لجريدة عمان:
2025-02-16@11:59:39 GMT

هل نحتاج إلى تجديد في فكرنا الإسلامي ومساراته؟

تاريخ النشر: 6th, November 2024 GMT

من خلال حضوري الدائم لمعارض الكتب الدولية، سواء فـي بلادنا فـي السنوات الماضية التي لم يفتني منذ انطلاقته بمسقط فـي بداية التسعينات من القرن الماضي حتى الآن وكان من أنجح المعارض العربية، أو فـي حضوري بعض المعارض الخارجية فـي بعض الدول العربية ،عندما يتصادف وجود معرض للكتاب فـيها، وأكون إما زائرا وإما لحضور أحد المؤتمرات أو الندوات، ولا شك أن فكرة التجديد مسألة لا خلاف فـيها فـي فكرنا العربي الإسلامي، وهناك أحاديث تؤكد أهمية التجديد، فأجد صدور كتب جديدة عن التجديد لبعض الكتاب، وهؤلاء ليس لهم اهتمامات إيجابية للفكر الإسلامي، لكن الأغرب أن الداعين لهذا التجديد والإلحاح عليه فـي ذلك فـي هذه الكتابات، كونهم من خارج منظومة فكر الأمة وتوجهاتها الفكرية فـي التجديد،، فأغلب هؤلاء معروفون أنهم متعلقون بالفكر الليبرالي أو العلماني فـي الرؤى والمنطلقات العامة، لكن الإشكال أن بعض هذه الدعوات، تريد أن تغيّر أو تحذف بعض النصوص القطعية، لتتماشى مع الفكر الغربي ومنطلقاته الفكرية التي تخالفه فـي الرؤية العامة التي تعد من صميم القيم الإسلامية الثابتة، لكن الفكرة التي ينطلقون منها، فـي دعواتهم للتجديد، مثل تأويل النص القرآني أو قراءته أو تجديد الخطاب الديني الخ بما يخالف النظرة الأخرى للقيم فـي الفكر الإسلامي.

والواقع أن مسألة تجديد الفكر الإسلامي أو إعادة فهمه أو قراءته ليس مرفوضًا أو مستهجنًا، كاجتهاد بشري قابل للأخذ والعطاء والمراجعة، لكن الذي يرفض هو استحداث رأي أو تجديد ما يُطرح عند البعض من الليبراليين فـي النص القرآني أو تأويله، أو رفض بعض أحكامه بحجة «تاريخية» نصوصه لمرحلة معينة! وهذا القول مردود عليه وسنناقشه تاليًا لتوضيح أخطاء هذه الرؤى، والفارق كبير بين التجديد الذي هو مطلب إسلامي، فـيما لا نص فـيه فـي الشرع الإسلامي، وبين التجديد فـي القضايا الجزئية الفرعية، التي هي بعيدة عن القطعيات والثوابت كما يعرفه أهل الاختصاص.

وللأسف أن بعض هؤلاء يسقطون ما فعلته الكنيسة الغربية على الغربيين من حيث الجمود ومحاربة العلم والتقدم والنهوض الفكري والعلمي، ووصل إلى قتل العلماء والمخترعين، وبين الإسلام وظروف التراجع والتخلف، الذي لا دخل للفكر الإسلامي لما جرى للأمة من تراجعات، وكانت نتيجة سياسات خاطئة، وليست ممانعة من قبل الإسلام ضد العلم وضد النهوض والتقدم، الذي لا شك أن الإسلام أرسى مبدأ العلم والمعرفة، فـي الآية المعروفة التي وردت فـي سورة:(العلق): وتسمى أيضًا سورة (اقرأ)، والحديث النبي الشريف: (اطلبوا العلم ولو بالصين). وهناك الكثير من الأثر عن أهمية العلم والمعرفة فـي الإسلام وليس العكس، لذلك إسقاط ما جرى من صراع بين الكنيسة الغربية وبين العلماء والمثقفـين فـي الغرب، لا ينطبق على دين الإسلام ولا رؤيته للعلوم والاختراعات.

فالإسلام دين العلم والمعرفة وشجع عليها، وليس فـي العلوم الدينية فحسب، بل وفـي سائر العلوم الفلكية والتجريبية والعقلية والرياضيات والكيمياء والفـيزياء، وحركة الترجمة من الثقافات الإنسانية، وسائر العلوم التي تبرز فـي كل عصر، وعند كل حضارة أو ثقافة، تستجد فـيها المعارف وتتطور، لذلك لا يوجد تنافر بين دين الإسلام والعلم.

فهذه الكتابات التي تتحدث عن أهمية التجديد وضروراته الملحة، يقصد منها أهداف أخرى لا تلتقي والحاجة للتجديد وفق المفهوم الفكري للإسلام، والتي منها تجديد أو تطهير أو نفض الغبار عما تراكم على أصول الدين من سكون وجمود وغيرها مما هي مغايرة لمفاهيمه الصحيحة والنقية. والإشكالية الخطيرة فـي فكر هؤلاء ـ كما يقول د/ رضوان السيد ـ أن الذين يدعون للتجديد اليوم: «لا يجتهدون فـي ابتداع طرق أفضل بل يحاولون التخلص من الإسلام كله. تارة بالقول: إنهم يريدون تطهيره من الخرافات والأساطير بالعودة إلى الينابيع، وطورا بالقول: إن جمود الفقهاء يجمد الإسلام ولا بد من التخلص منهم فـيتجدد الدين. ودون التشكيك فـي مقاصد البعض، فأنني أزعم أنه إذا نظر المرء لنفسه كواحد من هذه الجماعة المسلمة فـي سعيها نحو النهوض والتقدم، فإنه لن يجد عائقا على حركته إلى الأمام لا من الإسلام ولا من فقهائه. إن المعوّق هو ذلك الذي يضع نفسه خارج جماعة المسلمين ثم يحاول أن يحدّد أسباب بطئها فـي مسيرة التقدم فتضّله الجزيئات عن فهم عموميات المسائل وسياقاتها».

ونتيجة للالتباس والخلط فـي مفهوم التجديد أصبح البعض من المشتغلين بالفكر الإسلامي يتوجسون من مقولات التجديد وضروراته لعصرنا، لأن الكثير من المدعين دخلوا على خط هذه المشروعية الإسلامية، وحاولوا أن يطرحوا بعض القضايا والمفاهيم المغايرة لمفهوم التجديد الإسلامي ومضامينه، والبعض الآخر يقصر مهمة التجديد فـي التحذير من البدع والمحدثات التي توصف بأنها شر الأمور، وهناك من يحصر التجديد فـي الجانب السياسي أو الاقتصادي لا غير، وهناك من يكتفـي بربط القرآن الكريم بما جد من حقائق العلم والمعرفة معتبرًا أن التجديد هو التفسير العلمي للقرآن الكريم، بل هناك من يوسع مفهوم التجديد الديني حتى يكاد أن يشتت ويبدد تحت شعار الحداثة ، وما ستتبعها من كلام لا يتوافق مع رؤيتنا الخاصة، وهناك من يركن للتقليد والانكماش ولسان حاله يقول: ليس فـي الإمكان أبدع مما كان.. وهذه أيضًا يحتاج إلى فهم بحقيقة مفهوم التجديد ومقاصده.

كما أن مهمة التجديد ليست مقتصرة على فهم خاص أو جانب من جوانب الإشكالات فـي الفكر الإسلامي أو ظاهرة حياتية فـي واقعنا واقتصارها عليه، وإنما التجديد كما جاء فـي مشروعيته يرتبط بحاجتنا لهذا التجديد ومراميه وأهدافه بصورة جلية ومفتوحة بما يطرح من إعادة النظر فـي قضايا مستجدة وملحة طرأت على واقع الأمة وجعلت مسألة التجديد قضية تحتاج إلى حراك فكري إسلامي تستعيد الفهم الصحيح لهذا الدين، والتبصر بما سيكون عليه حاضرنا والتخطيط السليم للمستقبل، وفـي الوقت نفسه لا تحيد عن المرجعية الإسلامية فـي طرح ما نراه ضروريًا وملحًا فـي قضايا ومسائل التجديد، لكننا أيضًا علينا أن نستفـيد من معطيات العصر ومنجزاته وتطوراته العلمية فـي عالم اليوم، دون أن نرتبط بالهوية أو الثقافة الغربية، لذلك الفارق المهم أن نستفـيد من جوانب العلوم البحتة والمناهج المحايدة فـي التطورات العلمية والفكرية، مع التمسك بالهوية الوطنية، وهذه مسألة مهمة وفارقة فـي الجانب الفكري والثقافـي لكل أمة من الأمم، والتجديد يتحقق بما يتناغم مع ثقافة هذه القيم ومحددات رؤيتها العامة، دون غيرها من الثقافات.

كما أنه لا يوجد ما يتناقض مع هذا الدين وحقائقه الثابتة، فالبعض قد يتوهم أن التجديد يناقض ثوابت الإسلام واكتماله، فـيرفضون مبدأ التجديد كلية، ويعتبرونه تهديم للدين نفسه، وهذا ليس صحيحًا أبدًا ـ كما يقول د/ محمد عمارة ـ فالتجديد هو: «السبيل لامتداد تأثيرات الدين الكامل وثوابته إلى الميادين الجديدة، والأمور المستحدثة، والضمان لبقاء ((الأصول)) صالحة دائمًا لكل زمان ومكان .. أي أنه هو الضمان لبقاء الرسالة الخاتمة خالدة الخلود الذي أراده الله، ولولا مد ((التجديد)) الفروع الجديدة إلى الجديد من المحدثات، وإقامته الخيوط الجديدة بين الأصول الثابتة وبين الجديد الذي يطرحه تطور الحياة. ولولا تجديده الدائم الذي يجلو الوجه الحقيقي والجوهر النقي لأصول الدين وثوابته. لولا دور ((التجديد)) هذا فـي حياة الإسلام ومسيرته لنسخت وطمست هذه الأصول، إما بتجاوز الحياة الممتدة لظل الفروع الأولى والقديمة، فـيعرى هذا الامتداد الجديد من ظلال الإسلام، أو بتشويه البدع ـ عندما تتراكم ـ لجوهر هذه الأصول. ((فالتجديد))، إذن، هو السبيل لاستمرارية ـ أي ثبات - الدين الكامل، وليس نافـيًا لثباته واكتماله».

صحيح أن الأزمة الحضارية الراهنة للأمة قد حالت دون انطلاقتها كما ينبغي لها، وان التخلف والتراجع جعل الأمة تتشبث بتراثها وهويتها باعتبارهما الملاذ الأخير من الذوبان والانسحاق أمام الاختراق الثقافـي والفكري، لكن هذا الواقع المتأزم لا يعفـي هذه الأمة من الصمود والنهوض لتغيير ظرفها الطارئ، ولا تستسلم لهذه الأزمة التي لها أسبابها الكثيرة، ليست مجال حديثنا، لكن علينا أن ننتبه للاختراق الثقافـي الموجه للأمة فـي ظل الأبواب المفتوحة، سواء بمقولات مطلب التجديد، أو القبول بالأفكار الوافدة التي تطرح بين الحين والآخر، وعلينا أن نميز الأخذ الذي يتناسب مع هويتنا الوطنية، وبين ما نراه خارج السرب والمنطلقات الذاتية للأمة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الفکر الإسلامی العلم والمعرفة

إقرأ أيضاً:

اللامفكر فيه في موقف النخبة الحداثية من الإسلام السياسي

لرفع اللَّبس، قد يكون علينا منذ البدء أن نوضّح المقصود بالنخبة "الحداثية" في تونس. فالنخبة المقصودة هي كل أولئك الذين يمكن تسميتهم في زمن "التواصل الاجتماعي" بـ"المؤثّرين" أو "صنّاع الرأي"، بصرف النظر عن رساميلهم المعرفية أو القيمية أو "النضالية" أو غيرها (أكاديميين، إعلاميين، فنانين، ممثلين، سياسيين.. الخ).

ونحن نتحدث في العنوان عن "موقف" بصيغة الإفراد لأن المواقف الجزئية -رغم بعض اختلافاتها- تعبّر عن بنية فكرية عميقة مشتركة. فصفة "الحداثة" عند المعنيين بالمقال -وهم أغلب "الحداثيين" المتصدرين للمشهد العام- هي تعرّف ذاتي/ دعوى تعكس عندهم انتماء جماعيا "متخيلا" يختزل الحداثة في التقابل مع "الإسلاميين" وفي النزعة الصدامية ضد المقدس الديني، وكذلك في الدفاع عن الأساطير المؤسسة لما يسمى بـ"النمط المجتمعي التونسي" بخطابه البورقيبي الكبير. وسيكون من الصعب تعريف هؤلاء على أساس أنهم مثقفون عضويون "يتميزون بوظيفتهم في توجيه أفكار وتطلعات الطبقة التي ينتمون إليها". فبالإضافة إلى الإشكالات النظرية التي يثيرها مفهوم الطبقة في "الكيانات الوظيفية" التي تسمى مجازا دولا وطنية، فإن تعبير الكثير من النخب الحداثية عن "أفكار وتطلعات الطبقة التي ينتمون إليها" أمر بعيد عن الواقع، بحكم أدوارهم الوظيفية في خدمة "طبقات" لا ينتمون إليها.

ولو شئنا استعمال منطق سارتر لقلنا إنّ النخبة "الحداثية" هي تلك النخبة الزائفة التي لا تقول "لا" لكل سياسات منظومة الاستعمار الداخلي، بل تقول "لا ولكن"، بينما تقول "لا" جذرية لكل نفَس إسلامي مهما كان مقدار تطبيعه مع الأطر المنظمة للعيش المشترك. إنها تلك النخبة التي تجد تعبيرها الأوضح في "مثقفٍ مزيّفٍ" هو المقابل الفكري والموضوعي للمثقف "الحقيقي"، ذلك المثقف الذي "يُدرك ويعي التعارض القائم فيه وفي المجتمع بين البحث عن الحقيقة العلمية وبين الأيديولوجية السائدة". إنها ببساطة تلك النخبة الوظيفية التي وضعت نفسها في خدمة آلة القمع الأيديولوجي، أي في خدمة الأيديولوجيا السائدة قبل الثورة، أو كانت جزءا من المعارضة الديكورية والهوامش المدجّنة ومازلت تخدم منظومة الاستعمار الداخلي إلى يومنا هذا. ولا يعنينا من هذه النخبة في هذا المقال إلا موقفها مما يُسمى بـ"الإسلام السياسي"، خاصة بعد الثورة التونسية و"الربيع العربي".

بحكم علاقتها بالدولة في إطار علاقة التعامد/التخادم وما يوفره من امتيازات ومكاسب، وبحكم سيطرتها على الجهاز الأيديولوجي للدولة -من جهة مؤسسات إنتاج المعنى "المقبول سلطويا"، ومن جهة أدوات توزيع ذلك المعنى عبر التعليم والثقافة والإعلام- تمتّعت "النخبة الحداثية"/ النخبة الزائفة/ النخبة الوظيفية بأفضلية واقعية على خصومها -وهم بالضرورة خصوم الدولة العميقة أو المنظومة الداخلي- منذ تأسيس "الدولة-الأمّة" وما تلاها. وهو ما جعلها تنجح بصورة معتبرة في "تدجين" النخب البديلة، بدءا من اليساريين والقوميين وانتهاء بالكثير من الإسلاميين.

ولسنا نعني بالتدجين هنا تغيير الهويات الأيديولوجية بشكل جذري -فهذا أمر نادر- بل نعني أحد أمرين: إما "تمييع" القضايا الصلبة والمركزية في السرديات الكبرى وجعل التناقض بينها وبين الخيارات المؤسسة للدولة-الأمة "تناقضا ثانويا" يمكن إدارته بالعمل السياسي والجمعياتي داخل ديمقراطية تمثيلية "زائفة" (ولكنها "حداثية" وتقبل نظريا بالإصلاح من داخلها، أو هكذا يخيل للنخبة "الحداثية" بمختلف مكوناتها وكذلك للجناح "التوافقي" الذي هيمن على حركة النهضة منذ المرحلة التأسيسية)؛ وإما "فرض" إشكالاتها ونظام تسميتها على الأطراف المشاركة في السجال العمومي وعلى الرأي العام برمته، وهو ما تدخل قضية الموقف من "الإسلام السياسي" فيه.

إذا كان "بلوغ الأنوار" عند فيلسوف التنوير الأبرز إيمانويل كانط يعني "خروج الإنسان من القصور الذي هو مسؤول عنه والذي يعني عجزه عن استعمال عقله دون إرشاد الغير"، فإن "النخبة الحداثية" (وهي في الأغلب الأعم من دعاة التنوير بوصفه مقابلا للظلامية والرجعية، أي مقابلا للسرديات الإسلامية في التراث والواقع) قد قادت بعد الثورة -بوعي أو بلا وعي- حركة عكسية مزدوجة ضد التنوير الذي تدعي تمثيله. فمن جهة أولى، مثلت "النخبة الحداثية" مظهرا من مظاهر العطالة الفكرية ومن القبول بـ"وصاية الغير" (أي الغرب وما أنتجه من مفاهيم تحليلية للشرق باعتباره موضوعا للهيمنة) عبر تبنيها لمفهوم "الإسلام السياسي" دون أي مسافة نقدية، ومن جهة ثانية، نصبت نفسها "وصيّة" على عموم التونسيين -سياسيا وفكريا، بل دينيا- وساهمت في تكريس السطحية والاختزالية وغياب الوعي النقدي وقبول الاختلاف لدى أنصارها قبل غيرهم.

على ألسنة "النخبة الحداثية" أصبح تعبير "الإسلام السياسي" ضربا من البداهة أو من المسلمات التي لا يجوز مناقشتها أو التفكير فيها بعيدا عن التوظيفات السياسية. ونحن هنا لا نلوم "النخبة" الإعلامية أو الفنية أو النقابية -بحكم قلة زادها المعرفي وعدم رسوخها في القضايا النظرية- ولكننا نستطيع لوم "النخب الأكاديمية" أو "المثقفين" على مواقفهم المتراوحة بين التطبيع مع التزييف أو حتى تزكيته وشرعنته بما لهم من سلطة معرفية. وقد يكون من المفيد أن نقسم مواقف "المثقفين الحداثيين" من "الإسلام السياسي" إلى مستويين يتداخلان واقعيا: مستوى معرفي (نظري) ومستوى سياسي (عملي). في المستوى النظري المجرد، لم يكن الأغلب الأعم من "المثقفين الحداثيين" -بمن فيهم غير المتحزبين- معنيين بتفكيك تعبير "الإسلام السياسي" وما يثيره من قضايا.

لو أردنا التمثيل للقضايا المقموعة أو المنسية في خطابات "المثقفين الحداثيين" فإننا نستطيع أن نُمثّل لها بالإشكاليات التالية التي هي قضايا نظرية ذات امتدادات سياسية بالضرورة: هل يوجد إسلام غير سياسي، بما في ذلك التكييف السلطوي اللائكي للإسلام؟ ما معنى "تونسة الإسلام السياسي" في ظل سرديات حداثية هي جزء وظيفي من الدولة العميقة، أو هي في جوهرها ابنة تلك الدولة وجهازها الأيديولوجي؟ كيف يمكن التعامل مع الإسلاميين الذين ارتضوا العمل القانوني وقبلوا بالدستور باعتبارهم شركاء/ نظراء وليس باعتباره تهديدا أو خطرا وجوديا؟

هل "النمط المجتمعي التونسي" (وهو النسخة المشوهة من مبادئ الثورة الفرنسية وقيم جمهوريتها اللائكية) هو نمط مقدس ونهائي ولا يقبل المساءلة والتعديل؟ كيف يمكن التعامل مع ظاهرة عودة الدين إلى المجال العام بمنطق عقلاني بعيدا عن منطقي الاستئصال الصلب والاستئصال الناعم، وبالاستفادة من مفكرين كبار أمثال جون رولز وخوسيه كازانوفا ويورغن هبرماس وغيرهم؟ هل إن نموذج العلمنة اللائكي هو النموذج الأصلح لتونس أم يجب الانفتاح على نماذج أخرى، خاصة النموذج الأنغلوساكسوني؟ لماذا عجز "المثقف الحداثي" عن إنتاج مفاهيم ترافق "الثورة" ولماذا تحول إلى أداة في يد الرجعية "البرجوازية" رغم كل ادعائاته التقدمية؟ هل إن الخطر الحقيقي هو بنية الاستبداد الديني أم بنية الاستبداد الحداثوي، أو بصياغة أخرى: هل إن التناقض الرئيس هو مع منظومة الاستعمار الداخلي باعتبارها نواة الاستبداد الحداثوي، أم هو مع "الإسلاميين" باعتبارهم ضحايا تلك المنظومة أو شريكا ممكنا لنسفها صوب منظومة سلطوية "وطنية"؟

إنها أسئلة لا يبدو أن كل التحولات المحلية والإقليمية قد استطاعت أن تدفع بها إلى مركز اهتمام "النخبة الحداثية". وهو أمر يمكن ردّه -عند النخب غير الأكاديمية- إلى الجهل أو القصور المعرفي والمصالح الشخصية من جهة أولى، والانحيازات الأيديولوجية والمصالح السياسية للمتحكمين في "خطوط التحرير" من جهة ثانية. ولكن عدم التفكير النقدي -واتخاذ مسافة من أيديولوجيا منظومة الاستعمار الداخلي- هو خيار واعٍ عند "المثقفين الحداثيين"، ولكنه لا يقبل الاختزال في المصالح المادية دون الاعتبارات "الرمزية". ونحن نرجّح أن يكون هذا الخيار نتيجة مخاوف حقيقية ومشروعة أحيانا (تتعلق بالخوف من فقدان المكانة الاجتماعية المرتبطة بـ"المعرفة")، ولكنه في الأغلب نتيجة مخاوف "متخيلة" سببها شبكات الفهم/ التفسير المفوّتة، وكذلك الرغبة في حماية "نسق الذات"، وهو نسق يتم تمثّله والتعبير عنه بتثبيت نقيضه الفكري والموضوعي -أي الإسلامي- في صورة نمطية تدعم هوية "الحداثي" ولكنها تمنعه واقعيا من رؤية الأمور بموضوعية وتجرد.

ولا شك عندنا في أن هذا الوضع يوجب على "الحداثي" أن يطرح على نفسه "إصلاح" عقله قبل المناداة بإصلاح العقل الديني، بل يوجب عليه أن يتواضع للمعرفة ولشركائه في الوطن والتخلي عن تقديم نفسه باعتباره مرجع المعنى الجماعي الصحيح والأوحد في "بلاد النمط المجتمعي التونسي".

x.com/adel_arabi21

مقالات مشابهة

  • آبي أحمد .. “في شهر رمضان نحتاج تحركا عاجلا ومطلوبا وليس فقط بالكلام بل بالعمل علي تقليل المعاناة في السودان”
  • رابطة العالم الإسلامي تدين جريمة الدهس بميونخ
  • اللامفكر فيه في موقف النخبة الحداثية من الإسلام السياسي
  • جمهور مسلسل النص يعلق على ملابس أحمد أمين: «فكرنا بعبد الغفور البرعي»
  • أموريم مدرب مانشستر يونايتد: نحتاج لتحسين أسلوب لعبنا
  • تيريم: لا نحتاج إلى حكام من فنزويلا
  • رابطة العالم الإسلامي تدين التفجيرات الإرهابية في أفغانستان
  • رابطة العالم الإسلامي تُدين التفجيرَين الإرهابيَين في أفغانستان
  • الزراعة تشارك في مباحثات الإيفاد بروما.. الصياد: نعمل على استنباط أصناف نباتية عالية الإنتاجية.. وصيام: نحتاج مشروعات إنتاجية تساهم في تحقيق الأمن الغذائي
  • رغم الإصابة.. الزمالك يستقر على التجديد لنجم الفريق