورها في التصدي لتهديد الحوثيين المستمر للملاحة الدولية.


تقرير الخبراء
واللافت في المشهد اليمني الحالي ما تضمنه تقرير الخبراء التابع لمجلس الأمن الأخير، الذي قدم تفاصيل ومعلومات كثيرة حول قدرات الحوثيين، وتحولهم إلى قوة عسكرية تشكل خطراً على أمن المنطقة.

التقرير الذي أثار غضب الحوثيين استعرض هجمات الجماعة والمخاطر التي يفرضونها على الملاحة الدولية، كما تطرق بالتفصيل إلى علاقتهم الخطيرة مع إيران، واضعاً توصيات بضرورة التصدي لهم ووقف خطرهم.

جماعة الحوثي، الارهابية وعلى لسان العديد من قياداتها، اعتبروا التقرير بمنزلة ضوء أخضر وتبرير لأي عملية عسكرية قد تشنها الولايات المتحدة و"إسرائيل" ضدهم، بحسب قولهم.

عملية خاطفة
وبالنظر إلى المعطيات الراهنة، يتضح أن الأطراف الداخلية اليمنية تتحضر لعملية لا تُعرف حدودها، وما إذا كانت ستشمل كافة الجبهات أم ستقتصر على الحديدة وحدها.

ووفقاً للخبير العسكري والاستراتيجي الدكتور علي الذهب، فإن هناك سيناريوهين اثنين لتلك التحركات، "الأول قد يكون في إطار محاولات الضغط على الحوثيين في إطار عملية السلام الحاصلة، والحد من هجماتهم على خطوط الشحن البحري، وإضعافهم، بحيث لا يتضاعف خطرهم".


وأما السيناريو الثاني فيرى الذهب في بـ أن الهدف قد يكون "معركة خاطفة، يُزاح من خلالها الحوثيون من الحديدة لضمان عدم تشكيلهم خطراً على الملاحة الدولية"، مؤكداً أن هناك مؤشرات حقيقية على هذا الأمر، إلا أنه يرى أن الانتخابات الأمريكية ربما تعيق مثل هذا التحرك.

وقال الذهب: "لا أتصور أن الولايات المتحدة قد تخوض حرباً في مثل أوضاع كهذه، لكن ليس مستبعداً أن تكون هناك معركة خاطفة يزاح فيها الحوثيون من الحديدة إلى ما بعد منطقة باجل، ومن ثم تحييدهم والحيلولة بينهم وبين البحر الأحمر، والحد من تأثيرهم فيه".

ضربة للحوثيين
ويرى الذهب أنه في حال إطلاق عملية عسكرية خاطفة ضد الحوثيين، فإنه سيكون لها تأثير كبير عليهم، خصوصاً من الناحية الاقتصادية، كما ستؤثر كثيراً على مجهودهم الحربي.

وتابع: "ستنتزع منهم قطاعاً كبيراً من الساحل الغربي؛ لأن المعركة لن تكون في الحديدة فقط، بل ستكون في المنطقة الممتدة ما بين الخوخة وما بعد مدينة الحديدة، ومن ثم سيفقدون أهم منافذ الشحن، وأهم المناطق الحضرية، التي توجد فيها مرافق عسكرية وحضرية وتجارية وسياسية".

ونوّه بأن العملية ستكون ضربة مؤثرة على الجماعة، مشيراً إلى أنها سارعت إلى الاستعداد؛ من خلال نصب منصات لإطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة في جبال حصوصت في حدود ريمة، والمناطق المحيطة، لمواجهة أي عملية محتملة في الحديدة.


وفيما يتعلق بجاهزية الأطراف اليمنية لخوض معركة محتملة في الحديدة قال الخبير العسكري والاستراتيجي: إن "تلك الأطراف ليست جاهزة لخوض معركة طويلة المدى"، لافتاً إلى أن مثل هذه المعركة تحتاج إلى دعم خارجي "وربما أمريكي".

وقال الذهب: "إذا كان هناك دعم أمريكي يسبق عملية الاجتياح، من خلال التمهيد الجوي والبحري، ودعم لوجستي ومعلوماتي، فأعتقد أنه من الممكن خوض هذه المعركة بـ6 إلى 8 ألوية، وهذه الألوية موجودة على الأرض، شريطة أن تكون مسلحة بشكل كامل بمختلف أنواع الأسلحة، وسبق أن خاضت معارك في هذه المناطق، ولديها القدرة على التعويض المادي والبشري، ومدعومة لوجستياً واستخبارياً".

المصدر: مأرب برس

إقرأ أيضاً:

الأمن الأردني بمواجهة التحديات.. قراءة في عملية تفكيك شبكات العنف الاخواني

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

لم تكن التفاصيل التي كشفت عنها الحكومة الأردنية مؤخرًا، بشأن إحباط سلسلة من المخططات التخريبية، مجرد أخبار أمنية عابرة. بل جاءت كجرس إنذار ثقيل يوقظ مخاوف دفينة عن عودة "الخلايا النائمة"، ويعيد طرح تساؤلات قديمة-جديدة حول حدود المشروع الإسلامي السياسي، وما إذا كانت تياراته –حتى تلك التي تدّعي السلمية– قد تخلّت فعلًا عن نزعتها الانقلابية.

البيانات الرسمية الأردنية، سواء من دائرة المخابرات العامة أو الناطق باسم الحكومة محمد المومني، كشفت عن خلية معقدة التركيب، متعددة القضايا، تمتد جذورها منذ 2021، وتورّط فيها 16 شخصًا على الأقل. أخطر ما كُشف هو العمل على تصنيع صواريخ قصيرة المدى (3-5 كم)، وتجهيز طائرات مسيّرة، وتجميع مواد شديدة الانفجار، وتجنيد أفراد لخوض تدريبات أمنية خارجية، بعضها جرى على الأراضي اللبنانية بدعم خارجي. ورغم نفي جماعة الإخوان المسلمين الأردنية –التي حُلّت قضائيًا في 2020– لأي صلة بهذه الأعمال، فإن الاعترافات والتقارير الأمنية تشير إلى انتماءات فكرية وتنظيمية واضحة لبعض المتهمين للجماعة أو "أُسرها" التنظيمية.

 

الخطر الأمني لا ينبت من فراغ

لا يمكن التعامل مع محاولة تسليح مجموعات غير نظامية داخل دولة مستقرة مثل الأردن بوصفها حوادث فردية أو مغامرات منفلتة. فهذه المحاولات، بطبيعتها وتوقيتها، تمثل تهديدًا مباشرًا للبنية الأمنية والسياسية في المملكة، وتهدد بتحويل المشهد الداخلي إلى حالة شبيهة بالسيناريو اللبناني، حيث تتعايش الدولة مع كيانات مسلّحة خارجة عن سلطتها. التوازن الحساس الذي يميز الداخل الأردني –والقائم على مركزية القرار الأمني والسياسي– لا يحتمل دخول لاعبين جدد يمتلكون السلاح، مهما كانت شعاراتهم.

الخطورة تكمن كذلك في نوعية المواد التي جرى ضبطها بحوزة الخلايا، والتي شملت مواد شديدة الانفجار مثل TNT وC4 وSemtex-H. هذه ليست أدوات بدائية يمكن الحصول عليها من السوق السوداء المحلية، بل تحتاج إلى خبرات فنية عالية وشبكات تهريب منظمة تتجاوز الحدود الأردنية. كما أن عمليات تصنيع الصواريخ والطائرات المسيّرة تدل على أن الهدف لم يكن مجرد تخزين للأسلحة، بل إقامة بنية تحتية مستقلة للتصنيع، وهذا مؤشر على مشروع عسكري مبيت وليس مجرد عمل تخريبي معزول.

 

شخصيات تنظيمية 

ما يضاعف القلق هو ورود معلومات مؤكدة عن تلقي بعض العناصر تدريبات في لبنان، وقيامهم بزيارات للتواصل مع شخصيات تنظيمية هناك. هذا المعطى يفتح باب الشبهات حول وجود روابط لوجستية أو تنظيمية مع "حزب الله"، الذي يملك تاريخًا في دعم حركات مسلحة خارج الحدود، وهو ما يعزز المخاوف الأردنية من تسلل النفوذ الإيراني إلى الداخل عبر قنوات غير تقليدية. كما أن هذه التطورات تأتي بعد سلسلة من الحوادث التي أعلن الأردن فيها إحباط تهريب أسلحة ومخدرات عبر الحدود السورية، ما يرسم مشهدًا إقليميًا ملبدًا بالاختراقات الأمنية.

في ضوء هذه المعطيات، فإن الأردن لا يواجه فقط مجموعة مسلحة، بل يواجه مشروعًا عابرًا للحدود، يحمل أبعادًا أيديولوجية وتنظيمية، وربما طموحات تتجاوز الداخل الأردني. ومن هنا، فإن التعامل مع هذه القضية يجب أن يكون ليس فقط أمنيًا وقضائيًا، بل سياسيًا واستراتيجيًا، من خلال تحصين الجبهة الداخلية ومراقبة أذرع التأثير الإقليمي، وقطع الطريق على محاولات تحويل المملكة إلى ساحة مواجهة بالوكالة في صراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل.

الإخوان المسلمون: المعضلة المستمرة

في كل مرة تقع فيها حادثة أمنية ترتبط بأشخاص لهم صلة بجماعة الإخوان المسلمين، تعود الجماعة إلى واجهة المشهد السياسي والأمني، مُعلنة تمسكها بـ"الخط الوطني" و"النهج السلمي"، ومتبرئة من أي علاقة بالعنف أو التخطيط له. لكن هذه المواقف المعلنة، على الرغم من تكرارها، لم تنجح في تبديد الشكوك العميقة التي تُراكمت عبر السنوات في الوعي الجمعي الأردني. فمنذ تفجيرات فنادق عمان عام 2005، مرورًا بقضية الكرك عام 2016، وصولًا إلى أحدث القضايا التي أعلنت عنها المخابرات العامة، لا تزال الجماعة محاطة بشبهات عدم القدرة –أو عدم الرغبة– في الفصل الحاسم بين الدعوي والسياسي من جهة، وبين العسكري والتنظيمي من جهة أخرى.

 

المرونة الأيديولوجية

إن ما يزيد الموقف تعقيدًا هو ما يصفه مراقبون بـ"المرونة الأيديولوجية" لدى الجماعة الأم، وهي مرونة تجعل من تنظيم الإخوان مظلة واسعة قادرة على احتواء مشاريع متطرفة ضمن خطاب "المقاومة" و"نصرة الأمة". في هذا السياق، يصبح التبرؤ من الأفعال العنيفة التي يرتكبها أفراد محسوبون على الجماعة أو نشأوا في بيئتها التنظيمية، غير كافٍ. فالسؤال المشروع هنا لا يتعلق فقط بمسؤولية الجماعة عن الأفعال، بل أيضًا بدورها في إنتاج الذهنية التي تحتمل التحول لاحقًا نحو التسلح والعنف.

ومن هذا المنطلق، فإن بيان الجماعة الأخير، الذي تحدث عن "أعمال فردية لا علاقة لها بالتنظيم"، لا يعفيها من المسؤولية البنيوية عن تغذية بعض هذه المسارات. فإذا لم تكن هذه العمليات قد صدرت بقرار مركزي، فهل تملك القيادة فعلًا السيطرة على الأطر التنظيمية الداخلية، كالأسر والدوائر التربوية؟ وإذا لم تكن تعلم بنشاطات بعض المجموعات، فهل كانت تُغض الطرف عن تجاوزاتها؟ هذه الأسئلة تمس صميم الإشكال الهيكلي المزمن في التنظيم، الذي يعاني من تباين دائم بين الخطاب العلني السياسي، والخطاب الداخلي العقائدي الذي قد يُفرز توجهات أكثر تشددًا.

 

معضلة قديمة جديدة

في نهاية المطاف، تتكرر مع الإخوان معضلة قديمة جديدة: خطاب مزدوج يُظهر في العلن التزامًا بالديمقراطية والسلم، لكنه يُبقي على بنية مغلقة وتنظيم هرمي قابل للاختراق والتطرف من الداخل. وهذا التناقض، الذي لم يُعالَج تاريخيًا، يُبقي الجماعة في منطقة رمادية، تارة متهمة بالضلوع في عمليات مسلحة، وتارة ضحية لـ"أعمال فردية"، لكنها في كل الأحوال، لا تستطيع إقناع الدولة والمجتمع بأنها قد طوت صفحة العنف تمامًا، أو أنها باتت جزءًا طبيعيًا من النسيج السياسي الوطني.

ولا يمكن فهم مسارات الإخوان في الأردن نحو العنف، دون العودة إلى السياق الأوسع الذي تمثله الجماعة الأم في مصر، والتي تشكّل المرجعية الأيديولوجية والتنظيمية لمعظم فروع الإخوان في المنطقة. فالتاريخ القريب شهد تصعيدًا واضحًا في خطاب الجماعة الأم بعد الإطاحة بحكمها في مصر عام 2013، حيث عاد الخطاب إلى نغمة "التمكين بالقوة" و"الشرعية المغتصبة"، مع رواج مفاهيم مثل "القصاص" و"الرد على الظلم" و"استرداد الحكم"، وهي مفاهيم وفّرت أرضية خصبة لميلاد تنظيمات أكثر تشددًا خرجت من عباءة الإخوان، مثل "حسم" و"لواء الثورة" في مصر، والتي تبنّت عمليات اغتيال وتفجير ضد رجال أمن وسياسة.

 

التجربة المصرية

هذه التجربة المصرية ألقت بظلالها على فروع الجماعة في المنطقة، ومنها الأردن، حيث لم تكن البيئة التنظيمية الإخوانية بمنأى عن التأثر. فالتواصل بين كوادر الفروع، والمشاركة في المؤتمرات والمنتديات التربوية المشتركة، والعلاقات العابرة للحدود بين القيادات، كلها عوامل ساهمت في نقل المزاج المتوتر والمشحون بعد 2013 إلى قواعد الجماعة في الخارج. ومع تزايد التضييق السياسي على التنظيم، وتآكل شعبيته المجتمعية، ظهرت بوادر انقسام داخلي بين من يرى ضرورة مراجعة فكرية، وبين من يتجه نحو التصلب العقائدي أو حتى تبني العنف بوصفه "خيار الضرورة"، وهو ما يفسر وجود خلايا منفلتة أو شبكات تنشط في الظل، تستند إلى خلفية تنظيمية إخوانية ولكنها تتجاوز الخطاب العلني للجماعة.

 

مشروع بلا بوصلة

تواجه الجماعات الإسلامية، لا سيما بعد صدمة ما بعد "الربيع العربي"، مأزقًا وجوديًا يتمثل في غياب المشروع السياسي الناضج والقابل للتطبيق ضمن أطر الدولة الوطنية الحديثة. فبعد أن فشلت بعض هذه الجماعات في اختبار الحكم أو عجزت عن التكيف مع آليات العمل الديمقراطي، وجدت نفسها أمام خيارين: إما التحلل والانكفاء، أو البحث عن بدائل أكثر صدامية. وفي كثير من الحالات، فضّل بعض المنتسبين اللجوء إلى خيار "التعبئة الصامتة"، التي قد لا تتجسد فورًا في العنف، لكنها تمهد له نفسيًا وتنظيميًا.

هذا السياق يجعل من التسلح –حتى وإن لم يُستخدم ميدانيًا– فعلًا سياسيًا رمزيًا، يُعبر عن الرفض والاحتجاج على الواقع القائم، ويُخزّن كأداة جاهزة "للرد" إذا ما سمحت الظروف. وفي الحالة الأردنية، يبدو أن بعض الموقوفين تورطوا في تأسيس بنية تحتية أولية لمشروع عنفي، رغم غياب الأهداف المباشرة أو المؤشرات الواضحة على نية تنفيذ هجوم قريب. هذه المراوحة بين الجاهزية والانكفاء تكشف عن أزمة بوصلة: فالفعل التحضيري قائم، لكن الوجهة غائبة.

 

تصور سياسيً أو عقائدي 

اللافت في تفاصيل القضية أن المتهمين، رغم القدرات التنظيمية والتقنية الظاهرة في تصنيع الصواريخ والطائرات المسيّرة، لم يكونوا يملكون تصورًا سياسيًا أو عقائديًا ناضجًا يبرر هذا النشاط. لم تظهر في اعترافاتهم إشارات إلى أهداف استراتيجية، أو تصورات حول "اليوم التالي" لتفعيل هذا السلاح. الأمر بدا أقرب إلى تمرين في التمكين التنظيمي والبنية التحتية، وليس إلى عملية مدروسة بأبعاد سياسية أو أيديولوجية مكتملة.

هذه الحالة تفتح الباب أمام احتمال خطير: أن يكون المشروع الحقيقي لا يزال في طور الإعداد، أو أنه مرتهن لإشارة خارجية أو تغير إقليمي كبير. فغياب الأهداف لا يعني غياب النية، بل ربما يشير إلى انتظار الفرصة المناسبة. وهنا تكمن خطورة هذا النوع من "العنف المؤجل" الذي لا يندرج تحت إطار الإرهاب التقليدي، بل يتخفى وراء شبكة علاقات تنظيمية محلية وخارجية، بانتظار اللحظة التي يُعاد فيها تشغيله لخدمة مشروع أكبر، لا يتحكم به الفاعلون المحليون وحدهم.

 

دلالات العملية الأمنية الأخيرة في الأردن وأهميتها:

أولًا، تكشف العملية عن مستوى عالٍ من اليقظة الاستخبارية الأردنية، خاصة أن المتابعة بدأت منذ عام 2021، ما يدل على تراكم معلوماتي ورصد طويل الأمد لتحركات الخلايا ومخططاتها. هذا لا يعبّر فقط عن كفاءة تقنية، بل عن إدراك استراتيجي لخطورة "العمل البطيء تحت الأرض" الذي تتبناه بعض الجماعات، حيث لا يعتمدون على الهجوم المباشر بل على بناء البنية التحتية والتغلغل التدريجي. وهنا، تكمن أهمية التوقيت في كشف الشبكات قبل أن تنتقل من مرحلة التجهيز إلى التنفيذ.

ثانيًا، تفتح العملية الباب واسعًا أمام مراجعة العلاقة بين بعض الخطابات الإسلامية التقليدية، وبين تحولات بعض العناصر نحو العنف. فبينما تنفي القيادات المركزية –كما هو حال جماعة الإخوان المسلمين– أي صلة بالمخططات، إلا أن تكرار انخراط أفراد "متأثرين" أو "منتمين سابقًا" يطرح علامات استفهام حول فعالية الرقابة الداخلية للجماعة، ومدى قدرتها على احتواء أو عزل الأجنحة الأكثر تشددًا. وهو ما يعيد الجدل القديم الجديد حول التماهي أو التحول التدريجي من الفكر إلى الفعل العنفي.

ثالثًا، تشير هذه العملية إلى وجود بعد إقليمي في التهديدات التي يواجهها الأردن، خاصة مع ورود إشارات إلى تدريب في لبنان، ونقل أموال ومعدات عبر الحدود. هذه المعطيات تؤكد أن الأردن ليس فقط ساحة مستهدفة، بل هو أيضًا في قلب معادلات التنافس الإقليمي، خصوصًا بين قوى تصدّر خطاب "المقاومة" وتبحث عن موطئ قدم في الجوار. وبذلك، فإن أمنه الداخلي أصبح مرتبطًا بتوازنات معقدة تتجاوز حدوده الجغرافية.

وأخيرًا، فإن هذه القضية تضع الدولة الأردنية أمام تحدٍ مزدوج: أمني وتنظيمي. فهي مطالبة من جهة بتعزيز سيطرتها على الفضاء الداخلي وضبط أي مساحات رخوة يمكن أن تنشأ فيها مثل هذه الخلايا، ومن جهة أخرى بالانفتاح على نقاش وطني حول طبيعة بعض الجماعات الأيديولوجية التي ما تزال تنشط تحت شعارات سلمية لكنها تحوي في طياتها بذور التشدد. وهذا يتطلب استراتيجيات لا تكتفي بالمعالجة الأمنية، بل تتجه نحو تفكيك البُنى الثقافية والتنظيمية التي تسمح بمثل هذا التسلل الخطر.

 

خاتمة: درس أردني للمنطقة

في نهاية المطاف، يظل الأردن مثالًا حيًا على أهمية وجود منظومة استخباراتية قوية قادرة على متابعة التهديدات الأمنية قبل أن تتحول إلى عمليات مؤذية. إن النجاح في تفكيك هذه الشبكات قبل تنفيذ مخططاتها ليس فقط دليلاً على احترافية الأجهزة الأمنية، بل يعكس أيضًا أن الأردن يمتلك رؤية استشرافية للتحديات التي قد تطرأ في المستقبل. ومع ذلك، تبقى هذه العملية مجرد خطوة في مسار طويل يتطلب تكاملًا بين العمل الأمني والجهود السياسية والاجتماعية المستدامة. فالاكتفاء فقط بالتركيز على الجوانب الأمنية دون معالجة جذور التهديدات قد يؤدي إلى عودة هذا النوع من المخططات في شكل آخر، وقد يعزز من حالة الاستقطاب والتطرف.

المطلوب من الدولة الأردنية، وأيضًا من الدول المجاورة، أن تدرس بعناية الدلالات التي تحملها هذه القضية، لأن المخاطر التي تهدد الأمن الوطني لا تتعلق فقط بالأعمال العدائية المباشرة، بل بما يمكن أن يترسخ في المجتمع من شعور بالحرمان والاغتراب. إذا كانت هناك شبكة خارجية تمد الجماعات بالأموال والتدريبات، فإن هذا يشير إلى أن هناك خللاً ما في مناهج التنمية والتوجيه الداخلي. وهذا يتطلب، بشكل عاجل، مراجعة شاملة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تستهدف فئة الشباب، الذين قد يُستغلون بسهولة من قبل هذه الجماعات.

ورغم أن الجماعات الإسلامية قد ترفض الربط بينها وبين هذه القضايا، فإنها تتحمل مسؤولية كبيرة في فحص خطابها التنظيمي والمراجعة الجذرية لآليات عملها. يجب أن تكون هناك وقفة جادة من داخل هذه الجماعات لإعادة تقييم مواقفها من العنف والتسلح، لا سيما في ظل محاولات البعض لاستغلال الفراغات السياسية والاجتماعية لتحقيق أهداف قد تكون بعيدة عن المشروع السلمي. الخطوة الأولى في هذا الاتجاه تتطلب تطهير خطاب الجماعات من أي تبريرات للعنف أو التحريض على التطرف، والاعتراف بأن التغيير الفعلي لا يتحقق عبر العنف، بل عبر العمل السياسي الشرعي والناضج.

أخيرًا، إن ما تحتاجه المنطقة، وخاصة الأردن، هو نوع من النضج السياسي الذي يتجاوز الشعارات والتكتيك المؤقت. المشروع السياسي الذي يفتقر إلى شفافية المسؤولية والالتزام بالمواطنة المتساوية لا يمكنه أن يستمر في العيش على أطراف الأنظمة السياسية. كما أن ممارسة السياسة تحتاج إلى التزام جاد بالقيم الوطنية، والتي لا يمكن أن تتوافق مع أي استثمار في الجهل أو في الألعاب السياسية المزدوجة. ولذلك، فإن المراجعة الجادة من داخل هذه الجماعات تعد خطوة أساسية نحو بناء مشروع سياسي بديل قائم على المبادئ الوطنية والسلمية، والذي يراعي مصلحة المجتمع بأسره.

مقالات مشابهة

  • الحوثيون يحولون الأحياء السكنية بمدينة الحديدة إلى ثكنات عسكرية
  • البر الرئيسي الصيني يعارض بشدة قيام علاقات عسكرية بين الولايات المتحدة وتايوان
  • البر الرئيسي الصيني يعارض قيام علاقات عسكرية بين الولايات المتحدة وتايوان
  • قوات الاحتلال تشن عملية عسكرية في مناطق من جنين بالضفة الغربية
  • الأمن الأردني بمواجهة التحديات.. قراءة في عملية تفكيك شبكات العنف الاخواني
  • الولايات المتحدة تشن 15 غارة على جزيرة كمران اليمنية في تصعيد جديد
  • قصف أمريكي كثيف يستهدف مواقع الحوثيين في الحديدة والبيضاء
  • ماذا يحدث في الأردن؟ ومن هي الجماعة التي تلقت تدريبات في لبنان؟
  • مسؤولون أمريكيون: فصائل مدعومة من الإمارات تخطط لهجوم ضد الحوثيين في الحديدة بدعم من ترامب
  • انقسام بالمنصات اليمنية حول دوافع عمليات الحوثيين ضد إسرائيل