الحروب لا تحدث بالصدفة.. إدارة المخاطر في مواجهة التصعيد
تاريخ النشر: 6th, November 2024 GMT
اغتيال إسرائيل لأحد قادة حماس فـي طهران فـي يوليو الماضي، وتوغل أوكرانيا فـي روسيا خلال الصيف، وسلسلة الاعتراضات المتزايدة من الصين فـي بحر الصين الجنوبي، كلها أمور أشعلت المخاوف من تحول النزاعات إلى حروب أوسع نطاقًا. فـي ضوء هذه الاستفزازات، يعرب المحللون عن قلقهم بشأن تزايد المخاطر الناجمة عن الحوادث العسكرية وسوء الفهم الاستراتيجي.
يخشى هؤلاء المحللون أن تزيد هذه الحوادث من حدة التوترات لدرجة يفقد معها صانعو السياسات السيطرة، مما يضطرهم لمواجهة حروب غير مخطط لها. وكما أشار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن فـي أغسطس، فإن الهجمات فـي الشرق الأوسط «تزيد من خطر الوصول إلى نتائج غير متوقعة يصعب السيطرة عليها». وعلى الرغم من أن الاستفزازات قد تؤدي إلى تصعيد الأزمات، فإن الحروب غير المقصودة تبقى نادرة. إذ يوفر التاريخ أمثلة قليلة على صراعات اندلعت دون موافقة من صناع القرار، الذين غالبًا ما يمارسون ضبط النفس، خاصة فـي الأزمات الخطيرة. ففـي أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، قاوم صناع القرار الأمريكيون الرغبة فـي الانتقام بعد إسقاط القوات السوفـييتية طائرة تجسس أمريكية، متراجعين عن حافة الحرب. وعندما يواجه الخصوم خطر اندلاع صراع متصاعد، فإنهم غالبًا ما يجدون طرقًا لتهدئة الأزمات. يتطلب ذلك تخطيطًا دقيقًا، بحيث تمارس الدول ضغوطًا تكفـي لتغيير سلوك الخصوم دون تجاوز الخطوط التي تؤدي إلى رد فعل كبير. لكن حتى عند تجاوز «الخطوط الحمراء»، لا يكون الصراع محتومًا. فعلى سبيل المثال، لم يؤدِ مقتل ثلاثة جنود أمريكيين فـي غارة بطائرة مسيّرة مدعومة من إيران فـي يناير إلى حرب بين واشنطن وطهران. وفـي أبريل، لم يشعل الهجوم الإيراني الكبير بالطائرات المسيّرة والصواريخ ضد إسرائيل نزاعًا شاملًا. لتجنب الحرب، على القادة ضبط أنفسهم فـي أوقات الأزمة من دون إظهار الضعف. ولتحقيق ذلك، يجب عليهم دراسة أفعالهم بدقة - كيف ومتى وأين يضغطون على الخصوم بطرق لا تثير ردود فعل تصعيدية. كما ينبغي لهم إقامة قنوات تواصل مباشرة أو غير مباشرة لتقليل احتمالات سوء الفهم. الخوف من التصعيد غير المقصود ليس جديدًا فـي العلاقات الدولية. فقد أمضى علماء السياسة عقودًا فـي الجدال حول ما إذا كانت خطط التعبئة العسكرية قد أدت بالدول الأوروبية إلى «السير نائمة» نحو الحرب العالمية الأولى. وخلال الحرب الباردة، كان صناع السياسات قلقين من احتمال أن تؤدي أعطال الأسلحة أو الإنذارات الكاذبة أو الإجراءات غير المصرح بها من الضباط العسكريين إلى إشعال حرب نووية. وقد استكشف بعض الأكاديميين كيفـية نشوب حروب غير مقصودة بسبب الأعطال الفنية فـي الأنظمة العسكرية، فـيما اقترح آخرون أن بعض الإجراءات العسكرية قد تخلق زخمًا يمنع القادة من التراجع عن حافة الحرب. كما زعم البعض أن القادة قد يردّون بضربات عسكرية كبرى إذا أساؤوا تفسير إجراءات محدودة للمنافس على أنها تهديد وجودي. على الرغم من اختلاف الباحثين فـي تحليل مسارات الحرب غير المقصودة، إلا أن أطرهم تشترك فـي فرضية أساسية: أن سيطرة صناع السياسات على التصعيد محدودة. وفقًا لهذه الفرضية، تنجرف الدول إلى حروب لم تختر خوضها نتيجة للصدفة أو ردود الفعل المتسلسلة داخل المؤسسة العسكرية. لكن هذا لا يتماشى مع الواقع؛ فعلى الرغم من توتر لحظات الحرب الباردة، لم تنجر الولايات المتحدة والاتحاد السوفـييتي إلى صراع عرضي، حيث وجد القادة دائمًا وسيلة للتراجع. تتبع الدول المتنافسة سياسة حافة الهاوية خلال الأزمات، باتخاذ خطوات محفوفة بالمخاطر لزيادة احتماليات الحرب، بهدف دفع الخصوم إلى تغيير سلوكهم. وعلى الرغم من أن التصعيد قد يثبت التزام الزعماء بأهدافهم، إلا أن هذه الاستفزازات تظل خطيرة. على سبيل المثال، تقوم الطائرات المقاتلة الصينية غالبًا بمناورات خطرة عند اعتراض طائرات الاستطلاع الأمريكية، مما يزيد من احتمال الاصطدامات، ويعزز خطر سوء التواصل أو التقدير، مما قد يحول حادثًا بسيطًا إلى صراع واسع النطاق. ما يجعل هذه الأزمات غير متوقعة هو عدم وضوح الخطوط الحمراء التي يمكن أن تؤدي إلى اندلاع الحرب، سواء من حيث الجغرافـيا أو نوع الهدف أو شدة الفعل. فعلى سبيل المثال، قد يتجاهل الخصوم الضربات فـي مناطق معينة، بينما يؤدي الهجوم فـي مناطق أخرى إلى التصعيد. يفضل صناع القرار أحيانًا إبقاء هذه الحدود غامضة، إذ يمكن للغموض أن يعزز الردع من خلال دفع الخصوم إلى ممارسة ضبط النفس، خشية تجاوز عتبة التصعيد. مثال ذلك رد الفلبين على الاستفزازات الصينية؛ فعدم الوضوح حول ما قد يدفع مانيلا لاستخدام القوة، ورد فعل بكين المحتمل على ذلك، يزيد من حذر الصين. لكن هذا الغموض قد يؤدي أيضًا إلى أزمة تتجاوز قدرة القادة على السيطرة، مما يجبرهم على التعامل بحذر مع الأزمات، واستكشاف مدى قدرتهم على التصعيد دون فقدان السيطرة. يتعين على صناع السياسات أن يزنوا خطواتهم بعناية، بحيث يظهرون ما يكفـي من القدرة والعزيمة لتحقيق أهدافهم، مع منح الزعماء المنافسين المساحة اللازمة للتراجع. وهم يفعلون ذلك بشكل كبير من خلال تجنب الإهانات التي تلحق بشرف الخصم وتوقع ما يستفزهم وتجنب تجاوزها. غالبًا ما تسيطر الدول على التصعيد من خلال الحد من الآثار المادية لإجراءاتها القسرية. على سبيل المثال، أسقطت روسيا وإيران مسيرات أمريكية للتعبير عن استيائهما من مهام الاستطلاع الأمريكية، لكنهما تجنبتا التصعيد الذي قد ينجم عن إسقاط طائرات تقليدية. وبالمثل، ردت إسرائيل على هجوم إيران فـي أبريل بضرب رادار واحد فقط فـي موقع دفاع جوي حيوي بدلًا من شن هجوم أكبر، ولأن الأضرار كانت محدودة، أمكن لطهران التقليل من أهمية الهجوم محليًا، وبالتالي تجنبت الانتقام المكثف. لكن تجنب الدمار وخسائر الأرواح ليس وحده العامل المهم. فالزمان والمكان وطريقة الهجوم تؤدي أدوارًا أساسية فـي إدارة التصعيد، حتى لو كانت النتائج المادية متشابهة. فعلى سبيل المثال، كان المسؤولون الإيرانيون يعتبرون اغتيال إسرائيل لرئيس المكتب السياسي لحماس، إسماعيل هنية، أقل استفزازًا لو حدث فـي غزة بدلًا من طهران. وبالمثل، تعتبر موسكو الهجوم البري الأوكراني على قاعدة عسكرية روسية أكثر تصعيدًا من غارة بطائرة مسيّرة على المنشأة ذاتها. ونتيجة لذلك، يتجنب صناع القرار غالبًا الإجراءات التي قد تمثل تحديًا مباشرًا لأراضي المنافس. فعلى سبيل المثال، تستهدف الولايات المتحدة منشآت الحرس الثوري الإيراني فـي العراق وسوريا ردًا على هجمات مدعومة من إيران، لكنها تتجنب الضربات داخل الأراضي الإيرانية مباشرة. كما يمكن لصناع السياسات اللجوء إلى وسائل قسرية قابلة للإنكار أو أقل وضوحًا للجمهور. ففـي الخمسينيات، خاض الطيارون السوفـييت والأمريكيون حربًا جوية سرية فوق شبه الجزيرة الكورية، مع إبقاء واشنطن وموسكو الأمر مخفـيًا عن العامة. اليوم، كثيرًا ما تتجنب أوكرانيا تحمل المسؤولية عن الهجمات بالطائرات المسيّرة داخل روسيا. وتستخدم الدول أيضًا بشكل متزايد تكتيكات «المنطقة الرمادية»، مثل الهجمات الإلكترونية، أو تعتمد على جهات مثل شركة فاجنر الروسية لتحقيق أهدافها بشكل يمكن إنكاره. ويشير عالم السياسة أوستن كارسون إلى أن هذه الأنشطة «خلف الكواليس» تتيح للحكومات ممارسة الضغوط سرًا، مع تجنب الدعوات التصعيدية من قبل الجمهور الذي يصبح أكثر تشددًا بعد المواجهات العلنية. مجرد أن تنفذ دولة ما إجراءات قسرية، قد يعمد صناع السياسات إلى الإعلان عن رغبتهم فـي عدم التصعيد. بعد الهجوم الصاروخي الإيراني على قاعدة أمريكية فـي العراق فـي يناير 2020، أصدرت إيران بيانًا للأمين العام للأمم المتحدة، يؤكد اختتام عملياتها العسكرية ردًا على اغتيال قاسم سليماني، وأكدت أنها لا تسعى إلى حرب. وتغريدة وزير الخارجية جواد ظريف حملت رسالة مشابهة، موضحةً أن العملية قد انتهت. لم ترد الولايات المتحدة عسكريًا، بل فرضت عقوبات اقتصادية إضافـية على إيران. لكن، حتى عند تحقق أهداف المهاجم وإشارته للتراجع، ينبغي على الطرف المقابل إعادة تأسيس الردع. يحتاج المسؤولون لإعادة صياغة قواعد الاشتباك وخلق عتبات جديدة تبرز أن أي عدوان جديد سيقابل بمقاومة. استجابة إيران لهجوم السفارة أشارت إلى تغييرات جديدة، إذ قامت إيران بهجمات مباشرة على الأراضي الإسرائيلية، بعدما كانت تعتمد على وكلائها فـي السابق. يخلق هذا التصعيد المتدرج حالة من عدم اليقين التي تشجع القادة على ضبط النفس. إدارة التصعيد تأتي بتنازلات؛ فالضبط المفرط قد لا يغير سلوك الخصم. على سبيل المثال، فشلت ضربات واشنطن على مواقع الطائرات بدون طيار فـي اليمن فـي وقف هجمات الحوثيين. ورغم أن هذا يُعزى إلى المهارة الحوثية فـي إخفاء المنصات، لم تفرض واشنطن تكاليف كافـية لإرغام الحوثيين وإيران على التراجع. قد تكون الخطوات الأمريكية الأكثر قوة فعالة فـي ردع الحوثيين، لكنها تزيد احتمالية التصعيد مع إيران، مما قد يؤدي إلى تصاعد فـي المنطقة، ويترتب عليه نتائج عكسية وخطيرة على الجميع. يتطلب الأمر تفاهمًا متبادلًا لضبط التصعيد، ورغم ذلك قد تفشل الجهود. قد يخطئ صناع القرار فـي تقدير قوة الخصم، فـيتخذون خطوات يُنظر إليها بشكل استفزازي أكثر مما قُصد. مثلما حدث عندما هاجمت إسرائيل السفارة الإيرانية فـي سوريا، متوقعة ردًا محدودًا، لكنها فوجئت بمئات الصواريخ والمسيرات ردًا على ذلك. مع تزايد التوترات بين الدول، يمكن لصناع السياسات اتخاذ خطوات لتجنب التصعيد، لكن الضغوط السياسية تزيد الأمر تعقيدًا. القادة يسعون عادة لتجنب الظهور بمظهر الضعف، خصوصًا حين يتعلق الأمر بالتزاماتهم المعلنة. كما أن الشفافـية التي أتاحتها التكنولوجيا الحديثة تزيد من صعوبة إخفاء التصرفات الرمادية. ومع ذلك، لا تضمن الأزمات الوصول للحرب؛ إذ يمكن للقيادات استخدام قنوات التواصل المباشر أو غير المباشر لتجنب التصعيد، كما حدث بين واشنطن وموسكو خلال أزمة الصواريخ الكوبية، أو بين إسرائيل وإيران مؤخرًا. |
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: على سبیل المثال صناع السیاسات على الرغم من صناع القرار غالب ا
إقرأ أيضاً:
المخاطر المحيطة بالثورة السورية
سمعت من أستاذنا أحمد تهامي عبد الحي، المعتقل ظلما في سجون السيسي منذ حزيران/ يونيو 2020، لأول مرة مقولة "الفترات الانتقالية مقبرة الثورات". والتاريخ القريب لما تسمى ثورات الربيع العربي وكذا ما بعدها في الجزائر والسودان، خير شاهد على صدق الكلمة وواقعيتها، ولم يبق أمامنا نموذج في المنطقة سوى هذا النموذج الوليد في سوريا، ونرجو أن يتلافى أخطاء هذه الدول سريعا وأن يدرسها جيدا وهي نصب عينيه، لا دراسة هامشية، ونرجو ألا يتجاهل الدراسة اغترارا بفوارق التجارب بين المجتمعات، أو مسارات التغيير، أو طبيعة النُّظم التي سقطت.
كانت التجربة المصرية تمثِّل نموذجا شديد الوضوح لتسبب الفترة الانتقالية في تضييع مكاسب إسقاط نظام مبارك، فهناك طرفان عمِلا على إنهاء الثورة بسبق إصرار وترصّد، وهما قوى خارجية إقليمية ودولية، وقوى النظام الراحل. كما عمل أبناء الثورة من التيارات السياسية على إفشالها ربما دون قصد، لكن حساباتهم الذاتية لم تكن نقيَّة على الإطلاق.
لم تختلف هذه التركيبة في جميع تجارب التغيير في المنطقة، فهناك أطراف إقليمية ودولية ومحلية ترفض هذا التغيير لاعتبارات ترجع إلى مصالح كل طرف منها، وهناك تجاذبات سياسية بين القوى التي قادت الحراك، انتهت إلى وجود ثغرات في الرافعة التي انتصرت بها مطالب التغيير، وولجت منها الأطراف المعادية، لتهدم كل شيء.
ستتعرض الثورة السورية إلى هجمات من هذه الأطراف الإقليمية والدولية والمحلية، كسائر أخواتها، بل ستكون الهجمة أكثر شراسة لاعتبارات مجاورة كيان الاحتلال، والخوف من أفكار الحكام الجدد، وأيضا من تكوينهم العقدي تجاه الكيان الصهيوني، كما أن الأطراف الإقليمية المعادية لعمليات التغيير في أقوى حالتها، خلافا للوضع المفاجئ عام 2011
ستتعرض الثورة السورية إلى هجمات من هذه الأطراف الإقليمية والدولية والمحلية، كسائر أخواتها، بل ستكون الهجمة أكثر شراسة لاعتبارات مجاورة كيان الاحتلال، والخوف من أفكار الحكام الجدد، وأيضا من تكوينهم العقدي تجاه الكيان الصهيوني، كما أن الأطراف الإقليمية المعادية لعمليات التغيير في أقوى حالتها، خلافا للوضع المفاجئ عام 2011، والارتباك الذي تبعه والتستُّر في مجابهة حراك الشعوب. أما الوضع الحالي فتُهاجَم فيه بوضوح الثورة السورية من الأطراف الإقليمية الاستبدادية، ولعل أحد أبرز تجلياتها حديث نديم قطيش، مدير قناة سكاي نيوز العربية التي تبث من الإمارات، وقال إن الدول العربية لن تسمح بوجود مصر ثانية، وأن هناك استعدادا لدفع أعلى الأثمان لأجل ذلك.
هذا الخطاب؛ "دفع أعلى الأثمان"، لا ينبغي على السوريين أن يتجاهلوه ويتعاملوا معه باعتباره تهديدا لكسب مساحات، أو أن النجاح العسكري لهم لن يسمح بإفشال ثورتهم، فالسلاح يمكن أن يُقابَل بالسلاح، والتشكيلات المضادة يمكن إنشاؤها أو تقويتها في مناطق كثيرة، ويكفي بضعة مئات من المسلحين لزعزعة استقرار النظام السياسي بشدة والمطالبة بإسقاطه. وهذا التهديد ليس لانتزاع مواقف، أو كبح جماح الحكام الجدد، بل هو تعبيرُ عداءٍ صريح، ومسار لن يتوقف بغرض تدمير الدولة، وتعميق كراهية وخوف المجتمعات من عملية التغيير السياسي للأنظمة الحاكمة.
عندما هُزمنا في مصر وانتكس مسار الديمقراطية، ساهم ذلك في هزيمة باقي قوى الثورات، إذ أصبح القرار المصري مرتهنا لدى من دعموا الانقلاب وأوصلوا المنقلِب إلى سدة الحكم، وهذا الترابط بين مصائر الدول يجعلنا نخشى على مصير ثورة سوريا، فنجاحها نجاح لنا، وهزيمتها هزيمة لنا، من هنا نجد الجرأة على التحدث في شؤون بعضنا بعضا، لوَحدة المصير، ولاشتراك الغاية في التخلص من الأنظمة المستبدة.
إذا تحدَّثَتْ الثورةُ المهزومة إلى الثورة المنتصرة، فأول نصائحها ستكون التنبيه إلى رعاية المجتمع وظروف معيشته، وإذا كان هناك مقياس مُرَقَّم فستكون أولوية ذلك على المقياس من الأول إلى التاسع، وعاشرا تأتي السياسة والأيديولوجية والأفكار وأي شيء آخر. فالمجتمع يحتاج إلى ضمان مأكله ومشربه ومعيشته وأَمْنِه، وضعْ ألف خط تحت أمنه، كما أن المجتمع هو الحاضنة الشعبية للأنظمة المستجيبة لتطلعات الشعب بمختلف تكويناته، والمجتمع دائما وأبدا هو الرِّدْء من الانقلابات، ولا يمكن الالتفاف على رغبته إذا كان متمسكا بنظام ما، مهما كانت الضغوط تجاه هذا النظام. ويتزامن توفير الاحتياجات مع مسار فضح الترتيبات التي تُحاك ضد عملية التغيير، مع مراعاة ألا يكون فضح الترتيبات بمجرد الحديث دون إيقاف لها أو لبعضها، فهذا سيُظهر النظام الجديد ضعيفا لا يستطيع أن يمنع المشكلات ويكتفي بالشكاية.
كذا، يمكن القول إنَّ الحكام الجدد أحسنوا بخطابهم التصالحي، لكن هناك فرق بين العفو عقب نجاح الثورة مباشرة، وبين التغافل عن عمليات وَأْدِ الثورة، فيما بعد العفو، بفعل هؤلاء المعفُوِّ عنهم أو غيرهم، وتَرْكُ مثيري الفتن سيؤدي إلى إيقاع الدولة في فتنة أكبر ستحرق الدولة والمجتمع. ومعالجة هذا الوضع يستلزم إدراكا لوجود خيط رفيع بين القمع وضبط النظام عقب الثورات، بخلاف فترات الاستقرار، والانتباه لهذا الخيط مهم، فالقسوة تجاه من يريد تدمير الدولة وفق مخطط وترتيب، لا تعني قمع المتحمسين لنظام حر وديمقراطي لدولتهم، وقطعا لن يرضى السوريون جميعهم بالحكام الجدد، وهذه طبيعة المجتمعات، فالاحتجاج ضد نظام الحكم لا مفر منه، إلا أنه شتان بين من يحتج بغرض الإفساد ومن يحتج بغرض تحسين وضع الدولة.
يمكن القول إنَّ الحكام الجدد أحسنوا بخطابهم التصالحي، لكن هناك فرق بين العفو عقب نجاح الثورة مباشرة، وبين التغافل عن عمليات وَأْدِ الثورة، فيما بعد العفو، بفعل هؤلاء المعفُوِّ عنهم أو غيرهم، وتَرْكُ مثيري الفتن سيؤدي إلى إيقاع الدولة في فتنة أكبر ستحرق الدولة والمجتمع. ومعالجة هذا الوضع يستلزم إدراكا لوجود خيط رفيع بين القمع وضبط النظام عقب الثورات، بخلاف فترات الاستقرار
هذا الفارق لا يكون بتفتيش الضمائر، بل بيقظة أجهزة الدولة، وتكون القسوة في هذه الفترة فقط مبرَّرَة كالطبيب الذي يعالِج مدمن المخدرات، فالطبيب يعطي في البداية جرعات محدودة من هذه المخدرات بغرض منعها في النهاية. وقد شهدنا في مصر مناخا من التظاهر الفوضوي الذي تخللتْه اشتباكات مسلحة، وهجمات في مناسبات متعددة على رئيس الدولة ورئيس الوزراء ووزراء آخرين، وغير ذلك من أشكال الفوضى المتعمدة، وتعمُّد ترسيخ فكرة ضعف الحاكم الجديد، وأن الشعب همجي لا يصلح له إلا حاكم عسكري. وهذه الرخاوة ساهمت في إفشال الثورة المصرية، لكن مرة أخرى، إذا كان القمع سمة عامة للنظام، ومحاولة فرض توجه واحد، فإن مآل النظام السقوط كسابقه، وبسرعة لن تتجاوز بضعة أشهر مقابل نظام استمر عقودا.
كذلك ستعمل دولة الاحتلال بكل السبل لهزيمة هذه الثورة، كما فعلوا في مصر، وتكررت الشهادات عن قيام الاحتلال بدور شركة علاقات عامة للترويج للانقلاب المصري، خاصة لدى إدارة أوباما، وبالتالي تكونت شراكة استراتيجية بين السيسي والاحتلال، وجاء رد الجميل في مواقف متكررة، وآخرها الموقف المصري المخزي والمتواطئ في العدوان على قطاع غزة وسائر الأراضي الفلسطينية والعربية.
إن التوغل الصهيوني في الأراضي الصهيونية بمثابة عملية تقويض للثورة، وأخذ مكاسب جغرافية-عسكرية، وجس نبض للحكام الجدد، ومع الإدراك الواضح لعدم إمكانية الدخول في مواجهة مع الاحتلال الصهيوني في تلك المرحلة، فلا أقل من خوض مواجهة سياسية شرسة أمام الانتهاكات المتكررة، والاحتلال الجديد، في جميع المناسبات، وتفعيل أجهزة الدفاع الجوي المتبقية امام الانتهاكات الجوية، إذ قد يمثل هذا الاحتلال سببا من أسباب السخط المؤدي إلى إسقاط النظام، وعدم خوض مواجهة مسلحة لا يعني الصمت المطبق للنظام أمام هذه الانتهاكات.
الإشكال الآخر الذي قد يواجه الحكام الجدد، هو الفصائل المسلحة، ومدى التزامها بتسليم السلاح، وبقبول الاختيار الشعبي عند الاحتكام للصندوق. ولعل الحلَّ الوحيد هو حلُّ الفصائل جميعها، والإسراع بدمج من سيظَلُّ مسلحا من أفرادها في الجيش السوري الوطني، مع تشتيت قوات كل فصيل داخل المؤسسة، وعدم استبعاد المعارضين من العسكريين السابقين من إدارة الجيش، بل وضعهم على رأسه، باعتبارهم أكثر دراية بطبيعة إدارة المؤسسة.
كذا سيمثِّل التنوع السوري تحديّا هائلا للحكام الجدد الذي ينتمي معظمهم لتيار سلفي لديه تفسيرات دينية توصف بأنها متشددة، والحق أن المدرسة الدينية السورية التقليدية شديدة الرقي والوعي، ولا تختلف عن مدرسة الأزهر في مصر والزيتونة في تونس، والاستفادة منها في الأمور الاجتماعية ستحل كثيرا من الإشكاليات، وستزيل كثيرا من المخاوف لدى الطوائف الأخرى، وأيضا لدى السوريين العاديين الذين اعتادوا التعايش مع أفكار مؤسسات دينية كمعهد الفتح في دمشق.
لقد كانت ثورات عام 2011 مفاجئة للعالم، وأدت المفاجأة إلى ارتباك الأطراف قبل اتخاذ موقف متكامل ومتبلور تجاه عملية التغيير، أما الحالة السورية، فقد تضافرت عوامل عدة أدت إلى وجود اتفاق برفع الحماية عن الأسد، وبالتالي وُضِعتْ الاستعدادات لترتيب إفشال الحراك قبل نجاحه. وهذا الكلام ليس اتهاما لهؤلاء القادمين الجدد، ولا تقليلا من تضحيات السوريين، بل هو توصيف للواقع الذي تشير كل علاماته إلى أن ترتيبا إقليميّا ودوليّا اضطرت معه إيران وروسيا أيضا للاشتراك فيه وعدم مد يد العون للأسد، والغرض من ذِكْر ذلك؛ تأكيد أن هذه الترتيبات تعني الاستعداد لإفشال المسار الديمقراطي قبل محاولة وضع أي أساس له، ما يستدعي التنويه والتنبيه.